عقاب العنف والجهل
(1) أغراض السفر (ع1-6) :
1- أَمْثَالُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ: 2- لِمَعْرِفَةِ حِكْمَةٍ وَأَدَبٍ. لإِدْرَاكِ أَقْوَالِ الْفَهْمِ.
3-لِقُبُولِ تَأْدِيبِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالاسْتِقَامَةِ. 4- لِتُعْطِيَ الْجُهَّالَ ذَكَاءً، وَالشَّابَّ مَعْرِفَةً وَتَدَبُّرًا. 5- يَسْمَعُهَا الْحَكِيمُ فَيَزْدَادُ عِلْمًا، وَالْفَهِيمُ يَكْتَسِبُ تَدْبِيرًا. 6- لِفَهْمِ الْمَثَلِ وَاللُّغْزِ، أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَغَوَامِضِهِمْ.
ع1: يعلن فى هذه الآية ما يلى :
- أمثال : ومعناها حكم تظهر الصواب من الخطأ للمؤمنين. فكل هذا السفر عبارة عن أمثال مفيدة جداً للمؤمنين؛ لتعطيهم الحكمة.
- سليمان : كاتب هذا السفر هو سليمان، ومعنى اسمه “سلام”، وهو رمز للمسيح ملك السلام، وابن داود، وملك إسرائيل. وذكر اسم سليمان فى هذا السفر ثلاث مرات؛ هنا وفى (ص10: 1؛ ص25: 1).
- ابن داود : وهو الملك والنبى العظيم، وكان رجل حرب عكس ابنه سليمان، الذى ساد فى أيامه السلام. وداود أيضاً رمز للمسيح، الذى تغلب على حروب إبليس، وأعطى السلام للمؤمنين به.
- ملك إسرائيل : أى ملك على شعب الله، الذين يهمهم تعلم الحكمة؛ ليحيوا مع الله الحكمة الحقيقية؛ لذا كتب لهم سليمان هذا السفر.
ع2-5: يحدثنا في هذه الآيات عن محتوى السفر، أى الأمثال المتنوعة، وماذا تعطى لسامعيها، فهى تشمل :
- حكمة (ع2) : التى ترشدنا إلى السلوك المستقيم الذى يرضى الله. وهى هبة من الله يعطيها لمن يطلبها ويحتاجها. وقد وردت كلمة حكمة 37 مرة في هذا السفر. والحكمة هى الأقنوم الثانى الإبن الوحيد، المسيح إلهنا.
- أدب (ع2) : والمقصود بها تأديبات لتعليم السلوك الصالح. وذكرت في هذا السفر 26 مرة.
- الفهم (ع2) : وهو التمييز بين الخير والشر.
- المعرفة (ع3) : وهى خبرة روحية ينالها الإنسان من خلال عشرته مع الله وسلوكه في الحياة، مثل اختبار بركات الضيقة، فيتعلم الإنسان منها الصبر وطول الأناة والثقة في الله؛ هذه كلها عبارة عن أنواع من المعرفة الروحية.
- العدل (ع3) : وهو السلوك المستقيم أمام الله، فيعامل الناس كما يحب أن يعاملوه.
- الحق (ع3) : الحق هو الله، فنحرص أن نرضى الله في كل أعمالنا، ونعطى كل إنسان حقه، ونهتم بأجسادنا وأرواحنا بطريقة متزنة من أجل الله.
- الإستقامة (ع3) : وهى السلوك السليم الذى يرفض أية انحرافات عن وصايا الله، فيسئ للآخرين، ولنفسه.
- ذكاء (ع4) : وهو فهم، وقدرة على التصرف يفوق الذكاء الطبيعى، ويعوض الجاهل، فيصير أفضل من أذكياء العالم؛ لأن ذكاءه من الله رأساً، كما يستخدم ذكاء المؤمنين بالله ويكمله؛ لأن الذكاء الطبيعى الذى في الإنسان هو عطية من الله؛ ليستخدمها بحسب مشيئة الله.
- تدبر (ع4) : أى التدبير، والمقصود به رعاية وقيادة الآخرين بحكمة إلهية تفوق المواهب البشرية. فحكمة أستير المعتمدة على الصلاة والصوم فاقت الحكمة العالمية التى استخدمها هامان في الشر.
- علم (ع5) : وتشمل معرفة كل العلوم الطبيعية، حتى ما يبدو منها غامضاً، أو صعب الفهم. واكتشاف قدرة الله المختفية وراء كل الأحداث والمخلوقات.
ويفهم من هذه الآيات أنها موجهة لكل الفئات؛ وهم الحكماء والجهال الذين يطلبون الحكمة والشباب. ويلاحظ أن الأمثال تقودنا إلى عشر بركات، لتشبه العشر وصايا الإلهية التى أعطاها الله لموسى.
ع6: يشرح سليمان في هذه الآية البركة الثالثة للأمثال التى ذكرها في (ع2)، وهى الفهم. فيفهم الإنسان الأمثال التى تعبر عن الفكرة بشكل قصصى، أو عمل من أعمال الحياة. واللغز هو التعبير عن صفات، أو أمور في حياة الإنسان، أو الله بالكناية، أو الاستعارة؛ أى ليس كلاماً مباشراً. فهذه طرق لتوصيل المعنى بطريقة أعمق؛ حتى لا ينساها الإنسان، أو يهملها. والأمثال عموماً تفهم من يقرأها أى كلام يبدو غامضاً يقوله الحكماء. وبالتالى لا يصح أن يهمل الإنسان ما يسمعه، أو يقرأه، وخاصة كلام الكتاب المقدس إذا لم يفهمه، بل يصلى ليعطيه الله فهماً، ويستمر في قراءة الكتاب المقدس، فهو يشرح نفسه، كما يعلن سليمان هنا أن أمثاله تساعد الناس على فهم أى أمثال، أو ألغاز، أو غوامض يسمعونها ويرونها. ويمكن بالطبع سؤال الكهنة والخدام، كما سأل الخصى الحبشى فيلبس فشرح له، وقاده إلى الإيمان. والمسيح نفسه استخدم الأمثال في التعليم؛ لأنها من أفضل الطرق لإقناع الإنسان، فالمثل له علاقة بحياة السامعين يقرب المعنى إليهم.
ليتك تصلى قبل أن تقرأ الكتاب المقدس؛ ليعطيك الله فهما، واقرأ الكلام بهدوء، وإن أمكنك أن تقرأ كتباً للتفسير، فهذا يعطيك فهما، ويفتح لك مجال واسع للتأمل فى كلمة الله حتى تحيا بها.
(2) أهمية التأديب (ع7-9):
7- مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ، أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ. 8- اِسْمَعْ يَا ابْنِي تَأْدِيبَ أَبِيكَ، وَلاَ تَرْفُضْ شَرِيعَةَ أُمِّكَ، 9- لأَنَّهُمَا إِكْلِيلُ نِعْمَةٍ لِرَأْسِكَ، وَقَلاَئِدُ لِعُنُقِكَ.
ع7: يعلن سليمان فى هذه الآية بوضوح مفتاح سفر الأمثال، وهو أن مخافة الرب رأس المعرفة. فبدون مخافة الرب لا يمكن أن نعرف طرقه، أو نتمسك بوصاياه ونطيعها. هكذا أجمع الآباء القديسون على ضرورة المخافة. أما الجاهلون، الذين ليس فى قلوبهم مخافة الرب، فبالطبع لن يطيعوا الحكمة والأدب الواضحين فى وصايا الله، وكلامه. وهذا الرفض ليس بسبب الإلحاد فقط، والشك فى وجود الله، ولكن أيضاً بإهمال وجود الله والانغماس فى الشهوات والكبرياء، وكل أفكار العالم. وقد تكررت هذه الآية فى (ص9: 10) وكذلك فى (أش11: 2).
ع8: ينادى سليمان بروح الأبوة كل من يريد أن يتعلم الحكمة بقوله يا ابنى. وهذا أسلوب مملوء بالحب والحنان. وتتكرر مناداة سليمان للإنسان باعتباره ابن ليسمع الحكمة 26 مرة فى هذا السفر، سواء بالمفرد، أو بالجمع. وقد اتضح تعبير البنوة فى العهد الجديد، فيطالبنا المسيح أن نشعر به كأب عندما نصلى الصلاة الربانية، فنناديه أبانا الذى فى السموات. والكاهن يدعى “أبونا” والأسقف والبطريرك أيضاً كانوا يدعونهما “أبونا الأسقف”، أو “أبونا البطريرك”.
يركز فى هذه الآية على طاعة الوالدين وتعاليمهما و”اسمع” هنا تعنى أطع. والتأديب هو كلام التوبيخ والعتاب؛ بالإضافة إلى قبول العقاب إن كان هناك خطأ يستدعى ذلك. وشريعة الأم هى تعاليمها. ووصية إكرام الوالدين هى الوصية الخامسة التى كتبت على لوح الحجر الأول مرتبطة بالوصايا الموجهة نحو الله؛ لأن إكرام الوالدين وطاعتهما مرتبط بطاعة الله.
ع9: قلائد : جمع قلادة وهى الحلى التى تلبس فى العنق، وتصنع من المعادن الثمينة مثل الذهب وخلافه.
يصف تأديب وتعليم الوالدين لأبنائهما بالأكاليل التى توضع على الرأس لتزينه وتعطيه كرامة. وتعتبر الأكاليل نعمة من مانحها،والمانح هنا هو الله، الذى يزين ويكرم أولاده بكلامه وشرائعه.
والقلائد تشير إلى العظمة والسلطان، بالإضافة للجمال والحسن. وكلام الله يزين الإنسان ويتحول إلى فضائل فى حياته تكون قدوة لمن حوله، بل تعطى صاحبها مهابة وسلطان على من حوله، فيكرموه ويخضعون لكلامه، الذى هو كلام الله.
ليت فكرك ينشغل بكلام الله، ويساعدك على هذا ترديد كلام الله، مثل المزامير التى تحفظ فكرك، وتطهره، فتكون إكليلاً يتوج رأسك، وقلادة تزين حياتك.
(3) رفض العنف (ع10-19) :
10- يَا ابْنِي، إِنْ تَمَلَّقَكَ الْخُطَاةُ فَلاَ تَرْضَ. 11- إِنْ قَالُوا: «هَلُمَّ مَعَنَا لِنَكْمُنْ لِلدَّمِ. لِنَخْتَفِ لِلْبَرِيءِ بَاطِلاً. 12- لِنَبْتَلِعْهُمْ أَحْيَاءً كَالْهَاوِيَةِ، وَصِحَاحًا كَالْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ، 13- فَنَجِدَ كُلَّ قِنْيَةٍ فَاخِرَةٍ، نَمْلأَ بُيُوتَنَا غَنِيمَةً. 14- تُلْقِي قُرْعَتَكَ وَسْطَنَا. يَكُونُ لَنَا جَمِيعًا كِيسٌ وَاحِدٌ».
15- يَا ابْنِي، لاَ تَسْلُكْ فِي الطَّرِيقِ مَعَهُمْ. اِمْنَعْ رِجْلَكَ عَنْ مَسَالِكِهِمْ. 16- لأَنَّ أَرْجُلَهُمْ تَجْرِي إِلَى الشَّرِّ وَتُسْرِعُ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ. 17- لأَنَّهُ بَاطِلاً تُنْصَبُ الشَّبَكَةُ فِي عَيْنَيْ كُلِّ ذِي جَنَاحٍ. 18- أَمَّا هُمْ فَيَكْمُنُونَ لِدَمِ أَنْفُسِهِمْ. يَخْتَفُونَ لأَنْفُسِهِمْ. 19- هكَذَا طُرُقُ كُلِّ مُولَعٍ بِكَسْبٍ. يَأْخُذُ نَفْسَ مُقْتَنِيهِ.
ع10: يحذر سليمان من يسمعه ويناديه “يا ابنى”، وليس المقصود الشاب الصغير السن فقط، بل كل من يريد أن يتعلم الحكمة. فهو كملك مسئول عن كل شعبه كبار وصغار.
تحذير سليمان هو من تملق الأشرار؛ أى إغرائهم لمن حولهم؛ ليسقطوا معهم فى الخطية، كما تملقت الحية حواء، فِأسقطتها. وينصح سليمان من يسمعه ألا يرضى بهذا التملق، بل يرفضه؛ لأنه فخ للسقوط فى الشر، وإغضاب الله، والابتعاد عن البر والصلاح. فالإنسان له إرادة حرة أن يقبل الشر، أو يرفضه، إما أن يختار الحياة مع الله، أو الخضوع للشيطان.
ع11، 12: إذا قال لك الأشرار هلم معنا لنختفى فى كمين على الطريق؛ حتى نهجم على إنسان برئ فنقتله، ونسلب أمواله، مع علمنا أن عملنا هذا عمل باطل وشر، وبهذا نبتلع الأبرياء ونفترسهم وهم أحياء، كمن يسقطون وهم أحياء فى الهاوية. فهم أشرار ويعلمون أنهم يصنعون شراً عظيماً، ولكنهم لا يتوبوا، بل على العكس يغرون غيرهم للاشتراك معهم فى قتل الأبرياء. وهذا يبين أن الشرير يفقد عقله منساقاً وراء الخطية، ولا يريد أن يسمع صوت الله، أو أى إرشاد.
هذا الشر هو ما صنعه اليهود مع المسيح البار، فقد دبروا مؤامرتهم؛ حتى قبضوا عليه وحاكموه باتهامات زور، وصلبوه. وهذا ماحدث أيضاً من شاول ورجاله نحو داود البار، ومن أبشالوم نحو أبيه، ولكن الله نجى داود، كما قام المسيح من بين الأموات محطماً قوة الشيطان.
ع13، 14: قنية : كل ما يقتنيه الإنسان، أو يمتلكه.
غنيمة : هى ما يحصل عليه الإنسان ويفوز به دون مشقة، مثل المسروقات، أو ما يحصل عليه المنتصر فى الحرب من ممتلكات عدوه.
يغرى الأشرار أولاد الله بمكاسب، ليشتركوا معهم فى الشر، وهذه المكاسب هى المقتنيات والغنائم التى يحصلون عليها بالإجبار والسرقة من الأبرياء. فيشتركون مع الأشرار فيما يحصلون عليه من البرئ، ويقسمونه إلى أقسام، ويلقون قرعة بينهم لينال كل واحد منهم نصيبه منها. فالأشرار يغرون بما يلى:
- مكاسب مادية.
- شركة وحب مزيف بينهم، أى يكون للكل كيس واحد، فلا يظلم أحد غيره، وبهذا لا يحتاج أحد، بل يشبع الكل.
ع15-17: ينذر سليمان بوضوح من يريد أن يتعلم الحكمة ليبتعد عن طرق الأشرار، أى مصادقتهم، أو السير معهم، خاصة وأن الأشرار يجرون نحو الشر وسفك الدم باندفاع، إذ فقدوا سيطرتهم على أنفسهم، وسيطر الشر على قلوبهم. فسيجد الإنسان نفسه منحدراً مع الأشرار، وغير قادر عن التحكم فى نفسه، أو الرجوع عن الشر. بل يعلن سليمان بوضوح أن الفخ لا ينصب أمام عين الطائر، بل على العكس يخفى الصياد الفخ عن عين الطائر، فيسقط فيه. فليعلم من يريد الحكمة أن ما يصنعه الأشرار معه هو فخ يريدون إسقاطه فيه، فيخسر حياته مع الله. وقد أكد أشعياء طباع الأشرار، وهى الإسراع نحو الشر (اش59: 7)، وكذلك بولس الرسول (رو3: 15).
ع18، 19: مولع بكسب : مغرم ومتعلق بالمكسب، أى طماع.
المنطق يقول أن الطماع يريد أن يكسب من غيره، والحقيقة أن طمع الإنسان يأتى على رأسه، فيصبح شريراً، عاجزاً عن إيقاف نفسه عن الشر، ومبتعداً عن الله، لانغماسه فى الخطية. من أجل كل هذا يلزم أن يبتعد الحكيم عن الأشرار.
نرى فى هذا الجزء صفات الصديق الشرير وهى :
- متملق يغوى أولاد الله ويخدعهم (ع10).
- يخطط للشر (ع11).
- عنيف (ع12).
- طماع (ع13).
- مندفع فى طريق الشر (ع16).
- يدمر نفسه (ع18).
إحذر من الصديق الشرير مهما كان مبهجاً، أو مغرياً فى كلامه، ولا تتهاون إذا وجدت نفسك تنحدر ولو قليلاً معه، فلا تقامر بحياتك لئلا تهلك معه، وتفقد كل علاقتك بالله.
(4) عقاب رفض الحكمة (ع20-33) :
20- اَلْحِكْمَةُ تُنَادِي فِي الْخَارِجِ. فِي الشَّوَارِعِ تُعْطِي صَوْتَهَا. 21- تَدْعُو فِي رُؤُوسِ الأَسْوَاقِ، فِي مَدَاخِلِ الأَبْوَابِ. فِي الْمَدِينَةِ تُبْدِي كَلاَمَهَا 22- قَائِلَةً: «إِلَى مَتَى أَيُّهَا الْجُهَّالُ تُحِبُّونَ الْجَهْلَ، وَالْمُسْتَهْزِئُونَ يُسَرُّونَ بِالاسْتِهْزَاءِ، وَالْحَمْقَى يُبْغِضُونَ الْعِلْمَ؟ 23- اِرْجِعُوا عِنْدَ تَوْبِيخِي. هأَنَذَا أُفِيضُ لَكُمْ رُوحِي. أُعَلِّمُكُمْ كَلِمَاتِي. 24-«لأَنِّي دَعَوْتُ فَأَبَيْتُمْ، وَمَدَدْتُ يَدِي وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِي،
25- بَلْ رَفَضْتُمْ كُلَّ مَشُورَتِي، وَلَمْ تَرْضَوْا تَوْبِيخِي. 26- فَأَنَا أَيْضًا أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ. أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِيءِ خَوْفِكُمْ. 27- إِذَا جَاءَ خَوْفُكُمْ كَعَاصِفَةٍ، وَأَتَتْ بَلِيَّتُكُمْ كَالزَّوْبَعَةِ، إِذَا جَاءَتْ عَلَيْكُمْ شِدَّةٌ وَضِيقٌ. 28- حِينَئِذٍ يَدْعُونَنِي فَلاَ أَسْتَجِيبُ. يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ فَلاَ يَجِدُونَنِي. 29- لأَنَّهُمْ أَبْغَضُوا الْعِلْمَ وَلَمْ يَخْتَارُوا مَخَافَةَ الرَّبِّ. 30- لَمْ يَرْضَوْا مَشُورَتِي. رَذَلُوا كُلَّ تَوْبِيخِي. 31- فَلِذلِكَ يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِ طَرِيقِهِمْ، وَيَشْبَعُونَ مِنْ مُؤَامَرَاتِهِمْ. 32- لأَنَّ ارْتِدَادَ الْحَمْقَى يَقْتُلُهُمْ، وَرَاحَةَ الْجُهَّالِ تُبِيدُهُمْ.
33- أَمَّا الْمُسْتَمِعُ لِي فَيَسْكُنُ آمِنًا، وَيَسْتَرِيحُ مِنْ خَوْفِ الشَّرِّ».
ع20، 21: تبدى : تظهر وتعلن.
يتكلم السفر عن الحكمة كشخص ينزل إلى العالم، وينادى فى كل مكان ليدعو الأشرار ورافضى الحكمة؛ ليعودوا إلى الله ويتوبوا. وهذا يظهر محبة الله واتضاعه وطول أناته، وبحثه عن الخطاة، واهتمامه بخلاصهم. وقد اتضح حب الله بتجسد المسيح الذى هو الحكمة، وتبشيره، ودعوته العالم للتوبة، وتحننه على كل المتعبين بالأمراض والشياطين، وجميع المحتاجين.
والحكمة أعلنت صوتها لكل الناس؛ سواء المارة الذين فى الشوارع، وهم كل البشر، أو فى الأسواق، وهو مكان تجمع الناس، ورؤوس الأسواق هى أكثر مكان يعبر فيه الذين يشترون، فهى تنادى التجار والمشترين، وتنادى أيضاً فى مداخل الأبواب حيث يجلس القضاة وأصحاب القضايا، والذين فى المدينة، أى الساكنين المستقرين. فهى تدعو كل فئات الشعب؛ ليسمعوا صوتها، وتحذرهم من الشر وعقابه؛ ليرجعوا إلى الله. فالله لا يترك نفسه بلا شاهد (اع14: 17) بل يتكلم علانية (يو18: 20)؛ لأنه يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1تى2: 4).
ع22: الحكمة نادت على كل البعيدين عنها، وهم ينقسمون إلى ثلاث فئات :
- الجهال : وهم الذين يبتعدون عن معرفة الحكمة، ظانين أن هذا أفضل، وأسهل لسلوكهم فى الحياة. فهم غير مهتمين، ولا يريدون أن يعرفوا الحكمة، وبالتالى سيهلكون وهم غير مدركين.
- المستهزئون : وهى درجة متقدمة فى الجهل، حيث أن ابتعادهم عن الحكمة جعلهم يشعرون ليس فقط بعدم أهميتها، بل أنها خاطئة، وباطلة، فبدأوا يستهزئون بها. وهذا يعنى بداية التمرد على الحكمة ورفضها.
- الحمقى : وهى الدرجة الأصعب فى رفض الحكمة. فقد وصل ابتعادهم، ثم استهزاؤهم بالحكمة إلى درجة تغيير قلوبهم، فأصبحوا يبغضون الحكمة، أى صاروا مقاومين لها. وهذا معناه إصرارهم على أن يهلكوا أنفسهم.
وقد واجه المسيح اقنوم الحكمة هذه الفئات الثلاثة فى اليهود، عندما كرز فى وسطهم. فبعضهم كانوا من فئة الجهال الذين ابتعدوا عن سماع تعاليمه. ولكن بعض آخر استهزأ بتعاليمه، كما حدث فى محل اقامته وهى مدينة الناصرة. أما الفئة الثالثة وهى الحمقى، فكانت فئة الكهنة والكتبة والفريسيين الذين قاوموه؛ حتى صلبوه.
ع23: تنصح الحكمة كل البشر المعرضين للسقوط فى خطايا مختلفة أن يرجعوا إليها، ويخضعوا لها عندما توبخهم. وينقسم السامعون إلى قسمين :
- القسم الأول يجهل أن ما يفعله خطأ، فهو بعيد عن الله، ولا يميز الخطأ من الصواب، فعندما يسمع توبيخ الحكمة يرجع إلى الله. وروح الله الذى هو روح الحكمة يعلمه كيف يسلك فى الطريق المستقيم بكلام الله.
- القسم الثانى هو من يعرف ولكنه مرتبط بعبادته ومنغمس فى خطيته، فتناديه الحكمة أن يسمع توبيخها ليتوب ولا ييأس؛ لأن الروح القدس سيساعده على التوبة والحياة الجديدة مع الله.
ويتكلم المسيح أقنوم الحكمة بوضوح عن الروح القدس، أى روح الحكمة، فيقول أنه “يعلمكم كل شئ” (يو14: 26).
ع24، 25: فأبيتم : فرفضتم.
يبالى : يهتم.
يتكلم الله بحزن، فهو أقنوم الحكمة ويقول للبشر لقد دعوتكم لتعودوا إلىَّ، فرفضتم، بل فى طول أناتى توسلت إليكم وترجيتكم أن تتوبوا، ولكنكم فى عناد تمردتم وتركتمونى. وقد حدث هذا فى العهد القديم عندما تمرد شعب الله على موسى مرات كثيرة، وعلى الأنبياء. وفى العهد الجديد رفضوا المسيح وصلبوه، ورفضوا أيضاً الرسل ومازال الكثيرون، حتى الآن، يرفضون كلام الله.
ع26-28: من يرفضون الحكمة سيسقطون فى الخوف، وتأتى عليهم مصائب كثيرة، وتحل بهم فجأة كالعاصفة، وتزعجهم، فيكونوا فى ضيق عظيم. وعندما يتعبون يصرخون إلى الله فلا يستجيب لهم؛ لأنهم لم يتوبوا، بل يصرخوا من معاناة نتائج رفضهم للحكمة، وعدل الله يضحك ويشمت بهم، أى يظهر أخيراً أهمية الحكمة أمامهم. وليس المقصود أن الله يشمت، بل هى تعبيرات بأسلوب البشر لتقريب المعنى للقارئ، ولكن المقصود أن يظهر العدل الإلهى. فمن يرفض الحكمة سيتألم آلاماً عنيفة، فقد حرم نفسه بنفسه من بركاتها. ويقصد الله بهذا الضيق أن يرجع الناس إليه بالتوبة، ولكن إن تمادوا فى الشر، فمصيرهم هو الهلاك. كما حدث للعذارى الجاهلات فى مثل العذارى (مت25: 1-13)، وللغنى فى مثل الغنى ولعازر (لو20: 19-31).
ع29-31: مؤامراتهم : شرورهم المختلفة.
من يرفض الحكمة يرفض العلم والمعرفة، ويرفض أيضاً مخافة الله، فيحيا فى الجهل والاستهتار واستباحة الخطية، ويكون بلا مشورة، أو سند، فتهلك نفسه؛ لأنه رفض توبيخ الله. فيأتى عليه نتائج كل هذا، وثماره جزئياً فى الحياة على الأرض، فيفقد سلامه ويدخل فى ضيقات مختلفة، ولكن الأصعب هو ما سيعانيه فى الحياة الأخرى من عذاب مستمر.
ع32: يؤكد سليمان هلاك الأشرار بأن ارتداد الحمقى عن الحكمة، ورفضهم لها سيؤدى حتماً إلى موتهم. وانغماس الجهال فى راحة الجسد، والتنعم، وشهوات الحياة سيبيدهم، فلا يكون لهم مكان فى الملكوت، بل يستقروا فى العذاب الأبدى.
ع33: على الجانب الآخر فمن يحيا بالحكمة سيتمتع بأمرين :
- الأمان، والطمأنينة، والسلام الداخلى.
- سيتخلص من الشر، وكل ما ينتج عنه من خوف اضطراب.
احترس من الشر الذى يغطيه الشيطان بلذة الشهوة؛ ليغريك فتسقط فيه؛ لأن نتيجته الاضطراب والقلق فى هذه الحياة، ثم الهلاك فى الحياة الأبدية. وعلى العكس ابحث عن كلام الله لتحيا به، فتصير ابناً للحكمة، وتفيض عليك بركات الله.