خلاص الله المقدم للجميع
(1) ضيق الله من العبادة الشكلية (ع1-4):
1 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «السَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي، وَالأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ. أَيْنَ الْبَيْتُ الَّذِي تَبْنُونَ لِي؟ وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟ 2 وَكُلُّ هذِهِ صَنَعَتْهَا يَدِي، فَكَانَتْ كُلُّ هذِهِ، يَقُولُ الرَّبُّ. وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي. 3 مَنْ يَذْبَحُ ثَوْرًا فَهُوَ قَاتِلُ إِنْسَانٍ. مَنْ يَذْبَحُ شَاةً فَهُوَ نَاحِرُ كَلْبٍ. مَنْ يُصْعِدُ تَقْدِمَةً يُصْعِدُ دَمَ خِنْزِيرٍ. مَنْ أَحْرَقَ لُبَانًا فَهُوَ مُبَارِكٌ وَثَنًا. بَلْ هُمُ اخْتَارُوا طُرُقَهُمْ، وَبِمَكْرَهَاتِهِمْ سُرَّتْ أَنْفُسُهُمْ. 4 فَأَنَا أَيْضًا أَخْتَارُ مَصَائِبَهُمْ، وَمَخَاوِفَهُمْ أَجْلِبُهَا عَلَيْهِمْ. مِنْ أَجْلِ أَنِّي دَعَوْتُ فَلَمْ يَكُنْ مُجِيبٌ. تَكَلَّمْتُ فَلَمْ يَسْمَعُوا. بَلْ عَمِلُوا الْقَبِيحَ فِي عَيْنَيَّ، وَاخْتَارُوا مَا لَمْ أُسَرَّ بِهِ».
ع1: موطئ : المكان الذى تدوسه الأقدام.
يعلن الله أن عرشه في السماء وهذه هى عظمته، وسموه عن كل ما نتخيله في الأرض، وفى نفس الوقت يظهر محبته في وضع رجليه على الأرض، إشارة لتجسده؛ حتى يفدينا من خطايانا.
وإن كان عرش الله في السماء، ويسمو عن كل ما نعرفه، فلا يمكن أن يحده أى بيت على الأرض. وبالتالى، فهيكله في أورشليم لا يحده، بل هو فرصة لشعبه أن يقدم فيه عبادة له، ويتمتع بالوجود معه. وهذا يؤكد لليهود ألا يعتمدوا على وجود الهيكل عندهم، كضمان لاستقرارهم رغم خطاياهم، بل هو وسيلة ليتوبوا ويقتربوا إلى الله. بل إن هذا الهيكل المحدود في أورشليم، هو رمز للكنيسة التى ستوجد في كل مكان، والكنيسة رمز لأورشليم السماوية، أى ملكوت السموات، ولذا أكد سليمان هذا المعنى في صلاته عند تدشين الهيكل؛ أن الله مكانه في السماء، ولا يسعه أى مكان على الأرض (1مل8: 27). وأيضاً استخدم استفانوس كلمات هذه الآية؛ ليرفع قلوب اليهود سامعيه للإيمان بالمسيح الفادى، وسمو الله عن محدودية وجوده في الهيكل، الذى يزول بوجود الكنيسة التى أسسها المسيح، فلم يعد هناك حاجة لهذا الرمز، أى لهذا الهيكل (أع7: 49).
ع2: يعلن الله أنه خالق كل المخلوقات، وهى عمل يديه، ومن ناحية أخرى، يسكن الله ويستقر في الإنسان المتضع الذى يخافه. هذا هو ما يطلبه الله من كل أولاده؛ حتى لا يتعلق اليهود بهيكل الله بأورشليم، والافتخار به، بل يتضعون، ويخافون الله، فيبعدوا عن كل خطية بالتوبة.
ع3: ناحر : من يكسر العنق.
بعد موت المسيح على الصليب، وتأسيس كنيسته، أصبح لا حاجة للذبائح الدموية التى يقدمها اليهود، ولكن لأنهم أصروا على تقديم هذه الذبائح، يصفها إشعياء بأنها مرفوضة، بل هى في نظر الله مثل قتل إنسان، فهم يقتلون أنفسهم بالتعلق بهذه العبادة المظهرية، ويرفضون المرموز إليه، وهو المسيح المذبوح على الصليب؛ لأجل فداء البشرية.
وعبادتهم ليست فقط مظهرية، بل أيضاً نجسة، فيشبهها إشعياء بذبح كلب، أو خنزير، وكلها حيوانات تحرم الشريعة ذبحها.
ومن يقدم من اليهود لباناً على المذبح، فهو كمن يقدم عبادة للأصنام؛ لأن الذبائح الدموية قد انتهى عهدها بفداء المسيح، وأصبحت عبادة شكلية لا يقبلها الله.
فاليهود اختاروا طرقهم، وهى هذه العبادة الشكلية، التى لا داعى لها، بل صاروا مسرورين بهذه العبادة التى يرفضها ويكرهها الله.
ع4: أجلبها : آتى بها.
إن كان اليهود الأشرار الرافضون الإيمان بالمسيح قد تمسكوا بالعبادة الشكلية، وقدموا ذبائحهم الحيوانية، واختاروا هذا الطريق الشرير، فالله سيختار هو أيضاً العقاب المناسب لهم، فيسمح لهم بالمصائب، والأمور المخيفة التى تزعجهم، أى التجارب الشديدة. وهذا ما حدث فعلاً عندما هجم تيطس القائد الرومانى على أورشليم، وهدم الهيكل، وقتل الكثيرين من اليهود.
كل هذه المصائب ستأتى على اليهود؛ لأنهم رفضوا دعوة الله لهم للإيمان والتوبة، وأصروا على أعمالهم الشريرة السابق ذكرها، بالإضافة إلى اضطهاد المسيحيين، وهذا لا يسر به الله. وهكذا أتى عمل اليهود الشرير على رؤوسهم، كما أعلن يوئيل النبى هذا
(يؤ3: 4). والإنسان الذى يختار طريق الحياة، يحيا مع الله، أما الذى يختار طريق الشر فيهلك (تث30: 19).
ليتك يا أخى تهتم أن تفهم ما تقول فى الصلاة، وتتأمل ما تقرأه فى الكتاب المقدس، فتكون لك العبادة الحقيقية المحبوبة من الله، فتنال بركاته فى حياتك على الأرض، وفى السماء.
(2) خلاص الله لخائفيه (ع5-14):
5 اِسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ أَيُّهَا الْمُرْتَعِدُونَ مِنْ كَلاَمِهِ: «قَالَ إِخْوَتُكُمُ الَّذِينَ أَبْغَضُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِي: لِيَتَمَجَّدِ الرَّبُّ. فَيَظْهَرُ لِفَرَحِكُمْ، وَأَمَّا هُمْ فَيَخْزَوْنَ. 6 صَوْتُ ضَجِيجٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، صَوْتٌ مِنَ الْهَيْكَلِ، صَوْتُ الرَّبِّ مُجَازِيًا أَعْدَاءَهُ. 7 قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهَا الطَّلْقُ وَلَدَتْ. قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا الْمَخَاضُ وَلَدَتْ ذَكَرًا. 8 مَنْ سَمِعَ مِثْلَ هذَا؟ مَنْ رَأَى مِثْلَ هذِهِ؟ هَلْ تَمْخَضُ بِلاَدٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ تُولَدُ أُمَّةٌ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟ فَقَدْ مَخَضَتْ صِهْيَوْنُ، بَلْ وَلَدَتْ بَنِيهَا! 9 هَلْ أَنَا أُمْخِضُ وَلاَ أُوَلِّدُ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَوْ أَنَا الْمُوَلِّدُ هَلْ أُغْلِقُ الرَّحِمَ، قَالَ إِلهُكِ؟ 10 افْرَحُوا مَعَ أُورُشَلِيمَ وَابْتَهِجُوا مَعَهَا، يَا جَمِيعَ مُحِبِّيهَا. اِفْرَحُوا مَعَهَا فَرَحًا، يَا جَمِيعَ النَّائِحِينَ عَلَيْهَا، 11 لِكَيْ تَرْضَعُوا وَتَشْبَعُوا مِنْ ثَدْيِ تَعْزِيَاتِهَا، لِكَيْ تَعْصِرُوا وَتَتَلَذَّذُوا مِنْ دِرَّةِ مَجْدِهَا». 12 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «هأَنَذَا أُدِيرُ عَلَيْهَا سَلاَمًا كَنَهْرٍ، وَمَجْدَ الأُمَمِ كَسَيْل جَارِفٍ، فَتَرْضَعُونَ، وَعَلَى الأَيْدِي تُحْمَلُونَ وَعَلَى الرُّكْبَتَيْنِ تُدَلَّلُونَ. 13 كَإِنْسَانٍ تُعَزِّيهِ أُمُّهُ هكَذَا أُعَزِّيكُمْ أَنَا، وَفِي أُورُشَلِيمَ تُعَزَّوْنَ. 14 فَتَرَوْنَ وَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَتَزْهُو عِظَامُكُمْ كَالْعُشْبِ، وَتُعْرَفُ يَدُ الرَّبِّ عِنْدَ عَبِيدِهِ، وَيَحْنَقُ عَلَى أَعْدَائِهِ.
ع5: يخاطب الله اليهود الأتقياء الذين يخافونه، وكذا المسيحيين في العصر الرسولى، وما بعده، فيقول لهم : إن اخوتكم اليهود قد رفضوا كلام الله على فم إشعياء، وكذا رفضوا المسيح عندما أتى وتجسد ومات على الصليب، بل وقاوموا المؤمنين، وقالوا عليهم كلاماً شريراً.
يعلن الله أنه سيسند أولاده، ويعزيهم ويفرحهم، بل ويتمجد فيهم، أما اليهود الذين اضطهدوهم فيخزون بسبب التجارب التى ستأتى عليهم. وهذا حدث فعلاً، فالذين آمنوا أيام إشعياء قدموا توبة، ورجعوا من السبى، وبنوا الهيكل في أورشليم، وباركهم الله، أما الذين اضطهدوهم من البابليين فأتى عليهم الخزى، إذ قتلهم وأذلهم الفارسيون. وفى العصر الرسولى هرب المسيحيون – كما قال لهم المسيح – من أورشليم، عندما أتى تيطس الرومانى، أما اليهود فظلوا في أورشليم ظانين أن الهيكل ينقذهم، ثم دخل تيطس وهدم الهيكل، وقتل اليهود، فصار اليهود الباقون في خزى شديد؛ لأن تيطس قتل اليهود فقط، ونجى المسيحيون.
ع6: ضجيج : صوت مرتفع.
ارتفعت أصوات عالية من مدينة أورشليم، عندما هجم عليها تيطس الرومانى، وبدأ يقتل سكانها من اليهود، وارتفعت أيضاً أصواتٌ عالية من الهيكل، ورجال تيطس يهدمونه، ويصرخ اليهود في حزن شديد. هذه الأصوات العالية تعلن عقاب الله لليهود الأشرار الذين قاوموا المسيح وصلبوه، وقاوموا أيضاً رسله وخدامه، وقتلوهم، وعذبوهم عندما بشروا بالمسيح.
ع7، 8: الطلق – المخاض : آلام تأتى قبل الولادة وأثناءها.
يتكلم إشعياء عما حدث عند رجوع المسبيين من بابل وولادة أمة اليهود، الذين يبنون الهيكل وأورشليم، ويشبهها بامرأة ولدت دون آلام الطلق والمخاض، فهل يُسمح مثل هذا؟ أن بلاد، أو أمة تولد دفعة واحدة ؟ هذا ما حدث عندما مخضت صهيون وولدت بنيها من جديد، فعمروا أورشليم، وبنوا هيكلها.
وتشير هذه الآية إلى ولادة المسيح من العذراء مريم دون آلام الطلق والمخاض.
وأيضاً هاتان الآيتان تتكلمان عن ولادة أمة المسيحيين، أى الكنيسة التى ولدت يوم الخمسين بعد عظة بطرس، وآمن 3000 نفس واعتمدوا (أع2).
ع9: يؤكد الله أنه قادر أن يلد أولاداً له ولادة جديدة في معمودية الكنيسة، فيقول : هل أنا أجعل الكنيسة تمخض، أى تتألم، ولا أستطيع أن أجعلها تلد؟ بالطبع أستطيع. وإذا كنت أنا الذى أجعل الكنيسة تلد، هل أغلق رحمها، وهو جرن المعمودية؟ بالطبع لا. فإن كانت الكنيسة ستتألم، ولكنها بقوتى ستلد بنيناً كثيرين، سيتعمدون فى جرن المعمودية، ويعيشون حياة نقية فى مخافتى.
ع10، 11: دِرَّة : وفرة، أو فيض.
ينادى الله كل محبى الكنيسة الذين بكوا لأجل كثرة آلامها، واحتمالها للاضطهادات، ويقول لهم: افرحوا معها لأنى أفيض عليها هى وكل بنيها تعزيات كثيرة.
وأجعل الكنيسة مصدر شبع لأولادها، فيرضعوا دسم تعاليمها ويعصروا من ثدييها فيضاً عظيماً من التعزيات، ويتمتعوا بأمجادها.
ويلاحظ أن الكنيسة مصدر للشبع لكل أولادها، ولكن هناك دور على أولادها أيضاً، أن يقبلوا إليها؛ ليرضعوا من ثدييها، بل ويعصروها ليمتلئوا ويشبعوا ويتلذذوا بتعزياتها. فالذى يجاهد ويعصر ثدى أمه الكنيسة، سينال بركة أكبر ولذة لا توصف.
ع12: يعلن الله سبب الفرح المذكور في (ع10) الذى سيهبه لكنيسته، وقبلها للراجعين من السبى، وأسباب هذا الفرح هى :
- سلام : يعطى الله أولاده سلاماً بفيض عظيم، يشبهه هنا بالنهر. والمحرك لهذا السلام هو الله، فهو يدير كل الظروف، ليعطيهم هذا السلام، كمثل ساقية تدور على نهر لتروى الأرض الزراعية.
- مجد الأمم : كل ما تمتعت به الأمم من أمجاد، يهبها لأولاده، وتكون بكثرة، فيشبهها بسيل جارف، يزيح أمامه كل الأحزان، ويعوضهم عن كل الضيقات التى مروا، ويمروا فيها.
- شبع : الذى يعبر عنه الله “بترضعون”، أى تأكلون حتى تشبعوا، ليس فقط من الخيرات المادية، بل بالأحرى من البركات الروحية.
- الحماية : التى يعبر عنها بـ “على الأيدى تحملون”، فلا يتمتعون فقط بالراحة، بل بالعناية الإلهية؛ لأن الذى في يد الله لا يستطيع أحد أن يؤذيه، فيتمتع براحة وطمأنينة.
- الحنان : ويظهر هذا الحنان بتعبير : “على الركبتين تدللون”. وحنان الله عجيب، ليس مثله في العالم، فالله تحنن على أرملة نايين، وأقام ابنها (لو7: 14)، وعلى مريم ومرثا، فأقام أخاهم لعازر (يو11: 43)، وتحنن على الجموع، فعلمهم وأشبعهم بالسمكتين والخمس خبزات (مت14: 19)، ويعلن بوضوح : “إن نسيت الأمم رضيعها، أنا لا أنساكم” (إش49: 15)، أى لو تفرق عنك كل البشر، فثق أن الله معك، وبحنانه يفرح قلبك.
ع13: يعد الله أولاده أن يعزيهم بتعزيات روحية في داخلهم، هذه التعزيات مريحة، ومشبعة، مثل تعزيات الأم لابنها. وتعزيات الله يعطيها لأولاده الراجعين من السبى في هيكله الذى في أورشليم، وفى كنيسته في العهد الجديد. فالروح القدس يعطى تعزيات كثيرة من خلال أسرار الكنيسة، ووسائط النعمة، وثمار الروح القدس.
وهذه التعزيات ترفع كل ضيق وألم يعانى منها أولاد الله؛ لأن المؤمنين لا ينزعجون من حمل الصليب طوال حياتهم؛ لأن تعزيات الله لا تفارقهم.
ع14: تزهو : تظهر جميلة.
يحنق : يغضب بشدة.
يقول الله لأولاده : عندما ترون تعزياتى لكم، تفرح قلوبكم، بل حتى أجسادكم تصير قوية، إذ أن عظامكم – التى هى أقوى ما في الجسد – تصير جميلة، ومملوءة حيوية.
وهكذا يعرف أولاد الله قوة إلههم التى تعزيهم وسط الضيقات، وتفرحهم. وعلى العكس، يظهر غضب الله في الانتقام من أعدائه، ويكمل هذا الغضب في يوم الدينونة، عندما يلقى الله أعداءنا الشياطين في العذاب الأبدى.
فوجود الآلام في حياة أولاد الله، والتجائهم إلى إلههم، فيعزيهم، ويسندهم، ينمى إيمانهم، بل يعطيهم فرحاً لا يعبر عنه، إذ يشعرون بوجود الله معهم، وهذا هو المقصود بقوله: “فتعرف يد الرب عند عبيده”. وهذا هو فرح السماء الذى ينالونه على الأرض؛ حتى ينقلوا إلى الملكوت، ويعيشوا في الفرح الدائم.
الله مهتم بخلاصك مهما كان ضعفك، أو خطاياك، ما دمت تتوب وتجاهد، فهو يسندك بتعزيات كثيرة، ترفعك فوق الآلام، فتفرح وسط الضيقات، أى تفرح بحمل صليبك، وتشتاق إلى التعب لأجله لتتمتع بتعزيات أكبر، ثم بأفراح السماء.
(3) عقاب الأشرا روقبول الأمم (ع15-24):
15 لأَنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ بِالنَّارِ يَأْتِي، وَمَرْكَبَاتُهُ كَزَوْبَعَةٍ لِيَرُدَّ بِحُمُوٍّ غَضَبَهُ، وَزَجْرَهُ بِلَهِيبِ نَارٍ. 16 لأَنَّ الرَّبَّ بِالنَّارِ يُعَاقِبُ وَبِسَيْفِهِ عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، وَيَكْثُرُ قَتْلَى الرَّبِّ. 17 الَّذِينَ يُقَدِّسُونَ وَيُطَهِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ وَرَاءَ وَاحِدٍ فِي الْوَسَطِ، آكِلِينَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَالرِّجْسَ وَالْجُرَذَ، يَفْنَوْنَ مَعًا، يَقُولُ الرَّبُّ. 18 وَأَنَا أُجَازِي أَعْمَالَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ. حَدَثَ لِجَمْعِ كُلِّ الأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ، فَيَأْتُونَ وَيَرَوْنَ مَجْدِي. 19 وَأَجْعَلُ فِيهِمْ آيَةً، وَأُرْسِلُ مِنْهُمْ نَاجِينَ إِلَى الأُمَمِ، إِلَى تَرْشِيشَ وَفُولَ وَلُودَ النَّازِعِينَ فِي الْقَوْسِ، إِلَى تُوبَالَ وَيَاوَانَ، إِلَى الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي لَمْ تَسْمَعْ خَبَرِي وَلاَ رَأَتْ مَجْدِي، فَيُخْبِرُونَ بِمَجْدِي بَيْنَ الأُمَمِ. 20 وَيُحْضِرُونَ كُلَّ إِخْوَتِكُمْ مِنْ كُلِّ الأُمَمِ، تَقْدِمَةً لِلرَّبِّ، عَلَى خَيْل وَبِمَرْكَبَاتٍ وَبِهَوَادِجَ وَبِغَال وَهُجُنٍ إِلَى جَبَلِ قُدْسِي أُورُشَلِيمَ، قَالَ الرَّبُّ، كَمَا يُحْضِرُ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْدِمَةً فِي إِنَاءٍ طَاهِرٍ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ. 21 وَأَتَّخِذُ أَيْضًا مِنْهُمْ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ، قَالَ الرَّبُّ. 22 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ السَّمَاوَاتِ الْجَدِيدَةَ وَالأَرْضَ الْجَدِيدَةَ الَّتِي أَنَا صَانِعٌ تَثْبُتُ أَمَامِي، يَقُولُ الرَّبُّ، هكَذَا يَثْبُتُ نَسْلُكُمْ وَاسْمُكُمْ. 23 وَيَكُونُ مِنْ هِلاَل إِلَى هِلاَل وَمِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ، أَنَّ كُلَّ ذِي جَسَدٍ يَأْتِي لِيَسْجُدَ أَمَامِي، قَالَ الرَّبُّ. 24 وَيَخْرُجُونَ وَيَرَوْنَ جُثَثَ النَّاسِ الَّذِينَ عَصَوْا عَلَيَّ، لأَنَّ دُودَهُمْ لاَ يَمُوتُ وَنَارَهُمْ لاَ تُطْفَأُ، وَيَكُونُونَ رَذَالَةً لِكُلِّ ذِي جَسَدٍ».
ع15، 16: زوبعة : عاصفة شديدة.
زجره : انتهاره.
الله الحنون على أولاده التائبين، والخاضعين له، هو في نفس الوقت عادل، وإن كان يطيل أناته على الأشرار، لكنه لابد أن يعاقبهم، وعقابه يكون على مرحلتين :
- فقدان السلام، أى القلق في هذه الحياة، الذى هو النار التى تضايق الأشرار في كل خطواتهم.
- العذاب الأبدى في النار التى لا تطفأ.
وغضب الله سريع وقوى كالزوبعة، وانتهاره شديد؛ كل هذا يصنعه الله بالضيقات التى يسمح بها للأشرار؛ لعلهم يتوبون، أى يردهم إليه بالتوبة، ولكن إن أصروا على خطاياهم، فلا ينتظرهم في النهاية إلا العذاب الأبدى. فهم يقتلون بسيف الرب، أى يموتون بسبب عصيانهم لكلام الله، الذى هو سيفه، ويكثر قتلى الرب، أى موت الأشرار المتمادين في شرورهم.
ع17: الجرذ : الفئران.
الله سيعاقب عبدة الأوثان الذين ذهبوا إلى جنات، أى تحت الأشجار، وتتطهروا، وتقدسوا ؛ ليعبدوا الأصنام التى أقاموها في الوسط، وقدموا لها ذبائح من الخنازير، والفئران، وأكلوا هم أيضاً منها؛ ليعلنوا اتحادهم بالأصنام التى أحبوها.
ويقرر الله أن عقابهم سيكون بفنائهم وهلاكهم مع كل عبادتهم هذه، التى هى الرجاسة والشر الشديد في نظر الله.
ع18: والله في عقابه لعبدة الأوثان، سيعاقب ليس فقط أعمالهم، أى عبادتهم وذبائحهم للأصنام، بل أيضاً أفكارهم الى تعلقوا بها مع أصنامهم التى ظنوها آلهة.
وعندما يعاقب الله عبدة الأصنام من الأمم، أو من اليهود الذين تركوه، سيضىء لهم مجد الله، أى يرجع بعضهم إلى الله، فيقبلهم، ويتعجبون من رحمة الله التى تقبلهم، وهذا هو السر الذى أعلنه بولس الرسول في العهد الجديد، أى قبول الأمم الإيمان بالمسيح (أف3: 6).
ع19: ترشيش : أسبانيا.
فول : مملكة آشور.
لود : ليبيا.
النازعين في القوس : الماهرين في استخدام القوس والسهام.
توبال : إيطاليا.
ياوان : اليونان.
هذه الآية تحدثنا عن حلول الروح القدس يوم الخمسين، وإيمان اليهود، وتكلمهم بألسنة، وذهابهم إلى بلاد العالم يبشرون بالمسيح، بالإضافة إلى إيمان الأمم، وذهاب التجار منهم ليكرزوا في العالم كله بالمسيح. والرسل أيضاً أعطاهم الله أن يعملوا الآيات (أع2: 43)، وكرزوا في العالم كله.
ع20: هوادج : جمع هودج، وهو الخيمة الصغيرة، توضع على ظهر الحيوانات، مثل الجمل، تجلس فيه النساء.
هجن : جمال.
عندما آمنت الأمم بالمسيح أتى أبناؤها إلى الكنيسة التى عندهم، أو التى في أورشليم، حيث ولد المسيح، وقدموا هدايا للرب بطهارة، كما كان يقدم اليهود عطاياهم في آنية مقدسة. وكانوا يركبون، ويحملون هذه الهدايا على حيوانات متنوعة، مثل الجمال والبغال.
وأعظم هدية قدموها للرب هى أنفسهم بإيمانهم بالمسيح، وتقديم حياتهم لله. وكانوا من الرجال والنساء، والكبار والصغار، ومن العظماء وعامة الشعب.
ع21: يقصد بالكهنة واللاويين، الكهنة والشمامسة في الكنيسة، فالله يقيم من أبناء الأمم الذين آمنوا كهنة وشمامسة. وواضح من الكلام أنه ليس كل الشعب كهنة، كما يدعى البروتستانت، ولكن البعض يكرسهم الله لخدمة كنيسته، وهم الكهنة و الشمامسة، بالإضافة للكهنة والشمامسة المسيحيين الذين من أصل يهودى.
ع22: يعد الله أولاده المؤمنين به في كنيسة العهد الجديد، أن يثبتوا أمامه في إيمانهم على الأرض، ثم في ملكوت السموات إلى الأبد، كما تثبت السماء و الأرض الجديدة التى تظهر في يوم الدينونة، وتثبت أمام الله إلى الأبد.
ع23: كما كان اليهود يعيدون بحسب الشريعة كل هلال، أى مع بداية كل شهر، وكل سبت، أى كل أسبوع، هكذا أيضاً يعيد المؤمنون في الكنيسة أعيادهم على الدوام بفرح وشكر الله. ويقصد بكل جسد، المؤمنين من أرجاء المسكونة، الذين آمنوا بالمسيح، ويسجدون سجود العبادة، معلنين خضوعهم لله في كل حياتهم وأعمالهم.
ع24: رذالة : تكون مكروهة ومرفوضة.
ويرى المؤمنون الذين في الكنيسة جثث من عصوا الله، أى الأشرار الذين عبدوا الأصنام، وانغمسوا في شهواتهم الشريرة، والمقصود بالجثث أنهم ماتوا وهم أحياء، فلهم شكل الاحياء، ولكنهم برفضهم للمسيح هم أموات، كما قال المسيح في انجيل يوحنا : أن الأموات الذين يسمعونه ويؤمنون يحيون (يو5: 25)، وكما قيل في سفر الرؤيا : “لك اسم أنك حى وأنت ميت” (رؤ3: 1). هذا ما يحدث على الأرض.
أما في الحياة الأخرى، فينتظرهم العذاب الأبدى، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ، ويكونون رذالة، أى محتقرين من كل إنسان.
تأمل عذاب الأشرار؛ لتبتعد عن كل خطية، مهما كانت صغيرة. وإن سقطت فى أى شر، أسرع إلى التوبة، فتنقذ حياتك، وتنال مراحم إلهنا الحنون.
حيـاة إشعياء
- إشعياء كلمة عبرية، معناها الله يخلص. وقد انطبق هذا المعنى على نبوات إشعياء الذى تنبأ عن أن الله يخلص شعبه ويرجعه من السبى. وتحققت هذه النبوات بتجسد المسيح وفدائه.
- ولد إشعياء عام 760 ق.م في أورشليم.
- والد إشعياء هو آموص، الذى كان أخا الملك أمصيا، وبهذا نعلم أن إشعياء هو ابن أخى الملك، وبالتالى، كان من حقه دخول القصر الملكى ومعرفة دخائله. فتكلم إشعياء عن هذا في نبوته، ودعا الكل للتوبة.
- يفهم من التقليد اليهودى أن إشعياء كان يشغل مركزاً هاماً في القصر، وهو أنه كان كاتباً؛ لأنه كان متعلماً ومثقفاً، بالإضافة، إلى أنه كان غنياً، ثم دعاه الله للنبوة. وقد ظهرت ثقافته العالية في روعة أسلوبه في التعبير والتشبيهات.
- أعلن إشعياء تنبؤات كثيرة عن المسيح في تجسده، وصلبه، وموته من (ص40-66)؛ لذا سمى بالنبى الإنجيلى، أو الإنجيلى الخامس.
- كان شجاعاً وقوياً يعلن الحق أمام الملوك (ص7: 13). وكان حازماً، وفى نفس الوقت حنوناً، كما ظهر في تأثره على تأديب شعبه، وعقاب الأمم (ص22: 4؛ 16: 11).
- عاصر إشعياء خمسة ملوك، هم عزيا ويوثام وآحاز، وحزقيا، ومنسى. وكان طفلاً أيام عزيا وبداية حكم يوثام، واستشهد على يد منسى الملك، الذى نشره بمنشار خشب حسب التقليد اليهودى (عب11: 37).
- تأذى إشعياء في أيام طفولته وأيام صباه باستغراق الأغنياء في ملذاتهم، وتأوه الفقراء في احتياجاتهم، وتضايق أيضاً من عبادة الأوثان أيام الملكين يوثام وآحاز.
- عاصر إشعياء أيام طفولته وصباه النبيين عاموس وهوشع في مملكة إسرائيل، ولما كبر في سن الشباب عاصر ميخا النبى في مملكة يهوذا، الذى تنبأ مع إشعياء في نفس الوقت، إذ دعا الله إشعياء للنبوة. وهو في سن العشرين، أى عام 740 ق.م، فرأى الله في رؤيا (ص6)، ورأى ملائكة الله السيرافيم، وقد طهر أحدهم شفتيه بجمرة من على المذبح، وأرسله الله؛ ليتنبأ.
- بدأ إشعياء نبواته في مملكة يهوذا وإسرائيل، ليرجعا إلى الله بالتوبة ويتركا العبادة المظهرية. وتزوج بإمراة دعاها الله النبية (ص8: 3)؛ لأنها عاونت إشعياء، وليس لأنها تنبأت. وأعطاه الله ابنين، سمى الله كل منهما باسم يتمشى مع نبوات إشعياء. فالأول، سماه شآريشوب (ص7: 3)، أى “البقية سترجع” وهى نبوة عن الرجوع من السبى، قبل حدوثه. اما الابن الثانى، فدعاه الله “مهير شلال حاش بز” (ص8: 3)، أى “عجل النهب أسرع الغنيمة”، وهو نبوة عن السبى.
- ظل إشعياء يتنبأ؛ حتى مات الملك يوثام، وملك ابنه آحاز بدلاً منه، وكان عمر إشعياء وقتذاك ستة وثلاثين عاماً. وسلك آحاز في الشر، وعبد الأوثان، وعمل مذبحاً للأوثان بدلاً من مذبح المحرقة في بيت الله (2أى29: 7). فوبخه إشعياء، ودعاه أن يؤمن بالله، ويتكل عليه، بدلاً من اتكاله على آشور؛ ليقاوم إسرائيل المتحالف مع مملكة آرام، وقال له : أن الله قادر أن يصنع معجزات، وأنبأه عن ميلاد المسيح من عذراء؛ ليخلص العالم (ص7: 14).
- ظل إشعياء يتنبأ على مملكة يهوذا، ومملكة إسرائيل ويدعوهما للتوبة، بل تنبأ أيضاً على الأمم المحيطة؛ لأن الله يريد إيمان وتوبة كل الشعوب، فهو خالقهم.
- عندما بلغ إشعياء سن الخمسين هجمت مملكة آشور على مملكة إسرائيل ثلاث مرات، وأخذت من فيها للسبى، وفرقتهم في بلاد العالم التابعة لها، وذلك من أجل شرور مملكة إسرائيل وعبادتها للأوثان، وأسكنت بدلاً منهم في إسرائيل، شعوباً وثنية تابعة لها. وأظهر الله غضبه، فهجمت السباع على هذه الشعوب، فخافت الأمم من إله إسرائيل، الذى ينادى به إشعياء.
- بعد حزن إشعياء على سبى مملكة إسرائيل، ومرور سنتين، فرح الله قلبه بتملك ابن آحاز، وهو حزقيا الملك، الذى تتلمذ على يد إشعياء، وأحب الله، فاهتم بعبادة الله في هيكله، ورممه، وأزال عبادة الأوثان، ففرح إشعياء.
- هجم سنحاريب ملك آشور على اليهودية، وحاصر أورشليم، وأرسل رسائل تهديد إلى حزقيا، الذى صلى ووضع الرسائل على مذبح الله، فأرسل الله له إشعياء، وطمأنه، ثم قتل ملاك الله 185.000 جندياً من جيش سنحاريب، وهرب الباقون، وأنقذ الله أورشليم من أجل صلاح حزقيا، وصلوات إشعياء (ص37: 36).
- مرض حزقيا، وأرسل الله له إشعياء يخبره بأنه سيموت، وصلى حزقيا، وأرسل الله له إشعياء مرة ثانية يبشره بأن الله مد عمره خمسة عشر عاماً (ص38: 5). فأتت وفود من العالم لتهنئة حزقيا، ومن بين هذه الوفود، وفد من بابل، فتكبر حزقيا وأراهم نفائسه؛ ليظهر قوته وغناه، فأعلمه إشعياء بغضب الله عليه، وأنه سيؤخذ كل هذا إلى بابل، ولكن لأجل صلاح حزقيا سيحدث هذا بعد موته. وتم هذا فعلاً في السبى البابلى (2مل20: 13، 17، 18).
- عندما بلغ إشعياء ثلاثة وسبعين عاماً من عمره، مات حزقيا ملك يهوذا، وجلس على عرش يهوذا ابنه منسى، الذى سلك في الشر، فأهمل عبادة الله ونشر عبادة الأوثان. وبالتالى، لم يكن محباً لإشعياء، مثل أبيه حزقيا، بل اضطهده، ثم أمر بقتله بطريقة صعبة، وهى نشره بمنشار خشبى لتعذيبه، فمات شهيداً وعمره ثمانين عاماً، وذلك عام 680 ق.م.
- استمر إشعياء يتنبأ حوالى ستين عاماً بشجاعة ليس لها نظير، ولذا فاليهود يعتبرونه في المرتبة الثانية بعد موسى النبى رئيس الأنبياء. لقد كان إشعياء مثالاً للمسيح في احتمال الآلام، وكتب سفراً طويلاً عدد إصحاحاته ستة وستين إصحاحاً، تتكلم عن التوبة والعودة من السبى، ثم نبوات واضحة عن المسيح المتجسد.