أعمال الحكمة الأزلية
مقدمة :
إن كان الأصحاح السابق يحدثنا عن الشر في شكل الزانية، التى تنادى بكلام خبيث مخادع، فعلى النقيض فإن الحكمة في هذا الأصحاح تنادى بالصدق والاستقامة، وتدعو الناس للحياة النقية، فينالوا رضى الله.
وهذا الأصحاح يتحدث بوضوح عن الأقنوم الثانى، أى الابن الذى هو ربنا يسوع المسيح، ويبين أنه الحكمة الأزلية، وخالق كل الموجودات، فيتحدث عن الحكمة كشخص، وليس كصفة عادية.
(1) استقامة الحكمة (ع1-11) :
1- أَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ لاَ تُنَادِي؟ وَالْفَهْمَ أَلاَ يُعْطِي صَوْتَهُ؟ 2- عِنْدَ رُؤُوسِ الشَّوَاهِقِ، عِنْدَ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَسَالِكِ تَقِفُ. 3- بِجَانِبِ الأَبْوَابِ، عِنْدَ ثَغْرِ الْمَدِينَةِ، عِنْدَ مَدْخَلِ الأَبْوَابِ تُصَرِّحُ: 4- «لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُنَادِي، وَصَوْتِي إِلَى بَنِي آدَمَ. 5- أَيُّهَا الْحَمْقَى تَعَلَّمُوا ذَكَاءً، وَيَا جُهَّالُ تَعَلَّمُوا فَهْمًا.
6- اِسْمَعُوا فَإِنِّي أَتَكَلَّمُ بِأُمُورٍ شَرِيفَةٍ، وَافْتِتَاحُ شَفَتَيَّ اسْتِقَامَةٌ. 7- لأَنَّ حَنَكِي يَلْهَجُ بِالصِّدْقِ، وَمَكْرَهَةُ شَفَتَيَّ الْكَذِبُ. 8- كُلُّ كَلِمَاتِ فَمِي بِالْحَقِّ. لَيْسَ فِيهَا عِوَجٌ وَلاَ الْتِوَاءٌ. 9- كُلُّهَا وَاضِحَةٌ لَدَى الْفَهِيمِ، وَمُسْتَقِيمَةٌ لَدَى الَّذِينَ يَجِدُونَ الْمَعْرِفَةَ.10- خُذُوا تَأْدِيبِي لاَ الْفِضَّةَ، وَالْمَعْرِفَةَ أَكْثَرَ مِنَ الذَّهَبِ الْمُخْتَارِ. 11- لأَنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ الَّلآلِئِ، وَكُلُّ الْجَوَاهِرِ لاَ تُسَاوِيهَا.
ع1: إن كان الشر ينادى في شكل الزانية، وكل الأشرار، فبالأولى الحكمة التى هى الأقنوم الثانى، أى الله، ينادى البشر ليأتوا إليه. ولأن الشر معروف أنه خاطئ، فهو يكمن، ويختفى عند الزوايا (ص7: 12). أما الحكمة فتنادى علناً بقوة، وذلك بطرق كثيرة أهمها :
- الروح القدس داخل الإنسان.
- الكتاب المقدس.
- تعاليم الكنيسة.
- الكهنة والخدام.
- بركات الله وعطاياه.
- إنذارات وتأديبات من خلال أحداث الحياة.
ع2، 3: الشواهق : الجبال العالية.
ثغر : مدخل.
تصرح : تعلن.
يظهر هنا أربعة أماكن تعلن فيها الحكمة عن نفسها.
1- عند رؤوس الشواهق :
الجبال العالية هى القريبة من السماء، عندها تعلن الحكمة أقوالها؛ لترفعنا إلى السماويات. وهيكل الرب كان على الجبال، والكنيسة تبنى مرتفعة عن الأرض، ولها قباب يرسم فيها ملائكة ونجوم. فعلى قدر ما يطلب الإنسان السماء يستطيع أن يسمع الحكمة، ويقبلها. وإذا بدأ فى قبول الحكمة، ترفعه إلى السماويات. ويهتم الكتاب المقدس بإظهار أهمية الجبال لسماع صوت الله، فيأخذ موسى الوصايا والشريعة من الله على الجبل (خر19: 18)، ويعظ المسيح على الجبل (مت5) ويتجلى أيضاً لتلاميذه (مت17).
2- عند الطريق بين المسالك :
الحكمة هى المسيح الذى أعلن أنه هو الطريق (يو14: 6). والحكمة تقف بين المسالك، أى فى مفترق الطرق، لتنقذ طالبيها من الإنحراف فى المسالك المعوجة؛ حتى يسيروا فى طريقهم، ويتمتعوا ببركاتها.
وطريق الحكمة واضح يقترن به دائماً السلام الداخلى، والبنيان، أما طريق الشر، فيتصف بالاضطراب والهدم.
3- بجانب الأبواب :
لأنه عند الأبواب يجلس الشيوخ والحكماء ليقضوا للشعب. فالحكمة نستطيع أن ننالها من أفواه الكهنة والمرشدين الروحيين.
4- عند ثغر المدينة عند مدخل الأبواب :
الحكمة تعلن عن نفسها خارج المدينة عند أبوابها، كما تعلنها داخل المدينة فى الساحة الكبيرة، حيث يجلس الشيوخ بجوار الأبواب. فالحكمة معلنة بوضوح للجميع فى الداخل والخارج، وفى الأماكن المزدحمة؛ ليسمع الكل ويرجع إلى الله.
ع4، 5: كلمة “الناس” فى الأصل العبرى تعنى “ذوى السلطة”، فالحكمة تنادى الرؤساء، والملوك والمسئولين فى كل مكان؛ ليعلنوا هذا لمن يتسلطون عليهم، ويقودونهم. وفى نفس الوقت تُظهر نفسها لكل بنى آدم. فقد يهمل ذوو السلطة إعلان الحكمة، أو يعوجون شيئاً منها، فتعلن نفسها للبسطاء، والفقراء، ولكل إنسان مهما كان يبدو صغيراً، أو مهملاً من الآخرين. وتهتم بالأكثر أن تعلن نفسها للحمقى والجهال، أى السالكين فى الشر، والمبتعدين عن الله؛ حتى يتوبوا ويرجعوا إليه. وكلمة “الحمقى” فى أصلها العبرى تعنى “البسطاء”، وغير العارفين، الذين من السهل خداعهم. أما “الجهال” ففى أصلها العبرى تعنى “المعاندين”، الذين يرفضون الحق. وهذا معناه أن الحكمة تقدم نفسها لكل أحد، حتى للمخدوعين، والمتمردين.
ع6-9: تظهر الحكمة صفاتها بأن كل كلماتها شريفة، وهى موجهة للعظماء والأمراء، والمقصود بهم أولاد الله، أو طالبى الحكمة، فتقدم لهم علامات الطريق المستقيم. فإن كان أحدهم قد انحرف قليلاً فى أى جهل، أو حماقة، يعود سريعاً للكلام الصادق، فينجو من كل كذب واعوجاج. ويكتشف أيضاً أن كلمات الحكمة واضحة لكل من يطلبها، ويقدرها، فهى كلمات الله التى توضع فوق كل كلام، ومن يجدها، ويحيا بها يتمتع بعشرة الله.
وكلمات الحكمة الشريفة، أى السامية التى تجذبنا إلى الملكوت، تؤثر أيضاً فى الحمقى والجهال، أى الذين ابتعدوا عن الله كثيراً، وتمادوا فى الشر، فهى قادرة أن تنخسهم، وتنبههم، فيعودون بالتوبة إليه، ويسلكون بالإستقامة.
ع10، 11: إن الحكمة أفضل من كل مقتنيات العالم، وأثمنها، فهى أغلى من الفضة والذهب واللالئ والجواهر؛ حتى لو كانت كلماتها تأديب، فهى لإصلاحنا لنتوب ونستعيد بنوتنا لله، فنكسب الملكوت.
ليكن مقياس حياتك هو كلام الله، وليس أفكار العالم، وعاداته، ومبادئه. فكلام الله هو فقط كلام الحق. تمسك به، حتى لو كنت وحدك وسط كثيرين.
(2) بركات الحكمة (ع12-21) :
12- «أَنَا الْحِكْمَةُ أَسْكُنُ الذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ التَّدَابِيرِ. 13 مَخَافَةُ الرَّبِّ بُغْضُ الشَّرِّ. الْكِبْرِيَاءَ وَالتَّعَظُّمَ وَطَرِيقَ الشَّرِّ وَفَمَ الأَكَاذِيبِ أَبْغَضْتُ. 14- لِي الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ. أَنَا الْفَهْمُ. لِي الْقُدْرَةُ.
15- بِي تَمْلِكُ الْمُلُوكُ، وَتَقْضِي الْعُظَمَاءُ عَدْلاً. 16- بِي تَتَرَأَّسُ الرُّؤَسَاءُ وَالشُّرَفَاءُ، كُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ. 17- أَنَا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي، وَالَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي. 18- عِنْدِي الْغِنَى وَالْكَرَامَةُ. قِنْيَةٌ فَاخِرَةٌ وَحَظٌّ. 19- ثَمَرِي خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ وَمِنَ الإِبْرِيزِ، وَغَلَّتِي خَيْرٌ مِنَ الْفِضَّةِ الْمُخْتَارَةِ.
20- فِي طَرِيقِ الْعَدْلِ أَتَمَشَّى، فِي وَسَطِ سُبُلِ الْحَقِّ، 21- فَأُوَرِّثُ مُحِبِّيَّ رِزْقًا وَأَمْلأُ خَزَائِنَهُمْ.
ع12: الحكمة تستقر وتسكن وتستريح فى الذكاء. وهذا معناه أن الحكمة تختلف عن الذكاء، ولكن تتفق وتستريح معه. فالحكمة فى الأصل العبرى هى السلوك الحسن، والتطبيق العملى للوصول إلى الصلاح، وهذا من عمل الله. أما الذكاء فهو التفكير العقلى، والمعرفة، وهذا غير التطبيق العملى. ومعنى الآية أن الحكمة تستخدم الذكاء، فهو أحد أدواتها.
والحكمة تجد معرفة التدابير، أى أن الحكمة قادرة على التمييز بين الخير والشر، والوصول إلى التصرف الحسن فى كل المواقف.
ع13: الحكمة تنشئ فى النفس مخافة الرب. والمخافة تجعل الإنسان يرتبط بالله، ويتذوق حلاوة عشرته، فيرفض الشر. ويصنع هنا أمهات للخطايا؛ وهى الكبرياء والعجرفة، وكذا الكذب والخداع. فهو يقصد أن المخافة تطرد كل أنواع الشر، إذ تبغضها فتبتعد عنها، إذ تمتع بالوجود مع الله. فالمخافة تعطى الإنسان تمتع بعشرة الله، فيرفض الشر، ورفض الشر يقود الإنسان إلى تمتع أكبر بالله.
وكلامه هنا عن الحكمة يقصد بها الأقنوم الثانى المسيح، الذى يعرف أولاده الطريق المستقيم، ويبعدهم عن الشر، ويظهر عمله أيضاً فى الآيات التالية (ع14-17).
ع14: يواصل سليمان كلامه عن الحكمة، أى المسيح، فهو القادر أن يعطى المشورة للآخرين، ويهبهم الفهم، والرأى السليم، وكذلك يعطيهم القدرة على إتمام الأعمال الصالحة. فهو مصدر القوة فى العالم، والتى لا يمكن أن تقاوم، وتدوس كل قوى الشر.
ع15، 16: المسيح الأقنوم الثانى، الذى هو الحكمة الحقيقية، هو الذى يهب الملوك والرؤساء سلطانهم على شعوبهم، وأيضاً يعطى كل إنسان روحى أن يملك على غرائزه وقدراته فيضبط نفسه فى كل شئ.
ويرشد العظماء والقضاة إلى القضاء السليم، فيشعر الناس بعظمتهم فيخضعون لأحكامهم.
ع17: الله قدم محبته للبشرية كلها، ومن تجاوب معه وأحبه، فالله يحبه، ويقربه إليه، ويهبه بركات لا تحصى. وهذه الآية تظهر اهتمام الله بالحرية الإنسانية، فمن يحب الله ويتجاوب معه ينال بركات الحكمة الإلهية.
والتعبير عن محبتنا لله هو التبكير إليه، أى نضعه أول كل شئ، بل هدف كل شئ. ومن يبكر إلى الله يسهل عليه أن يجد الله، ويتمتع بنعمه.
والتبكير إلى الله ليس فقط تقديم بداية اليوم له، بل أيضاً تقديم أفضل الأوقات على مدار اليوم حتى فى الليل؛ لأن الله هو أهم شئ فى حياتنا. والتبكير أيضاً فى العمر، أى نسعى نحو الله فى شبابنا، كما يدعونا الكتاب المقدس “اذكر خالقك فى أيام شبابك” (جا12: 1).
ع18، 19: قنية : ممتلكات.
فاخرة : فى الأصل العبرى ليست فقط عظيمة، بل دائمة، أى تبقى العمر كله.
حظ : فى الأصل العبرى، المقصود البر والسلوك السليم.
الإبريز : الذهب الخالص.
غلتى : الغلة هى إنتاج المحاصيل من الحبوب مثل القمح والذرة التى يأكلها الإنسان والحيوان.
تحدثنا الحكمة عن بركاتها فتقول أنها تهب :
- الغنى : وليس فقط الغنى المادى، أى كثرة المال والممتلكات، بل الشعور بالاكتفاء؛ حتى لو كان الإنسان لا يملك إلا القليل، ولكنه يستغنى بالله، ويحيا مطمئناً. ويستمر هذا الشعور طوال حياته طالما هو متمسك بالله، ويسلك بالتالى فى البر، أى السلوك المستقيم. وعندما طلب سليمان الحكمة وهبه الله أيضاً الغنى، فكان أغنى ملك على الأرض.
- الكرامة : تعطى الحكمة مجد وعظمة لطالبيها فى أعين الناس، وتعطى من يقتنى الحكمة الثقة فى نفسه، فلا يخاف من المسئوليات، ويتقدم بنجاح فى كل أعماله.
وهذا يبين أن الغنى والكرامة التى تهبها الحكمة أفضل من الذهب الخالص، وكل ممتلكات العالم. والكرامة التى يعطيها لله أفضل من كل مراكز وعظمة العالم. وثمار الحكمة هى ثمار الروح القدس، وغلتها هى الشبع الروحى، الذى تهبه لمحبيها.
ع20، 21: الحكمة تجعل محبيها يسلكون بالعدل والحق فى جميع تصرفاتهم، وتباركهم بكثرة الرزق حتى يفيض عنهم، ويملأ خزائنهم؛ لأنهم قد طلبوا الله، أى الحكمة، فأعطاهم شبعهم وكفايتهم، وسلكوا بوصاياه، فبارك كل أعمالهم. لذا يدعونا المسيح فى العهد الجديد أن نطلب أولاً ملكوت الله وبره، والباقى يزيده لنا وهو احتياجات الحياة (مت6: 33). وكما آمن اسحق بالله فباركه عندما كان فى جرار، فكان انتاج حقوله مئة ضعف (تك26: 12).
وهذه الآية أيضاً تنطبق على المسيح نفسه الذى سار فى طريق العدل، عندما حمل خطايانا على الصليب، ورفع عنا حكم الموت، وأوفى ديوننا فأورثنا نحن المؤمنين به رزقاً عظيماً هو ملكوت السموات، الذى لا تفرغ خزائنه الروحية إلى الأبد.
إن كانت بركات الحكمة عظيمة إلى هذه الدرجة، فلماذا تبحثى يا نفسى عن الراحة، أو المجد فى العالم، فإن العالم فقير، وكل عطاياه زائلة، ولا تعطى سلاماً للنفس؛ لأن العالم مضطرب، ولا يهب إلا الاضطراب. لكن اطلبى الله، فيعطيك الغنى والمجد أيضاً، كما أعطى لسليمان.
(3) أزلية الحكمة (ع22-31) :
22- «اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ. 23- مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ. 24- إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ. 25- مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَرَّرَتِ الْجِبَالُ، قَبْلَ التِّلاَلِ أُبْدِئْتُ. 26- إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَنَعَ الأَرْضَ بَعْدُ وَلاَ الْبَرَارِيَّ وَلاَ أَوَّلَ أَعْفَارِ الْمَسْكُونَةِ. 27- لَمَّا ثَبَّتَ السَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا. لَمَّا رَسَمَ دَائِرَةً عَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ.
28- لَمَّا أَثْبَتَ السُّحُبَ مِنْ فَوْقُ. لَمَّا تَشَدَّدَتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ. 29- لَمَّا وَضَعَ لِلْبَحْرِ حَدَّهُ فَلاَ تَتَعَدَّى الْمِيَاهُ تُخْمَهُ، لَمَّا رَسَمَ أُسُسَ الأَرْضِ، 30- كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ. 31- فَرِحَةً فِي مَسْكُونَةِ أَرْضِهِ، وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ.
ع22، 23: يتكلم سليمان بوضوح عن المسيح الأقنوم الثانى، الذى هو الحكمة الحقيقية، فيقول بلسان الحكمة، أى المسيح أن “الرب قنانى أول طريقه”، وهذا معناه أن الأقنوم الثانى غير الأقنوم الأول، الذى هو الأب، وكلمة قنانى معناها أن الآب اقتنى الحكمة أول طريقه، وهذا لا يمكن أن يكون فى زمن تالى لوجود الآب؛ لأنه يؤكد فى (ع23) أن ها الاقتناء كان منذ الأزل؛ لأنه لا يمكن أن يكون الله بدون حكمة فى وقت ما، ثم اقتناها، ولكن منذ الأزل فيه كمال الحكمة.
وكلمة أول طريقه تعنى أيضاً الأزلية، فمنذ وجد الآب فمعه أيضاً الابن، أى أن الآب والابن موجودان منذ الأزل، أقنومان فى الله الواحد. وأول طريقه تعنى أيضاً أن التجسد والفداء فى فكر الله منذ الأزل، وقد أتم طريق الخلاص فى ملء الزمان بتجسد المسيح.
واقتناء الحكمة، وأزليتها فى الله بالطبع قبل خلقة العالم وكل ما فيه؛ لأن الأقنوم الثانى؛ هو المسئول عن خلقة كل شئ. ومنذ القدم تعنى الأزلية، إذ لا يوجد من هو أقدم من الله؛ لأن الله أزلى. ثم بعد هذا بدأت أعمال الله فى خلقة العالم.
وتقول الحكمة، أى الأقنوم الثانى، أنى قد مسحت منذ الأزل، أى تكرست وتخصصت لإتمام الخلقة والفداء. هذا كان منذ البدء، أى منذ الأزل من قبل تأسيس العالم، أى قبل خلقة الأرض والسموات. يفهم من هاتين الآيتين أن الحكمة هى الأقنوم الثانى الأزلى، الذى تخصص فى خلقة العالم، وكل ما فيه، وفى تجديد الخلقة فى ملء الزمان بالتجسد والفداء.
ع24-26: غمر : مياه كثيرة.
أعفار : جمع عفر وهو التراب.
تواصل الحكمة كلامها فتقول: أنى أبدئت قبل الغمر والينابيع كثيرة المياه، وقبل الجبال والتلال، وقبل الأرض والبرارى وكل ما على الأرض. وكلمة ابدئت تعنى وجدت، وهذا منذ الأزل كما يذكر فى (ع23)، وليس معنى هذا أن شخصاً أبدأها؛ لأنه لا يمكن أن يكون الله بدون حكمة فى وقت من الأوقات، وأن الحكمة، أى الأقنوم الثانى لله خالق كل هذه الموجودات، وبالتالى يلزم أن يكون موجود قبلها، أى منذ الأزل.
والمقصود بالغمر المياه، التى كانت موجودة قديماً قبل خلقة العالم (تك1: 2) فقبل وجود هذا الماء الكثير كانت الحكمة موجودة؛ لأنها هى الله الأزلى.
ع27-29: تضيف أيضاً الحكمة إلى كلامها فتقول أنها كانت موجودة قبل أن يثبت الله السموات، وقبل أن يرسم دائرة على وجه الغمر. والمقصود بالدائرة قبة السماء التى فوق المياه قبل أن تخلق الأرض، والتى ظهرت فى اليوم الثانى للخلقة (تك1: 6-8).
وكذلك قبل أن يثبت الله السحاب فى السماء؛ لأن السحاب هو الماء، وأيضاً المياه التى تحت السماء، وهى ينابيع الغمر، التى سميت فيما بعد البحار.
وبعد أن خلق الأرض وظهرت، وأحاطت بها مياه البحار وضع حدوداً لمياه البحار، حتى تتعداها وتغطى سطح الأرض، أى أن مياه البحار تتحرك نحو الأرض ثم تنسحب إلى داخل البحار بقانون المد والجذر، بل وضع الله قوانين الطبيعة التى يسميها هنا أسس الأرض، قبل أن تخلق كل هذه كانت الحكمة موجودة؛ لأن الحكمة كما ذكرنا هى الله الأزلى خالق كل المخلوقات.
ويؤكد هذا الكلام ما أعلنه الله فى الأصحاح الأول من سفر التكوين عندما قال نعمل الإنسان (تك1: 26) ويتكلم بصيغة الجمع، أى الأقانيم الثلاثة، فالابن هو الخالق ومعه الآب والروح القدس.
ع30، 31: تستكمل الحكمة حديثها فتقول أنها كانت مع الله الآب صانعه وخالقه لكل الموجودات. وكانت أيضاً لذة الله؛ لأن الآب يحب الابن (يو5: 20)، والابن يحب الآب؛ لأن الحب أزلى فى الله، وليس فقط عندما خلق الملائكة والبشر فأحبهم، ولكن الحب أزلى بين الأقانيم الثلاثة.
والحكمة كانت فرحة قدام الله الآب، أى أن الفرح أيضاً أزلى فى الله.
وكانت الحكمة فرحة بكل ما خلقته فى المسكونة من مخلوقات، أى أن الفرح فاض من الله إلى الخليقة، وأيضاً تقول لذاتى مع بنى آدم.
فالحكمة، أى الأقنوم الثانى تلذذ بخلقة الإنسان فىاليوم السادس، بالإضافة إلى تلذذ الآب بالمسيح الإبن المتجسد فى ملء الزمان، الذى صار ابن آدم، وهكذا فاض الحب من الآب إلى الإبن، ومن الإبن إلى البشر جميعاً، ودخل الكل فى وحدانية الحب.
الله خلق كل شئ لأجلك، ويحبك إذ أنت رأس خليقته، ويفرح ويتلذذ بعشرتك، فلماذا تنشغل عنه، عُد إليه لتفرح وتتلذذ به .. إرجع إلى صلواتك، وقراءاتك؛ لتحيا مع الله.
(4) دعوة لاقتناء الحكمة (ع32-36) :
32- «فَالآنَ أَيُّهَا الْبَنُونَ اسْمَعُوا لِي. فَطُوبَى لِلَّذِينَ يَحْفَظُونَ طُرُقِي. 33- اسْمَعُوا التَّعْلِيمَ وَكُونُوا حُكَمَاءَ وَلاَ تَرْفُضُوهُ. 34- طُوبَى لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَسْمَعُ لِي سَاهِرًا كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ مَصَارِيعِي، حَافِظًا قَوَائِمَ أَبْوَابِي. 35- لأَنَّهُ مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ الْحَيَاةَ، وَيَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ، 36- وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ. كُلُّ مُبْغِضِيَّ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ».
ع32، 33: فى الختام بعد أن أعلن الله الحكمة أنه يحب الإنسان، بل يجد لذاته فيه، ويقول لذات بالجمع، معلناً تعدد وتنوع لذة الله بالإنسان؛ كل هذا يدعو الإنسان إلى محبة الله، فيالسعادة (طوبى) هذا الإنسان الذى يحب طرق الله، أى وصاياه، ويسمع كلامه ليتأمل فيه، ويحيا به. هذا الإنسان هو الابن الحقيقى لله، والذى يهبه الله الحكمة، ففى الحكمة ينال كل السعادة.
ع34: مصاريعى : ضلف الأبواب.
تكرر الحكمة تطويبها لأبنائها الذين يسمعون كلامها، بل يسهروا عند أبوابها؛ ليحرسوا كلام الله، كما كان يفعل اللاويون عند أبواب الهيكل؛ ليحرسوه من دخول أى إنسان نجس إليه، كذلك يسهر الإنسان فى يقظة روحية ليحرر قلبه وفكره من دخول أفكار العالم إليه، ويسمع كلام الله ويحفظه لئلا يشككه العالم فيه، أو يحرف الأشرار معناه لإبعاد الإنسان عن الله. هذا السهر ليس فقط فى الصلوات التى تمتد حتى الليل، وقراءة الكتب المقدسة، ولكن أيضاً اليقظة للابتعاد عن الشر.
ع35، 36: فى النهاية بعد أن أظهرت الحكمة، أى الله محبته للبشر، وفرحته وتلذذه به، يعلن خلاصة كلامه، وهو أن من يجد الحكمة يجد الحياة، فيتمتع بالحياة المفرحة هنا على الأرض مع الله، ثم بعد هذا الحياة الأبدية السعيدة، فيتمتع برضا الله عنه على الأرض؛ وهذا معناه بركات كثيرة، أهمها الإحساس بمحبة الله، ثم بعد هذا الإحساس الدائم بالله، والاستنارة الروحية العظيمة فى السموات، كما يؤكد المسيح بنفسه هذا فى (يو3: 36).
وعلى العكس من يهمل ويرذل الحكمة، أى ينشغل عن الله ويبتعد عنه سيضر نفسه، إذ يحيا على الأرض فى اضطراب مهما تلذذ بشهوات العالم، ولا ينتظر هذا الإنسان إلا الموت الأبدى، وهو العذاب فى الجحيم، كما قال المسيح فى (يو3: 36).
اذكر الله كل يوم، بل وردد اسمه القدوس طوال النهار وحتى الليل؛ لتحيا معه، وتحفظ نفسك من شرور العالم؛ لأن اسمه القدوس برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع (أم18: 10).