بطلان العالم
(1) الطبيعة تشهد ببطلان العالم (ع1-11) :
1- كَلاَمُ الْجَامِعَةِ ابْنِ دَاوُدَ الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ: 2- بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ. 3- مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟ 4- دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. 5- وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ. 6- اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَدُورُ إِلَى الشَّمَالِ. تَذْهَبُ دَائِرَةً دَوَرَانًا،
وَإِلَى مَدَارَاتِهَا تَرْجعُ الرِّيحُ. 7- كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً. 8- كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ. الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ. 9- مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ. 10- إِنْ وُجِدَ شَيْءٌ يُقَالُ عَنْهُ: «انْظُرْ. هذَا جَدِيدٌ!» فَهُوَ مُنْذُ زَمَانٍ كَانَ فِي الدُّهُورِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَنَا. 11- لَيْسَ ذِكْرٌ لِلأَوَّلِينَ. وَالآخِرُونَ أَيْضًا الَّذِينَ سَيَكُونُونَ، لاَ يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ.
ع1: الجامعة : هو سليمان؛ لأنه تميز بحكمة عظيمة وهبها الله له، فاستطاع أن يجمع حكم، وأمثال كثيرة مفيدة (ص12: 9). ولفظ جامعة مفهوم منها أنه جامع لحكم كثيرة، والتاء للمبالغة. ويمكن للقارئ أن يرجع للمقدمة لمعرفة المزيد عن تسمية الجامعة.
أخفى سليمان اسمه، الذى معناه سلام، لأن الخطايا التى سقط فيها دمرت هذا السلام. فعندما عاد بالتوبة إلى الله استخدم اسم الجامعة، معلناً عن نفسه أنه مجرد جامع للحكم والأقوال، فهذا اتضاع منه. وإعلان أيضاً أنه قد عاد بالتوبة إلى شعب الله، الذى هو جماعة المؤمنين.
لعل سليمان يكون قد جمع الشعب وتلا عليهم هذه الحكم المكتوبة هنا فى هذا السفر؛ لأنه شعر أنه بخطيته قد يكون أعثر الكثيرين، فعندما تاب جمع الشعب؛ ليقودهم للتوبة، والحياة مع الله، كما يظهر من هذا السفر.
ابن داود : ينسب سليمان نفسه إلى داود أبيه؛ لأنه قديس عظيم، بالإضافة إلى أن داود أخطأ خطأً كبيراً، ولكنه تاب توبة عظيمة، فسليمان أيضاً الذى أخطأ خطأً عظيماً يعود إلى القداسة والحياة مع الله مثل داود أبيه.
ملك أورشليم : يُذكر سليمان نفسه، وشعبه بأنه الملك، أى المسئول عن رعاية شعبه، وقيادته فى طريق الله، ولذا يكلمهم بكلام الله الذى فى هذا السفر.
وهو أيضاً ملك على أورشليم المدينة المقدسة، التى فيها هيكل الله، فيلزم أن يتميز بالقداسة، التى عاد إليها بالتوبة.
ع2: كلمة “باطل” معناها لا فائدة منه، وفى الأصل العبرى معناها “بخار”، أى يشبه الهواء الخارج من أنف الإنسان، فهو بلا فائدة.
والمقصود “بباطل الأباطيل” أنه باطل جداً، فهى صيغة مبالغة للدلالة على كمال البطلان.
والمقصود بـ “الكل باطل” كل ما فى العالم؛ لأنه زائل، إذ أن الله وحده هو الخالد، وكل من يؤمن به، ويحيا معه. ومن ناحية أخرى كل شئ باطل إذا كان بعيداً عن الله منفصلاً عنه.
وإن قال إنسان كيف تكون خليقة الله التى خلقها باطلة ؟ نقول أن الخليقة كلها صالحة؛ لأنها من يد الله، ولكن الإنشغال بها بعيداً عن الله هو الذى يعطلنا عنه، ولذا فهى باطلة.
هذا الفكر وهو بطلان العالم عرفه داود والآباء، وأعلنه داود فى مزاميره، فهو حقيقة واضحة فى الكتاب المقدس كله (مز119: 37).
هذه المشاعر التى أعلنها سليمان ببطلان العالم ليست وليدة حدث، أو موقف معين، بل هى خلاصة خبرته فى الحياة، أعلنها فى نهاية حياته؛ لأن أى انفعال عاطفى يهدأ مع الوقت، أما الحقيقة الثابتة، فتدوم ، وإن كانت من الله، كما فى حالة سليمان تدوم إلى الأبد.
ع3: يوضح هنا سليمان حقيقة، وهى أن كل ما يُعمل تحت الشمس، أى على الأرض لا منفعة منه فى السماء، فهو باطل فى حد ذاته، ولكن إن كان يمجد الله يكون له منفعة عظيمة.
والمقصود تحت الشمس، أى على الأرض، وليس فى السماء؛ لأن كل ما يُعمل فى السماء هو بلذة، وبلا تعب، وله منفعة، أى الصلاة وتسبيح الله. وكذا كل ما عمله الإنسان على الأرض طاعة لوصايا الله، ومحبة فيه؛ كل هذا يتمتع به الإنسان فى السماء.
وإن كان سليمان فى سفر الأمثال قد قال “فى كل تعب منفعة” (أم14: 23)، فهو بهذا يظهر أهمية العمل لأجل الله، ويقاوم الكسل، وبالتالى فهو لا يعارض نفسه عندما يذكر بطلان كل ما يعمل تحت الشمس.
والمقصود أيضاً بتحت الشمس هو العالم، الذى يحيا فيه كل إنسان يتعرض للتجارب؛ لأن الشمس بحرارتها الشديدة ترمز للتجارب، أى أن الكل يحيا على الأرض، ويتعرض للتجارب، فأعماله التى يعملها لاقتناء المال، أو المركز، أو الشهوات لا فائدة منها إذ قد تأتى بتجربة تحرمه منها، وإن لم يحدث هذا فسيتركها حتماً بموته، فهى باطلة؛ لأنها لا توصله إلى الملكوت.
وقد تكررت كلمة “تحت الشمس” فى هذا السفر 28 مرة، ولم تذكر فى أى سفر آخر من أسفار الكتاب المقدس؛ لأن هذا السفر يهتم بإعلان بطلان العالم، والحاجة إلى التوبة والنظر إلى الأبدية.
ع4: دور : جيل.
تؤكد هذه الآية بطلان كل ما يُعمل على الأرض، فالحياة الزمنية المتمثلة فى الأجيال المتعاقبة تنتهى، أى يمضى الجيل تلو الجيل بكل البشر الذين عاصروه، وبأعمالهم الكبيرة والصغيرة، وتظل الأرض التى عاشوا عليها ثابتة، أى أن الحياة الزمنية تزول، ولا يبقى منها إلا محبة الله، والاستعداد للأبدية.
والإنسان الذى يستغل الأرض بكل ما عليها من ماديات، ستنتهى حياته، ولا يستفيد شيئاً منها، أى يترك الأموال، والمقتنيات، أما الأرض فتظل موجودة ليأتى عليها أجيال أخرى. وفى النهاية تزول الأرض نفسها؛ لتظهر الأرض الجديدة، وهى ملكوت السموات، وبهذا يتم القول الموجود فى هذه الآية : أن “الأرض قائمة إلى الأبد”.
هذا هو الدليل الأول على بطلان العالم، وهو زوال الإنسان، وبقاء الأرض، فالإنسان عمره قصير بالنسبة للأرض التى تدوم سنوات طويلة، وفى يوم الدينونة ستتحول إلى أرض جديدة روحية يحيا فيها أولاد الله.
إن كان الجيل قد مضى وترك كل أملاكه الأرضية، ولم يأخذ منها شيئاً، والجيل الحاضر سيترك أيضاً كل أملاكه الأرضية، فلماذا يتعلق الإنسان بالأرضيات؟ ألا ينظر من الآن إلى الأبدية !
إن تعاقب الأجيال، التى يعمل فيها كل جيل مفاسد كثيرة أمام الله على الأرض، ونتساءل كيف احتمل الله رؤية كل هذه الخطايا؟ إن طول أناته عجيب، لماذا لم يفنِ العالم ؟ والجواب بالطبع هو محبته، وإعطاؤه فرصة للبشر ولو القليل منهم، الذين يحيون معه بإيمان، وطاعة لوصاياه؛ حتى يسلكوا بالحق، ويجدوا مكاناً لهم فى السماء، أى أنه من أجل البقية القليلة التى تحب الله، يطيل الله أناته على كل البشر لعلهم يتوبون.
ع5-7: والدليل الثانى على بطلان العالم يظهر فى هذه الآيات، وهو التغير الدائم للماديات، وعدم ثباتها، كما يظهر فيما يلى :
أ – الشمس :
تشرق كل يوم، ثم تسرع إلى الغرب؛ لتعود إلى حيث كانت عندما أشرقت، وتتوالى الأيام والشمس تتغير، وتتحرك كل يوم من الشرق إلى الغرب تظهر فى النهار، وتختفى فى الليل، فهى ليست ثابتة فى مكانها.
هكذا أيضاً الإنسان مثل الشمس، يولد ويحيا عمره على الأرض، ثم يغرب أى يموت، ولذا ينبغى أن يستغل عمره ليستعد فيه للوجود الدائم مع الله فى الأبدية. فالإنسان من الناحية المادية يولد، أى يشرق، ثم يموت ويختفى من الوجود، ولكنه إن كان مؤمناً بالله، ويحيا معه تمتد حياته إلى الأبد، ولكن فى مكان آخر أسمى هو الفردوس والملكوت. هذا ما أنعم به الله علينا من خلال الصليب والفداء.
ب- الريح :
تتحرك نحو الجنوب، ثم تدور إلى الشمال، وبعد هذا تعود إلى الجنوب، وهكذا تتغير بحركتها، ولا تثبت أبداً. وهذا يدلل على تغير العالم وبطلانه، والثابت الوحيد هو الله.
حـ- الأنهار :
مياه الأنهار تجرى نحو البحار، ثم تتبخر بفعل الشمس وحرارتها، فترتفع إلى السماء وتكون السحب، وتعود هذه السحب تتكثف لتسقط كأمطار، وتملأ الأنهار، ثم تتحرك مياه الأنهار ثانية نحو البحار، ولا تهدأ أبداً. والبحر ليس بملآن لأن مياهه تتبخر، ثم تتكثف لتسقط فى شكل أمطار. هذه هى حركة المياه، وهى متغيرة، فلا نتعلق بها، ولكنها صورة من صور أعمال الله؛ لتُظهر حكمته، وتجعلنا نتعلق به، ونحبه، ونشكره، ولا نتعلق بالماديات فى حد ذاتها.
يُفهم من كل ما سبق أن الطبيعة متغيرة، وكل ما فى العالم لا يثبت أبداً، فلذا ينبغى ألا يتعلق قلب الإنسان بشهوات العالم الزائلة، بل يملأ قلبه بمحبة الله، ويشكره كل حين، ويحيا ثابتاً مطمئناً بين يديه.
ع8: الدليل الثالث على بطلان العالم هو أن الحواس لا تشبع. فحواس الإنسان الخمسة، أهمها العين والأذن. والعين لا تشبع من المناظر التى تراها، فهى تعجب بما تراه، ولكن سرعان ما تشتهى مناظر جديدة، وكذا الأذن أيضاً تُعجب بما تسمعه، ثم تطلب الجديد، لأن الإنسان وإن كان له حواس محدودة، ولكنها خلقت على صورة الله الغير محدود، فتميل إلى اللا محدود بشهوة الجديد دائماً.
أما الحواس الداخلية، أى البصيرة، والأذن الداخلية، فهذه لا يشبعها إلا الله. فإذن الماديات لن تشبع الإنسان، الله وحده هو الذى يشبعه، فالعالم باطل وزائل.
أما فى السموات فكل شئ جديد، فيسمع الإنسان الجديد فى السماء؛ ترنيمة جديدة
(رؤ14: 3) ويشترك فيها، ويشعر دائماً أنها جديدة، أى متجددة، فيفرح ويشبع إلى الأبد.
ع9، 10: الدليل الرابع على بطلان العالم هو عدم وجود جديد، أى أن كل شئ متكرر
كان قديماً، ثم نكتشفه حديثاُ فنظن أنه جديد. وكل ما نعمله اليوم كان يُعمل من قبل، ولو بشكل آخر، وبالتالى فسعى الإنسان نحو الجديد، بكثرة النظر، والسمع، واستخدام الماديات المختلفة، سيمل الإنسان منها سريعاً، فهو وإن فرح بها، ونال لذة مؤقتة، سرعان ما تزول، ويطلب
الجديد، ولكن لا يوجد جديد، فيظل فى تعاسة دائمة، لأن العالم وكل مادياته عاجز عن أن يسعده سعادة دائمة.
ومن يفتخر أنه قد وجد شيئاً جديداً، فهو مجرد اكتشاف لشئ كان موجوداً قديماً، فهو لم يضف شيئاً، وبالتالى يتعرض للملل، مهما كانت اكتشافاته.
ولا يوجد جديد إلا عند الله؛ لأنه هو الكائن الوحيد غير المحدود، فهو يستطيع بروحه القدوس أن يجدد مشاعرنا، ويعطينا أن نتذوق جديداً من حبه طوال حياتنا، بل وإلى الأبد، كما يقول بولس الرسول “تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم” (رو12: 2) وهذا بالطبع من عمل
الروح القدس.
ومهما كان الشئ المادى عظيماً، لكن يمل منه الإنسان. فالله كان يعطى بنى إسرائيل طعاما من السماء جديداً وطازجاً مع صباح كل يوم، فيكون لكل واحد كما يرغب من الأطعمة المختلفة، وهذا إعجاز يفوق العقل، كما يقول سفر الحكمة بوضوح : “يتضمن كل لذة، ويلائم كل ذوق … فكان يخدم شهوة المتناول، ويتحول إلى ما شاء كل واحد” (حك16: 20، 21)، ومع هذا سئم بنو إسرائيل من المن، ووصفوه بأنه طعام سخيف (عد21: 5).
ع11: الدليل الخامس على بطلان العالم، هو نسيان لمن قبلهم، مهما كانوا عظماء، وحاولوا تخليد ذكراهم بوسائل مادية كثيرة، فالناس تنسى كل هذا. فمن يقيم مبنى، أو مصنع،
أو مدينة، ويدعو إسمه عليها، ينساه الناس مع مرور الزمن، وقد يسرق شخص عمل غيره وينسبه لنفسه.
ويُفهم بالتالى أن من يحاول اليوم أن يقيم عملاً عظيماً مهما كان قدره، فسينساه الناس مع الوقت، فالاختراعات تتجدد كل يوم، وتمحو ما قبلها. والاكتشافات قد تعلن عكس الحقائق التى استنتجت من قبل، فلا يخلد ذكر أى إنسان، إلا إذا أراد الله تخليده؛ لأنه رجل بار، مثل رجال الله والأنبياء فى العهد القديم، وكذا الرسل فى العهد الجديد، يضاف إليهم كل الأتقياء والعظماء روحياً فى تاريخ الكنيسة، وكذا كل من عمل عملاً أفاد البشرية على مر التاريخ.
إن كان العالم باطل، ولا منفعة تحت الشمس، فهيا بنا يا أخى لنحيا مع الله، فنتمتع بالحياة الحقيقية ونحن هنا على الأرض، نتذوق السعادة من خلال عشرة الله، ثم تنتظرنا بعد هذا السعادة الأبدية فى الملكوت.
(2) الحكمة تشهد ببطلان العالم (ع12-18):
12- أَنَا الْجَامِعَةُ كُنْتُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ فِي أُورُشَلِيمَ. 13- وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ
وَالتَّفْتِيشِ بِالْحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ. هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهَا اللهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا
فِيهِ. 14- رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ.
15- اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ، وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ. 16- أَنَا نَاجَيْتُ قَلْبِي قَائِلاً: «هَا أَنَا قَدْ عَظُمْتُ وَازْدَدْتُ حِكْمَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى أُورُشَلِيمَ، وَقَدْ رَأَى قَلْبِي كَثِيرًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ». 17- وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ. 18- لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا.
ع12-14: ليعنوا : ليتعبوا.
الدليل السادس على بطلان العالم، أن الحكمة البشرية المنفصلة عن الله عاجزة عن
إسعاد الناس.
فيعلن سليمان، الذى يدعو نفسه الجامعة؛ لأنه جمع أمثال وحكم كثيرة، ويقول “كنت ملكاً على أورشليم”، وكلمة “كنت” فى الأصل العبرى تعنى كنت ولازلت. وهو هنا يعاتب نفسه، فكيف يكون ملكاً ممسوحاً من الله، وكذا على مدينة الله المقدسة أورشليم، ومع هذا يخطئ، ويبتعد عن الله؟ إنه فى حالة التوبة بعدما عاد إلى الله؛ لذا فهو يعاتب نفسه، ويذكرها بما كان ينبغى أن يكون فيه من الحكمة الحقيقية التى ينالها من خلال علاقته المستمرة بالله.
ويبين سليمان فى (ع13، 14) أنه وجه قلبه بالحكمة، ويقصد هنا أنه استخدم حكمته البشرية للسؤال والتفتيش عن كل ما فى العالم. وكانت النتيجة من أبحاث الحكمة البشرية، وخبرة سليمان أن كل المخلوقات، وما يجرى على الأرض، وما يكتشفه الإنسان، وما يعرفه من معلومات تسبب له عناء وتعباً كثيراً، بل شعر أن الله خلق العالم بكل ما فيه ليتعب الإنسان للوصول إلى حقائقه، ولا يجد سعادة فى كل هذه الأبحاث والمعرفة، بل يعانى من آلام وأتعاب بلا فائدة. لأن كل شئ فى العالم باطل وقبض الريح، فكأن الإنسان يمسك بالهواء فلا يجد شيئاً فى يده، فالمقصود أنه لا فائدة من كل هذا التعب.
ما وصل إليه سليمان فى هاتين الآيتين هو خبرته من خلال الحكمة البشرية فقط، ولكن بتوبته ورجوعه إلى الله فهم أموراً أخرى، سيذكرها فى نهاية السفر، وهو أن الإنسان الذى يتقى الله، ويحفظ وصاياه سيرى الله فى كل شئ فى العالم، فيصبح العالم جميلاً، فيجد سعادته فى الله خالق هذا العالم، فيشكره، ويسبحه (ص12: 13).
ع15: يُقوم : يُصلح.
بعد خبرة سليمان بحكمته البشرية، وإعلانه أن لا فائدة من كل ما يُعمل على الأرض، يقرر أن الأعوج لا يمكن إصلاحه، والناقص لا يمكن أن يجبر أى يظل ناقصاً. هذا هو كل
ما يصل إليه العقل البشرى بدون الله، فالحكمة البشرية تعلن عجزها، ولا ترى إلا بطلان
العالم.
ع16-18: الغم : الحزن الشديد.
الدليل السابع على بطلان العالم هو عجز العلم والمعرفة عن إسعاد الإنسان.
تأمل سليمان فى الحكمة، وهذا يبين أن تملكه على أورشليم لم يشغله عن التفكير فى الحكمة. فوجد أن الحكمة البشرية لا تعطى السعادة للإنسان، ولا تتميز عن الحماقة فى هذا الأمر، فكلاهما يحزن الإنسان. لأن كثرة الحكمة والمعرفة، والعلم تُسبب له الغم، وذلك لما يلى:
- كثرة العلم تكشف للإنسان ضعفه ونقائصه، ولا يستطيع بدون الله أن يصلحها،
فيزداد حزنه. - يكشف العلم عن أمور ليست متاحة للإنسان، ولا يستطيع أن ينالها، فيحزن. وإن استطاع أن يحصل عليها لا تسعده، فيزداد غمه.
- مهما علم الإنسان، وازدادت حكمته البشرية، يجد نفسه لم يصل إلى كل العلم،
فيطلب المزيد، ومهما حصل على علم بشرى، لن يصل إلى كمال العلم، فيزداد
حزنه.
كل هذا الكلام عن الحكمة البشرية البعيدة عن الله، وليست عن الحكمة التى يهبها الله لأولاده؛ لأن الله عندما يعطى حكمة، يساند الإنسان ويسعده. وسليمان هنا لا يقاوم الحكمة والعلم والمعرفة، ولكنه يظهر ضعفها إن كان بعيداً عن الله. والأفضل هو أن يكون الإنسان
مع الله فتكون له الحكمة التى تسعده، وحينئذ يبحث ويعرف، والله يسانده ويكمل له معرفته، ويعطيه الإحساس بالفرح. إن كانت الحكمة البعيدة عن الله والعلم لا تسبب سعادة لك، فلا تتكبر بكثرة معلوماتك، وذكائك، فهذا كله بلا قيمة إن كنت بعيداً عن الله، والكبرياء تفصلك عن الله، فتصير حزيناً. لذا تُب عن كبريائك، واشكر الله الذى أعطاك المعرفة، فيسامحك، ويسندك، ويفرحك.