الجهاد والفرح
(1) جاهد فى عمل الخير (ع1-6):
1اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ. 2أَعْطِ نَصِيبًا لِسَبْعَةٍ، وَلِثَمَانِيَةٍ أَيْضًا، لأَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُ أَيَّ شَرّ يَكُونُ عَلَى الأَرْضِ. 3إِذَا امْتَلأَتِ السُّحُبُ مَطَرًا تُرِيقُهُ عَلَى الأَرْضِ. وَإِذَا وَقَعَتِ الشَّجَرَةُ نَحْوَ الْجَنُوبِ أَوْ نَحْوَ الشَّمَالِ، فَفِي الْمَوْضِعِ حَيْثُ تَقَعُ الشَّجَرَةُ هُنَاكَ تَكُونُ. 4مَنْ يَرْصُدُ الرِّيحَ لاَ يَزْرَعُ، وَمَنْ يُرَاقِبُ السُّحُبَ لاَ يَحْصُدُ. 5كَمَا أَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُ مَا هِيَ طَرِيقُ الرِّيحِ، وَلاَ كَيْفَ الْعِظَامُ فِي بَطْنِ الْحُبْلَى، كَذلِكَ لاَ تَعْلَمُ أَعْمَالَ اللهِ الَّذِي يَصْنَعُ الْجَمِيعَ. 6فِي الصَّبَاحِ ازْرَعْ زَرْعَكَ، وَفِي الْمَسَاءِ لاَ تَرْخِ يَدَكَ، لأَنَّكَ لاَ تَعْلَمُ أَيُّهُمَا يَنْمُو: هذَا أَوْ ذَاكَ، أَوْ أَنْ يَكُونَ كِلاَهُمَا جَيِّدَيْنِ سَوَاءً.
ع1 : تحدثنا هذه الآية عن العطاء بسخاء لكل المحتاجين، والمقصود بالخبز ليس فقط رغيف العيش، ولكن كل طعام، وكل مساعدة، وكل حب يقدم بأى شكل لمن يحتاجه.
وتقديم الخبز على وجه المياه، أى نعطيه لكل الناس الذين يطلبونه، أو يحتاجون إليه بدون مقابل من أجل محبة الله، فالبشر جميعاً أولاده.
وعندما يقول “خبزك” تعنى ضمنياً العطاء من الأعواز، أى يعطى الإنسان من قوته، وخبزه الذى يأكله، ليأكل معه الجائعون أيضاً.
وعندما يقول “تجده بعد أيام كثيرة” يقصد :
- يكافئك نفس الشخص الذى أحسنت إليه، ولو بعد حين، أو مدة طويلة.
- يعاملك آخرون غير من أحسنت إليه معاملة حسنة، ويكرمونك من أجل الله.
- يكافئك الله على إحسانك ببركات عظيمة (مادية وروحية وأخرى) لا يعبر عنها فى الأبدية.
وعندما يقول “ارمى خبزك” يقصد أيضا قدمه لكل أحد، أى تكون معتاداً أن تقدم الخبز، فترميه على وجه المياه، فيجده من يحتاجه. وقد يفهم الإنسان أن إلقاء الخبز على وجه المياه هو خسارة، ولكن المقصود أن تقدم الخبز لكل أحد، حتى لو لم تكن هناك نتائج واضحة لعطائك، فالله يفرح بما تعطيه، حتى لو ظننت أن من أخذ عطاءك لم يستفد منه.
ع2 : يؤكد سليمان فى هذه الآية العطاء بسخاء، فيطلب من كل واحد منا أن يعطى نصيباً، أى قدراً كافياً من العطاء لكل محتاج، حتى لو أعطى إلى سبعة من الأشخاص، وقد يأتى الثامن أيضا يطلب، فينبغى أن نعطيه.
رقم 7 يرمز للحياة الحاضرة، أما رقم 8 فيرمز للحياة الأبدية. والمقصود أن يهتم الإنسان فى الحياة الحاضرة بالعطاء بسخاء للمحتاجين، استعداداً للحياة الأبدية.
يحذرنا سليمان فى نهاية الآية بقوله “لأنك لست تعلم أى شر يكون على الأرض” أى لا تضمن ظروف الحياة المستقبلة، فقد تخسر أموالك، ولا يكون لك فرصة للعطاء وعمل الخير والعجيب، أن معظم الناس يفكرون عكس هذا التفكير، فيخافون من المستقبل، ويدخرون الأموال لأنفسهم، ويقللون من العطاء، ظناً منهم أن هذا يحميهم فى المستقبل، ولا يعلمون أنهم يخسرون فرصة العطاء الذى ينفعهم فى الأبدية، فيكسبون لهم أصدقاء فى السماء، أما حمايتهم فى المستقبل، فالله يقوم بها ما داموا أمناء معه. هذا الأمر واضح أنه يحتاج إلى إيمان بالله.
إن تعبير “أعط نصيباً لسبعة ولثمانية أيضاً” مثلاً معتاداً فى العبرية ويعنى العطاء بسخاء وعلى الدوام.
إن العطاء بسخاء لسبعة ولثمانية أيضا أجرته مؤكدة، كما ظهر من الآية السابقة بأن ما ترميه … تجده بعد أيام كثيرة، أما عدم العطاء والاهتمام بالادخار للمستقبل فنتيجته غير مضمونة، لأننا لا نعلم أى شر يقابلنا، والخلاصة، أنه يدعونا للعطاء بسخاء وعلى الدوام.
ع3 : تريقه : تصبه وتفيض به.
يواصل سليمان حديثه عن العطاء، فيحدث الذين يمتنعون عن العطاء بحجة أنهم يعطون أناساً لا يعرفونهم، وبالتالى يحتفظون بأموالهم لأنفسهم، ولا يعطون أحداً، فيخبرهم بأن السحب التى فى السموات إذا امتلأت بالمياه تفيضها على الأرض، فتسقط أمطاراً تشبع الإنسان والحيوان والنبات، فهى تعطى من لا تعرفه، إذ أصبحت طبيعتها أن تعطى ما دام معها. فهل لا يتعلم الإنسان من السحب ليعطى ما دام معه؟!
ثم يؤكد فكرة العطاء فى أن الإنسان الروحى يشبه الشجرة، التى إذا سقطت نحو الجنوب، أو الشمال، فهى تعطى بركة بثمارها لكل من حولها، سواء فى الجنوب، الذى يرمز إلى الحرارة الروحية، أى لأناس مؤمنين متمسكين بالله، أو نحو الشمال، الذى يرمز للفتور والبرودة الروحية أى لأناس بعيدين عن الله، فهو بركة لكل إنسان، ويعطى بمحبة للجميع.
من ناحية أخرى فالشجرة ترمز أيضا للإنسان، وإذا سقط نحو الجنوب، أى يموت وهو فى حرارة روحية، فسينال مكافأة عظيمة فى الأبدية، لاهتمامه بالعطاء. وإن سقط نحو الشمال، أى يموت وهو فى فتور وبرودة روحية، لعدم عطائه للآخرين، فسيخسر أبديته.
ويلزم أن ينتبه الإنسان، لأنه حيثما تسقط الشجرة هناك تكون، فإذا كان ميل الإنسان نحو الجنوب، أى الحياة مع الله، فيكون له مكان فى الأبدية، وإن كان نحو الشمال، أى بعيداً عن الله، فلا يكون له مكان فى الأبدية.
ع4 : يرصد : يراقب
تحذرنا هذه الآية من الخوف الذى يمنع الإنسان من العمل، فيسقط فى الكسل، ولا يتحرك فى طريق الجهاد الروحى، والعطاء للآخرين. ويعطينا مثلاً للإنسان الذى يرصد الريح وينتظر، أو يخاف أن تأتى عليه، فلن يزرع خوفاً من أن تأتى الرياح، وتفسد ما زرعه. وكذلك من يراقب السحب متى تأتى بالمطر، خوفاً من أن تفسد محصوله الذى نضج، فلن يحصد، أى لابد ألا يخاف من الرياح، أو الأمطار، ولكن يعمل عمله، وهو الزراعة، والاهتمام بالنباتات وحصادها.
كذلك أيضا الإنسان ينبغى أن يجاهد فى حياته الروحية، فيهتم بزراعة كلمة الله فى حياته، ورعايتها؛ لتنمو، وتعمل فيه، فيحصد ثماراً كثيرة من الحب لله، والعطاء للآخرين.
ع5 : يضيف سليمان فى تأكيد أهمية العطاء للكل، ويخاطب الإنسان، ويخبره بأن معلوماته محدودة بالنسبة لله فيما يلى:
- “لست تعلم ما هى طريق الريح” أى كل ما يتحرك فى الطبيعة التى خلقها الله.
- ” كيف العظام فى بطن الحبلى” : فأنت لا تعلم كيف تكونت؟ ومهما عرفت لا تستطيع أن تكون أنت مثلها. ولا تعلم كيف اتحدت روحك بجسدك وأنت جنين.
- “لا تعلم أعمال الله الذى يصنع الجميع” : وتشمل كل خلائق الله، وكيف خلقها، ودبر حياتها ومعيشتها مع باقى الخلائق.
فبما أنك يا إنسان لا تعرف كيف خلق الله خلائقه، ودبر حياتها، وتعرف فقط أنه خلقك، فلتتكل عليه، ولا تفكر لماذا سمح الله لإنسان أن يكون غنياً، وآخر فقيراً، ولكن اعمل واجبك نحو الفقراء والمحتاجين، وساعدهم بحبك وعطائك قدر ما تستطيع.
ع6 : لا ترخ يدك : لا تتكاسل.
“فى الصباح ازرع زرعك”
الصباح يعنى ما يلى:
- بداية اليوم فتكون فى نشاط، وتزرع زرعك، أى تقوم بواجباتك المادية، وأيضا الروحية، فتعطى المحتاجين مادياً، سواء فقراء، أو مرضى، أو مسنين… وبالأحرى تعطى المحتاجين روحيا، أى تبحث عن خلاص نفوس الناس، وتجذبهم إلى الله. وهذا ينطبق على كل الآيات السابقة (ع 1 – 6).
- الصباح يرمز للشباب المملوء حيوية ونشاط، فتعمل فيه بكل طاقتك، ولذا يقول الكتاب المقدس “اذكر خالقك فى أيام شبابك” (جا12: 1).
- الصباح هو بداية عملك وأنت صغير وإيرادك قليل، فتقدم وتعطى من القليل الذى عندك لله.
- الصباح يرمز للفرح والبهجة، فلا تنشغل بأفراح العالم عن الاهتمام بمن حولك والعطاء لهم.
“وفى المساء لا ترخ يدك لإنسان”
والمساء يشمل المعانى الآتية:
- لا تتكاسل عن العمل فى المساء وهو نهاية اليوم، وتعتذر بحجة أنك تعبت طوال النهار، ولكن واصل عملك بأمانة وأخدم من حولك.
- المساء يعنى فترة الشيخوخة، فلا تتوقف أثناءها عن جهادك الروحى مع الله، وخدمتك للآخرين، حتى لو بدت قليلة، أو أضعف من بدايتك، أى فى الصباح.
- المساء يرمز إلى تقدم العمر والوصول إلى مراكز كبيرة، وأموال كثيرة، فلا تتكاسل حينئذ عن العطاء، مهما كان كبيراً.
- المساء يرمز لوقت الحزن، أو المرض، أو أية ضيقات تمر بك، فلابد أن تستمر فى جهادك الروحى وعطائك.
“ولا تعلم أيهما ينمو هذا أو ذاك، أو أن يكون كلاهما جيدين سواء”:
أنت لا تعلم نتائج جهادك وخدمتك وعطائك، ولا تعلم متى تظهر ثمار أعمالك هل قريبا، أم بعد مدة، وأى الأعمال فيها أكثر نقاوة وقوة. وحيث أنك لست مثل الله تفحص القلوب والكلى، وتعرف كل شئ، فاستمر فى عطائك، وخدمتك لمن حولك. اعمل الخير مع الجميع، والله ينظر إلى تعبك، ويكافئك فى الأرض، وفى الملكوت.
ليتك تنتهز كل فرصة لتساعد من حولك، فتعطيهم من مالك ومن جهدك، وتهتم فوق كل شئ بخلاص نفوسهم، فتنال سلاماً وفرحاً وأبدية سعيدة.
(2) بطلان الشباب (ع7-10):
7اَلنُّورُ حُلْوٌ، وَخَيْرٌ لِلْعَيْنَيْنِ أَنْ تَنْظُرَا الشَّمْسَ. 8لأَنَّهُ إِنْ عَاشَ الإِنْسَانُ سِنِينَ كَثِيرَةً فَلْيَفْرَحْ فِيهَا كُلِّهَا، وَلْيَتَذَكَّرْ أَيَّامَ الظُّلْمَةِ لأَنَّهَا تَكُونُ كَثِيرَةً. كُلُّ مَا يَأْتِي بَاطِلٌ. 9اِفْرَحْ أَيُّهَا الشَّابُّ في حَدَاثَتِكَ، وَلْيَسُرَّكَ قَلْبُكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، وَاسْلُكْ فِي طُرُقِ قَلْبِكَ وَبِمَرْأَى عَيْنَيْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هذِهِ الأُمُورِ كُلِّهَا يَأْتِي بِكَ اللهُ إِلَى الدَّيْنُونَةِ. 10فَانْزِعِ الْغَمَّ مِنْ قَلْبِكَ، وَأَبْعِدِ الشَّرَّ عَنْ لَحْمِكَ، لأَنَّ الْحَدَاثَةَ وَالشَّبَابَ بَاطِلاَنِ.
ع7 : النور هو الله، والشمس هى شمس البر، أى الله. والله بالطبع حلو جداً، وأحلى من أى شئ، لذا ينبغى العمل ما دام هناك نور والشمس مشرقة، أى مادام الله معنا، فلنجاهد روحياً، ونتمتع بوجود الله معنا، ومباركته لأعمالنا التى نعملها من أجله، وخاصة جهادنا الروحى، ومحبتنا للآخرين.
النور حلو بالنسبة لأهل العالم؛ ليتلذذوا بإشباع شهواتهم، ويفرحوا باللذات المادية، ولكنها كلها زائلة، فنظرتهم سطحية، ولا ينظرون إلى حلاوة الوجود الدائم مع الله فى الأبدية.
إذا انشغلت بالنور الحقيقى وهو الله تستنير روحياً، فتستطيع أن ترى كل شئ فى العالم بعينى الله، فترى كل شئ جميلاً وتشكر الله، أما الشرور، فتفتقد وجود الله فيها، وتصلى لأجل الأشرار؛ حتى يعودوا إلى الله، ويعملوا عمله.
ع8 : “لأنه إن عاش الإنسان سنين كثيرة فليفرح فيها كلها” : يقول سليمان أنه إن عاش إنسان سنيناً كثيرة، وفرح وتمتع فيها بكل لذات العالم. وهذا أمر افتراضى لا يمكن تحقيقه، ولا يمكن أن يكون الإنسان مبتهجاً بلذات العالم طوال حياته لماذا؟
“ليتذكر أيام الظلمة لأنها تكون كبيرة”: إن هذا الإنسان ستمر به أيام ظلمة كثيرة وهى :
- أيام تجارب وضيقات كثيرة على مدى العمر، وبالتالى لا ينشغل بلذات العالم.
- أيام القبر وهى ستكون كثيرة، وبالتالى ينبغى الاستعداد للموت بعدم الانغماس فى لذات العالم، بل الحياة مع الله والتوبة.
“كل ما يأتى باطل”
ليعلم هذا الإنسان المنشغل بلذات العالم أن كل هذه اللذات باطلة، فهى مؤقتة، وستأتى أيام تجارب، أو تنتهى الحياة ويذهب إلى القبر، وبالتالى يلزم كل إنسان أن يتوب عن خطاياه، ويستعد لحياته الأبدية.
ع9 : يتهكم سليمان، ويسخر من الشاب البعيد عن الله، المنشغل بشهوات العالم الشريرة، فيقول له: افرح أيها الشاب، وأنت صغير بكل ما تشتهيه من شهوات العالم، وليكن قلبك مسروراً فى أيام الحيوية والقوة، وهى أيام الشباب؛ لتعمل ما تريد، سواء يرضى الله، أو لا يرضيه، ولتتحول مشاعرك إلى أفعال وسلوكيات، ولتفعل كل ما يشتهيه قلبك، وتراه عيناك، أى انغمس فى كل ما تشتهيه من شهوات العالم.
ولكن اعلم أن كل الشهوات الشريرة، وانشغالاتك بلذات العالم عن الله، ستدان عليها فى يوم الدينونة، وتذهب إلى العذاب الأبدى.
والخلاصة فى هذه الآية، دعوة للشباب أن يتوبوا، وينضبطوا فى استخدامهم للعالم، ويضعوا الله أمامهم، حتى يرضوه فى كل أفكارهم، ومشاعرهم، وكلامهم، وأفعالهم، فلا يدانون فى يوم الدينونة، بل ينتقلون إلى السعادة الأبدية.
ع10 : الحداثة : السن الصغير.
يكمل سليمان كلامه، فيدعو الشاب الذى يخاف الله، أن ينزع عن قلبه هموم العالم، والشهوات التى تسبب له دينونة أمام الله، فيطرد كل فكر ردىء، ومشاعر سيئة شريرة.
وبالتالى، إذا كان قلبك هادئاً، وفكرك نقياً تستطيع أن تبتعد عن الشر، فلا يسقط لحمك فيه، أى لا تفعل الشر الذى يسىء إلى جسدك، مثل الزنى والغضب والخمر…
مما سبق تفهم أن ما يفهمه الشباب البعيد عن الله عن الحداثة والشباب باطل تماماً، أى كل ما يريدون أن يفعلوه من شهوات شريرة لا ينتفعون منها شيئاً، بل يؤدى بهم إلى الهلاك الأبدى.
ليتك يا أخى تنتبه إلى فخاخ الشياطين، التى تغريك بالشهوات الشريرة، وتحاصرك لتسقط فيها، فتبتعد عنها مهما كان الثمن. وإن سقطت اسرع إلى التوبة، وتمسك بوصايا الله.