عظمة الحكمة
(1) الموت نهاية كل حى (ع1-6):
1لأَنَّ هذَا كُلَّهُ جَعَلْتُهُ فِي قَلْبِي، وَامْتَحَنْتُ هذَا كُلَّهُ: أَنَّ الصِّدِّيقِينَ وَالْحُكَمَاءَ وَأَعْمَالَهُمْ فِي يَدِ اللهِ. الإِنْسَانُ لاَ يَعْلَمُ حُبًّا وَلاَ بُغْضًا. الْكُلُّ أَمَامَهُمُ. 2الْكُلُّ عَلَى مَا لِلْكُلِّ. حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصِّدِّيقِ وَلِلشِّرِّيرِ، لِلصَّالِحِ وَلِلطَّاهِرِ وَلِلنَّجِسِ، لِلذَّابحِ وَلِلَّذِي لاَ يَذْبَحُ، كَالصَّالِحِ الْخَاطِئُ. الْحَالِفُ كَالَّذِي يَخَافُ الْحَلْفَ. 3هذَا أَشَرُّ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ: أَنَّ حَادِثَةً وَاحِدَةً لِلْجَمِيعِ. وَأَيْضًا قَلْبُ بَنِي الْبَشَرِ مَلآنُ مِنَ الشَّرِّ، وَالْحَمَاقَةُ فِي قَلْبِهِمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَبَعْدَ ذلِكَ يَذْهَبُونَ إِلَى الأَمْوَاتِ. 4لأَنَّهُ مَنْ يُسْتَثْنَى؟ لِكُلِّ الأَحْيَاءِ يُوجَدُ رَجَاءٌ، فَإِنَّ الْكَلْبَ الْحَيَّ خَيْرٌ مِنَ الأَسَدِ الْمَيْتِ. 5لأَنَّ الأَحْيَاءَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ، أَمَّا الْمَوْتَى فَلاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ بَعْدُ لأَنَّ ذِكْرَهُمْ نُسِيَ. 6وَمَحَبَّتُهُمْ وَبُغْضَتُهُمْ وَحَسَدُهُمْ هَلَكَتْ مُنْذُ زَمَانٍ، وَلاَ نَصِيبَ لَهُمْ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ، فِي كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ.
ع1: “لأن هذا كله جعلته فى قلبى وامتحنت هذا كله” : يواصل سليمان التفكير وفحص الأمور لمعرفة الحق، واكتشاف طرق الله فى معاملة البشر، وسلوك البشر أمام الله.
“أن الصديقين والحكماء وأعمالهم فى يد الله” : اكتشف سليمان حقيقة هامة، وهى أن كل حياة البشر السالكين فى طرق الله، وهم الصديقون والحكماء، فى يد الله، فهو يعتنى بأولاده، ويحول كل شئ لخيرهم. أما الأشرار، فلابتعادهم عن الله، يصنعون فخاخاً لأنفسهم، ويهلكون حياتهم بأيديهم.
وهذا يطمئن أولاد الله، أن الله يرعاهم ويساندهم فى أعمالهم، ويحفظهم من أخطار كثيرة، سواء فهموا، أو لم يعرفوا، لكنه يحبهم ويرعاهم، فيسلكون مطمئنين بين يديه.
“الإنسان لا يعلم حباً ولا بغضاً الكل أمامهم” : حقيقة أخرى اكتشفها سليمان أن أحداث الحياة التى تمر على البشر، صالحين أو أشراراً، لا تعبر عن محبة الله أو بغضته لهم.
فعندما تأتى عليهم البركات يفرحون بمحبة الله لهم، ولكن عندما تحل بهم الضيقات يشعرون بأن الله متضايق منهم. وهذا، كما قلنا، يحدث للصالحين والأشرار، فداود الملك الصالح كان غنياً، ونابال الشرير كان غنياً، فالغنى لا يعبر عن صلاح، أو شر الإنسان. وبالتالى نفهم من هذا أن ما يعتقده البشر فى أن البركات رضا من الله، والضيقات تعنى غضبه، غير سليم.
أما المتقدمون فى الحياة الروحية، ولهم بصيرة داخلية، يستطيعون بنعمة الله أن يفهموا ويميزوا مقاصد الله بنسبة كبيرة، أما الأشرار فلا يميزون شيئاً.
والصالحون يشعرون بسلام الله فى قلوبهم، سواء مرت بهم بركات وعطايا إلهية، أو ضيقات. وعلى العكس، فالأشرار مضطربون، سواء أتت عليهم بركات، أو ضيقات.
وعبارة “الكل أمامهم” فى الترجمة اليسوعية “لكنهم معرضون لجميع الحوادث”، أى أن الحوادث المتنوعة من بركات وضيقات تأتى على الجميع.
ع2: “الكل على ما للكل حادثة واحدة” : كل البشر يأتى عليهم ما للكل، أى الأحداث المتنوعة، سواء كانت خيراً، أو شراً تأتى على كل البشر. والمعنى، أن كل البشر معرضون للخيرات، أو الضيقات، وحادثة واحدة، خير أو ضيق، تأتى على الكل.
“للصديق وللشرير للصالح وللطاهر وللنجس” : الحادثة الواحدة تأتى على الصديقين والصالحين والأطهار، ومن ناحية أخرى تأتى أيضاً على الأشرار والنجسين.
“للذابح، وللذى لا يذبح” : الذابح هو من يهتم بعبادة الله، ويقدم له ذبائح، فهو يتقى الله، ويتمسك بوصاياه، أما غير الذابح، فهو من يهمل عبادة الله، ولا يقدم ذبائح توبة، أو شكر لله.
“كالصالح الخاطئ” : فالصالح تأتى عليه نفس الأحداث التى تأتى على الخاطئ، كما ذكرنا.
“الحالف كالذى يخاف الحلف” : الحالف هو من يقسم بالله بالصدق،ويتمسك باسمه القدوس.
والذى يخاف الحلف هو من يتأرجح فى إيمانه بين عبادة الله، وعبادة الأوثان، ولا يعرف هل يحلف بالله، أم بالآلهة الوثنية، فإيمانه مهتز، وقد يكون كاذباً ويخاف أن يحلف لئلا يحلف كذباً، فيأتى عليه غضب الله.
ع3: “هذا أشر ما عمل تحت الشمس أن حادثة واحدة للجميع” : إن حدوث حادثة واحدة للصالح والشرير أمر غريب للإنسان الذى ينظر بعقله البشرى فقط. أما الذى يعيش فى التوبة وتقوى الله، فيفهم أن الله يحول كل شئ لخير أولاده، وأن أعمال أولاد الله فى يده، كما ذكر فى (ع1).
وأشر ما عمل تحت الشمس هو أن يفهم الأشرار أن حادثة واحدة تحدث للصالحين والأشرار، فيتمادون فى شرهم، إذ يعتقدون أنه لا فرق بين الخير والشر، فيفعلون الشر إرضاءً لأهوائهم.
من ناحية أخرى، إن أشر شئ يتم على الأرض، هو أن يتأثر الصالح بالظلم الواقع عليه، فيبتعد عن الله، ويتمادى فى عمل الشر، فيهلك، وهذا بالطبع يبين أن صلاحه الأول كان مظهرياً وليس من قلبه. فالله لا يسمح بهلاك الصالحين بالحقيقة، بل يعطيهم فرصة للتوبة والرجوع إليه، إذا سقطوا.
“وأيضاً قلب بنى البشر ملآن من الشر” : فالأشرار عندما يرون حادثة واحدة تحدث للصالح والشرير، يتمادون فى ابتعادهم عن الله، ويمتلئ قلبهم شراً.
“والحماقة فى قلبهم وهم أحياء وبعد ذلك يذهبون إلى الأموات” : الحماقة والجهل تسيطر على قلوب الأشرار، فيتمادون فى شرهم، إذ ينسون أنهم سيموتون، ويحاسبون عن كل أفعالهم، ولا يستفيدون من فرصة العمر وهم أحياء؛ ليرجعوا إلى الله ويسلكوا فى البر، وهذا أشر ما يحدث على الأرض.
ع4: يعلن سليمان أن الموت يأتى على كل البشر، ولا يستثنى أحد منهم، إلا إيليا وأخنوخ، اللذين اختارهما الله. وما دام الموت سيأتى على الكل، فيجب أن نستغل فرصة العمر؛ حتى نستعد للحياة الأخرى؛ لذا يطوب، ويمدح الأحياء؛ لأن لهم فرصة للتوبة عن خطاياهم، ولعمل الخير الذى يوصلهم للسماء.
إن كان سليمان فى (ص4: 2) قد مدح الموت أكثر من الحياة، فذلك لأنه يكره الظلم، ويبين استياءه منه، فمن يموت يتخلص من الظلم، لكن هنا يمدح الحياة؛ لأنها فرصة استعداد للحياة الأبدية.
ويبين فكرته أن الحياة أفضل من الموت من خلال مثل، هو أن الكلب الحى أفضل من الأسد الميت. والكلب حيوان صغير وحقير بل ونجس فى نظر اليهود، ولكن لأنه حى، فهو أفضل من الأسد الميت، والأسد هو ملك الغابة، فيرمز للملوك والرؤساء. والمقصود أن أحقر إنسان فى نظر البشر، والذى ينظرون إليه كإنسان نجس مادام حياً، هو أفضل من ملك، أو رئيس عظيم قد مات، فالميت ليس له فرصة أن يعمل شيئاً، عكس الحى القادر على التوبة والجهاد، وصنع أعمال عظيمة.
ع5، 6: “لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون” : إذ أن الأحياء يعرفون أن حياتهم ستنتهى بالموت، هذا يولد فيهم ما يلى :
- التوبة عن خطاياهم؛ ليقتنوا النقاوة التى يدخلون بها إلى السماء.
- إعطاء فرصة لأنفسهم ليتمتعوا بمحبة الله بالصلاة، والقراءة، والتأمل فيه.
- يعملون الصالحات، وأعمال الرحمة والخير، التى تؤهلهم للملكوت.
“أما الموتى، فلا يعلمون شيئاً” : الذى ماتوا لا يعلمون شيئاً، بمعنى ليس لديهم فرصة للعمل، إذ أنهم ماتوا، فلا يقدرون أن يتوبوا، أو يعملوا خيراً.
والميت بالخطية، أى منغمس فيها، ويعملها بكثرة، هو لا يعلم شيئاً، إذ فقد معرفته لله، ولا يميل إلى التوبة، أو أعمال الخير، فهو وإن كان حياً بالجسد، لكنه لا يعلم الصلاح الذى ينبغى أن يعمله، إذ لا يميل إليه، ويرفضه. كما كان الابن الضال حياً بالجسد، لكن ميتاً فى نظر أبيه الذى قال عنه عندما رجع “ابنى هذا كان ميتٌ فعاش” (لو15: 24).
“وليس لهم أجر بعد” : لم يعد للموتى فرصة للعمل المادى، وبالتالى لم يعد لهم فرصة للكسب، ونوال أجرة مادية، أى انتهت فرصتهم للعمل.
“لأن ذكرهم نسى” : الميت تهمل أخباره، وتنسى مع الوقت، ماعدا القديسون الذين عاشوا مع الله، وعملوا خيراً كثيراً، هؤلاء لا ينسون فى الأرض، ولا فى السماء، كما يقول الكتاب المقدس “الصديق يكون لذكر أبدى” (مز112: 6).
“ومحبتهم وبغضتهم وحسدهم هلكت منذ زمان” : انتهت حياة الموتى، ولم يعد لهم فرصة أن يحبوا الآخرين، أو يبغضونهم، ويحسدونهم، ولم يعد لهم فرصة أيضاً لمحبة، أو بغضة الماديات؛ لأن عمرهم قد انتهى.
“ولا نصيب لهم إلى الأبد فى كل ما عمل تحت الشمس” : لم تعد هناك فرصة للموتى أن ينالوا نصيباً من الماديات التى فى العالم، أى على الأرض تحت الشمس؛ لأنهم قد تركوا العالم، ولم يعد لهم فرصة لعمل شئ إلى الأبد، فما عملوه من خير، أو شر هو الذى سيبقى معهم وينالوا مكافأة، أو عقاباً عليه.
إن كل عمل خير تعمله على الأرض، حتى لو كان صغيراً له مكافأة عند الله، فلا تهمل عمل الخير، بل اسعى نحوه، فهو وسيلتك للتمتع بملكوت السموات.
(2) الفرح ببركات الله (ع7-10):
7اِذْهَبْ كُلْ خُبْزَكَ بِفَرَحٍ، وَاشْرَبْ خَمْرَكَ بِقَلْبٍ طَيِّبٍ، لأَنَّ اللهَ مُنْذُ زَمَانٍ قَدْ رَضِيَ عَمَلَكَ.
8لِتَكُنْ ثِيَابُكَ فِي كُلِّ حِينٍ بَيْضَاءَ، وَلاَ يُعْوِزْ رَأْسَكَ الدُّهْنُ. 9اِلْتَذَّ عَيْشًا مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَحْبَبْتَهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاةِ بَاطِلِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ إِيَّاهَا تَحْتَ الشَّمْسِ، كُلَّ أَيَّامِ بَاطِلِكَ، لأَنَّ ذلِكَ نَصِيبُكَ فِي الْحَيَاةِ وَفِي تَعَبِكَ الَّذِي تَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ. 10كُلُّ مَا تَجِدُهُ يَدُكَ لِتَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ بِقُوَّتِكَ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل وَلاَ اخْتِرَاعٍ وَلاَ مَعْرِفَةٍ وَلاَ حِكْمَةٍ فِي الْهَاوِيَةِ الَّتِي أَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَيْهَا.
ع7 : ما دامت الحياة فرصة للاستعداد للأبدية، فاشكر الله على الخير، الذى أعطاه لك؛ لتأكله بفرح بين يديه. واشرب خمرك، أى عصير العنب المخمر الذى اشتهرت به منطقة اليهودية، وقلبك نقى وطيب أمام الله، وذلك بشرط أن يكون الله راضياً عن عملك منذ زمان، وليس للحظة، أو لفترة صغيرة، أى أنك تسلك باستقامة، وتهتم بإرضاء الله وحفظ وصاياه. أما إذا لم تكن مرضياً لله، فلن يكون لك سلام داخلى، ولا تمتع حقيقى بالماديات التى وهبها الله لك.
إحرص أن تأكل خبزك وتشرب خمرك الذى انتجته لك أرضك، أو حصلت عليه من تعبك، وليس الخبز، أو الخمر الذى هو ملك لآخرين، أى إياك أن تأكل ما لا يحق لك.
إكتفى بخبزك وخمرك ولو كان قليلاً، واشكر الله عليه، ولا تكن مسرفاً فى الأكل والشرب، بل خذ فقط ما تحتاجه، أى خبزك وخمرك فقط.
هذه الآية إشارة إلى جسد المسيح “خبزك”، وخمرك “دمه” اللذين تنالهما بقلب نقى من على مائدة العهد الجديد، أى مذبح الله، بشرط أن تكون قد أرضيت الله بتوبتك، وحياتك النقية.
إن الفرح بالخبز والخمر، يكون بقلب طيب يرضى الله، أى أفراح تناسب أولاد الله، وليست أفراح العالم، التى يتم فيها أمور تغضب الله، ولا تليق بأولاده.
ع8: “لتكن ثيابك فى كل حين بيضاء” : الثياب البيضاء ترمز للنقاوة، فيلزم للإنسان الحكيم أن يكون مستقيماً فى سلوكه، ومظهره، فيكتسى بالنقاوة فى شكله، وكلامه، وكل تصرفاته؛ ليس فقط فى الأماكن المقدسة، بل فى كل مكان، وفى كل حين.
يفهم ضمنياً أن يكون لك مظهر مناسب يليق بأولاد الله، بلا مغالاة فى الاهتمام بالمظهر، ولا إهمال يعثر الآخرين، وبالطبع تكون ثياب محتشمة تظهر نقاوة من يلبسها.
يلاحظ أن الكهنة فى العهد القديم والجديد يلبسون ثياباً بيضاء مع الشمامسة، وخدام الهيكل؛ حتى يعلنوا ضرورة النقاوة عند الاقتراب من الله. والثياب البيضاء تمثل أيضاً المجد والبهاء اللذين يهبهما الله لمن يخدمه، ويتبعه.
الثياب البيض التى تمثل النقاوة تعنى ضمنياً التوبة التى يحيا فيها الإنسان لينال هذه النقاوة، وتكون فى كل حين، أى مستمرة.
“ولا يعوز رأسك الدهن” : إهتم بمظهرك، فقد كانت العادة قديماً وضع الدهن الطيب على الرأس، فيعطى رائحة طيبة، ومظهراً جميلاً. ومازال حتى الآن البعض يهتمون بهذا، أى يكون لك مظهراً مناسباً، يبين حيويتك ونشاطك، ويليق بك كإبن لله.
الدهن الحقيقى هو مسحة الميرون، التى ينالها أولاد العهد الجديد بعد المعمودية، فيزين الروح القدس رؤوسهم، وكل عضو فى أجسادهم، ويفرح قلوبهم بالأفراح الحقيقة بعمله فيهم.
ع9: إلتذ : عش حياة لذيذة.
هذه الآية تدعو الرجل الروحى أن يحيا حياة طيبة ولذيذة مع زوجته، فهى نصيبه الذى وهبه الله له؛ ليتمتع بمشاعر طيبة وعاطفة مشبعة، وحياة متكاملة تعوضه عن أتعاب الحياة الباطلة الزائلة، أى الحياة على الأرض تحت الشمس، فيشكر الله على كل ما وهبه من ماديات، وأبناء، ويفرحون جميعاً كأسرة روحية تعيش فى مخافة الله.
الحياة اللذيذة مع الزوجة هى قبل كل شئ حياة روحية تشمل الصلاة المشتركة والقراءة فى الكتاب المقدس، والإرتباط بهيكل الله، وأسراره المقدسة.
يُفهم ضمنياً من هذه الآية أن سليمان الذى تزوج بنساء كثيرات يعود فى نهاية حياته ليدعو كل رجل أن يتلذذ بزوجته الواحدة، وبعد توبة سليمان فهم أهمية الاكتفاء بالزوجة الواحدة.
ع10: يختم سليمان هذا الجزء من كلامه بدعوة لاستغلال فرصة لعمل كل ما يمكن عمله من أعمال صالحة، ويعبر عن ذلك بقوله “كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك”.
ويقصد أيضاً أن تعمل بكل طاقتك وقوتك، أى بأمانة كاملة فى أعمالك ومسئولياتك أمام الله الذى يرى كل شئ ويباركك.
والمقصود بالأكثر العمل بكل قوة فى أعمالك الروحية، أى الصلاة والتسبيح والقراءة الروحية، وكل عمل رحمة.
ما يشجعك يا إنسان على العمل بكل قوتك هو أنه ليس هناك فرصة لعمل، أو اختراع، ولا معرفة ولا حكمة إذا ذهبت إلى الهاوية، وهى القبر، أى أن حياتك على الأرض قصيرة، استغلها قدر ما تستطيع، فتتمتع بعشرة الله، ثم تنتظرك أبدية سعيدة.
اشكر الله على كل عطاياه، فكل ما معك نعمة من يديه، فتتلذذ بكل ما عندك، وتفرح بإحساسك أن الله معك، فتكون نوراً للعالم، وملحاً للأرض فى حياتك.
(3) الحكمة خير من القوة (ع11-18):
11فَعُدْتُ وَرَأَيْتُ تَحْتَ الشَّمْسِ: أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ لِلْخَفِيفِ، وَلاَ الْحَرْبَ لِلأَقْوِيَاءِ، وَلاَ الْخُبْزَ لِلْحُكَمَاءِ، وَلاَ الْغِنَى لِلْفُهَمَاءِ، وَلاَ النِّعْمَةَ لِذَوِي الْمَعْرِفَةِ، لأَنَهُ الْوَقْتُ وَالْعَرَضُ يُلاَقِيَانِهِمْ كَافَّةً.
12لأَنَّ الإِنْسَانَ أَيْضًا لاَ يَعْرِفُ وَقْتَهُ. كَالأَسْمَاكِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِشَبَكَةٍ مُهْلِكَةٍ، وَكَالْعَصَافِيرِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالشَّرَكِ، كَذلِكَ تُقْتَنَصُ بَنُو الْبَشَرِ فِي وَقْتِ شَرّ، إِذْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً. 13هذِهِ الْحِكْمَةُ رَأَيْتُهَا أَيْضًا تَحْتَ الشَّمْسِ، وَهِيَ عَظِيمَةٌ عِنْدِي: 14مَدِينَةٌ صَغِيرَةٌ فِيهَا أُنَاسٌ قَلِيلُونَ، فَجَاءَ عَلَيْهَا مَلِكٌ عَظِيمٌ وَحَاصَرَهَا وَبَنَى عَلَيْهَا أَبْرَاجًا عَظِيمَةً. 15وَوُجِدَ فِيهَا رَجُلٌ مِسْكِينٌ حَكِيمٌ، فَنَجَّى هُوَ الْمَدِينَةَ بِحِكْمَتِهِ. وَمَا أَحَدٌ ذَكَرَ ذلِكَ الرَّجُلَ الْمِسْكِينَ! 16فَقُلْتُ: «الْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنَ الْقُوَّةِ». أَمَّا حِكْمَةُ الْمِسْكِينِ فَمُحْتَقَرَةٌ، وَكَلاَمُهُ لاَ يُسْمَعُ. 17كَلِمَاتُ الْحُكَمَاءِ تُسْمَعُ فِي الْهُدُوءِ، أَكْثَرَ مِنْ صُرَاخِ الْمُتَسَلِّطِ بَيْنَ الْجُهَّالِ. 18اَلْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ. أَمَّا خَاطِئٌ وَاحِدٌ فَيُفْسِدُ خَيْرًا جَزِيلاً.
ع11: يؤكد سليمان حقيقة هامة نستنتجها من فقرات هذه الآية.
“فعدت ورأيت تحت الشمس أن السعى ليس للخفيف” : عاد سليمان ليواصل فحصه، وبحثه عن الحقيقة على الأرض، أى تحت الشمس، فوجد أن السعى فى السباق، أو فى الحياة ليس للخفيف، فرغم خفة وزنه، وقدرته على الجرى والعمل السريع، قد يتعطل، ويسبقه غيره، أو قد يتهاون لثقته الزائدة بنفسه وكبريائه، فيسبقه الآخرون.
“ولا الحرب للأقوياء” : ليس القوى هو من يضمن النصرة فى الحرب، فقد توجد عوامل أخرى تجعل من هو أضعف منه ينتصر عليه. كما انتصر يوناثان على الفلسطينيين، فقد هجم وحده هو وحامل سلاحه، فهربوا من أمامه (1صم14: 13) ويهوذا المكابى عندما هاجم الأعداء، فتفرق جيشه عنه، ولم يبق معه إلا عدد قليل، لكن هجم بشجاعة، وبقوة الله انتصر على الأعداء (1مك3: 17-23).
“ولا النعمة لذوى المعرفة” : ذوو المعرفة ينالون نعمة، أى مقاماً عالياً ومركزاً كبيراً، ولكن لا يحدث هذا دائماً، بل قد يصل من هم أقل معرفة منهم إلى مراكز أكبر من ذوى المعرفة، ومثال لهذا مردخاى المملوء من الحكمة والمعرفة الإلهية، تميز عنه هامان الشرير لفترة، ولكن بعد هذا كشف الله شره، فبدلاً من أن يعلق مردخاى على خشبة، علقه الملك على خشبة ورفع مردخاى ليأخذ مكانه العظيم (أس7: 10).
“لأنه الوقت والعرض يلاقيانهم كافة” : الوقت مقصود به الوقت المناسب، فقد يختار الإنسان مهما كانت حكمته، أو قوته وقتاً ليس هو الأنسب، والله وحده هو الذى يعرف الوقت المناسب.
كما أن الوقت قد يقصد به نهاية الحياة، إذ يبدأ الإنسان فى عمل وفى منتصفه يموت ولا يكمله، ويكمله من هو أقل منه.
أما العرض الذى يأتى أيضاً على كل الناس، فالمقصود به أى شئ يعترض حياة الإنسان، ويعطل ما يعمله الإنسان، وهذا كثير جداً، فيتعطل من هو أقوى عمن هو أضعف منه، أو الخفيف عمن هو أقل سرعة منه.
ع12: الشرك : الفخ.
تُقتنص : يتم صيدها.
بغتة : فجأة.
“لأن الإنسان أيضاً لا يعرف وقته” : الإنسان لا يعرف وقته، وهو يوم مماته، أو الوقت الذى تحل به تجربة، أو يسقط فى خطية، فهو لا يعلم المستقبل.
“كالأسماك التى تؤخذ بشبكة مهلكة، وكالعصافير التى تؤخذ بالشرك” : يعطى سليمان مثالاً للإنسان الذى لا يعرف وقته وهذا المثال هو الأسماك التى تسبح فى الماء، وتقع دون أن تدرى فى الشبكة، وكالعصافير التى يجذبها الفخ فتسقط فيه، هكذا الإنسان أيضاً يسقط فى التجربة، أو أية خطية، وهو يسير فى طرق الحياة، ويظن أحياناً أن شهواته ستشبعه، فيسقط فى متاعب كثيرة، وأيضاً تنتهى حياته بالموت فى وقت لا يتوقعه.
“كذلك تُقتنص بنو البشر فى وقت شر إذ يقع عليهم بغتة” : الشر يأتى على البشر فجأة، فيسقطون فيه، ولا ينجو من هذا الشر إلا من كان يقظاً، ومستعداً لحياته الأبدية، ويحيا مع الله، متمسكاً بوصاياه فيخلصه الله من الضيقة، أو يعبر به من خلالها بسلام، وإن مات ينقله لحياة أفضل.
نستنتج من هذه الآية ألا ينخدع الإنسان من أية شهوة، أو من مباهج العالم البراقة، بل يركز نظره على المسيح، فلا يستطيع إبليس أن يسقطه فى فخاخه.
ع13-15: ما هى الحكمة العظيمة التى لاحظها سليمان ؟
هى وجود مدينة صغيرة وبها أناس قليلون، أى عاجزون عن الدفاع عنها، وأتى عليها ملك عظيم بجيش وحاصرها، بل وبنى أبراجاً عظيمة حولها؛ ليستولى على المدينة. ولكن ظهر رجل مسكين متمتع بالحكمة، فاستطاع بحكمته أن ينجى مدينته من الأعداء، وينقذها.
ونلاحظ فى هذه القصة أن القوة لم تنفع هذا الملك، فرغم محاصرته للمدينة لم يستولِ عليها. ومن ناحية أخرى إن كان المسكين الحكيم استطاع أن ينجى مدينته، ولكن الناس لم يكرموه، ويظهروا عظمة حكمته، مع أنه أنقذهم من الموت، فلم تنفع القوة صاحبها، فالقوة لم تمكن الملك من الاستيلاء على المدينة، أما الحكمة فهى أفضل من القوة؛ لأنها أنقذت المدينة.
ونلاحظ أيضاً أن الحكمة لم تكرم، فأهل المدينة لم يذكروا فضل هذا الرجل المسكين الحكيم. وهذا يحدث فى عالمنا حتى اليوم ويؤكد بطلان العالم، فما يحدث تحت الشمس باطل.
لقد حدث مثال لهذه القصة عملياً فى (2صم20: 15-22) عندما قام شبع بن بكرى بثورة، ثم هرب إلى مدينة آبل بيت معكة، فطارده يوآب رئيس جيش داود وحاصر المدينة ليقتل شبع، ولكن امرأة حكيمة من المدينة خاطبت يوآب، وقالت له لماذا تهلك نصيب الرب، وهى هذه المدينة، التى يسكنها شعب الله، فتراجع يوآب عن طلبه، وطلب رأس شبع فقط، فأقنعت المرأة الحكيمة أهل مدينتها، فقطعوا رأس شبع، وألقوها ليوآب، فانصرف ونجت المدينة.
هذه القصة تظهر أهمية الحكمة أكثر من القوة، فالرجل المسكين الحكيم نجى مدينته، والمرأة خلصت مدينتها. وكل هذه القصص ترمز للمسيح، وهو الرجل المسكين الذى قبض عليه اليهود وصلبوه، وبحكمته مات عن العالم، وأنقذه من الموت. ورغم معجزات المسيح الكثيرة، نسى الناس تعاليمه ومعجزاته وتركوه، بل وصلبوه، وبموته داس الموت وقبض على الشيطان وأعطى الخلاص للمؤمنين به.
ع16: يؤكد سليمان أن الحكمة أفضل من القوة؛ لأن القوة تعتمد على إمكانيات العالم الزائلة، أما الحكمة فهى من الله وثابتة إلى الأبد، وعميقة، تؤثر فى النفوس.
إن العالم لا يفهم مكانة الحكمة وعظمتها، خاصة لو كان من يتحلى بها مسكين وفقير، إذ أن العالم يمجد الغنى والمركز والقوة، مع أن الحكمة هى التى تؤثر فى النفوس، وتعطيها سلاماً، وتقودها إلى الملكوت، فالحكمة هى المسيح، واقتناء الحكمة هو محبة المسيح، واقتناؤه فى القلب، فنحيا به.
ع17: الحكمة هى أعظم شئ فى الوجود، ومن يطلبها يجدها، وباتضاع يخضع لها، وبالتالى، من يصمت ويصير فى هدوء يستطيع أن يسمعها، ويفهمها.
أما المتكبر فيصيح، ويحاول إقناع الناس بصوته المرتفع، أو يجعلهم يصمتون؛ ليتكلم هو، وهذا يؤكد جهله وضعفه.
والمسيح الهنا، الحكمة الحقيقية، كان لا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته (مت12: 19)، ولأنه يتكلم بقوة وهدوء، يتأثر به السامعون.
والحكيم أيضاً يتكلم بهدوء، ولكن لأن كلامه ممتلئ قوة، فيجبر سامعيه على الهدوء، فيستفيدون من كلامه، ما عدا الجهال المتكبرين، الذين يجادلون، ويرفضون الخضوع للحكمة، فيخربون أنفسهم، ويستمرون فى ضلالهم.
والمتسلط بين الجهال هو الشيطان، وكل من يتبعه من الأشرار. وقد ارتفعت أصوات الكهنة والكتبة والفريسيين، وهيجوا الشعب قائلين، “إصلبه إصلبه” (لو23-21). لكن كل هذا لم يعطل المسيح عن إتمام الفداء وتقديم الخلاص للبشرية على الصليب.
ع18: يواصل سليمان إعلان قوة الحكمة، فهى خير من أدوات الحرب مهما كانت متقدمة، أى أن الحكمة تجعل الجيش، حتى لو كان أدوات حربه قليلة، ينتصر على الجيش الأقوى سواء عدداً، أو فى أدوات حربه. وأقوى من الكل حكمة الله التى تسند أولاده، مهما كان ضعفهم وقوة الأعداء. كما حدث مع يهوشافاط الملك، الذى تقدم جيوشه فرقة من المغنيين المسبحين الله، فانتصر على الثلاثة جيوش المتحالفة ضده (2أى20: 22).
من ناحية أخرى، فالخاطئ يفسد خيرات جزيلة وهبها الله له؛ لأنه ينحرف عن الحكمة الحقيقية وهى الله، ويسير وراء شهواته، كما حدث مع شمشون الذى أذل الفلسطينيين، ولكنه – لانغماسه فى الشهوة – فقأوا عينيه، واستعبدوه وربطوه بسلاسل نحاس، وجعلوه يطحن كالحيوان فى بيت السجن (قض16: 21).
والخاطئ يفسد من حوله، إذ يدعوهم للخطية، فيسقطوا معه. وأيضاً إذا كانت خطيته كبيرة تغضب الله، فيأتى الشر عليه وعلى المحيطين به، مثل عخان بن كرمى، الذى جلب الهزيمة والموت لكثير من شعبه بخطيته (يش7: 1-12). لا تنشغل مع أهل العالم فى البحث عن الغنى، أو الشهوات، فكلها زائلة، ولكن اقترب من الله مصدر الحكمة وتمسك بوصاياه، فتنقذ نفسك من شر العالم، وتسير فى طريق الملكوت.