ضربة الأبكار وتأديب بنى إسرائيل
(1) نور بنى إسرائيل وظلمة المصريين (ع1-4):
1أَمَّا قِدِّيسُوكَ فَكَانَ عِنْدَهُمْ نُورٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ أُولئِكَ يَسْمَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِغَيْرِ أَنْ يُبْصِرُوا أَشْخَاصَهُمْ، وَيَغْبِطُونَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لاَ يُقَاسُونَ مِثْلَ حَالِهِمْ، 2وَيَشْكُرُونَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لاَ يُؤْذُونَ، الَّذِينَ قَدْ ظَلَمُوهُمْ وَيَسْتَغْفِرُونَهُمْ مِنْ مُعَادَاتِهِمْ لَهُمْ. 3وَبِإِزَاءِ ذلِكَ جَعَلْتَ لِهؤُلاَءِ عَمُودَ نَارٍ، دَلِيلًا فِي طَرِيقٍ لَمْ يَعْرِفُوهُ، شَمْسًا لِتِلْكَ الضِّيَافَةِ الْكَرِيمَةِ لاَ أَذَى بِهَا. 4أَمَّا أُولئِكَ فَكَانَ جَدِيرًا بِهِمْ أَنْ يَفْقِدُوا النُّورَ، وَيُحْبَسُوا فِي الظُّلْمَةِ، لأَنَّهُمْ حَبَسُوا بَنِيكَ الَّذِينَ بِهِمْ سَيُمْنَحُ الدَّهْرُ نُورَ شَرِيعَتِكَ الْغَيْرَ الْفَانِي.
ع1: يغبطونهم : يحسدونهم.
يقاسون : يعانون.
يستكمل الحكيم كلامه عن ضربة الظلام، وهى الضربة التاسعة التى ضرب بها الرب المصريين، فيبين حالة أولاد الله، أى الشعب اليهودى الذى يسميهم بالقديسين؛ لأنهم تقدسوا وتخصصوا لله، ويعبدونه، إذ كان لهم نور فى أرضهم، وهى أرض جاسان (محافظة الشرقية)، وكيف كانوا يتحركون بحرية، ويمارسون حياتهم فى فرح.
والإعجاز الإلهى يظهر فى أن النور الكامل كان فى أرض جاسان، أما المنطقة المجاورة لها مباشرة، التى يسكنها المصريون فقد كانت مظلمة تماماً. وسمع المصريون هم مختبئون فى بيوتهم المظلمة أصوات اليهود، وهم يتكلمون ويسبحون الله فى سعادة، فيشعرون بالفارق الضخم بين تعاستهم وخوفهم، وبين سرور اليهود؛ لأنهم يتقون الله.
ع2: وكان المصريون فى قلوبهم يشكرون اليهود؛ لأنهم لم يشمتوا بهم، أو يحاولوا إزعاجهم، أو حتى سبهم بألفاظ صعبة؛ لأجل إذلال المصريين لليهود قبلاً وتسخيرهم لهم. وهذا يبين أن بنى إسرائيل قد استنارت قلوبهم بمحبة الله، فأحبوا حتى أعداءهم، واحتملوا إساءاتهم، ولم يشمتوا بهم فى ضعفهم بسبب ضربة الظلام.
بل أكثر من هذا بدأ المصريون يشعرون بالندم من أجل قسوتهم وظلمهم لليهود، ويتأسفون، ويطلبون الغفران فى قلوبهم من اليهود.
عندما ترى راحة القديسين وأولاد الله الأتقياء، فلينجذب قلبك لله فى توبة، متذكراً أن كثرة خطاياك هى التى تفقدك الإحساس بالله، بل تولد آلاماً كثيرة لك، فلتندم بدموع؛ لتنسكب عليك مراحم الله، وتنضم بحبه وغفرانه إلى أولاد الله المتمتعين برعايته وسلامه الحقيقى.
ع3: بإزاء ذلك : من جهة هذا.
وعندما خرج شعب الله من أرض مصر، متجهاً نحو البحر الأحمر، سالكاً فى الصحراء وكان عدد الشعب حوالى 2 مليون من الرجال والنساء والأطفال – كان من المستحيل أن يعرفوا طريقهم فى ظلام الليل. وهنا أرسل الله أمامهم عمود النار، يرتفع من الأرض إلى السماء، ويتحرك أمامهم، فيقودهم فى الطريق السليم. فلم يشعروا بالخوف، أو الوحدة، فقد كان لهم نوراً أكثر من ضياء المصابيح فى ليل مصر، بل صار كالشمس المشرقة بلمعانها. وهكذا استضافهم الله فى البرية، وأشعرهم بحضرته معهم من خلال هذا العمود من النار، والذى كان يتحول كل صباح إلى عمود من السحاب، ثم يعود فى الليل فيصير عموداً من النار، وظل هكذا معهم كل يوم أربعين سنة فى البرية.
بهذا أنار الله حياتهم فى النهار والليل، وكان عمود النار فى الليل كأنه شمس، ولكن بدون أذى؛ لأن الشمس المشرقة عليهم فى أرض مصر كان مرتبطاً بها الظلم والسخرة، وكان المصريون يدعون بنى إسرائيل لعبادة الشمس، التى هى الإله رع. أما الآن فى البرية، فقد تحرروا من ظلم المصريين وضلالهم فى عبادة الشمس، والشمس الطبيعية إذا كانت حرارتها شديدة يمكن أن تحرق وتؤذى من تأتى عليه، فيصاب مثلاً بضربة الشمس، أما عمود النار فكان ضياؤه قوياً كالشمس، ولكن لا يؤذى أحداً. بل أكثر من هذا، كان عمود النار الذى
رافقهم فى البرية أربعين عاماً يحميهم من برودة الليل فى الشتاء، أو برودة الأمطار الغزيرة. كما أن عمود السحاب كان يحميهم من حرارة الشمس أثناء النهار، كما أكد ذلك إشعياء النبى (إش49: 10). وعمود النار الذى يقود شعب الله فى البرية يرمز إلى كلمة الله وشريعته، كما يقول المزمور “سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى” (مز119: 105).
إن الله يريد أن يعلن لك نفسه إن تخليت عن لذات العالم (أى مصر وخيراتها)، وخرجت إلى البرية القاحلة، حينئذ يضئ لك، ويعرفك نفسه، فتفرح به. لذلك كان التجرد فى الصوم باب مفتوح لاستعلان الله لنا، والتمتع بعشرة أعمق من خلال الممارسات الروحية.
ع4: وكان ظهور نور الله لأولاده فى البرية كل يوم تمهيداً لإظهار نوره الحقيقى فى شريعته التى ستعلن لهم، فيحفظونها بأمانة، ويعبدونه بكل قلوبهم، فيتعلم العالم منهم على مدى الدهور نور شريعة الله، ويعرفونه من خلالهم.
وعلى الجانب الآخر، كان المصريون محبوسين فى الظلمة فى ضربة الظلام، كما حبسوا شعب الله فى مصر بالسخرة والظلم، لا يريدون أن يطلقوهم ليعبدوا الله فى البرية، ولكن بكثرة الضربات خضعوا أخيراً لله وأطلقوهم. وهكذا أصبح المصريون الأحرار محبوسين فى الظلمة، أما بنو إسرائيل المحبوسون فى العبودية والسخرة. كانوا أحراراً بإيمانهم بالله ونوره، الذى تمتعوا به أثناء هذه الضربة.
لا تكن قاسياً على من حولك بالغضب والإدانة، أو أى ظلم، لئلا تدان أنت أيضاً، وتظلم فى هذا الدهر، ثم تتعذب فى يوم الدينونة الأخير.
(2) ضربة الأبكار (ع5-19):
5وَلَمَّا ائْتَمَرُوا أَنْ يَقْتُلُوا أَطْفَالَ الْقِدِّيسِينَ، وَعُرِّضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِذلِكَ ثُمَّ خُلِّصَ، عَاقَبْتَهُمْ أَنْتَ بِإِهْلاَكِ جُمْهُورِ أَوْلاَدِهِمْ، ثُمَّ دَمَّرْتَهُمْ جَمِيعًا فِي الْمَاءِ الْغَامِرِ. 6وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ قَدْ أُخْبِرَ بِهَا آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ، لِكَيْ تَطِيبَ نُفُوسُهُمْ، لِعِلْمِهِمِ الْيَقِينِ مَا الأَقْسَامُ الَّتِي يَثِقُونَ بِهَا. 7فَفَازَ شَعْبُكَ بِخَلاَصِ الصِّدِّيقِينَ وَهَلاَكِ الأَعْدَاءِ. 8فَإِنَّ الَّذِي عَاقَبْتَ بِهِ الْمُقَاوِمِينَ، هُوَ الَّذِي جَذَبْتَنَا بِهِ إِلَيْكَ وَمَجَّدْتَنَا. 9فَإِنَّ الْقِدِّيسِينَ بَنِي الصَّالِحِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ خُفْيَةً، وَيُوجِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَرِيعَةَ اللهِ هذِهِ أَنْ يَشْتَرِكَ الْقِدِّيسُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ عَلَى السَّوَاءِ. وَكَانُوا يُرَنِّمُونَ بِتَسَابِيحِ الآبَاءِ، 10وَقَدْ رَفَعَ الأَعْدَاءُ جَلَبَةَ أَصْوَاتِهِمْ بِالْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ عَلَى أَطْفَالِهِمْ. 11وَكَانَ قَضَاءٌ وَاحِدٌ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى، وَضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ نَالَتِ الشَّعْبَ وَالْمَلِكَ. 12وَكَانَ لِكُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ أَمْوَاتٌ لاَ يُحْصَوْنَ قَدْ مَاتُوا مِيتَةً وَاحِدَةً، حَتَّى إِنَّ الأَحْيَاءَ لَمْ يَكْفُوا لِدَفْنِ الْمَوْتَى، إِذْ فِي لَحْظَةٍ أُبِيدَ نَسْلُهُمُ الأَعَزُّ. 13وَبَعْدَ أَنْ أَبَوْا بِسَبَبِ السِّحْرِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِشَيْءٍ، اِعْتَرَفُوا عِنْدَ هَلاَكِ الأَبْكَارِ بِأَنَّ الشَّعْبَ هُوَ ابْنٌ للهِ. 14وَحِينَ شَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ هُدُوءُ السُّكُوتِ، وَانْتَصَفَ مَسِيرُ اللَّيْلِ، 15هَجَمَتْ كَلِمَتُكَ الْقَدِيرَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْعُرُوشِ الْمَلَكِيَّةِ عَلَى أَرْضِ الْخَرَابِ بِمَنْزِلَةِ مُبَارِزٍ عَنِيفٍ، 16وَسَيْفٍ صَارِمٍ يُمْضِي قَضَاءَكَ الْمَحْتُومَ؛ فَوَقَفَ وَمَلأَ كُلَّ مَكَانٍ قَتْلًا، وَكَانَ رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَقَدَمَاهُ عَلَى الأَرْضِ. 17حِينَئِذٍ بَلْبَلَتْهُمْ بَغْتَةً أَخْيِلَةُ الأَحْلاَمِ بَلْبَلَةً شَدِيدَةً، وَغَشِيَتْهُمْ أَهْوَالٌ مُفَاجِئَةٌ. 18وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ عِنْدَ صَرْعِهِ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ يُعْلِنُ لأَيِّ سَبَبٍ يَمُوتُ،
19لأَنَّ الأَحْلاَمَ الَّتِي أَقْلَقَتُهُمْ، أَنْبَأَتْهُمْ بِذلِكَ لِئَلاَّ يَهْلِكُوا، وَهُمْ يَجْهَلُونَ مَجْلَبَةَ هَلاَكِهِمْ
ع5: ائتمروا : جاءهم أمراً.
كانت بركة الله على شعبه اليهود فى مصر، فزاد عددهم جداً؛ حتى خاف منهم المصريون؛ لئلا ينضموا إلى أعدائهم فى الحرب. وعلى قدر ما أذلوهم وظلموهم، ازدادوا عدداً وقوة. فأمر أخيراً فرعون بإلقاء المولودين الذكور فى النيل؛ حتى يقل عددهم. ولكن الله قد استهزأ به، فأثناء هذه الضيقة العظيمة، وموت كثير من أطفال العبرانيين الذكور بالغرق فى النيل، وُلد موسى، والقى فى النهر (خر2: 3)، فانتشلته ابنة فرعون لتربيه فى قصر فرعون؛ ليكبر ويصير قائداً لشعب الله، ويخرجهم من عبودية مصر بقوة الله، رغماً عن أنف فرعون.
وبهذا نرى أن الله العادل يعاقب الأشرار مهما طال الزمن. فالمصريون قتلوا الذكور المولودين لبنى إسرائيل، فعاقبهم الله بقتل أبكارهم، وكما أغرقوهم فى نهر النيل، أغرقهم الله فى البحر الأحمر.
ومن ناحية أخرى، ضرب الله المصريين فى الضربة العاشرة بقتل جميع أبكارهم، ثم كان القضاء الإلهى العظيم عليهم بغرق جيوشهم فى البحر الأحمر؛ لقساوة قلوبهم، وملاحقتهم لشعب الله.
ع6، 7: وقد أعلن الله لأولاده اليهود ضربة أبكار المصريين قبل حدوثها، إذ قال لهم أن يذبحوا الفصح، وأن يلطخوا أبواب بيوتهم، فيعبر عنهم الملاك المهلك، الذى يدخل بيوت المصريين الغير محتمية بالدم، ويقتل أبكارهم. وإذ وثق بنو إسرائيل فى كلام الله، خلصت نفوسهم فى هذه الليلة، بينما كان الصراخ والهلاك فى كل بيوت المصريين.
ع8: وهكذا تظهر قوة الله، إنه بنفس الوسيلة التى يهلك بها الأشرار، ينجو أولاد الله. فبدلاً من أن يهلك موسى فى النهر، انتشلته ابنة فرعون؛ ليخرج شعبه من عبودية مصر، وفى الماء أيضاً غرقت جيوش المصريين فى البحر الأحمر. وكما قتل المصريون أطفال العبرانيين، هكذا قتل الله جميع أبكارهم. وإذ قيد المصريون اليهود فى عبودية وسخرة، قيدهم الله بالظلام فى الضربة التاسعة. عجيب أنت يا رب عندما تستهزئ بقوة الأشرار، وتنجى أولادك بذارع رفيعة.
ع9: السراء : الفرح.
الضراء : الضيق.
وإذا كان عدد المقيمين فى البيت قليل، كان اليهود يذبحون خروف الفصح عن البيت والبيوت المجاورة، ويجتمعون فى بيت واحد، ويأكلون الخروف، وهم يسبحون الله الذى حفظهم من الموت، وصاروا فى شركة روحية واحدة.
وكانوا يسبحون تسابيح الآباء، التى يذكرون فيها عمل الله مع آبائهم كل سنة، وكيف خلص الله شعبه من عبودية مصر، وأخرجهم إلى برية سيناء وعالهم أربعين سنة.
واهتم بنو إسرائيل بعمل الفصح كل سنة، فيشتركون معاً فى أكل الفصح، ويفرحون بخلاص الله، ويشترك معهم كل من هو فى ضيقة، أو ألم؛ ليشعر بيد الله التى تسانده، فيتعزى قلبه، أى يعملون الفصح فى جميع أحوالهم؛ سواء الفرح، أو الحزن؛ السراء والضراء. وإذا واجهتهم ضيقة من الحكام فى أى عصر من العصور، كانوا يذبحون الفصح فى الخفاء، أى يتمسكون بعمله مهما كان الاضطهاد الذى يواجهونه، كما حدث أيام السبى، أو عصر المكابيين.
كل هذا كان إشارة للعضوية الكنسية والتناول من الأسرار المقدسة، فننال الخلاص من الموت الأبدى.
ما أعظم الإيمان بالله، والاتكال عليه، بهذا يا أخى تسير مطمئناً طوال حياتك، مهما أحاط بك الأشرار، ولو ارتفعوا عليك زماناً، فسيعاقبون بعد حين، ويظهر الله برك وقوتك، بل يكافئك أيضاً فى الحياة الأبدية بما لا يعبر عنه.
ع10، 11: جلبة : أصوت عالية.
النحيب : البكاء الشديد.
المولى : الحاكم.
كانت الضربة العاشرة التى ضرب بها الله المصريين أشد الضربات، إذ خرج الملاك المهلك ليقتل بكر كل بيت غير محمى بالدم الملطخ على الباب، الذى يشير إلى دم المسيح، أى يقتل كل أبكار المصريين، الفقير والغنى، العبد والرئيس.
وكانت الجلبة شديدة، فهى مزيج من صراخ النساء على أولادهن الذين ماتوا، وبكاء الأبناء والبنات على إخوتهم، وصراخ الرجال الذين ذهبوا ليعدوا مدافن لأبنائهم، وصراخ الأطفال الذين كانوا فى فزع مما حدث؛ هذا كان عند المصريين، أما عند شعب الله فكانت تسابيح الفرح والشكر لله، الذى خلصهم وأنقذهم من الموت، ومن العبودية المرة، إذ كانوا قد بدأوا فى الخروج من أرض مصر (عد33: 3، 4). وكان صراخ المصريين بأصوات نشاز متعارضة، أما تسابيح اليهود فكانت فى وحدانية. وهذا يحدث دائماً، فنجد تعارض أفكار الأشرار وأنقسامهم على أنفسهم، أما الأبرار فيتحدون فى محبة الله وتسبيحه.
ع12: وفى صباح واحد، اكتشف المصريون جميعاً وجود ميت فى بيت كل منهم، بل البكر الذى له معزة أكبر، ومكانة خاصة فى قلب أهل البيت.
وارتفع صوت البكاء والعويل؛ الكل يندب الأبناء المحبوبين، وتحرك الكل ليدفنوا موتاهم، ومن كثرة الموتى لم يكن عدد الشباب كافياً لحمل الموتى، ودفنهم. وهكذا غطى الحزن الشديد والأسى قلوب جميع المصريين، وانكسروا أمام الله العلى، خاضعين له، واضطر فرعون إلى السماح لشعب الله بالخروج من مصر ليعبدوه فى البرية.
إن الله الحنون يطيل أناته كثيراً على شرورنا، ولكن إن تمادينا فى أخطائنا، فليس أمامنا إلا وجه الله العادل، الذى يعاقبنا على خطايانا. وهذا العقاب الأرضى هو جزء من القصاص؛ ليدفعنا إلى التوبة فننجو من الغضب الآتى، أى العذاب الأبدى.
ليتك يا أخى تستفيد من الضيقة الأولى، وتفهم قصد الله؛ حتى لا تضطره أن يسمح لك بالضيقة العاشرة. فإن فقد الماء، فى الضربة الأولى، بتحويل نهر النيل إلى دم، أى فقد بعض الاحتياجات المادية، أسهل بكثير من فقد أعز الأبناء. إن الله يدعوك بالضيقة إلى التوبة؛ لتخلص من الخطية وشرها، وتتمتع بعشرته وحنانه.
ع13: أبوا : رفضوا.
طوال فترة الضربات العشر كان المصريون معتمدين على قوة الشيطان، التى تظهر فى السحرة، الذين يعدونهم بعمل كل شئ إعجازى يحتاجونه؛ لذلك عندما حول موسى العصا إلى حية، تجاسر السحرة فحولوا عصيهم إلى حيات، ولكن حية موسى أكلت حياتهم، أما هم فاغتاظوا لظهور ضعفهم، وأعتبروه ساحراً أقوى منهم. ولكن مع توالى الضربات، أعلن السحرة أن هذا أصبع الله، وليس مجرد سحر من أسحار الشيطان. أما فرعون فاستمر فى عناده لله؛ لأن كبرياءه، وكبرياء من حوله جعلتهم يرفضون الله.
ع14-16: صارم : حاد.
يمضى : ينفذ.
المحتوم : الذى لابد أن يتم.
ولكن عند هجوم الملاك المهلك على أبكارهم ليقتلهم، ونظروا قوته التى لا تقاوم، اضطروا إلى الاعتراف بوجود الله الواحد الأقوى من كل شياطينهم المستترة وراء الآلهة الوثنية واعترفوا أيضاً بأن اليهود هم شعب الله، وهو يدافع عنه، ويحميه، وقادر أن يخلصه من عبودية المصريين. ويصور الكتاب المقدس ما حدث بالتفصيل من ضربة الأبكار؛ ففى هذه الليلة الكئيبة، مرَّ النصف الأول منها فى هدوء وسلام، والكل نيام، وفجأة فى منتصف الليل أرسلت حكمة الله، أى كلمته، الملاك المهلك، بعد أن طال انتظار الله لتوبة المصريين فلم يتوبوا، ويطلقوا شعبه، فاضطر الله إلى إرسال هذا الملاك بسيفه العظيم؛ ليبارز كل قوى الشيطان، ويصرع أعوانه المؤمنين به، فوقف كجبار قدميه على الأرض، ورأسه فى السماء، وأخذ يقاتل الأبكار واحداً واحداً؛ حتى خربت أرض مصر كلها بموت بنيها، فتمم الله إرادته بالعقاب الضرورى للمتمادين فى العناد.
ع17-19: بلبلتهم : أزعجتهم.
بغتة : فجأة.
أخيلة : خيالات.
غشيتهم : غطتهم ونزلت عليهم.
أهوال : مصائب.
ومما زاد قسوة الضربة أن الله سمح لهم بأحلام مزعجة، رأوا فيها هلاكهم قبل أن يتم لكى يتوبوا، فلا يهلكوا، فكانوا فى خوف عظيم، وأدركوا عند موتهم بيد الملاك، كم هو ضعفهم، وضعف آلهتهم أمام الله، وعلموا أن سبب موتهم هو عنادهم لله، ورفض الإيمان به والخضوع له. ولو أعلن أحدهم إيمانه بالله، وطلب الغفران منه، فالله بالطبع سيقبله، ويخلصه من العذاب الأبدى عندما يتمم المسيح الفداء، ويبشره وينقله من الجحيم إلى الفردوس، كما نقل آدم وبنيه المؤمنين به.
لماذا تنتظر يا أخى مثل هؤلاء المصريين، الذين أدركوا خطيتهم عند موتهم. إن طريق التوبة مفتوح الآن أمامك؛ لتعلن اعترافك بالله، واستعدادك للتخلى عن شهواتك الردية، فتدخل إلى الحياة النقية كعضو حى فى الكنيسة، وتسير فى طريق الملكوت السماوى.
لا تعاند الله معتمداً على ذكائك، أو أموالك، أو قدراتك الخاصة. لا تتحدى الله بصنع الشر، هو يحبك فلا تعانده، بل تب، واعمل الخير، وأحب الكل. كن صديقاً وابناً لله بفعل وصاياه، ولا تتحداه وتصير عدواً له بفعل الشر.
(3) تذمر جـماعة قورح وتأديب الرب (ع20-25):
20وَالصِّدِّيقُونَ أَيْضًا مَسَّتْهُمْ مِحْنَةُ الْمَوْتِ، وَوَقَعَتِ الضَّرْبَةُ عَلَى جَمٍّ مِنْهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ، لكِنَّ الْغَضَبَ لَمْ يَلْبَثْ طَوِيلًا، 21لأَنَّ رَجُلًا لاَ عَيْبَ فِيهِ بَادَرَ لِحِمَايَتِهِمْ؛ فَبَرَزَ بِسِلاَحِ خِدْمَتِهِ الَّذِي هُوَ الصَّلاَةُ وَالتَّكْفِيرُ بِالْبَخُورِ، وَقَاوَمَ الْغَضَبَ وَأَزَالَ النَّازِلَةَ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ خَادِمُكَ. 22فَانْتَصَرَ عَلَى الْجَمْعِ لاَ بِقُوَّةِ الْجَسَدِ وَلاَ بِإِعْمَالِ السِّلاَحِ، وَلكِنَّهُ بِالْكَلاَمِ كَفَّ الْمُعَاقِبَ، مُذَكِّرًا الأَقْسَامَ وَالْعُهُودَ لِلآبَاءِ. 23فَإِنَّهُ إِذْ كَانَ الْقَتْلَى يَتَسَاقَطُونَ جَمَاعَاتٍ، وَقَفَ فِي الْوَسْطِ فَحَسَمَ السُّخْطَ وَقَطَعَ الْمَسْلَكَ إِلَى الأَحْيَاءِ، 24لأَنَّهُ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ السَّابِغِ الْعَالَمُ كُلُّهُ، وَأَسْمَاءُ الآبَاءِ الْمَجِيدَةُ مَنْقُوشَةً فِي أَرْبَعَةِ أَسْطُرٍ مِنَ الْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ، وَعَظَمَتُكَ عَلَى تَاجِ رَأْسِهِ، 25فَهذِهِ خَضَعَ الْمُهْلِكُ لَهَا وَهَابَهَا، وَكَانَ مُجَرَّدُ اخْتِبَارِ الْغَضَبِ قَدْ كَفَى.
ع20: محنة : ضيقة.
جم : كثير.
يلبث : يظل.
ثم ينتقل الحكيم إلى الحديث عن شعب الله اليهود، الذين يسميهم الصديقون، أى القديسون الذين آمنوا بالله، وقدسوا قلوبهم له. فيعلن لنا معاملات الله معهم، فحتى لو أدبهم تأديباً يبدو قاسياً، فإن رحمة الله تظهر وسط التجربة؛ لأنهم أولاده الذين يسمح لهم بالتأديب المؤقت لمدة قصيرة؛ ليقتربوا إليه، ويمنحهم بركات أكثر.
ع21: النازلة : الموت.
ويصف لنا إحدى التجارب التى مرت ببنى إسرائيل فى برية سيناء أيام موسى النبى، كما يذكر لنا سفر العدد الأصحاح السادس عشر، وملخصها أن تذمر مجموعة من سبط لاوى، الذين يساعدون الكهنة فى خدمة بيت الله، أى خيمة الاجتماع، وهم قورح وداثان وأبيرام وآخرون معهم، يبلغ عددهم مائتان وخمسون رجلاً قائلين : لماذا يُقتصر الكهنوت على هارون وبنيه، وتذمروا أيضاً على موسى الذى أخرجهم إلى البرية؛ ليعبدوا الله، وتركوا أرض مصر المملوءة بالخيرات المادية، فتقدموا ليبخروا أمام الله، فغضب الله عليهم، وأنشقت الأرض، وأبتلعتهم هم وعائلاتهم وأحرقتهم بالنار. فلم يخف باقى الشعب، خاضعين لموسى وهارون، بل تذمروا عليهما، واتهموهما بقتل هؤلاء الناس، مع أن الله هو الذى أهلكهم لكبريائهم، وقاموا عليهما؛ ليسيئوا إليهما. فلم يغضب موسى عليهم، بل أسرع هو وهارون إلى باب خيمة الاجتماع، رافعين قلوبهم بالصلاة إلى الله، فأعلن الله غضبه على الشعب وعقابه بالهلاك.
وفى هذه الآية (ع21) يحدثنا سليمان عن الرجل الذى لا عيب فيه، الذى أسرع لإنقاذ شعبه، وهو هارون رئيس الكهنة، فرفع صلاته عن الشعب الذى أغضب الله، وبخر عنه، فأوقف الله الوبأ (النازلة). وهكذا ظهر هارون خادم الله، الذى بشفاعته وصلواته سامح الله شعبه، وأوقف الوبأ. وهارون هنا رمز للمسيح رئيس الكهنة، الذى تشفع فينا بذبيحة نفسه على الصليب، وكفر عن خطايانا. وهارون أيضاً كان بلا عيب، مثل المسيح الذى كان بلا خطية، ورفع هارون الموت عن الشعب، مثل المسيح الذى هزم الموت بموته.
ع22: فى هذه الآية نرى هارون، الذى لم يستخدم قوته الجسدية، ولا الأسلحة الحربية، بل بكلامه، أى بصلواته، كف الله عن معاقبة شعبه، وتأديبهم؛ لأن هارون فى صلاته ذكَّر الله بأقسامه، ووعوده السابقة للآباء، برعاية شعبه منذ آدم. وعندما يقول “بالكلام كف المعاقب” يرمز للمسيح كلمة الله، الذى قيد الشيطان بموته.
من هذا تظهر قوة الصلاة، وتذكير الله بمواعيده (أقسامه)، وأبوته ورعايته لشعبه، فيتحنن عليهم ويرفع التجربة. وأيضاً ظهرت قوة سر الكهنوت، وشفاعته أمام الله، إذ يرى الله فى صلاة الكاهن، صلاة عن الشعب كله، وهو يمثل المسيح، الذى هو بكر بين إخوة كثيرين، ويحمل فى جسده الكنيسة كلها.
ع23: إذ بدأ الوبأ ينتشر بينهم، ويقتل الكثيرين، أخذ هارون يبخر، وفصل بين الموتى والأحياء، فوقف الوبأ. وهكذا مات عدد ليس بقليل منهم، وهو أربع عشر ألفاً وسبع مائة. أما باقى الجماعة، وعددها حوالى المليونين، فقد نجاهم الله بصلاة هارون وتبخيره بينهم؛ لأن البخور يشير إلى الصلوات المرتفعة أمام الله.
ع24: السابغ : الطويل.
تصف هذه الآية ملابس هارون الكهنوتية، فهو يلبس ثوبه الطويل حتى القدمين؛ ليظهر نعمة الله التى تغطى العالم كله. ويلبس فوق الثوب صدرة، وهى قطعة من القماش المزخرف الثمين، به فتحة للرقبة، ويتدلى قليلاً إلى الخلف على الظهر. وعلى هذه الصدرة يوضع إثنى عشر حجراً فى أربعة صفوف، تمثل أسباط بنى إسرائيل الإثنى عشر. فهو يرفع صلاة عن العالم كله، وعن كل الشعب بأسباطه الإثنى عشر. وعندما قدم صلوات، أى بخور أمام الله تحنن، وسامح شعبه، وأوقف الوبأ.
وفى سر الكهنوت أيضاً تظهر دالته ومكانته عند الله، إذ لبس هارون عمامة، وُضعت عليه قطعة معدنية، مكتوب عليها قدس للرب، فهو مقدس لله، وله مكانة خاصة عنده.
ع25: هابها : خاف منها.
وعندما رفع هارون الكاهن الصلوات عن الشعب، استطاع بسلطان الكهنوت أن يأمر الملاك المهلك،، فيوقف الوبأ.
وهذا يبين أهمية الشفاعة، ومكانة الكهنوت وسلطانه. فالله وهب الكاهن أن يرفع عن شعبه العقوبة الإلهية بتضرعه إلى الله. وفى هذه التجربة رأى الشعب واختبر غضب الله، الذى أباد الكثرين؛ حتى يبتعدوا عن الخطية. ونظر الشعب أيضاً رحمة الله الذى سامحهم بصلوات رئيس الكهنة هارون، فكف الغضب الإلهى عنهم.
وظهر من هذه التجربة ما يلى :
- رحمة الله لشعبه، فيؤدبهم بمقدار، ليقودهم للتوبة.
- قوة الصلاة وفاعليتها أمام الله.
- عدم الرد على الشر بشر، بل بعمل الخير، كما فعل موسى وصلى عن الشعب، وبخر هارون بينهم، بدلاً من أن يغضب عليهم “لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 21).
- قوة سر الكهنوت ومكانته وسلطانه.
ليتك يا أخى لا تنزعج من التجارب، بل تثبت فى إيمانك، وترفع صلواتك أمام الله، ولا تقاوم الأشرار مثل شرهم، بل صلى من أجل الجميع، وثق بمكانتك ودالتك عند الله. إلتجئ إلى الكنيسة والمذبح والكهنوت، فتنسكب عليك مراحم الله.