عظمة الحكمة
(1) ميلاد واحد للجميع (ع1-6):
1إِنَّمَا أَنَا إِنْسَانٌ يَمُوتُ، مُشَاكِلٌ لِسَائِرِ النَّاسِ، مِنْ جِنْسِ أَوَّلِ مَنْ جُبِلَ مِنَ الأَرْضِ، وَقَدْ صُوِّرْتُ جَسَدًا فِي جَوْفِ أُمِّي، 2وَفِي مُدَّةِ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ صُنِعْتُ مِنَ الدَّمِ بِزَرْعِ الرَّجُلِ، وَاللَّذَّةِ الَّتِي تُصَاحِبُ النَّوْمَ. 3وَلَمَّا وُلِدْتُ انْتَشَيْتُ هذَا الْهَوَاءَ الشَّائِعَ، وَسَقَطْتُ عَلَى هذِهِ الأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَأَوَّلَ مَا اسْتَهْلَلْتُ بِالْبُكَاءِ عَلَى حَدِّ الْجَمِيعِ، 4وَرُبِّيتُ فِي الْقُمُطِ وَبِاهْتِمَامٍ كَثِيرٍ. 5فَإِنَّهُ لَيْسَ لِمَلِكٍ بَدْءُ مَوْلِدٍ غَيْرُ هذَا؛ 6بَلْ دُخُولُ الْجَمِيعِ إِلَى الْحَيَاةِ وَاحِدٌ، وَخُرُوجُهُمْ سَوَاءٌ.
ع1: مُشاكل : مشابه، أو مثل.
يعلن سليمان الحكيم لنا حقيقة هامة، وهى أن كل البشر، أغنياء وفقراء، عظماء ومحتقرين، الكل يشترك فى ميلاد واحد وموت واحد. كل بنى آدم ولدوا من بطون أمهاتهم، ولابد أن تنتهى حياتهم على الأرض بالموت، وليس لأحد تميز عن الآخر فى منشأه، أو نهايته ولكن يبقى شئ واحد، هو ما حدث له أثناء حياته القصيرة على الأرض، وسنرى أن التميز الوحيد هو مقدار تمتعه بالحكمة، وارتباطه بالمسيح أقنوم الحكمة، فينقله إليه فى السماء؛ ليدوم معه إلى الأبد، على قدر ما تمتع بسلوكه فى الحكمة على الأرض.
يُفهم من هذا، أن تميز سليمان فى الحكمة عن كل البشر لم يكن بسبب محاباة الله له، أو نشأته الغريبة، بل هو إنسان عادى، ابن لآدم، صورة الله فى بطن أمه كجنين، وأعطاه الحياة، كباقى البشر، وهذا يعطى رجاء لكل الناس، مهما كان منشأهم ضعيف، أو حقير، لأن الله يعمل فى الكل، ويرفعهم، كما رفع داود من وسط الغنم، وجعله ملكاً على شعبه.
إن كان الأمر هكذا يا أخى، فقد أصبح الهدف واضحاً، وهو الالتصاق بالله، وبالتالى يتصاغر، بل ينتهى كل تفاخر بالحسب والنسب، أى كل ما يختص بمنشأ الإنسان، وتتلاشى أيضا كل عظمة مادية على الأرض؛ لأنها تنتهى بالفناء بموت بالإنسان.
ع2: ثم يحدثنا عن تكوين كل إنسان كجنين فى بطن أمه، من علاقة بين رجل وامرأة بدافع الغريزة الطبيعية فى الزواج، وتكوين الخلية الأولى داخل جسم المرأة، ونمو الجنين فى الرحم متغذياً من دم الأم؛ حتى يتكامل بعد 9 أشهر شمسية، أى حوالى 10 أشهر قمرية (فالشهر القمرى 28 يوماً أما الشهر الشمسى 30، أو 31 يوماً)؛ لأن مدة الحمل 40 أسبوعاً، أى 280 يوماً وهى عشرة أشهر قمرية (28 × 10 = 280). وكان العبرانيون يستخدمون السنة القمرية.
إن كانت بدايتك يا أخى مجرد خلية واحدة ضعيفة، فلماذا تتعاظم على غيرك ؟ ولماذا تظلم، أو تحتقر غيرك؟ إنه تكون مثلك فى نفس الظروف، ليس لك فضل إلا بنعمة الله المجانية الموهوبة لك، إن كنت تطلبها، وهى الحكمة الحقيقية.
ع3: انتشيت : استنشقت الهواء وتنفسته.
استهللت : بدأت.
على حد : مثل.
ويواصل حديثه، فيعلن اشتراك كل البشر، ليس فقط فى ظروف تكوين الجنين داخل البطن، بل أيضاً بعد الولادة، إذ يتنفس الجميع هواءً واحداً، ويسقطون على أرض واحدة، التى نحن كائنون عليها، وأول إعلان وتخاطب مع العالم الجديد يكون هو البكاء.
إن استطعت أن ترى الله المختفى وراء مخلوقاته، فقد بلغت الحكمة؛ لأن الله واضع الغريزة فى جسد الإنسان، وصانع كل أجهزة جسمه، التى تنمى الجنين، وبعد ما يحتضنه الله فى رحم أمه، يحوطه بهوائه، عندما يخرج إلى العالم، ويستقر على أرضه، وحينئذ يبكى الإنسان، معلناً ضعفه أمام الخالق العظيم، واحتياجه للتطهير والرعاية والحب، حتى ينمو أمام الله.
ع4: القمط : الأقمطة، أى الأقمشة التى يلف بها الطفل حديث الولادة، بعد ولادته.
ولضعف المولود الجديد يلفونه بأقمشة لينة، أى الأقمطة؛ ليحفظونه من كل ضرر؛ حتى ينمو جسده على مر الأيام والسنين، ويشتد عوده، ويستطيع أن يواجه الحياة.
ع5، 6: سواء : واحد.
يُفهم مما سبق أن كل العظماء، بما فيهم الملوك، مولدهم ونشأتهم مثل باقى البشر، كما ذكرت الآيات السابقة، وكل البشر يدخلون إلى الحياة بهذا الميلاد السابق ذكره، ويخرجون من الحياة، أى يموتون كلهم متشابهين، فهم لا يملكون شيئاً عند ميلادهم، وأيضاً عند موتهم لا يخرجون بشئ.
إنك يا أخى فى ضعفك محتاج لحنان الله، الذى يعتنى بك قبل أن تعرفه، لعلك عندما تكبر وتعى عنايته الجزيلة بك، يرتفع قلبك بالشكر والتسبيح له، فيشعر كل عظيم – حتى لو كان فوق الكل كملك – أنه مثل سائر البشر فى دخوله إلى العالم، وخروجه منه، حينئذ يحترم كل إنسان، ويقدره، مهما كان وضيعاً أمامه. إبحث عن شئ آخر يميزك غير كل هذه الماديات والأفكار التى انشغلت بها .. إبحث عن الحكمة … إبحث عن الله.
(2) أهمية الحكمة (ع7-14):
7حِينَئِذٍ تَمَنَّيْتُ؛ فَأُوتِيتُ الْفِطْنَةَ، وَدَعَوْتُ فَحَلَّ عَلَيَّ رُوحُ الْحِكْمَةِ. 8فَفَضَّلْتُهَا عَلَى الصَّوَالِجَةِ وَالْعُرُوشِ، وَلَمْ أَحْسَبِ الْغِنَى شَيْئًا بِالْقِيَاسِ إِلَيْهَا، 9وَلَمْ أَعْدِلْ بِهَا الْحَجَرَ الْكَرِيمَ، لأَنَّ جَمِيعَ الذَّهَبِ بِإِزَائِهَا قَلِيلٌ مِنَ الرَّمْلِ، وَالْفِضَّةَ عِنْدَهَا تُحْسَبُ طِينًا. 10وَأَحْبَبْتُهَا فَوْقَ الْعَافِيَةِ وَالْجَمَالِ، وَاتَّخَذْتُهَا لِي نُورًا، لأَنَّ ضَوْءَهَا لاَ يَغْرُبُ، 11فَأُوتِيتُ مَعَهَا كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَنِلْتُ مِنْ يَدَيْهَا غِنًى لاَ يُحْصَى.
12فَتَمَتَّعْتُ بِهذِهِ كُلِّهَا، لأَنَّ الْحِكْمَةَ قَائِدَةٌ لَهَا، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا أُمُّ جَمِيعِهَا. 13تَعَلَّمْتُهَا بِغَيْرِ مَكْرٍ، وَأُشْرِكُ فِيهَا بِغَيْرِ حَسَدٍ، وَغِنَاهَا لاَ أَسْتُرُهُ. 14فَإِنَّهَا كَنْزٌ لِلنَّاسِ لاَ يَنْقُصُ، وَالَّذِينَ اسْتَفَادُوا مِنْهُ أُشْرِكُوا فِي مَحَبَّةِ اللهِ، لأَنَّ مَوَاهِبَ التَّأْدِيبِ قَرَّبَتْهُمْ إِلَيْهِ.
ع7: الفطنة : الحكمة و الفهم.
إذ رأى سليمان الحكيم تساوى البشر فى كل شئ، بحث عن التميز الوحيد فى حياة الإنسان، وهو علاقته بالله الذى هو الحكمة الحقيقية، فتمناه من كل قلبه، وطلب إلى الله، ودعاه لينعم عليه بها، فهو لم يكتفِ باشتهاء الحكمة، ولكنه صلى، وطلب من الله أن يُنعم عليه بها، فوهبها له، بل ميزه فيها بأنه أكثر حكمة ممن قبله وأيضاً من بعده (1مل3: 9-12). وهذا يبين أن سليمان رجل صلاة، ويحب الله، فيطلب الحكمة وليس المال، أو شهوات العالم، فهو إنسان روحانى.
ع8، 9: الصوالجة : جمع صولجان، وهو القضيب الذهبى الذى يمسكه الملك فى يده دليل على ملكه وتسلطه.
أعدل بها : أعادلها وأساويها.
بإزائها : بالقياس بها أو بالمقارنة بها.
وقد شعر سليمان بأن الحكمة أفضل من كل شئ فى العالم، فهى أفضل من كل المراكز والرئاسات، ولا قيمة لصولجان الملك أمامها.
وشعر أيضاً أن الغنى وكل أموال العالم ومقتنياته تافهة أمام الحكمة، ولا تستطيع أن تساويها أو تعادلها، وأحس أن الأحجار الكريمة والذهب والفضة كأنها حبات الرمل والطين التى ندوسها بأرجلنا، فهذا يجعلنا نحتقر كل هذه الماديات أمام عظمة الحكمة.
إنك لم تستطع أن تشعر بعظمة الحكمة، لأن قلبك مازال مثقلاً بمحبة المال والكرامة. لقد طمست هذه الماديات عينيك، فلم تعد ترى الله مصدر الحكمة والسعادة، وتعلقت بالكرامة وشهوات العالم، ولأنك فاقد الحكمة لم تلاحظ الله الذى أعطاها لك، كما قال بولس الرسول: “وعبدوا المخلوق دون الخالق” (رو1: 25).
ما أعظم البتوليين والنساك فى البرارى وفى كل أرجاء العالم؛ لأنهم عرفوا الحكمة الحقيقية، وداسوا كل أمجاد الماديات؛ ليرتفعوا إلى محبة الله، ويحيوا بالحكمة التى تدوم إلى الأبد.
ع10: ويعدد هنا بركات الحكمة، فهى ليست فقط تدوس الغنى والمراكز، بل تعلو أيضاً على الصحة والقوة الجسدية، وتتسامى أيضاً فوق الجمال الجسدى، لأن الصحة والجمال سيزولان، فهما مؤقتان، حيث يضعف الجسد عند التقدم فى السن، ويذبل الجمال، بتجاعيد الوجه، وترهل الجسد فى الشيخوخة.
إن الحكمة يسطع نورها، فيصير كل نور بقياسها ظلمة، إذ يخفت ويتلاشى، لأنه صغير بالقياس بعظمتها، ولأنه زائل ومتغير فى هذه الأرض، ينتهى بانتهاء حياة الإنسان المادية، أما الحكمة فتدوم إلى الأبد.
والظلمة ترمز للخطية، اما النور فيرمز للنقاوة التى بها نعاين الله فى الأرض، ثم فى السماء، والخطية تزول بالتوبة، ويحل محلها النور الإلهى، أى الحكمة التى تثبت فى قلب الإنسان، وتدوم معه إلى الأبد فى الملكوت.
ع11، 12: وعلى الجانب الآخر، عندما يطلب الإنسان الحكمة ليس فقط يتمتع بدوامها معه، ويتلذذ بعشرة الله، ولكنه أيضاً ينال جميع البركات التى يتمناها، فهى مصدر كل الخيرات، بل تقودها فى نظام؛ لتحقق له السعادة الكاملة، فهى تعطى الإنسان السلام والفرح والنشاط والحب والعطاء.
ونلاحظ أن الله عندما رأى استقامة قلب سليمان، وطلبه من الله الحكمة، أعطاه الله الغنى أكثر من كل من على الأرض فى زمانه (1مل3: 13)، فالحكمة هى الأساس، والقائد فى الطريق المستقيم، أما بالجهل فيضيع الإنسان كل غناه.
ع13: لا أستره : لا أخفيه.
يلزم لاقتناء الحكمة أن يكون الإنسان نقياً، واضحاً، صادقاً غير ملتو، أو خبيث، أو مكار، أو كذاب. فالمكر هو حكمة أرضية، أو شريرة. أما الحكمة السماوية فتتميز بالنقاوة والبساطة (يع3: 15-17).
وتحتاج بجانب النقاوة إلى الحب المنفتح لكل أحد، فتشتاق أن يمتلئ الكل بالحكمة، وتود أن تشرك كل البشر فى التلذذ بعشرة الله، ولا تحسد أحداً إذا تفوق عليك فى الحكمة والقداسة، بل تفرح له، وتقتدى به، وتطلب صلواته.
وحينئذ يتحرك قلبك بروح الخدمة، فتعلن الحكمة لكل أحد، ولا تخفى بركاتها لتجذب الكثيرين إليها من خلال سلوكك الروحى، وكلامك بطريقة مباشرة وغير مباشرة عن الله، كما اهتـم سليمان بإعلان الحكمة وتعليمها لشعبه، فكتب 3000 مثلاً و1005 من الأناشيد (1مل4: 32).
ع14: وثق يا أخى أن الحكمة كنز غير محدود؛ لأن الله غير محدود، فتظل تنمو فى الحكمة، والتمتع بها ليس فقط فى هذه الحياة، بل أتصور أن النمو فيها سيظل فى الأبدية بلا حدود.
وكلما سلكت بالحكمة اختبرت علاقة أعمق مع الله، وتلذذت بعشرته، فتنال حكمة أكبر، إذ تحب كل الممارسات الروحية، وتفيض عليك بالتالى أعماق جديدة فى الحكمة تدخلك فى عشرة أكبر مع الله، تفيض عليك بالتالى بحكمة أوفر، وهكذا تتقدم من مجد إلى مجد.
ثم يعلن الحكيم وسيلة ضرورية لاقتناء الحكمة، وهى قبول التأديب، أى التجارب والضيقات، وكل معاناة وجهاد نحتاجه فى تنفيذ الوصية وعبادة الله وخدمته، هذا التأديب ينشئ بالضرورة حكمة، ويفيض ببركاته على الإنسان، بل يزينه بمواهب متعددة من الحكمة، مثل التمييز، والقدرة على تعليم الآخرين، وقوة الإقناع، وحسن الإنصات، وتدبير الأمور، وقيادة الآخرين …. إلخ.
كل هذه المواهب يسميها ليست مواهب الحكمة، بل مواهب التأديب، لأن الحكمة تقتنى بقبول التأديب، وهذه المواهب ليست فقط لخدمة الآخرين، بل إن صاحبها يتمتع بها، إذ تقربه لله، فيشكر الله على عطاياه.
من الآيات السابقة من (ع7-14) نرى تميز الحكمة عن كل شئ، فهى افضل من :
- كل مركز وسلطان.
- كل غنى العالم.
- العافية والصحة الجسدية.
- الجمال الجسدى.
- كل أنوار العالم؛ لأنها دائمة إلى الأبد.
ويلزم للحصول على الحكمة ما يلى :
- البساطة ورفض المكر.
- محبة للجميع.
- البعد عن الحسد.
- تعليم الحكمة للآخرين وعدم إخفائها.
- قبول التأديب.
غريب الإنسان الذى يحرص على اقتناء المقتنيات الثمينة التى تحتفظ بجمالها وقوتها أطول مدة ممكنة، ولكنه يتناسى أن كل الماديات والكرامة والصحة وكل الأمور العالمية زائلة، ولا يطلب الشئ الوحيد الباقى وهو الحكمة، أى الله.
(3) الله مصدر المعرفة (ع15-21):
15وَقَدْ وَهَبَنِي اللهُ أَنْ أُبْدِيَ عَمَّا فِي نَفْسِي، وَأَنْ أُجْرِيَ فِي خَاطِرِي مَا يَلِيقُ بِمَوَاهِبِهِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُرْشِدُ إِلَى الْحِكْمَةِ وَمُثَقِّفُ الْحُكَمَاءِ. 16وَفِي يَدِهِ نَحْنُ، وَأَقْوَالُنَا وَالْفِطْنَةُ كُلُّهَا وَمَعْرِفَةُ مَا يُصْنَعُ. 17وَوَهَبَنِي عِلْمًا يَقِينًا بِالأَكْوَانِ، حَتَّى أَعْرِفَ نِظَامَ الْعَالَمِ وَقُوَّاتِ الْعَنَاصِرِ، 18وَمَبْدَأَ الأَزْمِنَةِ وَمُنْتَهَاهَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَتَغَيُّرَ الأَحْوَالِ وَتَحَوُّلَ الأَوْقَاتِ، 19وَمَدَاوِرَ السِّنِينَ وَمَرَاكِزَ النُّجُومِ، 20وَطَبَائِعَ الْحَيَوَانِ وَأَخْلاَقَ الْوُحُوشِ وَعُصُوفَ الرِّيَاحِ وَخَوَاطِرَ النَّاسِ وَتَبَايُنَ الأَنْبِتَةِ وَقُوَى الْعَقَاقِيرِ. 21فَعَلِمْتُ جَمِيعَ الْمَكْنُونَاتِ وَالظَّوَاهِرِ، لأَنَّ الْحِكْمَةَ مُهَنْدِسَةَ كُلِّ شَيْءٍ، هِيَ عَلَّمَتْنِي.
ع15: أبدى عما فى نفسى : أعبر عما أفكر فيه.
أجرى فى خاطرى : أفكر.
مُثقف : معلم ومعطى العلم والثقافة.
ويظهر هنا الحكيم سليمان أنه من مواهب الله عليه فى الحكمة أنه أعطاه القدرة على التعبير عما فى داخله بهذه الأقوال الحكيمة التى نقرأها فى هذا السفر؛ لأن بعض الناس لهم حكمة وفهم، ولكن لا يستطيعوا التعبير عنها بشكل سهل يفهمه الآخرون.
ويظهر هنا أن الحكمة فى مجموعة مواهب وليست موهبة واحدة، حركت أفكاره وخواطره الداخلية بنقاوة تليق بعظمة مواهب الحكمة.
وحيث أن الله هو معطى مواهب الحكمة لسليمان والقدرة على التعبير عنها بكلام عظيم، وحيث أن أفكاره الداخلية استمرت طاهرة تليق بهذه المواهب؛ فإنه يعلن أن الله هو مصدر الحكمة، وهو الذى أرشده إليها، إذ طلبها قديماً فى بداية ملكه لحاجته إليها، وهو مرشد كل من يحتاج، ويطلب الحكمة، بل هو المصدر الوحيد للحكمة، وأى حكمة أخرى يصطنعها البشر هى مزيفة. وهو أيضاً الذى ينمى الحكماء فى الحكمة، ويعطيهم ثقافات متزايدة فيها.
إن كان الله هو المصدر الوحيد للحكمة، والمرشد إليها، وإن كنت يا نفسى تتمرغين فى الخطية، ويذلك إبليس؛ لأنك عديمة الحكمة وبعيدة عنها، فأنت أكثر الناس احتياجاً لها؛ لتستعيدى طهارتك. قومى إسرعى إلى إلهك، وهو بحنانه مستعد أن يغفر لك، ويرشدك للحكمة، بل ينميكِ فى معرفته، فتصيرى من الحكماء.
ع16: وبما أن الحكمة تحرك البشر والكون كله، وحيث أن الله مصدر الحكمة الوحيد، وهو خالقنا، فحياتنا كلها بيده، وهو ضابط الكل، فإذا أسلمنا حياتنا له، فهو يقودنا بحكمته ولا نسقط فى الخطية.
وهو ليس فقط يقود أفكارنا، بل أيضاً أقوالنا التى نعبر بها عن الحكمة التى وهبها لنا الله فى داخلنا، ويهبنا أن نتصرف بحكمة فى كل أعمالنا، وهكذا تصير حياتنا كلها فى حكمته، ونتمتع بسلام فى العالم، يمتد بنا إلى الراحة الأبدية.
ما أجمل الوجود فى أحضانك يا إلهى للتمتع بحكمتك، وحينئذ نسلك براحة وحرية فى داخلنا، وكل أعمالنا؛ لأنك ساكن فينا تحفظنا، وتظهر ذاتك لنا، فنعلنك من خلال أقوالنا وأعمالنا، ونجتذب البعيدين إلى معرفتك وحكمتك.
ع17: الأكوان : جمع كون، وهو مساحة كبيرة من الفضاء تشمل المجرات والنجوم والكواكب.
ثم يحدثنا الملك سليمان عن بركات الحكمة، فيعلن أنها مصدر المعرفة، وأنه شخصياً كمثال لمن أنعم عليهم الله بالحكمة فقد تعلم بالتدقيق، وبالتأكيد ما يختص بالكون، وكل ما فيه من كواكب، فلم يكتفِ أن علم ما يختص بكوكب الأرض التى نحيا عليها، بل علم أيضاً بالكواكب الأخرى داخل المجموعة الشمسية الخاصة بالأرض، والمجموعات الشمسية الأخرى داخل المجرة المختصة بنا. وأنه توجد ملايين المجرات التى تسبح فى الكون، وعلم كثيراً من المعلومات المختصة فى الفلك.
وعلم أيضاً بالحكمة الإلهية ليس فقط عن الكواكب الضخمة العظيمة، بل فهم أيضاً ما يختص بالعناصر المكونة للمواد المختلفة، وما يرتبط بعلم الذرة. فقد علم عن أكبر المخلوقات، أى الكواكب، ونظامها، أى دورانها باتفاق بعضها مع البعض، وعلم كل مادة، والعناصر المكونة لها، أى كشفت له الحكمة كل شئ.
ع18: وكشفت له أيضاً كل ما يختص بالأزمنة من الأزلية إلى الأبدية، وتغير المناخ، أى الأحوال الجوية من مكان لمكان، وأيضاً تحول المناخ على مدار السنة، وهو تغير الفصول من الشتاء إلى الربيع، ثم الصيف والخريف، والتغير فى الجو بين النهار والليل، وتغير الأحوال الجوية على مدار السنين. إنه لا يمكن استيعاب كل هذا إلا بمعونة الحكمة الإلهية.
ع19: مداور : دوران وتعاقب السنين.
وعلم أيضاً التغيرات التى تحدث فى مسار النجوم على مدار السنين، وعلاقة الأرض بالكواكب المختلفة، والجاذبية الأرضية، وتأثير الكواكب على بعضها.
ع20: عصوف : هبوب.
تباين : اختلاف.
العقاقير : الأدوية.
ثم تكشف له الحكمة حقائق كثيرة عما يحدث على أرضنا، فتعلمه الكثير فى علم الحيوان من طباع، وعادات الحيوانات المستأنسة، وطرق تربيتها، وكذا طباع الحيوانات المفترسة، وكيفية التعامل معها، إذ أن الإنسان رأس الخليقة كلها، وقائدها، وكانت كلها خاضعة له قبل السقوط.
وتعلم سليمان أيضاً أنواع الرياح المختلفة التى تهب على الأرض، ومصادرها، وما تحمله من حرارة، أو برودة، أو أتربة، وأسراب الطيور، وتأثير كل ذلك على الأرض والإنسان.
والأكثر من هذا، أن الحكمة كشفت له أفكار الناس، وما يخطر ببالهم قبل أن ينطقوا به، وبالتالى كيفية كسبهم، وقيادتهم، والتعامل معهم، والمقصود به علم النفس.
ومن جهة أخرى، كشفت له الكثير والكثير فى علم النبات بأنواع النباتات المختلفة، وكيفية زراعتها، والاستفادة منها، وكل ما يختص بصفاتها، وما يؤثر فيها.
ثم يكشف له أيضاً تأثير بعض المواد على الأخرى، أى بعض المواد ذات التاثير القوى المسماة بالعقاقير، أى الأدوية، سواء المؤثرة على الإنسان، أو الحيوان، أو النبات، وهى التى تدرس الآن فى كليات الصيدلة.
ع21: مما سبق، فهم سليمان أن الحكمة هى الى تنظم، وتقود العالم كله، وشبهها بمهندس ينظم ويرتب كل شئ، فتعلم من الحكمة أسراراً بلا حصر.
فيا من تطلب العلم والمعرفة تعال إلى مصدر الحكمة؛ لينعم عليك بالمعرفة الحقيقية. إعرف الله أولاً، فتستطيع أن تعرف كل شئ، وتفهم القصد من كل علم تقرأه فى الكتب، فتستفيد منه، وتتمتع به.
ولا تحزن يا قليل المعرفة؛ لأن الله هو واهب الحكمة والمعرفة، وهو يستطيع أن يملأك بمعرفته أكثر من كل من حولك، كما أعطى لأولاده القديسين.
(4) صفات الحكمة (ع22-30):
22فَإِنَّ فِيهَا الرُّوحَ الْفَهِمَ الْقُدُّوسَ، الْمَوْلُودَ الْوَحِيدَ ذَا الْمَزَايَا الْكثِيرَةِ، اللَّطِيفَ السَّرِيعَ الْحَرَكَةِ، الْفَصِيحَ الطَّاهِرَ النَّيِّرَ السَّلِيمَ الْمُحِبَّ لِلْخَيْرِ، الْحَدِيدَ الْحُرَّ الْمُحْسِنَ، 23الْمُحِبَّ لِلْبَشَرِ، الثَّابِتَ الرَّاسِخَ الْمُطْمَئِنَّ الْقَدِيرَ الرَّقِيبَ، الَّذِي يَنْفُذُ جَمِيعَ الأَرْوَاحِ الْفَهِمَةِ الطَّاهِرَةِ اللَّطِيفَةِ. 24لأَنَّ الْحِكْمَةَ أَسْرَعُ حَرَكَةً مِنْ كُلِّ مُتَحَرِّكٍ؛ فَهِيَ لِطَهَارَتِهَا تَلِجُ وَتَنْفُذُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. 25فَإِنَّهَا بُخَارُ قُوَّةِ اللهِ، وَصُدُورُ مَجْدِ الْقَدِيرِ الْخَالِصُ؛ فَلِذلِكَ لاَ يَشُوبُهَا شَيْءٌ نَجِسٌ، 26لأَنَّهَا ضِيَاءُ النُّورِ الأَزَلِيِّ، وَمِرْآةُ عَمَلِ اللهِ النَّقِيَّةُ، وَصُورَةُ جُودَتِهِ. 27تَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَتُجَدِّدُ كُلَّ شَيْءٍ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي ذَاتِهَا. وَفِي كُلِّ جِيلٍ تَحِلُّ فِي النُّفُوسِ الْقِدِّيسَةِ؛ فَتُنْشِئْ أَحِبَّاءَ للهِ وَأَنْبِيَاءَ، 28لأَنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ أَحَدًا؛ إِلاَّ مَنْ يُسَاكِنُ الْحِكْمَةَ. 29إِنَّهَا أَبْهَى مِنَ الشَّمْسِ، وَأَسْمَى مِنْ كُلِّ مَرْكَزٍ لِلنُّجُومِ، وَإِذَا قِيسَتْ بِالنُّورِ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ، 30لأَنَّ النُّورَ يَعْقُبُهُ اللَّيْلُ، أَمَّا الْحِكْمَةُ فَلاَ يَغْلِبُهَا الشَّرُّ.
ع22: يتكلم هنا عن الحكمة ليس كمعلومات، أو قدرات بشرية، مثل الاستيعاب، أو الذكاء، ِأو القدرة على التصرف فى الأعمال المختلفة، بل يسمو بها، ويحدثنا عنها كأقنوم إلهى، فيقول: أن فيها الروح القادر على فهم كل شئ.
ثم يظهر جلياً أنه يتكلم عن الله، عندما يصف روح الحكمة بالقدوس، وليس قديس، أو مقدس، ولا يوصف بالقدوس إلا الله مصدر كل قداسة.
ثم يحدد كلامه أنه يتكلم عن أقنوم الإبن الكلمة المسيح إلهنا، عندما يصف هذا الروح، أو يصف الحكمة بالمولود، فهو ليس أقنوم الآب؛ لأنه والد، ولا الروح القدس؛ لأنه منبثق . فالإبن هو أقنوم الحكمة.
وهو أيضاً الوحيد، إذ يختلف عن كل أبناء الله؛ لأنهم أبناء بالتبنى، أما المسيح أقنوم الحكمة، فهو ابن فى الجوهر، لذا يسمى بالوحيد، أو الوحيد الجنس. ولأقنوم الابن فضائل كثيرة لا يمكن حصرها، إذ هو غير محدود، ولكننا نتعرف على بعض صفاته، وهى :
1- “اللطيف” :
فهو لطيف رغم قوة لاهوته، فيحنو على كل البشر والمخلوقات، بل هو اللطيف، ومصدر كل لطف. وهذه الصفة تعطى طمأنينة للإنسان، وتشجعه على محبة الله، وإقامة علاقة معه.
2- “السريع الحركة” :
وهو فى لطفه ليس رقيقاً فى ضعف، بل قوياً وسريعاً فى نجدة أولاده، وإغاثة كل محتاج، مما يعضدنا فى حياتنا مهما أحاطت بنا الأخطار.
3- “الفصيح” :
وهو ليس فقط يفهم، ويميز كل شئ، بل هو فصيح يعبر عن حكمته بأفضل الأساليب التى تسبى قلب اللإنسان الذى يحب الحكمة، أى الله، ولكن إن انشغل الإنسان بشهواته وكرامته تنطمس عيناه، فلا يرى، أو يسمع حكمة الله.
4- “الطاهر” :
والمسيح هو الطاهر، أى النقى فى كل شئ، وقد نادى الجموع قائلاً : “من منكم يبكتنى على خطية” (يو8: 46)، فلم يرد عليه أحد؛ لأنه فيه كمال الطهارة والنقاوة؛ لذا فبذبيحة نفسه استطاع أن يحمل كل خطايا العالم، ويقدم فداءً للبشرية على الصليب.
5- “النيـر” :
وهـو ممتلئ نوراً، بل ينير العالم كله بنوره. وقد قال عن نفسه: “أنا هو نور العالم” (يو8: 12).
فلماذا لا تستنيرى يا نفسى بضيائه، وتخلصى من ظلمات الخطية التى تغطيكِ.
6- “السليم” :
وهو أيضاً السليم، أى الحق المستقيم الذى بلا عيب، أو خطأ، ومقياس للصلاح نقتدى به.
ما أجمل أن تسأل نفسك يا أخى فى كل موقف وتقول : ماذا يفعل المسيح لو كان مكانى؟ وهكذا تتصرف.
7- “المحب للخير”
ومن أعظم صفات الله أنه محب للخير، أى يعمل كل عمل بناء مفيد لأولاده. ومحبة الله للخير تكشف لأولاده كل أعماله وأفكاره، وتساعدهم على تمييز أفكار وأعمال إبليس الشريرة.
8- “الحديد” :
ويصفه بأنه الحديد، أى المنيع، مثل معدن الحديد القوى، فالله فى قوته لا يمكن اختراقه، أو التغلب عليه، ففيه كمال القوة، وبقوته الكاملة هو الحديد الذى يضع حدوداً لكل شئ فى العالم، فهو ضابط الكل، الذى يضع حدوداً للبحر فلا يطغى على الأرض، والكواكب تسير فى مساراتها، وأيضاً يضع لكل الكائنات حداً، مهما تعاظمت.
فلماذا تتكبر أيها الإنسان، وتتحدى الله بخطاياك، وتظن أن قوتك منك وتنسى أنك أحد مخلوقاته الضعيفة؟!
9- “الحـر” :
وإذ هو أقوى من كل شئ، فلا يستطيع أحد أن يحده، أو يقلل من قوته؛ لذا فهو حر، كامل فى حريته، والمصدر الوحيد للعالم فى الحرية، ومن حبه فى الإنسان ميزه عن باقى المخلوقات الحية والجامدة بالحرية، إذ هو صورة الله ومثاله.
ليتكِ يا نفسى تستخدمى حريتك بفطنة للالتصاق بمصدر الحرية، أى الله، ولا تفقدى حريتك، وتعطيها للشهوات الدنسة والكبرياء، فتسقطى فى الضيق والتعب كل أيامك.
10- “المحسن” :
والمسيح إلهنا الأقنوم الثانى، أقنوم الحكمة، ليس فقط محباً للخير، بل من صفاته الإحسان، أى العطاء، وليس الأخذ، لأنه كامل، وغير محتاج لشئ فلماذا يأخذ ؟!. فإن كنا على صورته ومثاله نكون مثله نميل للعطاء وليس الأخذ، ونفهم ما قاله لنا : “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع20: 35).
إن كان حب الله كاملاً، ويفيض بإحسانه على كل مخلوقاته التى خلقها بحبه، فهو يخص البشر أكثر من باقى المخلوقات، لأنهم صورته ومثاله. وهو يقول بوضوح : “لذاتى مع بنى آدم” (أم8: 31). وهو يفرح أن يتحقق قصده بأن يحيا الإنسان فى صداقة معه إلى الأبد. هل لك يا أخى كل هذا الحب وتهمله. الله يسعى نحوك ويطلبك أنت وحدك. فلماذا تتوانى ؟
ع23: ثم يضيف صفات جديدة فى الله (الحكمة) وهى :
11- “الثابت”
لأن كل شئ فى العالم متغير، أما هو “ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع1: 17)، وكما أعلن بولس الرسول “يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8).
12- “الراسخ”
وهو أيضاً راسخ، أى كامل الثبات والاستقرار، فمن يستطيع أن يقلقه وفيه كمال القوة؟!
فإذ لنا إله عظيم كهذا، وحكمته ثابتة، فكم يكون تمسكنا بوصاياه التى لا تتغير، وتعطينا الاستقرار والثبات فيه.
13- “المطمئن”
وحيث يتمتع الله بالثبات الكامل، فهو يستطيع أن يعطينا طمأنينة كاملة، إذ نلتجئ إلى أحضانه نشعر بالراحة والسلام الكامل، وهو بنفسه يقول عن استقرار أولاده الذين يلتجئون إليه، وعدم قدرة الشيطان أن يأخذهم منه : “ولا يخطفها أحد من يدى” (الخراف) (يو10: 28). ولأن الله يرى الماضى والحاضر والمستقبل، فلا يوجد أى شئ يؤذينا أو يخيفنا ونحن بين يديه.
14- “القدير”
وهو ليس فقط يعطى طمأنينة لأولاده، بل هو قادر أن يشبع كل احتياجاتهم، ويحل كل مشاكلهم، ويهزم أعداءهم الشياطين تحت أقدامهم.
لماذا تخاف يا أخى وتقلق ومعك الإله القدير الثابت، الذى يطمئن نفسك ويهبك السلام؟!
15- “الرقيب”
وهو فى ثباته وقوته ومحبته أيضاً رقيب على كل شئ، فهو فاحص القلوب والكلى، ويراقب كل أعمالك وأقوالك، بل وأيضاً أفكارك، فكيف لا تخافه فى كل خطواتك ؟ كيف تفعل الخطية أمام عينيه ؟
16- “الذى ينفذ جميع الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة”
وهو ليس رقيباً لكى يعاقب الناس، بل ليعتنى بهم ويشبعهم بحبه. وإذ هو مالئ لكل مكان ينفذ، ويتخلل كل أولاده المطيعين له، وهم ذوو الأرواح الخاضعة له، المملوءة حكمة وفهم، وتحيا فى نقاوة من كل شهوة شريرة، وتتمتع بلطف ورقة، وتسبح بالتالى بسهولة فى محبة الله وتتناغم معه، أى أن الأرواح التى تتشبه به يملأها بمحبته وكل بركاته.
هذا هو المسيح إلهنا، أقنوم الحكمة الكامل فى كل شئ، مصدر كل البركات لجميع المخلوقات.
ع24: تلج : تدخل وتخترق.
إن الخطية هى الى تثقل الروح، فتقلل حركتها وسرعتها فى تعمق معرفة الله، كمثل طائر يربط فى أجنحته أثقال تقلل وتمنع طيرانه، أما الحكمة – التى هى الله – فطهارتها كاملة، وبالتالى سرعتها كاملة، وقادرة أن تنفذ وتتخلل كل شئ؛ لتصل إلى أعماق الكل، كما يعلن الكتاب المقدس عنها : “لأن كلمة الله حية وفعالة، وأمضى من كل سيف ذى حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح” (عب4: 12)، وبالتالى كل من يمتلئ بها من البشر، تصير له هذه الصفة العظيمة، فيستطيع أن يفهم، ويشعر بالله، ويتجاوب معه، ويسهل عليه أن يشعر بكل من حوله، ويخترق كل أعماق النفوس المحيطة به، فيعلن لنا الله بوضوح : “الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله” (1كو2: 10).
هذه رسالة واضحة لكل مربى وخادم، إن كنت تود أن تشعر وترعى وتخدم غيرك، فلا سبيل إلى ذلك إلا الالتصاق بالحكمة الإلهية. إن كل ذكائك وحكمتك لن تفيدك شيئاً؛ لأنك مثقل بخطايا العالم. تب أولاً، والتصق بالله تستطيع حينئذ أن تشعر بمن حولك.
ع25: صدور : ظهور وانبعاث.
يشوبها : يلتصق بها.
يشبه الحكمة بالبخار، وهو يبدو خفيفاً يتصاعد فى الهواء ولكن له قوة جبارة، فبه تحركت الماكينات، إذ بضغط البخار سارت القطارات والمركبات المختلفة قديماً، ومازالت حتى الآن هذه القوة الجبارة يمكن استخدامها فى مجالات مختلفة.
والبخار أيضاً ذو منظر جميل يملأ الهواء، فهو يرمز إلى مجد الحكمة، الذى يملأ الكون حوله، ويستفيد منه الآخرون، فهى تصدر من الله، وتعم على العالم كله.
كذلك البخار، هو الماء النقى المتصاعد كغاز فى الهواء بعد أن تخلص من كل الشوائب التى تظل فى الإناء الموضوع على النار، وبالنار والحرارة يتصاعد البخار، ويرتفع بمجد عظيم، كما تظهر الحكمة من خلال احتمال الضيقات، فيفيض الله على أولاده من الحكمة، عندما يتخلصوا من تعلقاتهم المادية، وخطاياهم الكثيرة بمعاناة الجهاد الروحى، وحينئذ ترتفع حكمتهم بمجد عظيم، كالبخار الأبيض الجميل.
والبخار الأبيض الجميل يرمز لصعود المسيح، الذى عاش على الأرض، وارتفع للسماء دون أن يلتصق به أى شئ من شوائب الخطية المنتشرة بين البشر، فهو نقى تماماً، ويظل نقياً إلى الأبد.
ع26: إن الحكمة التى تتمتع بها هى من حكمة الله الأزلية الغير محدودة، فالله النور الأزلى يعطينا قليلاً من نوره فى ضياء عجيب، الذى هو الحكمة.
والمسيح أقنوم الحكمة هو ضياء النور الأزلى، فبتجسده أعلن لنا وأخبرنا عن الآب، الذى هو النور الأزلى.
والحكمة أيضاً هى صورة لإحسان الله، وجوده على الإنسان؛ إنها الرحمة الإلهية التى تفيض على البشر، ونرى فيها شيئاً من صفات الله الغير محدودة.
وقد عبر بولس الرسول عن هذه الآية بقوله عن المسيح أقنوم الحكمة : “هو بهاء مجده ورسم جوهره” (عب1: 3).
إن كانت الحكمة بكل هذا المجد، وهى الإعلان الإلهى للبشر، فلماذا نتوانى فى طلبها ؟ إننا لم نرَ الله إلا من خلال تجسد الإبن الكلمة؛ الحكمة الأزلية، “الله لم يره أحد قط، الإبن الوحيد الذى هو فى حضن الآب هو خبر” (يو1: 18). فالحكمة ترفعنا فوق العالم، وتعطينا عربون الأبدية، وتشركنا فى علاقة حب عميقة مع الله، فنصير بالحقيقة بنيناً له.
ع27: والحكمة كاملة القوة والقدرة، لا يعسر عليها أمر، وهى واحدة، إذ هى الله الواحد ضابط الكل الخالق للعالم كله، ومدبره، وكل شئ خاضع له. وإذ يخطئ البشر، ويتوبون تقبلهم بحنان، وتغفر خطاياهم وتجددهم، فتعيد لهم طبيعتهم الأولى النقية التى خلقتهم عليها. كما تجدد حياة النباتات من خلال البراعم التى تصير فروعاً كبيرة، تجدد حياة الأشجار والبذور التى تدفن فى الأرض، فتصير نباتات، وكما يتجدد جمال بعض الحيوانات كالديدان التى ينسلخ جلدها، وكالطيور التى تجدد ريشها. إنها تنعم على كل الخليقة بالبهاء والمجد الذى تفقده بسبب ضعفها. ولكن الحكمة تظل ثابتة بلا تغيير، ولا تجديد؛ لأنها كاملة، ولأنها كاملة فهى قادرة على تجديد غيرها.
ويعقوب الرسول يعلن ثبات كلمة الله، الذى هو الحكمة، فيقول : “ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع1: 17).
إن الله مستعد أن يفيض بحكمته على كل من يقبل إليه، ويكرس، أى يقدس قلبه له، فيملأ الله وحده القلب، ويملك عليه “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك” (لو10: 27). وإذ تدخل الحكمة إلى القلب تربطه بالله، فيزداد اشتياقاً له، وحباً فيه، فيفيض عليه الله بحكمة أكبر، تدخله إلى أعماق جديدة فى محبة الله، بل تنعم عليه بمواهب لخدمة الآخرين، مثل النبوة التى هى تعليم الآخرين وإخبارهم بمحبة المسيح، أى أن الحكمة تنشئ أحباء لله وأنبياء.
ع28: الله يحب من يثبت فى الحكمة (يساكن الحكمة)، ولا يحب من يرفض الحكمة، ويتعلق بشهوات العالم “لأن محبة العالم عداوة لله” (يع4: 4).
لا تفتح قلبك للحكمة، ثم تعود وتغلقه، و إلا فستفقد محبة الله، بل لتستقر الحكمة فيك، وتسكن داخلك، فتضمن استقرار محبة الله لك، وحياتك الأبدية.
ع29، 30: إن الحكمة أعظم من كل شئ فى العالم، فإن كانت الشمس هى أعظم نور يشع على الأرض بضيائها القوى، فالحكمة فى ضيائها أبهى من الشمس. وإن كانت النجوم ترتفع فى علو السماء، فلا يرى الإنسان أسمى منها، لكن الحكمة ترتفع فوق هذه النجوم؛ لأنها هى الخالقة لكل هذه الكائنات، وإن كان النور ضرورياً فى حياة الإنسان، وهو أول شئ خلقه الله فى العالم، فإن الحكمة أعظم منه، إذ أن نور النهار يعقبه ظلام الليل، أما الحكمة فلأنها الله، وصادرة منه، فلا تغلبها قوى الشر، أى الظلمة، بل هى التى تخلص الأشرار من شرهم إن تابوا، وتحمى الأبرار من كل الشرور. إن كنت يا أخى تخاف من حروب الشياطين، فتحصن بالحكمة التى ترفعك فوق كل خطية، وتحميك من شهوات العالم، لأنها تشغلك وتملأك بالحب الإلهى، وحينئذ تسقط كل قوة إبليس عند قدميك.