تفوق الحكمة
(1) عظمة الحكمة (ع1-8) :
1إِنَّهَا تَبْلُغُ مِنْ غَايَةٍ إِلَى غَايَةٍ بِالْقُوَّةِ، وَتُدَبِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِالرِّفْقِ. 2لَقَدْ أَحْبَبْتُهَا وَالْتَمَسْتُهَا مُنْذُ صِبَائِي، وَابْتَغَيْتُ أَنْ أَتَّخِذَهَا لِي عَرُوسًا، وَصِرْتُ لِجَمَالِهَا عَاشِقًا. 3فَإِنَّ فِي نَسَبِهَا مَجْدًا، لأَنَّهَا تَحْيَا عِنْدَ اللهِ، وَرَبُّ الْجَمِيعِ قَدْ أَحَبَّهَا، 4فَهِيَ صَاحِبَةُ أَسْرَارِ عِلْمِ اللهِ، وَالْمُتَخَيِّرَةُ لأَعْمَالِهِ. 5إِذَا كَانَ الْغِنَى مِلْكًا نَفِيسًا فِي الْحَيَاةِ؛ فَأَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى مِنَ الْحِكْمَةِ صَانِعَةِ الْجَمِيعِ؟ 6وَإِنْ كَانَتِ الْفِطْنَةُ هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ؛ فَمَنْ أَحْكَمُ مِنْهَا فِي هَنْدَسَةِ الأَكْوَانِ؟ 7وَإِذَا كَانَ أَحَدٌ يُحِبُّ الْبِرَّ؛ فَالْفَضَائِلُ هِيَ أَتْعَابُهَا، لأَنَّهَا تُعَلِّمُ الْعِفَّةَ وَالْفِطْنَةَ وَالْعَدْلَ وَالْقُوَّةَ الَّتِي لاَ شَيْءَ لِلنَّاسِ فِي الْحَيَاةِ أَنْفَعُ مِنْهَا. 8وَإِذَا كَانَ أَحَدٌ يُؤَثِرُ أَنْواعَ الْعِلْمِ؛ فَهِيَ تَعْرِفُ الْقَدِيمَ وَتَتَمَثَّلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَتَفْقَهُ فُنُونَ الْكَلاَمِ وَحَلَّ الأَحَاجِيِّ وَتَعْلَمُ الآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ، وَحَوَادِثَ الأَوْقَاتِ وَالأَزْمِنَةِ.
ع1: غاية : هدف.
يفتتح الحكيم هذا الأصحاح بصفة جميلة للحكمة، هى ختام للأصحاح السابق، وبداية لهذا الأصحاح. هذه الصفة تبدو متناقضة لأول وهلة، ولكنها تظهر العجب فى الحكمة أنها قوية جداً، فتستطيع أن تبلغ إلى كل أهدافها، وتتقدم من هدف إلى هدف، ولا يمكن أن يعوقها شئ؛ لأن الحكمة هى الله، فمن يقف أمامه؟! وفى نفس الوقت، رغم قوتها الجبارة الساحقة لكل قوى الشر، فهى فى منتهى الحنان والرفق فى رعاية أولاد الله، فهى تدبر حياة كل من يقتنيها بهدوء، ولطف، وتحنو عليه فى كل خطواته، فترسل له مثلاً ملاكه الحارس الذى يدافع عنه ضد هجمات إبليس، ويسحق قوته، وفى نفس الوقت يقود خطواته بحنان، ويرشده برفق إلى كل الخير.
وتدبير كل شئ برفق يعنى تنظيم كل شئ؛ ليؤدى إلى ارتباط الإنسان بالله؛ حتى يصل إلى تحويل الضيقات والشرور إلى بركات.
إن الحكمة العظيمة فى قوتها يا أخى هى ملك لك، تستطيع أن تتمتع بأحضان حبها ورعايتها لك، إن كنت تطلبها. فإن أحببت الحكمة تمتعت بتدبيرها المحكم، المريح، المتقن لكل أعمالك، وكلامك وأفكارك.
ع2: صبائى : الصبا والشباب.
وإذ عاين الحكيم سليمان صفات الحكمة أحبها وطلب أن يقتنيها منذ أن أدركها، أى وهو صبى، حيث لم يفقد بعد براءة الطفولة، وفى نفس الوقت صار له القدرة على معرفة الله وطلبه، بل أكثر من هذا تمنى أن يتحد به، ولا يفارقه طوال الحياة، إذ طلب أن يتحد بالحكمة، وتصير كعروس له، يعطيها كل حياته، ويتمتع بها فى أحضانه دائماً.
ومن فرط حبه لها تعلق قلبه بها، وصار عاشقاً لصفاتها الجميلة، يتأمل فيها كل يوم، وتشغله فى كل خطواته، وكان هذا هو مطلبه الوحيد عندما اختاره الله، ليملك على شعبه، فأفاض عليه حكمة، لم ينلها أحد قبله ولا بعده؛ لأنه طلبها من كل قلبه.
وهكذا نرى أن الاشتياق للحكمة أعطى قوة لإرادة سليمان، فطلبها من كل قلبه لتصير عروساً له، فطلب الحكمة يقوى الإرادة، وهذا تجاوب مع الله، الذى يريد أن نكون عروساً له، كما عبر سليمان عن هذا فى سفر نشيد الأنشاد، وأكد ذلك بولس الرسول (2كو11: 2).
ع3: وإذ طلب سليمان الملك الحكمة، فقد نال كل المجد؛ لأنها لا توجد إلا عند الله، بل هى الله الذى تجسد فى ملء الزمان، ربنا يسوع المسيح. وعندما يقول عن الحكمة : “إن فى نسبها مجداً” يقصد أن الحكمة هى ابن الله، وهذا أعظم نسب، ومن يقتنى الحكمة ينال أعظم نسب وهو بنوته لله.
فالله يحب الحكمة وكل من يطلبها، ولذا امتدح الله جداً سليمان لطلبه الحكمة، وأعطاه أيضاً معها الغنى، وكل أمجاد العالم؛ لأن من نال المجد الإلهى ما أسهل أن يعطى له المجد العالمى “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم” (مت6: 33).
وعندما يقول : “رب الجميع قد أحبها” يقصد أيضاً محبة الآب للإبن، كما أعلن المسيح هذا عندما قال : “أحببتنى قبل إنشاء العالم” (يو17: 24).
ليتك تطلب الحكمة قبل ماديات العالم الزائلة؛ لأن الحكمة تبقى إلى الأبد، والحكمة تثبتك فى الحياة مع الله، وتصونك فى كل خطواتك، وتتمتع بمحبة الله؛ لأن الله يحبها، ويحب كل من يقتنيها، بل إذ تطلبها يسكن الله فى قلبك، ويحوطك بحنانه، ويعطيك الفرح كل حين.
ع4: المتخيرة : التى تختار.
يتساءل الكثيرون فى أمور حياتهم المختلفة، ما هى إرادة الله ومشيئته فى هذا الأمر ؟… لا أحد يعلم أسرار قصد الله إلا الحكمة، فهى التى تختار أعمال الله التى يعملها مع البشر، وتقصد من هذا خلاص نفوسهم، فمن يقتنى الحكمة يعلم مشيئة الله، وبالتالى يفهم كل أعماله، فيحيا مطمئناً، بل متمتعاً برؤية الله فى كل الأحداث التى تمر فى حياته.
ع5: نفيساً : غالياً.
إن كل البشر يتهافتون على جمع المال، ويتطلعون إلى الغنى، ورفع مستوى معيشتهم للتلذذ بتنعمات الحياة المادية. إن كان هذا أمراً نفيساً وعظيماً، وأغلى ما يبتغيه البشر، فإن الحكمة هى صانعة الغنى، ومصدر كل شئ فى الحياة، فمن يقتنيها يشبع، وإن أحتاج للغنى تعطيه، مثلما أعطت لسليمان، وإن تنازل عنه، تشبعه بما هو أسمى، أى الحب الإلهى، مثل القديس الأنبا أنطونيوس أب الرهبان.
ع6: قد يشتاق البعض إلى الذكاء، أى الفطنة، لكى يتميزوا به فى أعمالهم عن غيرهم، ولكن هناك ما هو أعظم من الذكاء، وهى الحكمة، التى تنظم الكواكب، وكل أفلاك الكون، فهى كمهندس يرتب، فى تدبير متقن، كل تفاصيل الحياة على الأرض. إن الحكمة أعظم وأوسع كثيراً من الذكاء المادى، الذى قد ينجح فى إتمام بعض الأعمال المادية المحدودة.
ع7: وقد يسمو البعض فى تفكيرهم فلا يطلبوا الغنى، أو الذكاء المادى، بل يطلبوا البر والصلاح، أى الحياة النقية والعلاقة القوية مع الله، وهنا يوجه الحكيم أنظارهم إلى أن الحكمة أجرتها، أى أتعابها هى الفضائل التى يتمناها كل من يبتغى البر، ويحدد الفضائل الأربعة الأساسية :
1- العفة :
أى الانضباط فى استخدام الماديات للانشغال بالله.
2- الفطنة :
وهى الفهم الحسن لكل ما فى العالم، فيرى الإنسان الله، وأعماله فى كل شئ حوله.
3- العدل :
فلا يكون متحيزاً لأى غرض شخصى، بل يعطى كل ذى حق حقه.
4- القوة :
فيمتلئ الإنسان من القوة الروحية التى تنميه فى علاقته مع الله.
ع8: يؤثر : يفضل.
تتمثل : تتصور وتستنتج المستقبل، فيصير كواقع معلوم.
تفقه : تفهم وتدرك.
الأحاجى : الألغاز.
وإن أحب أحد العلم كأمر معنوى عظيم، فالحكمة أيضاً هى مصدر كل أنواع العلوم. تستطيع أن تكتشف حكمة الله فى كل التاريخ السابق فى حياة الإنسان والبشرية جمعاء. وتستفيد منها فى الحياة الحاضرة، بل وأيضاً تضع خططاً للمستقبل تشمل طموحات كثيرة مبنية على الماضى والحاضر، فترى المستقبل قبل أن يكون.
وإن كانت مدارس الفلسفة هى أعظم دور للعلم فى العالم، بما تشمله من دراسات فلسفية وعلوم الأدب والبلاغة والمنطق، فالحكمة هى صانعة كل هذا.
بل تستطيع أيضاً الحكمة أن تكتشف مشاكل العلم المعقدة التى تبدو كأنها أحاجى، أى فوازير، وتحلها، بل تتوقع أيضاً وتتأكد من الظواهر الغريبة التى تبدو فى الطبيعة والحياة قبل أن تتم، مثل خسوف الشمس، أى عندما تظلم الشمس وسط النهار، نتيجة لاختلاف مسارات الكواكب، مثل الشمس والقمر والأرض.
ولأنها تُعلم الإنسان مشيئة الله، فيستطيع أن يفهم قصد الله من كل ما يمر به من أحداث فى الحاضر، بل يتوقع أيضاً ما يحدث فى المستقبل.
يا لعظمة الحكمة، من يقتنيها يقتنى كل شئ. حقاً إنك عظيم يا سليمان؛ لأنك طلبتها، فنلت كل شئ، وهذا ما فعله كل القديسين، فتمتعوا بعشرة الله، وتلذذوا بحياتهم.
(2) بركات الحكمة (ع9-16) :
9لِذلِكَ عَزَمْتُ أَنْ أَتَّخِذَهَا قَرِينَةً لِحَيَاتِي، عِلْمًا بِأَنَّهَا تَكُونُ لِي مُشِيرَةً بِالصَّالِحَاتِ، وَمُفَرِّجَةً لِهُمُومِي وَكَرْبِي. 10فَيَكُونُ لِي بِهَا مَجْدٌ عِنْدَ الْجُمُوعِ، وَكَرَامَةٌ لَدَى الشُّيُوخِ عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْفَتَاءِ، 11وَأُعَدُّ حَاذِقًا فِي الْقَضَاءِ، وَعَجِيبًا أَمَامَ الْمُقْتَدِرِينَ. 12إِذَا صَمَتُّ يَنْتَظِرُونَ، وَإِذَا نَطَقْتُ يُصْغُونَ، وَإِذَا أَفَضْتُ فِي الْكَلاَمِ يَضَعُونَ أيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. 13وَأَنَالُ بِهَا الْخُلُودَ، وَأُخَلِّفُ عِنْدَ الَّذِينَ بَعْدِي ذِكْرًا مُؤَبَّدًا. 14أُدَبِّرُ الشُّعُوبَ، وَتَخْضَعُ لِي الأُمَمُ. 15يَسْمَعُ الْمُلُوكُ الْمَرْهُوبُونَ فَيَخَافُونَنِي، وَيظْهَرُ فِي الْجَمْعِ صَلاَحِي، وَفِي الْحَرْبِ بَأْسِي. 16وَإِذَا دَخَلْتُ بَيْتِي سَكَنْتُ إِلَيْهَا، لأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُعَاشَرَتِهَا مَرَارَةٌ، وَلاَ فِي الْحَيَاةِ مَعَهَا غُمَّةٌ، بَلْ سَرُورٌ وَفَرَحٌ.
ع9: قرينة : ملتصقة ومرافقة له وتطلق على الزوجة.
كربى : ضيقى ومصائبى.
سليمان كمثال للإنسان الروحى يتحدث هنا عن الحكمة، فإذ رأى عظمتها، قرر أن يحيا معها وبها كل أيامه، لا يستغنى عنها أبداً، وتكون قرينة له فى كل خطواته، عندما يجلس هادئاً يفكر، أو عندما يتكلم مع الآخرين، وأيضاً فى تدبير كل أعماله. ويرجع السبب فى ذلك لبركاتها الكثيرة التى يبدأها بما يلى :
1- “مشيرة بالصالحات” :
فهى مرشدة له فى الخير، وتوجهه لكل عمل صالح.
2- “مفرجة لهمومى وكربى” :
وإذ يحيا فى الخير والبر يتمتع بالسلام والفرح، فيتخلص من كل هموم العالم ومشاكله، بل يتمتع بالفرح حتى وسط الضيقات.
ع10: الفتاء : الفتوى، أى الحكم على الأمور والرد على التساؤلات وحل المشاكل.
3- “مجد … وكرامة” :
ثم يظهر الحكيم بركة ثالثة للحكمة، وهى الأقوال الحكيمة التى ترشد الآخرين فى حل مشاكلهم، مثل الفتاوى والنصائح التى يطلبها الجميع، فيصير سليمان ذا مجد عظيم بهذه الأقوال، بل حتى أيضاً وسط الشيوخ المتميزين بفهمهم العالى، يجد كرامة عظيمة؛ لأن حكمته من الله، وبالتالى نصائحه وإرشاداته تتميز على كل نصائح البشر.
ع11: حاذقاً : ماهراً ومتقناً.
4- “حاذقاً … وعجيباً”
ثم يوجه نظرنا إلى بركة أخرى للحكمة، وهى الحكم على الأمور والفصل فى المنازعات التى تحدث بين البشر، وهذا ما يحتاجه قضاة الأرض. فالحكمة تجعله متميزاً كقاضى وسط القضاة، بل عجيباً فى حكمته وقضائه بين المقتدرين من القضاة وأعظم حكام العالم، فيستطيع أن يقود ويدبر المشاكل الكبيرة لشعبه، وكذا أيضاً الحكم فى المشاكل الفردية بين الأفراد والجماعات الصغيرة.
ع12: أفضت : أطلت وأكثرت.
5- “إذ نطقت يصغون”
وتعطى الحكمة كلاماً مباركاً يشتاق الكل لسماعه، ويصمت الكل انتظاراً لكلمات الحكمة الخارجة من فم الحكيم، إذ أن السامعين يقولون : أنهم سيسمعون جواهر ولآلئ؛ هى كلام الله الذى تعودوا سماعه من هذا الحكيم، ويتعلمون أيضاً الكثير من صمته. وعندما يتكلم الحكيم يصمت الكل؛ حتى لو أطال الكلام لا يمل أحد من سماعه، لأنه يتكلم بكلام الحكمة، أى كلام الله، وهو لذيذ ومشبع لكل النفوس “لأن أحكامك طيبة، هأنذا قد اشتهيت وصاياك” (مز119: 39، 40).
ع13:
6- “أنال بها الخلود” :
الحكمة تعمل فى الإنسان الحكيم وهو على الأرض، ثم يمتد عملها فيه إلى الأبد، إذ أن الحكمة هى الله الأبدى، فتعطى للإنسان خلوداً فى الأبدية، وتثبته، وتنميه فى معرفة الله وعشرته بلا حدود، وتظل أعماله مؤثرة فى حياة من بعده، كذكر حسن يقتدى به الآخرون. وهذا ما حدث فى حياة كل أولاد الله القديسين، والكتاب المقدس يدعونا : “أنظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثلوا بإيمانهم” (عب13: 7)، وخلاصة القول، أن الحكيم يظل خالداً على الأرض بعد موته فى تأثير أعماله على حياة الآخرين، ثم يستمر خالداً متمتعاً بعشرته مع الله فى الأبدية.
ع14: وإن كان كل إنسان محتاجاً للحكمة، فبالأولى ملوك ورؤساء العالم؛ لأن عليهم مسئولية قيادة شعوبهم، وتدبير أمورهم، فبالحكمة يسهل عليهم رعاية شعوبهم، فيخضعون لهم.
والشعوب والأمم ترمز إلى حواس الإنسان وأعضائه، وإمكانياته، فإن كان الإنسان حكيماً تخضع له كل هذه، فبالحكمة يقود نفسه فى طريق الله.
ع15: بأسى : قوتى.
وعلى مستوى حكام الشعوب الذين يتمتعون باحترام، ورهبة عظيمة من الكل، فالكل أيضاً يتطلع إلى الإنسان الحكيم، ويخافونه فى خشوع وتقدير؛ لأجل حكمته وصلاحه وأعماله العظيمة، الناتجة من الحكمة. وإذا تجاسر أحد هؤلاء الملوك بالدخول فى الحرب مع القائد الحكيم الذى يحيا مع الله، فستظهر قوة وبأس هذا الحكيم، وانتصاره على كل من يعاديه.
وسليمان نفسه، الذى تمتع بالحكمة أكثر من كل من فى العالم، خضعت له الشعوب المحيطة به من نهر الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط، وإلى حدود مصر (1مل4: 21).
ولم تستطع هذه الشعوب أن تحاربه، بل خضعوا له، ودفعوا الجزية (1مل10: 23-29).
هكذا يا أخى عندما تحيا مع الله، تخاف منك كل الشياطين، وإذا تجاسر أحد رؤساء الشياطين أن يحاربك فثق أن قوة الله العاملة فيك ستنتصر عليه.
ع16: وأخيراً يعلن الحكيم بركة عظيمة للحكمة يختبرها الإنسان فى حياته الداخلية فى بيته ومخدعه. فالحكيم إذا سكنت فيه الحكمة، واستقرت فى قلبه، تنزع عه كل ضيق ومرارة وغم، وتمتعه بالسلام والفرح، أكثر بكثير من كل سرور وبهجة ينالها الإنسان من مباهج العالم المادية.
وإذا دخل الإنسان بيته ومخدعه يلتقى بالحكمة، أى الأقنوم الثانى المسيح إلهنا، فيقف ويصلى ويتمتع بالكلام مع الله، بل يجلس ويتأمل أيضاً فى الكتاب المقدس كلمة الله، فيشبع ويفرح.
والأسرة كلها تستطيع فى بيتها أن تتمتع بالصلاة الجماعية والتأمل، فتذهب عنهم كل ضيقة، ويتمتعوا بفرح بعضهم مع بعض، وفى وسطهم المسيح.
(3) طلب الحكمة (ع17-21) :
17فَلَمَّا تَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي بِهذِهْ، وَتَأَمَّلْتُ فِي قَلْبِي، أَنَّ فِي قُرْبَى الْحِكْمَةِ خُلُودًا، 18وَفِي مُصَافَاتِهَا لَذَّةً صَالِحَةً، وَفِي أَتْعَابِ يَدَيْهَا غِنًى لاَ يَنْقُصُ، وَفِي التَّرَشُّحِ لِمُؤَانَسَتِهَا فِطْنَةً، وَفِي الاِشْتِرَاكِ فِي حَدِيثِهَا فَخْرًا، طَفِقْتُ أَطُوفُ طَالِبًا أَنْ أَتَّخِذَهَا لِنَفْسِي. 19وَقَدْ كُنْتُ صَبِيًّا حَسَنَ الطِّبَاعِ، وَرُزِقْتُ نَفْسًا صَالِحَةً، 20ثُمَّ بِازْدِيَادِي صَلاَحًا حَصَلْتُ عَلَى جَسَدٍ غَيْرِ مُدَنَّسٍ. 21وَلَمَّا عَلِمْتُ بَأَنِيَّ لاَ أَكُونُ عَفِيفًا مَا لَمْ يَهَبْنِيَ اللهُ الْعِفَّةَ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْفِطْنَةِ أَنْ أَعْلَمَ مِمَّنْ هذِهِ الْمَوْهِبَةُ، تَوَجَّهْتُ إِلَى الرَّبِّ وَسَأَلْتُهُ مِنْ كُلِّ قَلْبِي قَائِلًا:
ع17، 18: مصافاتها : إخلاص الود، وصدق الإخاء.
طفقت أطوف : داومت السعى.
تأمل سليمان فى الحكمة، فوجد لها بركات كثيرة، ذكر أهمها هنا، وهى :
1- “خلوداً” :
فرأى أنها تُنعم عليه بالخلود، وقد بدأ بالخلود، أى الحياة الأبدية؛ لأنها أهم بركة للحكمة التى تجعل الإنسان يحيا إلى الأبد، متمتعاً بعشرة الله. فسليمان لم ينل بركة عظيمة أن يكون فقط ابن الملك داود، ولكن الأعظم أن الله وهبه الحكمة، التى تعطيه عشرة الله إلى الأبد، فهو ابن الملك السماوى.
2- “لـذة” :
وتمتعه بلذة تعلو عن كل لذة مادية وشهوة عالمية، إذ هى لذة الخير والصلاح المشبعة للنفس، والمريحة للجسد.
3- “غنـى” :
ومن الحكمة ينال أيضاً الغنى المادى، فى شكل أموال ومقتنيات، بالإضافة إلى أن الحكمة تهب كل البركات بسخاء وغنى ووفرة لا تنتهى، لأن الحكمة هى الله العاطى بسخاء لأولاده، وأتعاب الحكمة يقصد بها الجهاد الروحى للوصول إلى الحكمة، والحياة بها.
4- “فطنة” :
وعندما يختار الإنسان، ويرشح نفسه لصداقة الحكمة، تصير أنيساً له، تعطيه ذكاءً وفهماً أكثر من كل من حوله.
5- “مؤانستها” :
وإذا شعر الإنسان بالوحدة لعدم إحساس الآخرين به، فإن الحكمة تشبعه كأنيس لطيف.
6- “فخـراً” :
وأيضاً عندما يتكلم الإنسان بكلام الحكمة، يجد كرامة فى أعين الكل، ويفتخر بأقوال الله الحكيمة التى ينطق بها.
من أجل كل هذه البركات يسرع الإنسان الروحى لطلب الحكمة، بل يلح فى اهتمام ليحصل عليها، باذلاً كل جهد؛ لأنه لا يمكن أن يحيا بدونها.
ع19: يعلن هنا سليمان العلاقة الوثيقة بين الحكمة والصلاح، فقد أنعم عليه الله بنفس صالحة، أى روح محبة للخير، تعلمها من أبيه الصالح داود الملك. وهذه الروح أنشأت فيه فضائل كثيرة، فتحلى بطباع أولاد الله الروحيين. وإذ أحب الله، استطاع أن يحب من حوله، وينمو فى الأعمال الصالحة، فقادت روحه جسده فى أعمال الرحمة، وكل عبادة صالحة، حتى صار جسده أيضاً طاهراً من كثرة أعمال الخير.
وهكذا خلق الله كل إنسان فيه نفساً صالحة؛ لأنه خلق الإنسان على صورته ومثاله. وهناك إنسان عاقل، مثل سليمان، يستخدم هذه النفس الصالحة بحرية وحكمة لعمل الخير، فيزداد صلاحاً. أما الأشرار فيرفضون الصلاح، ويختارون الشر.
ع20، 21: وعندما أحب سليمان الصلاح والخير، بدأ يسمو عن الشهوات المادية، ويتعفف عن لذات العالم، واشتاق أن ينال العفة الكاملة، ليتعلق أكثر بمحبة الله؛ لذا وجه قلبه لله بالصلاة، طالباً الحكمة وكل بركاتها.لكيما تقتنى الحكمة تمسك بعبادتك الروحية، وكل أعمال الرحمة، فإذ تسلك فى الخير تصير إناءً صالحاً لحلول الحكمة. وعندما تقتنى الحكمة، تزداد فى الخير والصلاح، فينعم عليك الله بحكمة أوفر، وهكذا فإن الحكمة والصلاح ينمى كل منهما الآخر.