الملوك والحكمة
إن كان القسم الأول من السفر من (ص1-5) قد حدثنا عن مكافأة الأبرار ومصير الأشرار، فالقسم الثانى من السفر، وهو من (ص6-9) يحدثنا عن مفهوم الحكمة ومدحها، ويظهر فى هذا القسم طبيعة الحكمة وعظمتها، ودعوة الملوك لإتباعها.
(1) الله يفحص الملوك (ع1-10):
1الْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنَ الْقُوَّةِ، وَالْحَكِيمُ أَفْضَلُ مِنَ الْجَبَّارِ. 2وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُلُوكُ، فَاسْمَعُوا وَتَعَقَّلُوا، وَيَا قُضَاةَ أَقَاصِي الأَرْضِ، اتَّعِظُوا. 3أَصْغُوا أَيُّهَا الْمُتَسَلِّطُونَ عَلَى الْجَمَاهِيرِ، الْمُفْتَخِرُونَ بِجُمُوعِ الأُمَمِ، 4فَإِن سُلْطَانَكُمْ مِنَ الرَّبِّ، وَقُدْرَتَكُمْ مِنَ الْعَلِيِّ، الَّذِي سَيَفْحَصُ أَعْمَالَكُمْ، وَيَسْتَقْصِي نِيَّاتِكُمْ
5فَإِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْخَادِمِينَ لِمُلْكِهِ، لَمْ تَحْكُمُوا حُكْمَ الْحَقِّ، وَلَمْ تَحْفَظُوا الشَّرِيعَةَ، وَلَمْ تَسِيرُوا بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ. 6فَسَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ بَغْتَةً مَطْلَعًا مُخِيفًا، لأَنَّهُ سَيُمْضَى عَلَى الْحُكَّامِ قَضَاءٌ شَدِيدٌ. 7فَإِنَّ الصَّغِيرَ أَهْلٌ لِلرَّحْمَةِ، أَمَّا أَرْبَابُ الْقُوَّةِ فَبِقُوَّةٍ يُفْحَصُونَ. 8وَرَبُّ الْجَمِيعِ لاَ يَسْتَثْنِي أَحَدًا، وَلاَ يَهَابُ الْعَظَمَةَ، لأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْعَظِيمَ كِلَيْهُمَا صُنْعُهُ عَلَى السَّوَاءِ، وَعِنَايَتُهُ تَعُمُّ الْجَمِيعَ. 9لكِنَّ عَلَى الأَشِدَّاءِ امْتِحَانًا شَدِيدًا. 10إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَوْجِيهُ كَلاَمِي، لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا الْحِكْمَةَ وَلاَ تَسْقُطُوا.
ع1: العالم يمجد القوة المادية، سواء سلطان المال، أو السلاح، أو الذكاء، ولكن كل هذا يمكن أن يستخدم للخير، أو للشر. والذى يحسن استخدام القوة هو الإنسان الحكيم، فيوجهها حيثما يشاء. لذا، فالحكمة أفضل من القوة، فبحكمة كبيرة وقوة يسيرة يمكن تحقيق مكاسب متنوعة، إذ بالحكمة الحقيقية يتمتع الإنسان بمعونة الله، فيحقق المعجزات.
وحيث أن الحكمة هى الله، فالحكمة غير محدودة، ولذا فهى أفضل من قوة العالم؛ لأنها محدودة، وبالتالى فالذى له الحكمة الإلهية يستطيع أن ينتصر على كل قوى العالم التى يستخدمها الشيطان.
أما القوة الكبيرة دون حكمة، فيمكن أن تهلك الإنسان، مثل يهوذا الأسخريوطى الذى أهلك نفسه بجمعه للمال من الصندوق (يو12: 6)، ولكن باقى التلاميذ الصيادين والبسطاء، الذين بلا سند، أو قوة مادية، بشروا المسكونة كلها وجذبوها للإيمان، و”فتنوا المسكونة” (أع17: 6) وشمشمون الجبار الذى انغمس فى الشهوات الشريرة، فقد علاقته مع الله، وبالتالى حكمته، وسقط فى أيدى الأعداء، وخسر قوته (قض16: 21). والإسكندر الأكبر الذى اكتسح العالم بقوته، عندما سقط فى الكبرياء، فقد الحكمة، فقتلته حشرة صغيرة، وهى بعوضة نقلت إليه مرض الملاريا، فمات وهو فى سن الشباب.
لا تنزعج يا أخى إذا كانت قدراتك ضئيلة بالقياس بمن حولك. لا تقارن نفسك بأحد؛ لأن عندك أهم شئ وهو الحكمة، أى المسيح الساكن فيك، الذى يحقق لك كل ما تعجز عنه، ويغير كل شئ لمصلحتك. آمن بالحكمة تغلب كل قوة.
ع2، 3: أقاصى : الأماكن البعيدة.
وينادى الكتاب المقدس الملوك والقضاة والمتسلطين على جماهير البشر ليفهموا هذا المبدأ الأساسى، أن الحكمة خير من القوة، إذ تخدعهم مراكزهم وسلطانهم، فيتكبروا ويفقدوا الحكمة، كما سقط نبوخذنصر ملك بابل وصار كالحيوانات، وكما سقطت إمبراطوريات كثيرة على مر الزمان.
هذا الكلام موجه أيضاً لكل واحد منا، إذا كان فى مكان مسئولية، أو رئاسة، أو رعاية، مثل كل أب وكل أم، وكل رئيس فى العمل، وكل مسئول فى الكنيسة عن أية خدمة. فليسأل كل واحد نفسه، وليفحصها فى ضوء كلمات هذه الآيات.
ع4: يستقصى : يفحص بدقة.
جيد أن يعرف كل مسئول فى مكانه أن قوته وسلطانه من الله، وأنه وكيل مؤتمن على هذه المسئولية، وسيقدم حساب وكالته له، إذ سيحاسب بتدقيق، فيخافه، ويسلك بحكمة واتضاع.
والمقصود بالسلطان، هو أية قدرة يتمتع بها الإنسان، سواء المعرفة، أو الذكاء، أو المركز، أو المال، أو العلاقات … والله سيفحص كل عمل يعمله الإنسان من جهة غرضه، ونيته، ومدى أمانته فى إتمامه. والله يعرف أفكار القلب الداخلية والنيات، فيجازى كل واحد بحسب أعماله ومشاعره الداخلية.
ع5: يبدأ حساب الله للرؤساء و المسئولين، فيوبخهم لنسيانهم أنهم خدام الله، وخدمتهم فى ملك الله، وليس ملكهم الشخصى، إذ يقودون شعبه بما يلى :
- بحفظهم وصاياه، بل ويشجعون الشعب على حفظها.
- الخضوع لإرادة الله.
- يحكمون بالحق.
إسأل نفسك ماذا يفعل المسيح لو كان مكانى؟ وبحسب كلام الله تسلك دون انزعاج داخلى، فتكون تصرفاتك للبنيان، وبهذا تخضع لمشيئة الله، فتحيا فى سلام وتصل للأبدية.
ع6: بغتة : فجأة.
سيمضى : سيجرى، أو سينفذ.
وتنذر هذه الآية أن الله سيظهر فجأة ويدين العالم كله، ويعاقب الأشرار، خاصة من كان لهم مسئولية، أو سلطان. إنه كلام واضح عن يوم الدينونة الأخير؛ لأن الله أعطى الحكام سلطاناً وقوة؛ ليقودوا شعبه؛ لذلك سيحاسبهم بشدة أكثر من غيرهم، فهو لا يشفق على من لا يشفق على رعيته.
ع7: أهل : مستحق.
أرباب : أصحاب.
الصغير هو كل إنسان ذو مركز قليل، أو قدرات ضعيفة، فهذا يطالب بالقليل، ويمكن أن يُعفى، رحمةً من المسئولين عنه، أما ذو المركز الكبير والقوة والسلطان الأكبر، يُطالب بشدة، ويُفحص أمره بأكثر تدقيق، كما أعلن المسيح أن “كل من أعطى كثيراً يطلب منه كثير ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر” (لو12: 48).
وكل إنسان وهبه الله قدرات، أو مواهب، هو مسئول عن استخدامها لفائدة الكنيسة، وكل من حوله، فهو وكيل عليها من الله؛ ليكون أميناً عليها، ويستثمرها لمجد اسمه القدوس، أما إذا استخدم هذه المواهب فقط لمصلحته الشخصية، فسيحاسبه الله عن هذا بشدة؛ لأنه تميز عن غيره، ولم يستخدم هذا التميز من أجل من يحتاجون ممن حوله.
إن الصغير هنا المتضع، فهذا يستدر رحمة الله، أما من يتكبر ويظن أنه قوى ويعتمد على قوته العالمية، فهذا يحاسب بلا رحمة، إذ أنه اعتمد على قوته، وكان قاسياً، فيحاسب بقسوة “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون” (مت5: 7)، وكما نقول فى صلاة نصف الليل : “لأنه ليس رحمة فى الدينونة لمن لم يستعمل الرحمة”.
ع8، 9: واضح أن الله كامل فى قدرته، فلا يخاف من أحد، أى لا يخاف من ذوى السلطان، بل يحاسب الكل، ويرحم الكل، الصغير فى قدراته، وكذا الكبير، يرحمهم على قدر اتضاعهم ورحمتهم للآخرين.
الله سيحاسب ويدين كل من له سلطان ولم يستخدمه من أجل الحق، مثل يهوذا الإسخريوطى تلميذ المسيح، الذى عرف كثيراً، ولكنه لم يستفد من هذه المعرفة، وقيافا رئيس الكهنة الذى تنبأ عن المسيح الفادى (يو11: 51) ومع هذا، اشترك فى صلب المسيح، وكذلك بيلاطس الذى كان له سلطان أن يطلق المسيح، ولكنه خاف من اليهود وجاملهم وسلم المسيح لأيديهم ليصلبوه.
كل هؤلاء ستكون دينونتهم أكبر من غيرهم، مثل الشعب الذى نادى أصلبه أصلبه.
وعلى الجانب الآخر، يكافأ كل من كان له إمكانيات قليلة، ولكنه كان أميناً فيها لمجد الله، مثل المرأة ذات الفلسين، مجدها الله أكثر من جميع من أعطوا، وداود الصغير بمعونة الله تغلب على جليات، أما شاول الملك إذ تكبر وقدم الذبيحة بدل الكاهن، رفضه الله وفارقه روحه القدوس.
ع10: يستكمل الله حديثه مع الملوك والرؤساء وكل مسئول فى أى مكان فى العالم وفى كل زمان، فيدعوه لتعلم الحكمة حتى لا يسقط فى الخطأ، ويدان من الله، فيفشل فى مسئوليته، ويخسر أبديته. فالسلطان أعطاه الله للبشر، ليستخدموه فى خدمة من حولهم، وليس للتشامخ والكرامة الشخصية، وكذلك يلزم أن يهتم الملوك بالاستمرار فى التعلم والتلمذة طوال حياتهم، كما أوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس الأسقف رأس الكنيسة بمداومة التعلم (1تى4: 16).
إهتم أن تسمع وصايا الله وتطيعها فتمتلئ حكمة. إن الاتضاع هو سبيلك لاقتنائها، وعلى قدر ما تزداد مسئولياتك، تحتاج لخضوع أكبر لله؛ ليسندك بحكمته، فيوجه قوتك حسب إرادته.
(2) الاحتياج للحكمة (ع11-21):
11فَإِن الَّذِينَ يَحْفَظُونَ بِقَدَاسَةٍ مَا هُوَ مُقَدَّسٌ يُقَدَّسُونَ، وَالَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ هذِهِ، يَجِدُونَ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ. 12فَابْتَغُوا كَلاَمِي، وَاحْرِصُوا عَلَيْهِ فَتَتَأَدَّبُوا. 13فَإِنَّ الْحِكْمَةَ ذَاتُ بَهَاءٍ وَنَضْرَةٍ لاَ تَذْبُلُ، وَمُشَاهَدَتُهَا مُتَيَسِّرَةٌ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهَا، وَوِجْدَانُهَا سَهْلٌ عَلَى الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَهَا. 14فَهِيَ تَسْبِقُ فَتَتَجَلَّى لِلَّذِينَ يَبْتَغُونَهَا، 15وَمَنِ ابْتَكَرَ فِي طَلَبِهَا لاَ يَتْعَبُ، لأَنَّهُ يَجِدُهَا جَالِسَةً عِنْدَ أَبْوَابِهِ. 16فَالتَّأَمُّلُ فِيهَا كَمَالُ الْفِطْنَةِ، وَمَنْ سَهِرَ لأَجْلِهَا فَلاَ يَلْبَثُ لَهُ هَمٌّ. 17لأَنَّهَا تَجُولُ فِي طَلَبِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلٌ لَهَا، وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ فِي الطُّرُقِ بَاسِمَةً، وَتَتَلَقَّاهُمْ كُلَّمَا تَأَمَّلُوا فِيهَا. 18فَأَوَّلُهَا الْخُلُوصُ فِي ابْتِغَاءِ التَّأْدِيبِ.
19وَتَطَلُّبُ التَّأْدِيبِ هُوَ الْمَحَبَّةُ، وَالْمَحَبَّةُ حِفْظُ الشَّرَائِعِ، وَمُرَاعَاةُ الشَّرَائِعِ ثَبَاتُ الطَّهَارَةِ. 20وَالطَّهَارَةُ تُقَرِّبُ إِلَى اللهِ. 21فَابْتِغَاءُ الْحِكْمَةِ يُبَلِّغُ إِلَى الْمَلَكُوتِ.
ع11: ويظهر الله الحكمة فى التمسك بوصاياه المقدسة، وكل ما يعطيه الروح القدس لنا فى الكنيسة من أسرار ووسائط النعمة. فإذا اقترب الإنسان بخشوع واهتمام إلى الله، فإنه يتقدس ويصير حكيماً. ولذا ينادى الكاهن فى القداس قائلاً : القدسات للقديسين، أى الذين آمنوا بالمقدسات. وكلمة “يقدسون” تعنى كذلك يمتلئون من عمل الروح القدس. وتعبير ما يحتجون به، تعنى أنهم يستطيعون أن يصدوا كل أفكار إبليس الشريرة، أى يكونوا محصنين بهذه القداسة، فيرفضوا كل شر، وتعنى أيضاً أنهم يجدون نعمة فى عينى الله يوم الدينونة.
ع12: ابتغوا : تمنوا واطلبوا.
إن الأدب هو نتيجة طبيعية للحكمة، ويتأتى من معرفة الإنسان لوصايا الله والتمسك بها، فيحفظه الله من كل انحراف فى الخطية. وكلمة “ابتغوا” تعنى محبة الحكمة وطلبها؛ ليتعلمها الإنسان ويحيا بها، وليس فقط مجرد طاعة بدون اقتناع.
ع13: ثم يعلن مجد الحكمة وبركاتها، فهى عظيمة كالنور الساطع تبهر العيون، متميزة عن كل شئ حولها، بل وجذابة للجميع، وأكثر من هذا، فحيوتها دائمة كالنباتات المستديمة الخضرة، التى لا تفقد جمالها ولا تذبل؛ لأن بركات الحكمة دائمة إلى الأبد لا تزول.
ثم يجيب على سؤال مهم هو، كيفية اقتناء الحكمة، فيعلن أنه سهل وميسور إذا توفر ما يلى :
- محبة الحكمة.
- الاهتمام بالبحث عنها؛ لأن الحكمة لا تقحم نفسها، أو تجبر أحدًا على قبولها، فمشكلة البشر هى الانهماك فى الماديات، فيهملوا الحكمة، وبالتالى لا يحصلون عليها، فتضيع حياتهم.
إن الحكمة هى الله، المسيح إلهنا، الأقنوم الثانى، الذى هو بهاء مجد الآب ورسم جوهره (عب1: 3)، وهو أيضاً الحياة (يو14: 6)، ويسهل الوصول إليه؛ لأنه واقف على باب القلب يقرع (رؤ3: 20).
إذا طلبت المسيح وأعطيته مكاناً فى قلبك تقتنى حياتك، وتجد المجد والبركة والسعادة فى الأرض وفى السماء. إعط وقتاً لممارساتك الروحية، أى الوجود مع الله، فيسكب عليك حكمته بسهولة ويسر.
ع14، 15: تتجلى : تظهر بوضوح.
ابتكر : قام باكراً.
من يطلب الحكمة باهتمام، ويظهر ذلك فى التبكير إليها (أم8: 17)، أى يعطيها بكور وقته واهتمامه، ويفضلها عن ارتباطاته واحتياجاته المادية، فالحكمة تظهر أمامه، وتتجلى بمجدها أمام عينيه، فهى تسرع نحوه، ويجدها عند بابه، فلا يتوه فى البحث عنها، إذ يجدها أقرب ما تكون إليه. ويلاحظ فى هاتين الآيتين ما يلى :
- يلزم أن يبتغى ويبكر الإنسان ويسعى نحو الحكمة، ولكنه لا يستطيع أن يحصل عليها بمفرده؛ لأن الحكمة هى الله. ولكن الله عندما يرى سعيه يسبق ويلتقى به، ويفيض عليه بحكمته. فجهاد الإنسان وسعيه ضرورى لنوال نعمة الله.
- الحكمة عندما تأتى للإنسان تجلس عند بابه، أى تقترب إليه، ولكن لا تدخل إلا إذا قام وفتح الباب، فيجدها بسهولة أمامه. فكما ذكرنا فى الآية السابقة، فإن الله يقرع على الباب وينتظر أن يفتح له الإنسان.
ع16: وإذا وجدت الحكمة وشعرت بالله معك، فهل ستمسك به وتتأمل جماله ؟ .. هذا هو العمق الروحى وحياة الكاملين. هل تستوعب معانى كلمات الصلاة، وتسكب كل مشاعرك أمامه؟ .. هل تتأمل فى كلمات الكتاب المقدس ؟ إذا فعلت هذا سيكشف الله لك أعماقاً جديدة من حبه، وتشعر بلذة لا يعبر عنها، ترفع عنك كل هموم العالم؛ حتى وإن كنت داخل المشكلة سيذهب عنك كل ضيق، وتكون فى سعادة لا يعبر عنها، بل تشعر أن هذه اللحظات ليست من لحظات الزمان الأرضى، بل هى عربون وصورة مصغرة للأبدية تذقها على الأرض. إن السهر الروحى، أى الاهتمام بالوجود مع الله يدخلنا فى شركة السمائيين ويرفعنا فوق كل أتعاب الأرض.
ع17: تجول : تسعى.
أهل لها : يستحقونها.
إن الحكمة تفرح بمن يطلبها، وتظهر محبتها له فيما يلى :
- تجول باحثة عمن يستحقونها ويبتغونها ويشتاقون إليها.
- تتمثل فى طريق من يجاهدون فى طلبها، فتظهر لهم بأشكال مختلفة بابتسامتها، أى تشجعهم على مواصلة الجهاد الروحى، سواء بكلمات الكتاب المقدس، أو تشجيعات الآخرين، أو أية بركات تهبها لهم.
- تتلقى المجاهدين المتأملين فيها بالأحضان والترحيب، مثل التأمل فى كلمات الكتاب المقدس، أو البحث عن الله فى الطبيعة وأحداث الحياة وعنايته بالبشر. وهكذا تظهر للمتأملين الباحثين عنها، فتدخلهم إلى أعماق جديدة فيها.
ع18-20: الخلوص : الإخلاص، أى الصفاء والنقاوة والاستقامة فى طلب الشئ.
ولكن الحكمة تشترط ما يلى لنوالها :
1- الخلوص فى ابتغاء التأديب :
أن يبتغى الإنسان التأديب، يعنى ضيق الإنسان الشديد من الخطية التى يصنعها، فيفضل العقاب الإلهى، وخسارة كل شئ أرضى؛ ليتمتع بالحياة النقية مع الله، فهو يضحى بكل لذاته واحتياجاته المادية وكل كرامة أرضية؛ ليتنقى من خطاياه؛ حتى يتأهل لاقتناء الحكمة، أى التمتع بالوجود مع الله، فهو ليس فقط يقبل التجارب والضيقات، بل يطالب الله أن يؤدبه بالتجارب، وينقيه؛ ليتمتع بمعاينة الحكمة. هكذا شعر داود النبى فقال : “جربنى يا رب وامتحنى صف كليتى وقلبى” (مز26: 2).
2- المحبة :
ثم يعلن باقى شروط اقتناء الحكمة، وهى تتدرج كسلسلة تؤدى كل واحدة للأخرى. فطلب التأديب ينمى محبة الإنسان لله، فينغلق القلب بالله عن الماديات ويرفع قلبه بالصلاة، ويصغر العالم فى عينيه، ويشعر تدريجياً أن باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس، كما قال الحكيم سليمان فى سفر الجامعة (جا1: 2، 3).
3- حفظ الشرائع :
محبة الله تقود الإنسان إلى حفظ وصاياه “الذى عنده وصاياى ويحفظها فهو الذى يحبنى” (يو14: 21)؛ لأن من يحب أحداً، يحب كلامه ويحفظه ويحيا به، إذ يرى من يحبه فى كلامه، أى نرى الله فى وصاياه، ونتمتع بعشرته.
4- الطهارة :
حفظ الوصايا ومراعاة الشرائع فى كل سلوكنا وكلامنا وأفكارنا، سينقينا من كل خطية ويحفظنا فى طهارة ونقاوة.
5- تقرب إلى الله :
وإذ نتمتع بالنقاوة والطهارة نصبح أهلاً للاقتراب من الله ومعاينته، بل والدخول إلى أعماقه “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت5: 8).
أرأيت يا أخى إن اقتناء الحكمة هو اقتناء الله، وأن الطريق إليه أصبح واضحاً للحصول على حكمته، والعلامات محددة، فإن كنت تحب الله، فاقبل تأديبه، بل واطلبه، وهذا يرفعك فوق كل خطية، ويقودك إلى الملكوت.
ع21: من يطلب الحكمة يتحلى بكل الشروط الخمسة السابقة، فينال فى النهاية مكافأة الحكمة، وهى الملكوت السماوى؛ وهذا هو الملك الحقيقى.
(3) الملك الحكيم (ع22-27):
22فَإِنْ كُنْتُمْ تَلْتَذُّونَ بِالْعَرْشِ وَالصَّوْلَجَانِ، يَا مُلُوكَ الشُّعُوبِ، فَأَكْرِمُوا الْحِكْمَةَ لِكَيْ تَمْلِكُوا إِلَى الأَبَدِ، 23وَأَحِبُّوا نُورَ الْحِكْمَةِ يَا حُكَّامَ الشُّعُوبِ. 24وَأَنَا أُخْبِرُكُمْ مَا الْحِكْمَةُ وَكَيْفَ صَدَرَتْ، وَلاَ أَكْتُمُ عَنْكُمُ الأَسْرَارَ، لكِنْ أَبْحَثُ عَنْهَا مِنْ أَوَّلِ كَوْنِهَا، وَأَجْعَلُ مَعْرِفَتَهَا بَيِّنَةً، وَلاَ أَتَجَاوَزُ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، 25وَلاَ أَسِيرُ مَعَ مَنْ يَذُوبُ حَسَدًا، لأَنَّ مِثْلَ هذَا لاَ حَظَّ لَهُ فِي الْحِكْمَةِ. 26إِنَّ كَثْرَةَ الْحُكَمَاءِ خَلاَصُ الْعَالَمِ، وَالْمَلِكَ الْفَطِنَ ثَبَاتُ الشَّعْبِ، 27فَتَأَدَّبُوا بِأَقْوَالِي وَاسْتَفِيدُوا بِهَا.
ع22: تلتذون : تتمتعون.
الصولجان : عصا الملك.
يوجه نظرنا هنا إلى الملك الحقيقى وهو الملكوت الدائم الأبدى، أما المُلك الأرضى فهو زائف؛ لأنه مؤقت وزائل، وقد يكون باختيار الناس، وليس لله. فالملك الأرضى هو رأى الناس، أما الملكوت الأبدى فهو رأى الله؛ لذا فهو حقيقى، وهذا الأخير يحتاج بالضرورة إلى الحكمة، أى الله. فإن سلك الملك الأرضى بالحكمة، أى سار مع الله، فهو يملك إلى الأبد، وإن لم يسلك فى الحكمة، فملكوته زائف ومؤقت.
والمُلك الحقيقى هو أن يملك الإنسان على نفسه، فيضبط حواسه، وكل طاقاته، ويعطى مكاناً لله ليملك عليه، ويقدم نفسه ذبيحة حب لله فى عبادة مقدسة، وخدمة باذلة. وهذا بالطبع ينجح فى القيام بمسئولياته نحو الآخرين، ويحبه الجميع، ويقودهم فى طريق السماء.
وليس الملك الحقيقى مرتبطاً بسمو المركز الأرضى، فقد يبدو الإنسان عادياً وأقل من كثيرين، وذو مركز صغير فى المجتمع، ولكن إن كان ضابطاً لنفسه، فهو أعظم من الكل، وملكه يدوم إلى الأبد، كما يعلمنا سليمان الحكيم فى سفر الأمثال، فيقول : “مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة” (أم16: 32).
ع23: ليتكم أيها الرؤساء تحبون نور الحكمة، وليس نور الماديات، أى تستنير عقولكم بمعرفة الله وليس معرفة العالم الشرير، حينئذ تقتنون التمييز والحكم السليم على كل الأمور، وتقودون كل من حولكم لمعرفة الله، واطلبوا الحكمة كما طلبها سليمان فوهبها له الله (1مل3: 9، 11).
ع24: بينة : واضحة.
وبعد أن دعى سليمان الرؤساء لمحبة الحكمة، فهو يعلنها لهم، ويعلن أن الله هو مصدرها، ويجعلها واضحة لهم تماماً، ويكشف أعماقها ويمتعهم بكل أسرارها. ويضيف سليمان أنه يبحث عن الحكمة منذ بدايتها، أى منذ الأزل؛ لأن الحكمة هى الله. ويعلن أنه يدقق فى بحثه عن الحكمة؛ حتى لا يتجاوز كلام الله، الذى هو الحق، بل يلتزم بكل وصايا الله، وشرائعه.
ع25: ويتنافر محبو الحكمة مع الحاسدين؛ لأن الحسود أنانى لا يحب الآخرين، وبهذا قد انفصل عن الحكمة التى هى الله مصدر كل الحب. وتعبير “يذوب حسداً” تعنى الانغماس فى الحسد والامتلاء منه، فيكون فى شدة الأنانية، أما الحكيم فيميل للعطاء والبذل حباً فى الآخرين.
ع26: الفطن : الحكيم.
إذا كثر الحكماء فى الشعب يقودونه فى طريق الله؛ لينالوا خلاص نفوسهم، وخاصة إذا كانوا يشغلون مركز الرئاسة والسلطان.
هكذا كان يوشيا الملك الصالح الذى أزال عبادة الأوثان، ورمم الهيكل، وشجع الشعب على عبادة الله. وعلى العكس يربعام بن نباط أضل الشعب بصنعه عجلين، ودعى الشعب للسجود لهما، فأبعد شعبه عن الله. والملك الفطن أى الحكيم يثبت شعبه فى طريق الصلاح، فيحيا الجميع مع الله فى طمأنينة.
والحكمة تخلص الإنسان من خطاياه، وكل خداعات وحروب إبليس، ليس على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الكنيسة كلها، أى المؤمنين بالحكمة وطالبيها. والحكمة تثبت الإنسان فى الحياة مع الله، فيستقر ويفرح دائماً ويتمتع بمحبته.
ع27: يختم الكاتب هذا الإصحاح بتنبيه من يقرأون كلامه إلى الاستفادة بكل الأقوال الموجودة فى هذا الأصحاح، التى تخاطب الملوك، وكل من كان فى مكان مسئولية فى بيته، أو فى عمله؛ ليصحح أخطاءه، ويحيا فى الأدب الروحى، ويعمل بالحكمة، فيستريح ويقود من معه فى طريق الله.
ليتنا نصغى باهتمام إلى تعاليم الله لنا فى الكنيسة والكتاب المقدس، فهى رسالة شخصية لكل واحد منا يرسلها الله له لخلاصه.إن كنت تبغى الحكمة فستتمتع بها كهبة إلهية. إن كنت تعطيها وقتاً، وتفضلها عن لذاتك وشهواتك، فستجدها أمامك. إن الله يريدك، ويود أن يعطيك نفسه، ولو كنت تريده فلا تتوان، قم أطلبه سريعاً بالصلاة والتضرع، واشكره على عطاياه، فينفتح قلبك كإناء صالح؛ ليملأه الله بالحكمة.