بدء عبادة الأوثان ونتائجها
(1) صناعة السفن والأصنام ( ع1-10)
1وَآخَرُ، قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ، وَيَسِيرَ عَلَى الأَمْوَاجِ الْمُعَرْبِدَةِ، يَسْتَغِيثُ بِخَشَبٍ هُوَ أَقْصَفُ مِنَ الْمَرْكَبِ الَّذِي يَحْمِلُهُ. 2لأَنَّ الْمَرْكَبَ اخْتَرَعَهُ حُبُّ الْكَسْبِ، وَصَنَعْتَهُ الْحِكْمَةُ الْمُهَنْدِسَةُ، 3لكِنَّ عِنَايَتَكَ أَيُّهَا الأَبُ هِيَ الَّتِي تُدَبِّرُهُ، لأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ فِي الْبَحْرِ طَرِيقًا، وَفِي الأَمْوَاجِ مَسْلَكًا آمِنَّا، 4وَبَيَّنْتَ أَنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُخَلِّصَ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ، وَلَوْ رَكِبَ الْبَحْرَ مَنْ يَجْهَلُ صِنَاعَتَهُ. 5وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ لاَ تَكُونَ أَعْمَالُ حِكْمَتِكَ بَاطِلَةً؛ فَلِذلِكَ يُودِعُ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ خَشَبًا صَغِيرًا؛ وَيَقْطَعُونَ اللُّجَّةَ فِي سَفِينَةٍ وَيَخْلُصُونَ. 6وَفِي الْبَدْءِ أَيْضًا حِينَ هَلَكَ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ، الْتَجَأَ رَجَاءُ الْعَالَمِ إِلَى سَفِينَةٍ، وَأَرْشَدَتْهُ يَدُكَ فَأَبْقَى لِلدَّهْرِ ذُرِّيَّةً تَتَوَالَدُ. 7فَالْخَشَبُ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْبِرُّ هُوَ مُبَارَكٌ، 7أَمَّا الْخَشَبُ الْمَصْنُوعُ صَنَمًا فَمَلْعُونٌ هُوَ وَصَانِعُهُ. أَمَّا هذَا فَلأَنَّهُ عَمِلَهُ، وَأَمَّا ذَاكَ فَلأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ فَاسِدًا سُمِّيَ إِلهًا. 9فَإِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْمُنَافِقَ وَنِفَاقَهُ عَلَى السَّوَاءِ، 10فَيُصِيبُ الْعِقَابُ الْمَصْنُوعَ وَالصَّانِعَ.
ع1: المعربدة : المتلاطمة الخطرة.
أقصف : أضعف ويسهل كسره وتحطيمه.
ثم يستهزئ بالمسافرين فى البحر الذين يركبون المراكب، ولخوفهم من خطورة البحر وأمواجه، يتضرعون إلى آلهتهم، لتحرسهم فى السفر. وهذه الآلهة هى قطعة صغيرة من الخشب، أضعف بكثير من المركب الذى يركبونه. وقد أشار بولس الرسول إلى التفاؤل بالآلهة الوثنية عندما قال : أن المركب الإسكندرانية عليها علامة الجوزاء، وهى علامة الأخوين اللذين هما إبنا الآلهة زيوس (أع28: 12).
كيف يحمى الضعيف من هو أقوى منه ؟! إن هذا الإله الخشبى، الذى بلا نفع، أضعف من المركب التى يركبها المسافر.
كيف تسأل العالم المادى أن يسعدك وأنت أقوى منه ؟! إذ أنت وحدك مخلوق على صورة الله ومثاله، وكل العالم قد خلقه الله لك لتراه فيه.
ع2: الحكمة المهندسة : عقل الإنسان.
لقد دفعت حاجة الإنسان إلى صيد الأسماك للأكل، أو السفر إلى البلاد البعيدة للتجارة، أن يصنع وسيلة للسفر فى البحر، فصمم وصنع هذه المراكب والسفن.
ع3: ولكن الله الأب الحنون لم يعطِ الإنسان فقط العقل الذى صنع به المركب ، بل أرشده للسفر بالبحر، وهيأ له طريقاً على صفحة المياه بنظرية الطفو، بل جعل الأمواج تدفع السفينة فى طريقها، والرياح تحرك شراع المركب. فهو المدبر للسفر بالبحر، وبالتالى هو الذى يستحق أن نرفع صلواتنا إليه، ليحرسنا فى البحار والأنهار والبحيرات. وقد شق أيضاً طريقاً فى البحر الأحمر، فعبر بنو إسرائيل على اليابسة فى وسط البحر.
ع4: وتظهر نعمة الله فى حماية الإنسان، إذا كان لا يعرف فنون البحر، فليحتمِ بالمركب ويقودها غيره من الملاحين. وكما حفظ نوح الذى يجهل صناعة البحر وهو داخل الفلك. وهيأ ليونان سفينة عجيبة داخل البحر، وهى الحوت، فحفظه من الموت، ثم دفعه للشاطئ.
ع5: اللجة : البحر.
وعلى رجاء الله والإيمان به، يركب الكثيرون المراكب، وهم يثقون فى خلاصك ونجاتك لهم من كل شر، إذ خلقت البحر؛ ليحملهم إلى الأماكن التى يقصدونها.
ما أعظم نعمتك المدبرة للعالم كله ليكون فى خدمة الإنسان، مهما كان ضعفه يكفيه الإيمان بك، فيتمتع بالراحة والسعادة كل حين.
وكما يركب البعض قطعاً صغيرة من الخشب فى البحر، فيعبرون وسطه فى سلام، كما حدث مع بولس الرسول وكل الذين معه فى السفينة، ووصلوا إلى جزيرة مليطة (أع28: 1)، بينما يمكن أن تغرق أعظم السفن، مثل سفينة تيتانيك، التى قيل عنها أنها لا تغرق، فاصطدمت بجبل جليدى وغرقت فى القرن العشرين.
وقطعة الخشب الصغيرة التى تخلص من يركبها، ترمز إلى الصليب الذى يخلص المؤمنين به.
تمسك يا أخى بالله؛ لتعبر به هذا العالم، ولا تنزعج من مشاكله وضيقاته. ومهما كان ضعفك، أو اظلمت الدنيا أمام عينيك، فإن الإيمان يحفظك، ويثبتك فى الله، ويفرح قلبك.
ع6: ذرية : نسل.
حين ازدادت خطايا البشر المتكبرين الأقوياء فى شرهم، ورفضوا الله، حكم عليهم بالهلاك بالطوفان جميعاً.
ويحدثنا هنا عن أهمية مادة الخشب فى تاريخ البشرية، فقد كانت نجاة المؤمنين بالله عن طريق سفينة مصنوعة من الخشب هى الفلك الذى صنعه نوح بإرشاد الله، فأطاعه باتضاع وإيمان، ودخل السفينة مع كل الحيوانات، فأبقى به الله ذرية فى العالم، وتجددت به البشرية، ِأما المتكبرون الجبابرة، فهلكوا وغرقوا (تك6: 4).
ع7: وهكذا استخدم الله الخشب فى إنقاذ البشرية من الفناء، وحفظ نوح البار وأسرته. فصارت هذه السفينة، أى الفلك مباركة جداً، بل بنيت الكنائس على شكلها؛ لأنها تشير إلى النجاة وسط بحر العالم الشرير لكل من يدخل فيها، فينال الأسرار المقدسة المعطية الحياة. وفوق كل شئ تم خلاص البشرية على الصليب الخشبى، فبه يحصل البر وهو مبارك؛ حتى صارت مقولة شائعة تظهر بركة الخشب، حينما يقولون : “إمسك الخشب”، والمقصود إمسك الصليب الخشبى.
إن كل ما خلقه الله حسن ومبارك إذا استخدمته يا أخى لمجد الله، وليوصلك إليه. اشكر الله على عطاياه. وكل ما يفصلك عنه أرفضه، مهما كان مبهراً فى عينيك من شهوات هذا العالم. إن الله أعطاك مركزاً، ومواهباً، وإمكانيات مختلفة، فهل تستخدمها لمجده، ولبنيان الكنيسة والنفوس ؟ إن الله يريد أن يتمجد، وتظهر محبته فى كل ما أعطاك.
ع8-10: من ناحية أخرى، يحدثنا الكتاب المقدس عن الاستخدام الخاطئ للخشب فى صناعة تماثيل الآلهة الوثنية والتعبد لها. وتظهر كراهية الله ولعنته، ليس فقط لمن يصنع هذه التماثيل، بل للمادة المصنوع منها التماثيل، أى الخشب، كما لعن الله قديماً الأرض بسبب خطية آدم وحواء.
ونلاحظ أن المادة خلقها الله مباركة، وتزداد بركة عندما يستخدمها الإنسان للخير، كما فى صناعة السفن من الخشب، وصناعة الفلك أيضاً منه. وفى نفس الوقت إن استخدام الإنسان المادة فى الشر ومقاومة الله، كما فى صنع الآلهة من الخشب، تصبح المادة، وهى الخشب، ملعونة من الله فى هذه الحالة، وأيضاً صانع تماثيل الأصنام منها، بل وكل من يتعبد لها. فالله يبغض ويكره المنافق الذى صنع الأصنام من الخشب، وكذلك نفاقه؛ أى الأصنام نفسها. ويأتى عقاب الله على الصانع والمصنوع، أى الهلاك. فالإله الوثنى “بال” حطمه دانيال، وقتل الملك كهنة هذا الإله بال، فهلك الكل التمثال ومن يخدمه من الكهنة (دا14: 1-21).
إن عملت الخطية التى تغضب الله فلا تستهن بطول أناته وإمهاله لك؛ لأنه إن تماديت فيها، فسيصيبك العقاب الإلهى، وكذا الفشل فى أعمالك السيئة لعلك تتوب، وإن لم تتب، فالعذاب الأبدى هو نهاية الأشرار.
فعندما تسير فى طريق الخطية، يسمح لك الله أحياناً ببعض الضيقات، مثل آلام المرض، وتحدث معطلات؛ حتى لا تكمل خطيتك، لعلك تنتبه لصوت الله وتتوب. ولكن إن تماديت وكررت محاولات الخطية فستسقط فيها، وسيقل انتباهك وسماعك لصوت الله، وللأسف لن تنتظرك إلا نهاية الخطاة، أى النار الأبدية، فانتبه يا أخى لإلهك الحبيب الذى يناديك حتى وأنت فى طريق الخطية، أو فى أعماقها.
(2) بداية عبادة الأصنام وأسبابها (ع11-21)
11لِذلِكَ سَتُفْتَقَدُ أَصْنَامُ الأُمَمِ أَيْضًا، لأَنَّهَا صَارَتْ فِي خَلْقِ اللهِ رِجْسًا، وَمَعْثَرَةً لِنُفُوسِ النَّاسِ، وَفَخًّا لأَقْدَامِ الْجُهَّالِ، 12لأَنَّ اخْتِرَاعَ الأَصْنَامِ هُوَ أَصْلُ الْفِسْقِ، وَوِجْدَانَهَا فَسَادُ الْحَيَاةِ. 13وَهِيَ لَمْ تَكُنْ فِي الْبَدْءِ، وَلَيْسَتْ تَدُومُ إِلَى الأَبَدِ، 14لأَنَّهَا إِنَّمَا دَخَلَتِ الْعَالَمَ بِحُبِّ النَّاس لِلْمَجْدِ الْفَارِغِ، وَلِذلِكَ قَدْ عُزِمَ عَلَى إِلْغَائِهَا عَنْ قَرِيبٍ. 15وَذلِكَ أَنَّ وَالِدًا قَدْ فُجِعَ بِثُكْلٍ مُعَجَّلٍ؛ فَصَنَعَ تِمْثَالًا لاِبْنِهِ الَّذِي خُطِفَ سَرِيعًا، وَجَعَلَ يَعْبُدُ ذلِكَ الإِنْسَانَ الْمَيْتَ بِمَنْزِلَةِ إِلهٍ، وَرَسَمَ لِلَّذِينَ تَحْتَ يَدِهِ شَعَائِرَ وَذَبَائِحَ. 16ثُمَّ عَلَى مَمَرِّ الزَّمَانِ تَأَصَّلَتْ تِلْكَ الْعَادَةُ الْكُفْرِيَّةُ؛ فَحُفِظَتْ كَشَرِيعَةٍ، وَبِأَوَامِرِ الْمُلُوكِ عُبِدَتِ الْمَنْحُوتَاتُ. 17وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَطِعْ النَّاسُ إِكْرَامَهُمْ بِمَحْضَرِهِمْ لِبُعْدِ مُقَامِهِمْ، صَوَّرُوا هَيْئَاتِهِمِ الْغَائِبَةَ، وَجَعَلُوا صُورَةَ الْمَلِكِ الْمُكْرَمِ نُصْبَ الْعُيُونِ، حِرْصًا عَلَى تَمَلُّقِهِ فِي الْغَيْبَةِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ.
17ثُمَّ إِنَّ حُبَّ الصُّنَّاعِ لِلْمُبَاهَاةِ، كَانَ دَاعِيَةً لِلْجَاهِلِينَ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي هذِهِ الْعِبَادَةِ، 19فَإِنَّهُمْ رَغْبَةً فِي إِرْضَاءِ الآمِرِ، قَدْ أَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ فِي الصِّنَاعَةِ، لإِخْرَاجِ الصُّورَةِ عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ، 20فَاسْتُمِيلَ الْجُمْهُورُ بِبَهْجَةِ ذلِكَ الْمَصْنُوعِ، حَتَّى إِنَّ الَّذِي كَانُوا قَبْلَ قَلِيلٍ يُكْرِمُونَهُ كَإِنْسَانٍ عَدُّوهُ إِلهًا. 21وَبِهذَا كَانَ اقْتِنَاصُ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ رَزِيئَةَ بَعْضِ النَّاسِ أَوِ اقْتِسَارَ الْمُلُوكِ اسْتَعْبَدَهُمْ، حَتَّى جَعَلُوا عَلَى الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ الاِسْمَ الَّذِي لاَ يُشْرَكُ فِيهِ أَحَدٌ.
ع11: خلق الله : مخلوقات الله ومنها الخشب.
رجساً : حقارة ونجاسة.
ثم يعلن الله غضبه على الأصنام، فإن كان يطيل أناته ليعطى الوثنيين فرصة للتوبة، ولكنه سيفتقد ويعاقب ويبطل هذه الأصنام؛ لأنها حقيرة، ويتعدى شرها ليس فقط تمثيل الله بالماديات، بل إعثار الكثيرين واستمالتهم لهذه العبادة الخاطئة، واصطياد الجهال فيسقطوا فيها. وهذا ما فعله رجال الله، مثل يوشيا الملك (2مل23: 24).
ع12: الفسق : العصيان ورفض الحق، ومعناها أيضاً الزنى.
وجدانها : وجودها.
وأصل كل الشرور هو الانفصال عن الله، وعبادة آخر سواه، أى هذه التماثيل المصنوعة بالأيدى، وبهذا تفسد حياة الإنسان، وتظلم، ويُحكم عليه بالموت. فقد ارتبطت عبادة الأوثان بالزنى، فانتشر الزنى بين الناس لإرضاء الآلهة، فأصل الزنى هو عبادة الأصنام.
ع13: ولم تكن هذه العبادة الشريرة فى جنة عدن الطاهرة، حيث خُلق الإنسان الأول، ولكنها ظهرت بعد السقوط والابتعاد عن الله. فهى أمر شرير، غريب عن الإنسان، ولن يستمر معه إذا عاد بالتوبة إلى الله، وتخلص من أصنامه النجسة. وهى لن تدوم إلى الأبد، فستبيد بنهاية العالم.
ع14: والذى أوجد وحافظ على الأصنام هو محبة الناس للكبرياء، ومظاهر العالم المادية الخادعة، فتكبروا على غيرهم بآلهتهم الشريرة، وتعاظموا على بعض باقتناء التماثيل الكبيرة والغالية، فأحبوا مجد الناس، ورفضوا مجد الله.
وحتى الآن مازال الناس يعبدون أوثاناً فى شكل تماثيل، أو تعلق بالمال، أو بالقوة الجسدية، أو العلاقات بالعظماء، وكل هذا مجد فارغ، فعبادة المسيح القدوس المتواضع يفهمها المؤمنون به، المتواضعون. أما عبادة الأوثان، التى هى عبادة الشيطان المتكبر، فيتعلق بها المتكبرون. ويعلن الله أن عبادة الأوثان قد عزم الله أن ينهيها عن قريب؛ لأن أيام هذا العالم ستنتهى، وتبدأ الحياة الأبدية، التى فيها عبادة الله فقط، والتمتع بعشرته.
ع15: فُجع : حزن جداً.
ثكل : موت الابن أو الابنة.
معجل : عاجل وسريع، ويقصد به سن صغيرة.
منزلة : مكانة.
رسم : رتب.
شعائر : طقوس.
يكشف هنا الكتاب المقدس عن حادثة تاريخية فى تاريخ الجنس البشرى، التى أوجدت عبادة الأصنام فى العالم. فقد حدث أن أباً فقد ابنه فى سن صغير فحزن جداً. ونظراً لتعلق قلب الأب بابنه، لم يحتمل فراقه، فصنع تمثالاً له، لينظره كل حين. بل وأكثر من هذا، عين بعضاً ممن يعملون عنده للعناية بهذا التمثال، وتقديم بعض كلمات المديح والتكريم له، فى صورة شعائر وممارسات يومية، وكذلك تقديم ذبائح لهذا التمثال، إكراماً لابنه؛ ليشعر بأنه موجود معه ولم يمت.
ع16: المنحوتات : التماثيل.
وعلى مر الزمان قلد الكثيرون هذا الأب، فصنع البشر تماثيل لإكرام أحبائهم، وتقديم كلمات المديح، وذبائح حيوانية؛ لإرضائهم، بل انطبعت هذه المفاهيم فى ذهن عامة الناس. وأمر أيضاً الملوك بإكرام العظماء، ونحت تماثيل لهم، وتعظيمها بشكل آلهة.
ع17: نصب : أمام.
وأكثر من هذا تمادى البعض فى عمل التماثيل، ليس فقط للمنتقلين، بل للأحياء أيضاً ممن لهم مركزاً كبيراً، مثل الملوك. فعملوا تماثيل لهم، ووضعوها فى بيوتهم، أو فى أماكن عامة لإكرامها، وعبادتها، تملقاً وتقرباً للملوك.
وهكذا انتشرت، وتطورت صناعة الأصنام، وصارت تُعبد كآلهة بدلاً من الله؛ إذ تعلقت عواطف البشر بمن حولهم، تاركين الإله الحقيقى.
إحذر يا أخى، ليس فقط من التعلق بالماديات، بل أيضاً من التعلق العاطفى بمن حولك، فتطيعهم، وتستجيب لهم أكثر من الله، وتنزلق معهم فى خطايا كثيرة إرضاءً لهم؛ سواء كانوا أقرباء، أو أصدقاء. أحبب الكل، ولكن اخضع لله وحده، ولكل وصاياه.
ع18: المباهاة : التفاخر.
يعلن هنا أحد أسباب انتشار عبادة الأصنام، وهو أن اهتمام صناع التماثيل بفن صناعتهم، والتفاخر بها جذب الكثيرين للإعجاب بهذه التماثيل، بل والمبالغة فى طلب الفن، وزيادة الإتقان من الصناع؛ لتكون تماثيلهم أفضل من غيرها. فتعلقت قلوب البشر بروعة هذه التماثيل فنياً، ثم خضعوا لها، فقدموا لها الإكرام والعبادة.
فحب الصناع للمباهاة بفنونهم وإتقانها وتزيينها، هو استخدام خاطئ للمواهب التى أنعم بها الله على البشر، فبدلاً من أن يجذبوا بها الناس إلى الله، أبعدوهم بعبادة آلهة غريبة.
ع19، 20: الآمر : من يأمر الصناع بإقامة التماثيل، ويدفع أجرها.
وسعهم: طاقتهم وجهدهم.
عدوه : حسبوه.
وهكذا تزايد الصناع فى اتقانهم لفنهم، مما أدى إلى تزايد إعجاب وتعلق الناس بالتماثيل. فدفع ذلك الصناع إلى إتقان أكبر، فتعلقت قلوب البشر أكثر بالتماثيل؛ حتى شعر الناس فى النهاية – من كثرة إكرام التماثيل – أنهم أمام آلهة، وليست تماثيل بشر.
ع21: اقتناص الخلق : اصطياد البشر.
رزيئة : مصيبة، أو خطيئة عظيمة.
اقتسار : إجبار، أو قهر، أو إكراه.
الإسم الذى لا يشرك فيه أحد : اسم الله.
وظهرت أخيراً خطة إبليس الخبيثة فى اصطياد العقول، والهجوم عليه كفريسة، مدعماً بأوامر وسلطان الملوك فى السجود لهذه التماثيل المصنوعة من الخشب والحجارة، أو أى مادة أخرى، وأهملوا بهذا عبادة الإله الواحد، إذ أشركوا معه آلهة أخرى هى هذه التماثيل، بل تعلقت قلوبهم بهذه الآلهة الجديدة، ورفضوا عبادة الإله الواحد.
لذلك تحرص الكنيسة الأرثوذكسية فى طقسها على استخدام الصور فقط للقديسين، وليس التماثيل؛ لأن التمثال تأثيره كبير على قلوب البشر، إذ يجسد الشخصية بقوة أكبر أمام الإنسان، فيجذب قلبه، وبتكرار تقديم الإكرام للتمثال، يبعده عن تعلقه بعبادة الله.
إن كان الله قد أعطاك يا أخى موهبة، فاستخدمها لمجده، وليس لتعظيم نفسك وأعمالك، أو إرضاءً للناس. فكيف تستخدم مواهب الله لتبعد قلبك عنه، أو تبعد الآخرين أيضاً، وتسرق مجد الله لنفسك ؟!
(3) شرور عبادة الأصنام وعقابها (ع22-31)
22ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِضَلاَلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ، لكِنَّهُمْ غَاصُوا فِي حَرْبِ الْجَهْلِ الشَّدِيدَةِ، وَهُمْ يُسَمُّونَ مِثْلَ هذِهِ الشُّرُورِ سَلاَمًا. 23فَإِنَّهُمْ يُمَارِسُونَ ذَبَائِحَ مِنْ بَنِيهِمْ، وَشَعَائِرَ خَفِيَّةً وَمَآدِبَ جُنُونٍ عَلَى أَسَالِيبَ أُخَرَ. 24لاَ يَرْعَوْنَ حُسْنَ السِّيرَةِ وَلاَ طَهَارَةَ الزَّوَاجِ فَيَقْتُلُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ بِالاِغْتِيَالِ وَيُمِضُّهُ بِالفَاحِشَةِ. 25شَرٌّ مُتَفَاقِمٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، الدَّمُ وَالْقَتْلُ وَالسَّرِقَةُ وَالْمَكْرُ وَالْفَسَادُ وَالْخِيَانَةُ وَالْفِتْنَةُ وَالْحِنْثُ وَقَلَقُ الأَبْرَارِ، 26وَكُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَتَدَنُّسُ النُّفُوسِ وَالْتِبَاسُ الْمَوَالِيدِ وَتَشُوُّشُ الزَّوَاجِ
وَالْفِسْقُ وَالْعَهَرُ، 27لأَنَّ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ الْمَكْرُوهَةَ هِيَ عِلَّةُ كُلِّ شَرٍّ وَابْتِدَاؤُهُ وَغَايَتُهُ.
28فَإِنَّهُمْ إِذَا فَرِحُوا جُنُّوا، أَوْ تَنَبَّأُوا كَذَبُوا، أَوْ عَامَلُوا ظَلَمُوا، أَوْ حَالَفُوا أَسْرَعُوا إِلَى الْحِنْثِ. 29وَلِتَوَكُّلِهِمْ عَلَى أَصْنَامٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا لاَ يَتَوَقَّعُونَ إِذَا أَقْسَمُوا بِالزُّورِ أَنْ يَنَالَهُمُ الْخُسْرَانُ. 30فَهُنَاكَ أَمْرَانِ يَسْتَحِقُّونَ بِهِمَا حُلُولَ الْعِقَابِ: سُوءُ اعْتِقَادِهِمْ فِي اللهِ إِذِ اتَّبَعُوا الأَصْنَامَ، وَقَسَمُهُمْ بِالظُّلْمِ وَالْمَكْرِ إِذِ اسْتَخَفُّوا بِالْقَدَاسَةِ، 31لأَنَّ مَعْصِيَةَ الظَّالِمِينَ إِنَّمَا يَتَعَقَّبُهَا الْقَضَاءُ عَلَى الْخَطَأَةِ لاَ قُدْرَةُ الْمُقْسَمِ بِهِمْ.
ع22: يظهر هنا مقاصد إبليس من إسقاط الناس فى عبادة الأصنام، فهو يبعدهم عن معرفة الله، ويصور لهم فى جهلهم أن عبادة الآلهة الغريبة تعطى راحة وسلاماً، ويسقطهم فى شهوات كثيرة، ويصور لهم لذة الخطية راحة وفرح. بل يتطاولون على المؤمنين، ويتهمونهم بالحزن والكآبة، مع أنهم وحدهم المتمتعون بالسلام الداخلى، أما الأشرار عبدة الأوثان، فلا يمكن أن يكون لهم سلام فى داخلهم (أش57: 21).
ع23: مآدب : ولائم.
أخر : أخرى.
وتمتد الشرور المصاحبة لعبادة الأوثان إلى أصعب الخطايا، فتصل إلى قتل الأبناء بتقديمهم ذبائح لإرضاء الآلهة، كما يعلن الكتاب المقدس فى تقديم الأبناء للإله الوثنى مولك (إر32: 35؛ 2مل23: 10). بل وأكثر من هذا، كانت هناك صلوات شريرة تقال فى الخفاء، بالإضافة إلى دنس ونجاسة تتم بعيداً عن العيون، وكذا إقامة ولائم، لا يقدم فيها الطعام فقط، بل يصاحبها شرب الخمر والرقص والزنا وكل الشرور التى تخرج الإنسان عن عقله، فيصير كالمجنون.
ع24: يمضه بالفاحشة : يؤلمه بخيانته فى الزنى مع امرأته، أو إحدى قريباته.
وتسقط كل القيم والمبادئ عندهم، ليس فقط الخاصة بعبادة الله، بل التى تصون المجتمع. وفى انحرافهم الشرير، يستبيحون كل شر لشهوتهم، فيغتصب امرأة، أو ابنة صاحبه، ويخونه مسبباً له آلاماً نفسية قاسية، وإن قاومه يقتله.
ع25: متفاقم : متزايد.
الحنث : عدم الوفاء بالقسم.
وهكذا بازدياد عبادة الأصنام، تزداد الخطايا بأنواعها المختلفة، فيسقطون فى كل شر، سواء القتل أصعب الخطايا، أو اغتصاب وسرقة كل شئ، مستخدمين فى ذلك الكذب والخبث والمكر، مستبيحين كل فساد وخيانة لمن حولهم، مثيرين الانقسامات الكثيرة بين البشر، ويحلفون كذباً، ويحاولون إقلاق أولاد الله الساكنين فى البر.
ع26: كفران النعمة : التذمر.
التباس : اختلاط.
العهر : الزنى والفجور.
ومع هذا التيار الفاسد يسقطون فى التذمر، وعدم شكر الله والناس على عطاياهم، ويدنسون أجسادهم بالشهوات الشريرة، ويولد أبناء كثيرون، يلقون فى الشوارع، لا يعرفون أباءهم، أو أمهاتهم، إذ نتجوا عن شهوات دنسة، وفى جو الخيانة تنهار الأسر، ويفسد الزواج، لانتشار الزنى والانحرافات الجنسية.
ع27: علة : سبب.
وهكذا ظهرت خطة الشيطان، الذى يريد إفساد العالم، فهو يُبعد أهل العالم عن الله؛ لينفرد بهم، ويسقطهم بسهولة فى جميع الخطايا، ويشعرهم أن هذه الخطايا هى عبادة مقدسة للآلهة الوثنية، لترضى عليهم.
ونهاية هؤلاء الأشرار بالطبع ستكون الهلاك الأبدى، فالشيطان، بعبادة الأصنام، يبدأ كل شر فى العالم، وينتهى بإهلاك تابعيه معه.
كن يقظاً لحيل إبليس التى تحاول أن تشغلك عن الله، فتصبح فريسة سهلة تسقط فى خطايا كثيرة. تمسك بالكنيسة والأسرار المقدسة ووصايا الله، وإن سقطت أسرع للتوبة، فتبطل حيل إبليس من نحوك.
ع28، 29: ويظهر فى هذا الجزء كيف يخدع الإنسان نفسه. فإن الذين يعبدون الأصنام يعلنون أنهم يعيشون فى فرح. ولكن ما هو نوع هذا الفرح ؟ .. إنه جنون، أى خروج عن كل تصرف عاقل متزن. ويدعون أن لهم موهبة النبوة، فيقولون أكاذيب ليست لها علاقة بما سيحدث، ويخدعون أنفسهم ومن حولهم.
ونظراً لحاجة الإنسان لمعرفة المستقبل؛ لبعده عن الله، يتعلق بكلمات كهنة الأوثان الكاذبة، التى يعلنون أنها نبوات، وعندما لا تحدث يصدرون تأويلات وتفاسير، وحجج مخادعة.
وفى أعمالهم الشريرة يستبيحون الظلم، ويعتقدون أنه قوة، ويقسمون بحلف كثير، ثم لا يتممونه، غير خائفين من حلفهم بالآلهة الوثنية، إذ يعلم كهنة الأوثان وخدامها أن الأصنام مجرد تماثيل لا روح فيها، ولا تستطيع إيذاءهم، ولكنهم ارتبطوا بها وبخدمتها، وتعلق كيانهم بوجودها، وغرقوا فى شهواتها، فلا يستطيعون تركها. وهكذا يحيون فى نفاق، لا يؤمنون بها، ولكن يتبعونها، وينادون بقوتها، ويخدعون أنفسهم.
غريب يا أخى أن تخدع نفسك بنفسك، ولا تواجه نفسك بحقيقة خطاياك، لتتوب عنها، وتبرر بعدك عن الله بحجج فارغة. إن الشر واضح، ولكن لتعودك عليه لا تستطيع أن تعلن أمام نفسك أنك شرير؛ لتتوب.
إن رجوعك للحق هو منتهى القوة حتى لو كان لك عشرات السنين فى نفس الخطأ، أو المبدأ المنحرف. ليتك ترجع لنفسك وتكشفها أمام الله، وتخرج من نفاقك؛ لأن أحضانه مازالت مفتوحة، ورحمته تدعوك لتخليصك من كل خطاياك.
إن فرحك يا أخى هو بالمسيح. الفرح البسيط الذى من القلب، ناتج من سكنى المسيح فيك، والذى يظهر على وجهك، وفى أعمالك. الفرح النقى من كل خطية، والذى يسعد ويفرح كل من حوله، يحل فيك مهما كنت ضعيفاً، أو معوزاً من أمجاد العالم، ولكن ممتلئاً بنعمة المسيح.
ع30: وأمام إصرار عبده الأصنام على شرهم، لا ينتظرهم إلا العقاب الإلهى؛ لأن الله وإن كان طويل الأناة ورحيم، ولكنه أيضاً عادل، وعقابهم لشرين عظيمين يعملانهما وهما :
- الشر الأول هو إهمالهم لله واستبداله بالآلهة الوثنية، أى هذه التماثيل، وخضوعهم بذلك للشيطان. فهم اختاروا الشيطان دون الله، ورفضوا طاعة وصاياه وتعاليمه.
- والشر الثانى هو قسمهم الكاذب بالأوثان، وهم يعلمون بعدم قيمتها، فهو قسم باطل واستهانة بالقداسة، إذ يحلفون ويتمادون فى حياتهم الشريرة، فالقسم بالأوثان، رغم أنها باطلة، لكنه شر يستحق العقاب.
ع31: المقسم بهم : الأوثان التى يقسمون بها.
وعقاب عبدة الأوثان لا يكون من الآلهة الوثنية بسبب طاعتهم، أو مخالفتهم لها، فهم إذ يعرفون ضعف هذه الآلهة، استخفوا بها، وتمادوا فى شرورهم، وحلفوا بها ظلماً. ولكن العقاب سيأتيهم من الإله الحقيقى، رب السماء والأرض، الذى له السلطان الحقيقى الكامل؛ حتى وإن أهملوه طوال حياتهم فى ضلال، فأرواحهم تقف أمامه بعد موتهم، وفى يوم الدينونة.
لا تنزعج يا أخى من قوى العالم، بل خف الله الذى له السلطان وحده عليك. وإذ تعبده بأمانة، وتتوب عن خطاياك، لا يستطيع أحد أن يؤذيك؛ لأنه وحده الديان العادل.