صلاة سليمان لطلب الحكمة
يبين سليمان فى هذا الأصحاح ثلاثة أمور أساسية وهى :
- نظرة الله للإنسان، فهو يجعله قائداً للخليقة كلها.
- حاجة الإنسان لله، وخاصة تعلم الحكمة.
- لكل إنسان رسالة ليتممها فى حياته.
(1) الحكمة تُعظم الإنسان (ع1-8):
1يَا إِلهَ الآبَاءِ، يَا رَبَّ الرَّحْمَةِ، يَا صَانِعَ الْجَمِيعِ بِكَلِمَتِكَ، 2وَفَاطِرَ الإِنْسَانِ بِحِكْمَتِكَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى الْخَلاَئِقِ الَّتِي كَوَّنْتَهَا، 3وَيَسُوسَ الْعَالَمَ بِالْقَدَاسَةِ وَالْبِرِّ، وَيُجْرِيَ الْحُكْمَ بِاسْتِقَامَةِ النَّفْسِ.
4هَبْ لِي الْحِكْمَةَ الْجَالِسَةَ إِلَى عَرْشِكَ، وَلاَ تَرْذُلْنِي مِنْ بَيْنِ بَنِيكَ، 5فَإِنِّي أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، إِنْسَانٌ ضَعِيفٌ قَلِيلُ الْبَقَاءِ، وَنَاقِصُ الْفَهْمِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّرَائِعِ. 6عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَنِي الْبَشَرِ أَحَدٌ كَامِلٌ؛ فَمَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْكَ، لا يُحْسَبُ شَيْئًا. 7إِنَّكَ قَدِ اخْتَرْتَنِي لِشَعْبِكَ مَلِكًا، وَلِبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ قَاضِيًا، 8وَأَمَرْتَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَيْكَلًا فِي جَبَلِ قُدْسِكَ، وَمَذْبَحًا فِي مَدِينَةِ سُكْنَاكَ عَلَى مِثَالِ الْمَسْكَنِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي هَيَّأَتَهُ مُنْذُ الْبَدْءِ.
ع1: يبدأ سليمان صلاته، التى تظهر مدى محبته وتقديره للحكمة، ويستهل هذه الصلاة بتقديم المجد والعظمة لله. إنه لا يقول كلمات رنانة بلا معنى، بل يعلن إحساسه بالله، إذ يشعر أنه :
1- “إله الآباء”
فهو الذى رعى آباءه بالحب، ووعدهم بوعود كثيرة تتحقق فى نسلهم. على هذا الرجاء يقف أمام الله ويصلى ويطلب.
وذِكر الآباء يشير إلى أهمية الأبوة عند الملك، أو القائد. فالحكم ليس تسلطاً وإدارة، ولكنه قبل كل شئ أبوة.
2- “رب الرحمة” :
ويرى أيضاً أنه رب الرحمة، الذى يغفر خطايا التائبين، ويعضد ويسند الضعفاء، ويهتم بكل محتاج. فها هو سليمان الضعيف يتقدم بثقة؛ لينال من رب الرحمة كل احتياجاته، ثم يراعى، وهو يحكم شعبه، أن يقودهم بأبوة مملوءة بالرحمة، مثل الله، فينال هو أيضاً رحمة من الله، كما يذكر لنا المسيح فى العهد الجديد ويقول “طوبى للرحماء؛ لأنهم يرحمون”
(مت5: 7).
3- “صانع الجميع بكلمتك”
وفى نفس الوقت يشعر سليمان أن هذا الإله الحنون، راعى النفوس، هو أيضاً القادر على كل شئ؛ لأنه خالق الكل .. جميع البشر، بل أيضاً كل المخلوقات، وبالتالى فحياتهم كلها فى يده، وهو ضابط الكل. فيطمئن قلبه، إذ يقف أمامه، ويتشجع ، فيطلب ما يحتاجه من القادر على منحه كل شئ.
ع2: فاطر : خالق.
ثم يناجى الله واهب العطايا، الذى أجزل عطاياه للإنسان دوناً عن باقى الخلائق. فقد خلقه بحكمته على صورته ومثاله، مميزاً عن الكل، ورأساً لكل المخلوقات، حتى الأكبر منه فى الحجم بما لا يقاس، مثل الكواكب والبحار والأنهار، وأيضاً الأقوى منه، مثل الوحوش المفترسة، وتحركات الطبيعة العنيفة، مثل العواصف والفيضانات. فكيف يسود الإنسان على كل هذه الخلائق ؟ إلا بنعمة الله المعطاة له، أى روح الله الذى ناله، فصار على صورة الله. لذا يذكر لنا سفر التكوين هذا السلطان الإلهى الممنوح للإنسان (تك1: 28). ويظهر هنا الله القائد الحقيقى، الذى يخلق قادة وليس عبيداً، فلم يخلق الإنسان ليكون ضعيفاً ومجرد عبد خاضع له، بل جعله قائداً ومتسلطاً على الخليقة كلها.
المجد لك يا خالق الكل، ومخضع جميع الكائنات للإنسان، الذى أنعمت عليه بروحك الساكن فيه.
ع3: يسوس : يدبر ويقود ويحكم.
وواضح أن تميز الإنسان ورئاسة الخليقة كلها قائم على تشبهه بالله فى القداسة والصلاح والبر. وعلى قدر ما يحيا مع الله تخضع له كل الخلائق، وإذ يتبع الله بلا غرض، يصير عادلاً فى حكمه على الأمور، وتستقيم نفسه فى اتجاه الله، لا يبغى إلا تمجيد اسمه القدوس، وطاعة وصاياه فى كل شئ، ولا يحابى أحداً، أى يكون عادلاً فى كل شئ. فكما أن الله قائد يخلق قادة، فالله القدوس يخلق قديسين يحكمون بالقداسة والبر.
ما أعظمك أيها الإنسان ، يا من مجدك الله على كل خليقته، لا يكفيك العمر كله لتسبح الله وتشكره على نعمه وبركاته، التى تزداد كل يوم بخضوعك ونشر اسمه القدوس.
ع4: ترذلنى : تحتقرنى.
شعر سليمان بضعفه وخطاياه وعدم استحقاقه أن يكون ابناً لله، فطلب مراحمه، وطول أناته عليه. بل تجاسر، بدالة البنوة، معلناً احتياجه للحكمة الإلهية المرتفعة عند العرش الإلهى. فهو لا يطلب حكمة البشر المادية، بل يشتاق للحكمة الحقيقية التى ينعم بها الله عليه كعطية مجانية؛ لأجل محبته كأب لأولاده.
والحكمة الحقيقية هى الأقنوم الثانى؛ المسيح إلهنا، الذى تجسد فى ملء الزمان.
ع5: وأعلن سليمان، باتضاع، ضعفه أمام الله، فلم يتعظم بملكه، عالماً أنه مجرد عبد، ابن لعبيد، فيقول عن والدته أمتك، أى عبدتك يا الله.
ودليل على ضعفه، أن حياته قصيرة على الأرض، ولابد أن تنتهى، فأين ملكه وسلطانه، إن كان الموت يملك عليه ؟!
ثم أعلن ضعفه فى الفهم، فكيف يصير قائداً حكيماً، وقاضياً لشعب الله، وهو لا يفهم القوانين والشرائع التى يقضى بها بين شعبه؟ كل هذه لا يحصل عليها إلا بالحكمة الإلهية.
إن الاتضاع هو أن تعرف يا أخى ذاتك على حقيقتها، حينئذ تنهمر عليك سيول مراحم الله، خاصة عندما تواجه مواقف كبيرة، ومسئوليات ضخمة. أعلن ضعفك أمامه، تنال أكثر مما تطلب أو تفتكر.
ع6: ولم ينخدع سليمان بمظاهر العظمة والكمال التى يتحلى بها البشر. فها سليمان رجلاً يتحلى بقوة الشباب، وعظمة الملك، والغنى، وكل مظاهر الكمال فى نظر البشر، ولكنه يؤمن أنه بدون الله لا يساوى شيئاً؛ هو مجرد تراب ورماد؛ لذا يتضرع طالباً حكمة الله. ولأن سليمان له معرفة بالعلوم الكثيرة، وأيضاً يقتنى الغنى وكل الاحتياجات المادية، فهذا يمكن أن يخدع البعض، فيشعرون بالاكتفاء وعدم الحاجة إلى الله. أما سليمان ففهم حقيقة الأمر، وهو أن كل هذا زائل ومؤقت، ولا يغنيه عن الله المعطى الحكمة الحقيقية.
ع7: وفى اتضاعه لم يشعر أن الملك حق مكتسب له بالوراثة عن أبيه داود، بل الله هو الذى اختاره من بين بنى داود الكثيرين، وجعله مسئولاً عن القضاء بشريعة الله بين شعبه. لذا فهو محتاج لحكمة الله التى تعلمه الوصايا الإلهية، وكيفية السلوك بها، ثم بالتالى الحكم بها بين شعب الله. فالملك فى نظر سليمان وظيفة كلفه بها الله، فهى نعمة لا يستحقها، يشكر الله عليها، ويطلب معونته لإتمامها.
ع8: وأهم عمل شعر سليمان أنه مطلوب منه، هو إقامة هيكل الله فى أورشليم مدينته… مدينة السلام، التى رضى أن يسكن فيها وسط شعبه. لقد كان هذا قصد الله من البدء، حين أخرج شعبه إلى برية سيناء، وأعطى مثال خيمة الاجتماع لموسى النبى، كانت خيمة لتناسب حياة البرية، وتعطى معنى غربة العالم لكل أولاده. ولكن من ناحية أخرى، أراد الله فى ملء الزمان فى حياة سليمان أن يكون له استقرار وسط شعبه، ببناء هيكل ثابت له، يقترب إليه كل أولاده بالصلاة فيه. إنه رمز للكنيسة فى العهد الجديد، أهم مكان فى العالم، حيث يلتقى الله بشعبه، ويعطيهم عطيته العظمى؛ جسده ودمه الأقدسين؛ ليعبروا بها برية هذا العالم، ويصلوا إلى أورشليم السمائية، حيث الاستقرار الكامل فى الهيكل الأبدى فى ملكوت السموات. فالمسكن المقدس الذى منذ البدء، أى منذ الأزل، فى فكر الله، هو حلوله الإلهى وسط شعبه، الذى أتمه سليمان فى هيكله على الأرض، ويكمل فى ملكوت السموات، حيث الحلول الإلهى الدائم.
فرسالة سليمان فى حياته هى أن يبنى هيكلاً لله، ويحيا معه فيه. هذا ما أتمه سليمان، وعاشه أيضاً مع الله، حتى وإن كان فى بعض الوقت منشغلاً بأمور العالم، ولكنه عاد إليه فى نهاية حياته، فهو أتم الرسالة المطلوبة منه. كما أن كل إنسان لابد أن يتمم الرسالة المطلوبة منه التى يريدها الله.
إلتصقى بالمذبح يا نفسى تجدى حياتك. إن أبوك إبراهيم كان أهم ما فى حياته المذبح والخيمة، أى الله وغربة العالم، فلا تنشغلى بشئ عن هدفك الوحيد، وهو محبته. تخلى عن كل كرامة العالم، وانفضى عنكِ كل شهوة أرضية، لتتكرسى كهيكل مقدس للحب الإلهى، فيملك عليك، وتصيرى ملكة عظيمة، مثل سليمان.
(2) الحكمة تعلم إرضاء الله (ع9-19):
9إِنَّ مَعَكَ الْحِكْمَةَ الْعَلِيمَةَ بِأَعْمَالِكَ، وَالَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةً إِذْ صَنَعْتَ الْعَالَمَ، وَهِيَ عَارِفَةٌ مَا الْمَرْضِيُّ فِي عَيْنَيْكَ، وَالْمُسْتَقِيمُ فِي وَصَايَاكَ، 10فَأَرْسِلْهَا مِنَ السَّمَوَاتِ الْمُقَدَّسَةِ، وَابْعَثْهَا مِنْ عَرْشِ مَجْدِكَ، حَتَّى إِذَا حَضَرَتْ تَجِدُّ مَعِي، وَأَعْلَمُ مَّا الْمَرْضِيُّ لَدَيْكَ. 11فَإِنَّهَا تَعْلَمُ وَتَفْهَمُ كُلَّ شَيْءٍ؛ فَتَكُونُ لِي فِي أَفْعَالِي مُرْشِدًا فَطِينًا، وَبِعِزِّهَا تَحْفَظُنِي، 12فَتَغْدُو أَعْمَالِي مَقْبُولَةً، وَأَحْكُمُ لِشَعْبِكَ بِالْعَدْلِ، وَأَكُونُ أَهْلًا لِعَرْشِ أَبِي. 13فَأَيُّ إِنْسَانٍ يَعْلَمُ مَشُورَةَ اللهِ، أَوْ يَفْطَنُ لِمَا يُرِيدُ الرَّبُّ؟ 14إِنَّ أَفْكَارَ الْبَشَرِ ذَاتُ إِحْجَامٍ، وَبَصَائِرَنَا غَيْرُ رَاسِخَةٍ، 15إِذِ الْجَسَدُ الْفَاسِدُ يُثَقِّلُ النَّفْسَ، وَالْمَسْكِنُ الأَرْضِيُّ يَخْفِضُ الْعَقْلَ الْكَثِيرَ الْهُمُومِ. 16وَنَحْنُ بِالْجَهْدِ نَتَمَثَّلُ مَا عَلَى الأَرْضِ، وَبِالْكَدِّ نُدْرِكُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا، فَمَا فِي السَّمَوَاتِ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ؟ 17وَمَنْ عَلِمَ مَشُورَتَكَ لَوْ لَمْ تُؤْتِ الْحِكْمَةَ، وَتَبْعَثْ رُوحَكَ الْقُدُّوسَ مِنَ الأَعَالِي؟ 18فَإِنَّهُ كَذلِكَ قُوِّمَتْ سُبُلُ الَّذِينَ عَلَى الأَرْضِ، وَتَعَلَّمَ النَّاسُ مَرْضَاتَكَ، 19وَالْحِكْمَةُ هِيَ الَّتِي خَلَّصَتْ كُلَّ مَنْ أَرْضَاكَ، يَا رَبُّ، مُنْذُ الْبَدْءِ.
ع9: إن حكمة الله أزلية فيه، وقد ظهرت أمامنا منذ البدء؛ بدء خلقة العالم، وتكوين الإنسان هى التى خلقت كل شئ من العدم، ودبرت ونظمت حياة الكل.
وهى التى وضعت الوصايا والشرائع منذ البدء فى ضمير الإنسان، أو فى وصايا موسى النبى.
إن الله عظيم بلا حدود. فكيف نقترب إليه ونعبده وهو نار آكلة، لا نستطيع إرضاءه إلا بمعونة الحكمة الإلهية، العارفة أعماق الله، وضعف الإنسان، وقادرة أن ترشده، وتوقفه بخشوع كإبن أمام الله فى الصلاة. وهكذا نشعر بوضوح أكبر فى العهد الجديد بعمل الروح القدس، معطى الحكمة، الذى يعلمنا كيف نصلى ؟ إذ يقول الكتاب المقدس “الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها” (رو8: 26).
والحكمة العارفة ما هو المرضى فى عينيك يا الله، هى المسيح إلهنا، الذى شهد له الآب عند عماده بقوله “هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت” (مت3: 17). فالمسيح وحده هو
القادر على إرضاء الآب بذبيحة نفسه على الصليب. وبإيماننا بالمسيح، واتحادنا به نستطيع أن نرضى الله على قدر طاقتنا.
ع10: تجدُ : تجتهد.
ويطلب سليمان بوضوح أن يتنازل الله، ويرسل حكمته العظيمة؛ لتعمل فيه. إنه عاجز عن الاقتراب لله، وكل جهاد روحى، فيطلب أن تعطيه الحكمة الإرادة والقوة؛ ليجاهد بجدية، ويقوم من تكاسله وضعفه، وتعلمه كيف يرضى الله، ويتمتع بحبه.
فالحكمة الإلهية تساند الإنسان ضد حروب إبليس؛ لينتصر عليه. وإن كان سليمان يطلب هنا نوال الحكمة الإلهية لنفسه، لكنه يعلن اشتياقه بوضوح إلى تجسد المسيح الحكمة الأزلية، فينزل من السماء، ومن عرش مجده؛ ليحيا بيننا، ويفدينا على الصليب.
لا تنزعجى يا نفسى من ضعفك، فإن حكمة الله قادرة أن تقيمك من كل كسل وتهاون، وتنزع، عنك جهلك الناتج من انشغالاتك العالمية، فتعلمك كيف تصلى، وتعبدى الله بأمانة.
ع11: فطينا : حكيماً ذكياً.
عزها : قوتها.
وحيث أن الحكمة تعلم كل شئ، فأنا مطمئن لإرشادها؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يخدعها، ولا يخفى عليها أمر، وبالتالى تكون كل أعمالى مستقيمة؛ لأنها ناتجة من حكمة الله، بل هى أيضاً بقدرتها التى تفوق كل قدرة تستطيع أن تحفظنى فى حياة البر، وتصرع عند قدمى كل قوى الشر، فأتمتع بالثبات فى الله؛ كما قال بولس الرسول : “فبالمسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو1: 24).
وسليمان لا يطلب ويتمسك بالحكمة لكى يتكبر بها، بل لينفذ بها إرادة الله فى قيادة شعبه، وعمل كل خير.
ع12: تغدو : تصير.
أهلاً : مستحقاً.
وهكذا يطمئن قلب سليمان أن الله راضٍ عن أعماله؛ لأنها منه، وبحكمته. وبالطاعة والخضوع لحكمة الله قد نقل سليمان المسئولية من على كتفه إلى الله. فالاتكال على الله هو سر السلام الداخلى والنجاح فى كل المسئوليات. ولا يجد سليمان خلاصه وحده بالحكمة، بل ويخلص آخرين أيضاً، فيصير خادماً حقيقياً لله، ويحكم شعبه بكلامه المقدس، ويعلن صوته للجميع. وهكذا بالحكمة يصير أهلاً لهذا المُلك العظيم، الذى يشعر بعدم استحقاقه له؛ لضعفه وحقارته.
لقد أقامك الله يا أخى نوراً للعالم، وملحاً للأرض، فتمسك به؛ لتجد خلاصك، ثم تصير أيضاً مرشداً لكل من حولك بسلوكك الحكيم ومحبتك لله. إنك أعظم من كل ملوك العالم، لست محتاجاً إلى تيجان الملوك؛ لأن الله هو تاجك، ويملك بنفسه على قلبك، وأوكل إليك قيادة كل من حولك روحياً، لتجذب الكل لخلاص نفوسهم فى المسيح يسوع.
ع13: إن حكمة الله الغير محدودة أكبر من أن يستوعبها الإنسان المخلوق المحدود. وهى بالتالى مختلفة عن حكمة الأرض الضعيفة، التى يظنها البشر حكمة. لذا تبدو وصايا الله أحياناً غريبة وصعبة فى نظرنا؛ لأجل انهماكنا فى أفكار الخطية، وشهوات العالم. ونتحير كثيراً، باحثين عن إرادة الله، وهى قريبة منا، إذا التصقنا بالله، وأحببناه أكثر من كل ما فى العالم.
ع14: إحجام : يحجم أى يتوقف عن. وذات إحجام أى ذات حدود، فتخشى وتخاف من أمور كثيرة.
راسخة : ثابتة.
وأفكار البشر – التى يؤلهها البعض، مثل السياسيين وحكام الأرض، ويشعرون أنهم يدبرون العالم – هى أفكار محدودة، وذات إحجام، أى تخشى، وتخاف من أمور كثيرة. وما نراه بعيوننا البشرية غير ثابت، وحكمنا على الأمور يتغير من وقت لآخر. أما الحكمة الإلهية فهى بلا حدود، وثابتة منذ الأزل وإلى الأبد، لأنها من الله.
فلتتصاغر أفكارنا، بل هى عدم وشر، إن قيست بالحكمة الإلهية النقية الكاملة. فلتطلب نفوسنا الحكمة الحقيقية، إذ علمنا ضعف أفكارنا البشرية. والله فى سمائه يضحك ويستهزئ بحكمة حكماء الأرض الشريرة، ويقول المزمور الثانى عن الله “الساكن فى السموات يضحك. الرب يستهزئ بهم” (مز2: 4).
ع15: لأن عقولنا مرتبطة بأجسادنا، وحين نحيا فى شهوات العالم، يثقل الجسد بالخطية ويجذب العقل معه، فتصير أفكارنا دنيئة وحقيرة. فإن مسكننا الأرضى، أى أجسادنا، تربطنا بمحبة الماديات، وتقلق لاضطرابها وتغيرها، فنمتلئ بالهموم، وحينئذ ينشغل العقل والنفس عن محبة الله، فتفقد سموها، وتنزل إلى أسافل الخطية والشهوات الردية. هذه هى الحكمة البشرية وأفكار العالم، فأين هى من سمو الحكمة الإلهية ؟!.
الله خلق الجسد طاهراً، والإنسان الصالح يحيا بجسده وروحه فى نقاوة مع الله. ولكن إن ابتعد الإنسان عن الله يسقط فى الخطية، ويصير جسده فاسداً. والجسد الفاسد يصير ثقيلاً على الروح، ويجذبها إلى الشر، ويجذب العقل إلى الخطية، فيفسد هو أيضاً، ويمتلئ بالهموم. إذن إذا اكتشف الإنسان فساد جسده بالشهوات، يلزم أن يسرع إلى التوبة؛ ليتنقى جسده ونفسه وعقله، فيحيا مع الله فى نقاوة، كما أراد الله له أن يعيش.
ع16: نتمثل : نتصور ونفهم.
بالكد : بالجهد.
إن العالم ملئ بالكائنات، والأحداث الكثيرة، التى مازال الإنسان يكتشف الكثير منها كل يوم. فإن كنا لا ندرك ما نلمسه بحواسنا، فكيف نفهم ما لا نراه، أى الله الساكن فى السماء والمخلوقات الروحية، أى الملائكة ؟ إننا لا نستطيع إدراك ما على الأرض، وبالأولى ما فى السماء، إلا بمعونة الحكمة الإلهية.
ويظهر من هذه الآية، والتى قبلها أن الذى يعطل الإنسان عن بلوغ الحكمة الإلهية ثلاثة أمور هى :
- شهوات الجسد (ع15).
- هموم العقل (ع15).
- محدودية فهم الإنسان (ع16).
ولا سبيل إلى إدراك الحكمة الإلهية إلا بالاتضاع، والالتجاء لله بالصلاة.
ع17: تُؤت : تُعطى.
وطبعاً الإنسان العاجز عن إدراك الأرضيات، لا يستطيع الارتفاع إلى السماء. والحل الوحيد لإدراك السمائيات هو تنازل الله؛ لينعم على البشر بحكمته، فيستطيعوا فهم الله، وكل ما هو روحى.
هذا ما فعله المسيح إلهنا الكلمة بتجسده، فهو أقنوم الحكمة الأزلية، الذى تجسد فى ملء الزمان؛ ليقترب إلينا، فندركه ونرتبط به، ونحيا له فى الأرض، ثم فى السماء. لقد تنازل وأخذ جسدنا، وأعطانا حكمته، وأعطانا ذاته بتجسده ويعطينا نفسه فى جسده المقدس ودمه الكريم على المذبح كل يوم؛ لذا نمجده ونقول : “هو أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له نسبحه ونمجده ونزيده علواً” (تذاكية الجمعة). ويعطينا الله كل بركات تجسده وفدائه من خلال الروح القدس، الذى حل على الكنيسة فى يوم الخمسين، فيهبنا حكمة الله من خلال الأسرار المقدسة ووسائط النعمة.
ع18، 19: قومت : أصلحت.
إن كان إبليس يحاول دائماً أن ينحرف بالبشر عن طرق الله، ويتيههم فى مشاغل العالم، ويسقطهم فى الشهوات الردية، فإن الحكمة تخلص كل من يلتجئ إليها، وتعيده إلى الطريق المستقيم، وتصلح أخطاءه، وتغفر خطاياه، وتعلمه كيف يحيا مع الله ويرضيه. لا شئ سوى الحكمة غيرت الخطاة وحولتهم إلى قديسين منذ بدء العالم. فهى التى علمت آدم الساقط الاقتراب إلى الله بذبيحة، وكذلك ابنه هابيل. وهى الى رفعت أخنوخ إلى السماء، وأنقذت نوح من الطوفان. وهى التى تعمل حتى الآن فى تخليص أولاد الله من شر العالم. لا تخش يا أخى سطوة الشر وقوة إبليس، فإن الله أقوى منه. آمن بالمسيح يسوع الحكمة الأزلية، وتمسك بروحه القدوس، وأكمل جهادك، كإبن للكنيسة، بهذا ترضى الله، فيخلصك من كل مؤامرات العدو.