الخضوع لله والسلطات
(1) طاعة السلطات (ع1-9) :
1مَنْ كَالْحَكِيمِ؟ وَمَنْ يَفْهَمُ تَفْسِيرَ أَمْرٍ؟ حِكْمَةُ الإِنْسَانِ تُنِيرُ وَجْهَهُ، وَصَلاَبَةُ وَجْهِهِ تَتَغَيَّرُ.
2أَنَا أَقُولُ: احْفَظْ أَمْرَ الْمَلِكِ، وَذَاكَ بِسَبَبِ يَمِينِ اللهِ. 3لاَ تَعْجَلْ إِلَى الذَّهَابِ مِنْ وَجْهِهِ. لاَ تَقِفْ فِي أَمْرٍ شَاقّ، لأَنَّهُ يَفْعَلُ كُلَّ مَا شَاءَ. 4حَيْثُ تَكُونُ كَلِمَةُ الْمَلِكِ فَهُنَاكَ سُلْطَانٌ. وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟».5حَافِظُ الْوَصِيَّةِ لاَ يَشْعُرُ بِأَمْرٍ شَاقّ، وَقَلْبُ الْحَكِيمِ يَعْرِفُ الْوَقْتَ وَالْحُكْمَ.
6لأَنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ وَقْتًا وَحُكْمًا. لأَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ عَظِيمٌ عَلَيْهِ، 7لأَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ. لأَنَّهُ مَنْ يُخْبِرُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟ 8لَيْسَ لإِنْسَانٍ سُلْطَانٌ عَلَى الرُّوحِ لِيُمْسِكَ الرُّوحَ، وَلاَ سُلْطَانٌ عَلَى يَوْمِ الْمَوْتِ، وَلاَ تَخْلِيَةٌ فِي الْحَرْبِ، وَلاَ يُنَجِّي الشَّرُّ أَصْحَابَهُ. 9كُلُّ هذَا رَأَيْتُهُ إِذْ وَجَّهْتُ قَلْبِي لِكُلِّ عَمَل عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ، وَقْتَمَا يَتَسَلَّطُ إِنْسَانٌ عَلَى إِنْسَانٍ لِضَرَرِ نَفْسِهِ.
ع1: يمجد سليمان الشخص الحكيم ويقول من مثله، فهو قادر على تفسير الأمور التى تحدث أمامه، إذ يرى مسبباتها، ونتائجها، فيفيد نفسه، ومن حوله؛ لأنه قادر على رؤية يد الله ضابط الكل، الذى يدبر الخير لأولاده بحكمة، حتى لو سمح بضيقات، فهى لمنفعة الإنسان، وأما البركات، فهى نعم الله لمحبيه.
إن الحكمة أيضاً تعطى استنارة روحية للحكيم، فيفهم مقاصد الله، وحينئذ يفرح، ويستنير وجهه أيضاً، أى تظهر هذه الاستنارة على وجهه فى هدوء وسلام، ويتخلص من صلابة الوجه وقساوته الناتجة عن قساوة القلب، التى فى الأشرار المتمسكين بأغراضهم الشريرة، ومنغمسين فى شهواتهم، وأطماعهم، فتقسى قلوبهم على الآخرين، وتبعدهم عن الله. فالحكيم يتخلص من هذه القساوة، ويكون وجهه دائماً منيراً؛ لأنه فى سلام وفرح داخلى، ويستطيع أن يفرح من حوله بوجهه هذا المنير.
والحكيم يستنير وجهه من عشرته مع الله، فهو يحب الصلاة، والتأمل فى كلام الله، ويجرى نحو الله فى كل وقت، فيكون قلبه مستنيراً، ووجهه أيضاً مستنير. كما حدث مع موسى الذى طلب أن يرى الله، فاستنار قلبه، ووجهه أيضاً، كان يلمع، وطلب منه شيوخ إسرائيل أن يضع برقعاً من شدة لمعانه (خر34: 30، 33). وكثير من القديسين أيضاً كانت إما وجوههم يظهر عليها النور، أو تحاط رؤوسهم بهالة من النور.
ع2: يتكلم سليمان كأب روحى لشعبه، وكواعظ يتكلم بكلام الله، فيدعو أولاد الله إلى طاعة الملك، أو الرئيس؛ لأن هناك يمين الله وعهده الذى أقامه بين الملك والشعب، كما حدث فى إقامة شاول الملك، وداود، وسليمان، ويوآش (1صم11: 15؛ 1أى11: 3 ، 1أى29: 22؛ 2أى23: 16). فطاعة الملك هى طاعة لله الذى قطع العهد بين الملك والشعب.
وإن أخطأ الملك، أو ظلم الشعب أحياناً، فينبغى طاعته أيضاً، والله يحول الظلم إلى خير للشعب؛ لأنهم أطاعوا، واحتملوا من أجل الله، ولكن بشرط ألا يخالف كلام الملك وصايا الله؛ لأن الشعب متمسك بوصايا الله، الذى قطع العهد معه، فيطاع كلام الله، ولا يطاع كلام الملك المخالف. فمن يخالف يمين الله، وعهده سيعاقبه الله؛ سواء كان الملك، أو الشعب، فلذا يلزم الالتزام بوصايا الله وطاعة الملك.
ع3، 4: “لا تعجل إلى الذهاب من وجهه” : إذا غضب عليك الملك، أو أساء إليك بكلمات قاسية، فإياك أن تغضب، وتتعجل فى ترك الملك، لئلا يزداد غضبه عليك، ويعاقبك بأية عقوبة تصل للموت. فالحكمة التى يتكلم عنها فى (ع1) تقتضى أن تحتمله فى صمت؛ حتى لا ينالك أذية منه.
“لا تقف فى أمر شاق” : لا تقف ضد الملك، أو تتحداه، أو تضع مؤامرة ضده، ولو أتاك فكر لمقاومته لا تحوله إلى فعل، ولكن إبعد الفكر عنك.
“لأنه يفعل كل ما شاء” : لأن الملك هو أعلى سلطة فى المملكة، وله حرية أن يفعل ما يشاء، وبالتالى يستطيع أن يعاقب، ولا يحاسبه أحد، فينبغى أن يكون الإنسان حكيماً، ولا يتحدى الملك.
ويظهر تأكيد هذا الكلام فى (ع4) أن كلمة الملك لها تسلط على كل الشعب، ولا يستطيع أحد أن يخالفه.
ع5: “حافظ الوصية لا يشعر بأمر شاق” : من يطيع وصايا الملك يعيش فى سلام، ولا يقابل مشاكل؛ لأنه خاضع لقوانين ونظام الملك والمملكة، كما أوضح ذلك أيضاً بولس الرسول (رو13: 3).
“قلب الحكيم يعرف الوقت والحكم” : الحكيم يؤمن بأن الله ضابط الكل، فحتى لو تعرض الحكيم لظلم من الملك، فإنه يحتمله واثقاً من أن الله سيرفع هذا الظلم فى الوقت المناسب، ويشعر أن الله معه أثناء فترة الظلم، ويعزى قلبه ويفرحه، ثم ينتظره فى النهاية أبدية سعيدة عوض كل ما احتمله.
ع6: الحكيم وهو الذى يحيا مع الله ويتمسك بوصاياه يعرف، ويثق أن لكل شئ وقته المحدد بتدبير الله ومحبته. فحتى لو قابل الحكيم ظلماً فهو مؤقت، وسينتهى حتماً، فلا ينزعج منه، بل يطلب معونة الله.
ولكن من ناحية أخرى فإن شر الظالم عظيم، وسيأتى على رأسه، أى يعاقبه الله جزئياً على الأرض، ولكن عقابه الأبدى سيكون شنيعاً.
وأيضاً الذى لا يتصرف بحكمة، ويؤمن بأن الله ضابط الكل، وأن ظلم الملك مؤقت، سيكون فى شر عظيم، إذ سيحيا فى قلق واضطراب وحزن؛ لأنه لا يرى الله الذى يستطيع أن يعزيه، ويرفع هذا الظلم.
ع7: الإنسان الطبيعى لا يعرف بعقله المستقبل، ولا يستطيع إنسان آخر أن يخبره؛ لأن الله وحده هو الذى يعرف المستقبل، وبالتالى ينبغى على الإنسان العاقل الحكيم أن يحيا اليوم مع الله، ويتمسك بوصاياه، ولا يظلم غيره، وإن حل عليه ظلم يظل مستقيماً ولا يخطئ، بل يطلب معونة الله؛ لتسانده أثناء الضيق. ومن يحيا بأمانة مع الله اليوم ينتظره مستقبل سعيد على الأرض، ثم فى السماء.
وبما أن الإنسان لا يعرف المستقبل، وهل سيقابله فيه شر أم خير؟ فليتكل على الله اليوم، ويظل متمسكاً به، فيستطيع فى المستقبل أن يعبر فوق الشر، ويتمتع بالخير الذى يهبه الله له.
فيوسف الصديق كان لابد أن يحتمل آلام العبودية والسجن لمدة 13 عاماً؛ ليصل فى النهاية إلى عرش مصر. ومن ناحية أخرى أطال الله أناته على فرعون أيام موسى فى الضربات العشر، وأخيراً هلك هو وجيشه فى البحر الأحمر. فلكل شئ تحت السماء وقت وحكم.
ع8: “ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح” : إذا واجه الإنسان الموت، وبدأت روحه تخرج من جسده، لا يستطيع أن يمسكها ويمنعها من أن تفارق جسده، بل سيستسلم ويموت.
“ولا سلطان على يوم الموت” : وبالتالى لا يستطيع الإنسان أن يحدد يوم مماته، أو يؤجله، فهو فى علم الله فقط، وسيأتى كلص دون أن يعطى ميعاداً. والظالم لا يستطيع أن يمنع الموت عن نفسه، ومهما كانت عظمة الإنسان مثل أن يكون ملكاً، لا يستطيع أيضاً أن يدفع الموت عن نفسه، أو أن يطيل حياة غيره.
“ولا تخلية فى الحرب” : مثل الجندى الذى يحارب لا يستطيع أثناء الحرب أن يهرب من ميدان الحرب؛ لأنه سيقتل ولا يستفيد شيئاً. فكذلك كل إنسان فى الحياة على الأرض لابد أن يحارب الشيطان، ولا يستطيع الانسحاب من المعركة، بل لابد أن يثابر فى جهاده الروحى، مستخدماً كل أسلحته الروحية، حتى يكلل بالنصرة فى النهاية. والأسلحة الروحية كثيرة، كما ذكر لنا بولس الرسول (أف6: 10-20).
“ولا ينجى الشر أصحابه” : الظالم لا يستطيع شره أن ينجيه، مهما كان سلطانه، أو قوته، بل حتماً سيموت، ويعاقب على ظلمه لغيره. ولا يستطيع أى إنسان أن ينجى صاحبه من الموت، فالشرير سيموت حتماً، حتى لو اجتمع حوله أصحاب كثيرين، سيقفون عاجزين عن إنقاذه، وحتماً سيواجه مصيره، وهو العذاب الأبدى.
ع9: يختم سليمان كلامه هنا بخلاصة ما وصل إليه فى كل ما لاحظه تحت الشمس، أى على الأرض، وهو أن يبتعد الإنسان عن الشر اليوم، حتى لا يواجه الموت، ويجازى على شره. فإن كان الإنسان الشرير سيفلت من عقاب الملك وكل الرؤساء، فسيعاقب فى الأبدية. بالإضافة إلى أن تسلط الإنسان وظلمه لغيره ليس فقط يسىء لمن يظلمهم، ولكن هذا الظالم سيتقسى قلبه باستمراره فى ظلم غيره، حتى أنه لا يستطيع بعد هذا أن يسمع أية نصيحة، أو يتجاوب مع صوت الله، بل يستسلم لطبعه الشرير، فيندفع نحو النهاية الصعبة، وهى العذاب الأبدى.
كن خاضعاً لقوانين المجتمع والدولة، حتى لو قابلك بعض الظلم، فلا تضيع مجهودك فى التمرد، ولكن اطلب معونة الله، ولا تنشغل عن أبديتك، فيتعزى قلبك بالصلاة والتأمل، وتحيا فرحاً حتى وسط الضيقة.
(2) طول أناة الله على الشرير (ع10-13) :
10وَهكَذَا رَأَيْتُ أَشْرَارًا يُدْفَنُونَ وَضُمُّوا، وَالَّذِينَ عَمِلُوا بِالْحَقِّ ذَهَبُوا مِنْ مَكَانِ الْقُدْسِ وَنُسُوا فِي الْمَدِينَةِ. هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. 11لأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْعَمَلِ الرَّدِيءِ لاَ يُجْرَى سَرِيعًا، فَلِذلِكَ قَدِ امْتَلأَ قَلْبُ بَنِي الْبَشَرِ فِيهِمْ لِفَعْلِ الشَّرِّ. 12اَلْخَاطِئُ وَإِنْ عَمِلَ شَرًّا مِئَةَ مَرَّةٍ وَطَالَتْ أَيَّامُهُ، إِلاَّ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ اللهَ الَّذِينَ يَخَافُونَ قُدَّامَهُ. 13وَلاَ يَكُونُ خَيْرٌ لِلشِّرِّيرِ، وَكَالظِّلِّ لاَ يُطِيلُ أَيَّامَهُ لأَنَّهُ لاَ يَخْشَى قُدَّامَ اللهِ.
ع10: يحدثنا سليمان عن أحد مظاهر بطلان العالم، وهو وجود أشرار فى مكان القضاء. فهؤلاء القضاة كانوا يجلسون فى مكان الحكم، الذى كان يسمى أيضاً مكان القدس، لأهمية القرارات التى كانوا يتخذونها فى حل مشاكل الناس (تث1: 17؛ مز82: 1). هؤلاء الأشرار كانوا يحكمون بالظلم بحسب أغراضهم الشريرة، فنالوا عظمة فى نظر الناس، إذ كانوا يخافونهم لسلطانهم، لكنهم لا يحبونهم. هؤلاء إن كانوا قد عاشوا فى عظمة، لكن بعدما ماتوا ودفنوا نسيهم الناس؛ لأنهم أشرار، وغير محبوبين، وهذا يؤكد بطلان الشر وعدم فائدته، ويؤكد أنه مضر للآخرين، ومرفوض.
ع11: الله يطيل أناته على الأشرار، فلا يعاقبهم، ولا يقضى بمكافأة البار، ومعاقبة الشرير سريعاً، لأجل هذا يحدث ما يلى :
- يُخدع الأشرار خاصة الذين يجلسون فى مكان القضاء، أو الرئاسة بأن الله غير موجود، أو لا يجازى أحداً.
- ينخدعون بمركزهم وعظمتهم، وما يحصلون عليه من أموال، فيفرحون بنجاحهم على الأرض، وينسون أن الله سيعاقبهم.
- يتعودون الشر والظلم فى القضاء، فتتقسى قلوبهم، ويموت ضميرهم.
- يتمادون فى الشر، فيفعلون شروراً عظيمة.
لذا يحذرنا بولس الرسول من كل ما سبق؛ لنتوب، فيقول “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله، وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة” (رو2: 4).
ع12، 13: يلخص سليمان حكمته فى الحياة بأن الشرير إن طالت أيامه على الأرض، وعمل شروراً كثيرة (مئة مرة)، فهو بلا قيمة، ويشبهه بالظل الذى يزول سريعاً، وينساه الناس.
أما الذى يتقى الرب، ويحيا معه، فهو خير من الشرير، إذ يحيا فى سلام، وله مكان عظيم فى الأبدية، ولا ينساه الناس، ويقتدون بسيرته، كما يقول الكتاب المقدس “الصديق يكون لذكر أبدى” (مز112: 6).
نلاحظ أن المقياس الذى يفرق بين الأبرار والأشرار هو مخافة الله، فمن يخاف الله ويتقيه يفعل الصلاح، أما الشرير فينسى وجود الله، ويستهين به، فيفعل الشر، ويتمادى فيه.
تذكر أن الله يراك فى كل حين؛ حتى تبتعد عن الشر. وإن سقطت فتب سريعاً. وهكذا تحيا فى خوف الله، فتطمئن وتنتظرك أبدية سعيدة.
(3) طرق الله لا تفحص (ع14-17) :
14يُوجَدُ بَاطِلٌ يُجْرَى عَلَى الأَرْضِ: أَنْ يُوجَدَ صِدِّيقُونَ يُصِيبُهُمْ مِثْلَ عَمَلِ الأَشْرَارِ، وَيُوجَدُ أَشْرَارٌ يُصِيبُهُمْ مِثْلَ عَمَلِ الصِّدِّيقِينَ. فَقُلْتُ: إِنَّ هذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. 15فَمَدَحْتُ الْفَرَحَ، لأَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ خَيْرٌ تَحْتَ الشَّمْسِ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيَفْرَحَ، وَهذَا يَبْقَى لَهُ فِي تَعَبِهِ مُدَّةَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ الَّتِي يُعْطِيهِ اللهُ إِيَّاهَا تَحْتَ الشَّمْسِ. 16لَمَّا وَجَّهْتُ قَلْبِي لأَعْرِفَ الْحِكْمَةَ، وَأَنْظُرَ الْعَمَلَ الَّذِي عُمِلَ عَلَى الأَرْضِ، وَأَنَّهُ نَهَارًا وَلَيْلاً لاَ يَرَى النَّوْمَ بِعَيْنَيْهِ، 17رَأَيْتُ كُلَّ عَمَلِ اللهِ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجِدَ الْعَمَلَ الَّذِي عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ. مَهْمَا تَعِبَ الإِنْسَانُ فِي الطَّلَبِ فَلاَ يَجِدُهُ، وَالْحَكِيمُ أَيْضًا، وَإِنْ قَالَ بِمَعْرِفَتِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَجِدَهُ.
ع14: يتعجب سليمان لحدوث أعراض متشابهة للصديقين والأشرار. فالموت والمرض يحدثان لكليهما. وقد يصاب الصديقون بتجارب متنوعة، وعلى العكس، فإن الأشرار تأتيهم بركات مادية. كل هذا يؤكد بطلان العالم؛ لأن العالم فترة اختبارية قصيرة، يُمتحن فيها كل إنسان؛ هل هو مؤمن بالله، ويحيا بوصاياه، أم لا ؟ لذا تحدث فيه أمور متنوعة، المقصود منها اختبار البشر، ولذا يجب على الإنسان ألا يتعلق بمظاهر العالم الزائلة، بل يتعلق بالله.
ع15: إن كان الصديق يمكن أن تقابله تجارب وضيقات، فى الوقت الذى يقابل الشرير نجاحاً وبركات مادية، فلينظر الإنسان للمجازاة الأبدية، وهى أفراح الملكوت، فيتعزى قلبه، ثم يفرح على الأرض بعطايا الله، فيأكل ويشرب من يد الله، ويقضى أيام غربته فى العالم بسلام وفرح.
قد تكون هذه الآية تعبيراً عن أفكار سليمان، عندما كان منغمساً فى شهواته، ولم يرجع إلى الله بكل قلبه بعد، إذ رأى متاعب الصديقين، ونجاح الأشرار، فقال فى ضيق: “فليفرح الإنسان، ويتمتع بالحياة المادية، لينسى كل متاعبه على الأرض”. وهذا بالطبع تغير بعد توبته، ففرح على الأرض بعطايا الله، وانشغل بأفراح السماء، كما ذكرنا.
ع16، 17: “لما وجهت قلبى لأعرف الحكمة، وأنظر العمل الذى عمل على الأرض”. حاول سليمان أن يعرف حكمة الله فيما يحدث على الأرض. لماذا يصيب الصديق تجارب، ولماذا ينال الشرير نجاحاً ؟ أخذ يبحث ليعرف قاعدة ثابتة فى تعامل الله مع البشر.
“أنه نهاراً وليلاً لا يرى النوم بعينيه” : استمر سليمان فى أبحاثه، ليس فقط طوال النهار، بل أيضاً طوال الليل؛ لأن انشغاله بالبحث بكل إمكانياته العقلية عن حكمة الله جعله لا ينام.
“رأيت كل عمل الله” : فحص سليمان كل أعمال الله وتدابيره مع البشر، وحاول أن يفهم حكمة الله فى التعامل مع الأبرار والأشرار، ويوفق بين رحمته وعدله.
“أن الإنسان لا يستطيع أن يجد العمل الذى عمل تحت الشمس، مهما تعب الإنسان فى الطلب، فلا يجده” : لم يصل سليمان إلى الحقيقة، ولم يفهم ما هى حكمة الله فى أعماله، إذ أنها تعلو فوق عقله، أى عجز عقله المحدود أن يدرك، ويستوعب حكمة الله غير المحدودة فى تعاملاته مع البشر. وبالتالى ليس فقط سليمان الحكيم قد عجز عن هذا، بل أيضاً كل إنسان لا يستطيع أن يدرك حكمة الله، كما يقول الكتاب المقدس “ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” (رو11: 33).
“والحكيم أيضاً وإن قال بمعرفته لا يقدر أن يجده” : يؤكد سليمان أنه إن وجد إنسانٌ حكيمٌ، وأعلن أنه يعرف الحقائق، فلن يستطيع أن يعرف حكمة الله فى أعماله، فهى فوق إدراك البشر، ولكن باتضاع أمام الله والصلاة يكشف الله بعض مقاصده لأولاده، كما كشف لبولس الرسول حكمته بالسماح له بشوكة فى الجسد، وذلك لئلا يتكبر، أو يرتفع من فرط الإعلانات الإلهية له (2كو12: 7).
إتكل على الله، وثق فى محبته ورعايته لك، وسلم حياتك له، فتستريح، ويدبر لك كل شئ لخيرك، وتتفرغ أنت لأمر واحد، وهو محبة الله، فتتمتع بملكوت السموات.