عمل الحكمة من آدم إلى الخروج من مصر
حدثنا القسم الأول من سفر الحكمة (ص1-5) عن مكافأة الأبرار، ومصير الأشرار. والقسم الثانى من السفر من (ص6-9) حدثنا عن مفهوم الحكمة ومدحها. أما القسم الثالث، فيبدأ هنا من (ص10) ويمتد إلى نهاية السفر (ص19)، ويحدثنا عن عمل الحكمة فى العهد القديم. نرى ذلك من خلال حياة آدم إلى خروج شعب الله من مصر، ويشرح بالتفصيل عمل الله العجيب مع شعبه، ومقابلة ذلك بما كان يعانيه المصريون.
(1) آدم وهابيل ونوح (ع 1 – 4):
1هِيَ الَّتِي حَفِظَتْ أَوَّلَ مَنْ جُبِلَ أَبًا لِلْعَالَمِ لَمَّا خُلِقَ وَحْدَهُ، 2وَأَنْقَذَتْهُ مِنْ زَلَّتِهِ، وَأَتَتْهُ قُوَّةً لِيَتَسَلَّطَ عَلَى الْجَمِيعِ. 3وَلَمَّا ارْتَدَّ عَنْهَا الظَّالِمُ فِي غَضَبِهِ، هَلَكَ فِي حَنَقِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ قَاتِلَ أَخِيهِ. 4وَلَمَّا غَمَرَ الطُّوفَانُ الأَرْضَ بِسَبَبِهِ، عَادَتِ الْحِكْمَةُ فَخَلَّصَتْهَا بِهِدَايَتِهَا لِلصِّدِّيقِ فِي آلَةِ خَشَبٍ حَقِيرَةٍ.
ع1: يظهر فى هذا الأصحاح رعاية الحكمة للجنس البشرى على مر التاريخ، ويبدأ بآدم أول الجنس البشرى، الذى خلقته الحكمة الإلهية، أى الأقنوم الثانى، وحفظته فى حياة نقية، وتمتع بعشرة الله فى الجنة، رغم أنه كان وحيداً قبل خلقة حواء، لكن لم يعوزه شئ؛ لأن الله أشبعه بمحبته، ثم أعطاه حواء؛ ليتمتع معها بعشرة الله. فالله حفظه مدة طويلة من العمر، وهى 930 سنة. وآدم هو وحده الذى خُلق من الطين، ونفخ فيه الله نسمة حياة، أما باقى البشر فقد خلقوا من آدم، فهو ليس وحده الذى حفظته الحكمة، بل وحده تميز فى طريقة خلقته.
ع2: وأعطته الحكمة سلطاناً على كل الحيوانات والنباتات والعالم المحيط به، فقسم الحيوانات إلى أنواع، وسماها بأسمائها، وكذا قسم النباتات، وطبائعها، ورعايتها. كيف فهم آدم كل هذا ؟ … إنها الحكمة الإلهية التى أعطته كل هذا الفهم.
وعندما سقط الإنسان الأول فى الخطية، واستحق الطرد من الجنة؛ لقد حُكم عليه بالموت، وإذ لا وجود للميت (آدم) وسط الحياة التى فى الجنة. كانت حكمة الله معه عندما طُرد؛ لتعده بالخلاص، عندما قال لحواء أن نسلها يسحق رأس الحية، الذى هو المسيح الأقنوم الثانى المتجسد، أى الحكمة الإلهية المتجسدة تسحق رأس الشيطان الحية القديمة (تك3: 15).
إن كانت خطية الإنسان أسقطته من الفردوس إلى الأرض، فإن محبة المسيح أقنوم الحكمة الإلهى أحضرته من السماء إلى الأرض، ليشارك باتضاعه الإنسان فى كل شئ ما خلا الخطية وحدها، ويقدم له إمكانية السلوك بالوصية وسط العالم الشرير، ويدفع عنه عقاب خطاياه على الصليب، ويقيمه فى حياة جديدة، ويستعيد فردوسه المفقود.
فرغم عظم خطية آدم، وما جرته على البشرية كلها من أتعاب لا حصر لها، لكننا إن جاز لنا – نكاد نشكره؛ لأنه كان سبباً فى إظهار محبة الله العجيبة وإتضاعه، بتجسد الابن الكلمة، وما وهبه للإنسان من نعم ومواهب لا حصر لها أيضاً فى العهد الجديد.
لو كنت تشعر أنك وحيداً فى هذا العالم، فثق أن علاقتك بالله تستطيع أن تشبعك، وتحفظك، وترفعك، وتعطيك سلطاناً روحياً، ونعمة فى عون الجميع، وإن سقطت فى الخطية تنقذك ما دمت متمسكاً بها.
ع3: حنقه : شدة غضبه.
تعلم هابيل الصديق من أبيه آدم أهمية تقديم الذبيحة الدموية لإرضاء الله، وكانت رمزاً لذبيحة المسيح. وعندما طلب الله من الأخوين قايين وهابيل تقديم الذبيحة له؛ ليباركهما، أهمل قايين تعاليم أبيه آدم، ولم يقدم ذبيحة، بل بعضاً من نباتات الحقل التى يزرعها، فقبل الله ذبيحة هابيل، ورفض تقدمة قايين، لعدم طاعته وإهماله لتعليم الله.
لم يتب قايين ويسرع لتقديم ذبيحة دموية؛ لإرضاء الله، بل على العكس غضب من أخيه البار، وفكر فى التخلص منه؛ ليصير العالم كله له. وحذرته الحكمة الإلهية؛ ليتوب، ولم يسمع منها، بل قام على أخيه وقتله.
قبل الله روح هابيل، أما قايين، الذى رفض الحكمة الإلهية، رفضته هى أيضاً، فصار فى خوف وقلق عظيم من كل الحيوانات، وطلب من الله أن يعطيه علامة، حتى لا يهلكه أحد.
يُلاحظ أن الكتاب المقدس هنا لم يذكر أسماء الأشخاص، وهم قايين وهابيل؛ لأنه يركز على المعنى الروحى أكثر من أسماء الأشخاص. وكل خاطئ هو ظالم؛ وكل بار هو تقى، والحكمة هى التى تحفظه، أما الظالم فيرفضها.
ع4: لأول مرة يذكر الكتاب المقدس أن الطوفان كان بسبب خطية قايين الشرير، فقد انتشرت خطيته فى نسله، وصاروا جميعاً أشراراً.
تزوج قايين واستمر فى شره وظلمه لمن حوله، وابتعد عن الله هو ونسله. أما الله فقد افتقد العالم بولادة شيث البار من آدم. ولكن لما اختلط نسل شيث الأبرار بنسل قايين الأشرار، فسد الكل.
ولكن بقيت أسرة واحدة تؤمن بالله، وهى أسرة نوح، الذى أخذ ينادى العالم حوله بالتوبة، فلم يسمع له. وأمرت الحكمة الإلهية نوح بعمل الفلك؛ ليخلص من الطوفان، وتبقى حياة على الأرض.
وهكذا دبرت حكمة الله خلاصاً للأرض بواسطة آلة خشبية حقيرة، وهى سفينة الفلك، التى كانت رمزاً لخشبة الصليب رمز العار، التى بصلب المسيح عليها أعطت خلاصاً للعالم كله. ويصف الفلك بآلة خشبية حقيرة، ليس لأن الفلك حقير فى ذاته، ولكنه رمز للصليب الذى هو آلة حقيرة وتم عليها خلاص البشرية.
إن كان الشر محيطاً بك من كل جانب ومتزايداً، فلا تنزعج؛ لأن الله قادر أن يخلصك من موت الخطية، وظلم الأشرار، ويحفظك بعلامة الصليب، فتحيا معه فى فرح وسط الآلام.
(2) إبراهيم ولوط (ع5-9):
5وَهِيَ الَّتِي عِنْدَ اتِّفَاقِ لَفِيفِ الأُمَمِ عَلَى الشَّرِّ، لَقِيَتِ الصِّدِّيقَ وَصَانَتْهُ للهِ بِغَيْرِ وَصْمَةٍ، وَحَفِظَتْ أَحْشَاءَهُ صَمَّاءَ عَنْ وَلَدِهِ. 6وَهِيَ الَّتِي أَنْقَذَتِ الصِّدِّيقَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْهَالِكِينَ؛ فَهَرَبَ مِنَ النَّارِ الْهَابِطَةِ عَلَى الْمُدُنِ الْخَمْسِ. 7وَإِلَى الآنَ يَشْهَدُ بِشَرِّهِمْ قَفْرٌ يَسْطَعُ مِنْهُ الدُّخَانُ، وَنَبَاتٌ يُثْمِرُ ثَمَرًا لاَ يَنْضَجُ، وَعَمُودٌ مِنْ مِلْحٍ قَائِمٌ تَذْكَارًا لِنَفْسٍ لَمْ تُؤْمِنْ. 8وَالَّذِينَ أَهْمَلُوا الْحِكْمَةَ، لَمْ يَنْحَصِرْ ظُلْمُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ بِجَهْلِهِمِ الصَّلاَحَ، وَلكِنَّهُمْ خَلَّفُوا لِلنَّاسِ ذِكْرَ حَمَاقَتِهِمْ، بِحَيْثُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا كِتْمَانَ مَا زَلُّوا فِيهِ. 9وَأَمَّا الَّذِينَ خَدَمُوا الْحِكْمَةَ؛ فَأَنْقَذَتْهُمْ مِنْ كُلِّ نَصَبٍ.
ع5: لفيف : جماعة.
صانته : حفظته.
وصمة : خطية.
صماء : قوية متماسكة غير منهارة.
بعد مرور فترة على الطوفان، وتكاثر النسل، اجتمع البشر؛ ليبنوا برجاً يصل رأسه إلى السماء، إذ خافوا من الغرق بطوفان جديد، فيكون هذا البرج حماية، وإنقاذاً لهم، رغم أن الله وعدهم بعدم إرسال طوفان على الأرض مرة أخرى، وأعطاهم علامة قوس قزح فى السماء عند نزول المطر الكثير؛ ليطمئنهم، ومازال يظهر حتى اليوم.
وهناك بلبل الله ألسنتهم، أى تكلموا بلغات مختلفة، فلم يفهموا بعضهم البعض، وتفرقوا، وضل كل واحد فى طريقه عن الله. ولكن ظل إبراهيم البار فى حياة نقية وسط الأشرار فى مدينة أور الكلدانيين.
ثم أخرجه الله إلى البرية؛ ليحيا بعيداً عن الشر. ورزقه اسحق ابن الموعد، رغم كبر سنه هو وزوجته، واستحالة إنجاب النسل. ولكن بعد سنوات، طلب منه أن يُقدم إسحق ذبيحة، فحفظت الحكمة أحشاء ومشاعر هذا الأب العجوز قوية ومتماسكة، لينفذ أوامر الله بذبح ابنه. وإذ رأى الله محبته وطاعته فدى إسحق بكبش، رمزاً للمسيح الفادى.
من هذه الآية يظهر شر البشر بعد الطوفان، عندما فكروا فى أنفسهم ببناء برج بدلاً من الإيمان بوعد الله بعدم إرسال طوفان. أما إبراهيم فآمن بالله، وأطاعه، مغالباً مشاعر الأبوة نحو اسحق، وقبل أن يقدمه ذبيحة لله. هؤلاء انحطوا عن الإيمان البسيط بالله، فتبلبلوا وخزوا، أما إبراهيم فقد ارتفع فوق مشاعر البشرية؛ لأجل إيمانه الفائق بالله، فأصبح أباً للآباء.
هل تستطيع أن تطيع الله رغم صعوبة تنفيذ الوصية ؟ إن كان قد قدم نفسه ذبيحة عنك، فهل تتنازل عن راحتك وشهواتك لأجل محبته ؟ هل تضحى وتتعب لأجل خدمته ؟
ع6: أما لوط البار الذى عاش وسط الأشرار فى سدوم، متمسكاً ببره، فقد أنقذته الحكمة الإلهية من الانقياد إلى شرهم، وأرسلت إليه ملاكين أخرجاه من سدوم هو وأسرته، قبل أن تنزل نار من السماء وتحرق الخمس مدن التى هى : سدوم، وعمورة، وآدمة، وصبويم، وبالع التى هى صوغر (تك14: 2). وقد صفح الله عن صوغر؛ لأن لوط طلب أن يسكن فيها، فلم تحترق (تك19: 22).
ع7: وتأكيداً لغضب الله على الأشرار فإن مكان سدوم وعمورة والخمس مدن التى أحرقها الله هو حالياً الجزء الجنوبى من البحر الميت. وقد اكتست هذه المنطقة بالملح، حيث لا تصلح لزراعة نباتات. ويشهد المؤرخ يوسيفوس (38م – 100م) أنه فى هذه المنطقة تنبت نباتات ثمارها لا تنضج، ولا يمكن أكلها تسمى تفاح سدوم. هذه المنطقة مقفرة، تؤكد استحالة الحياة فيها بسبب شر من سكنوا فيها قبلاً. ويشهد الفيلسوف السكندرى فيلو، الذى عاش فى الفترة بين عام (20 ق.م – 50م) أنه حتى أيامه كان الدخان يتصاعد من هذه المنطقة، وأنه توجد أعمدة من الملح، أحدها يطلق عليه عمود إمرأة لوط.
على قدر محبة الله لأولاده وحفظه لهم وسط العالم الشرير، على قدر كراهيته للشر وغضبه عليه. فابتعد عن مخالطة الأشرار، والسقوط فى خطاياهم، فتحيا مع الله فى سلام.
ع8: زلوا : سقطوا.
يتكلم سليمان الحكيم هنا عن نهاية الجهلاء الذين رفضوا الحكمة. لقد فقدوا الصلاح والبر، وعاشوا بعيداً عن الله فى حياة تعيسة. وأكثر من هذا إنهم صاروا صورة سيئة أمام الذين أتوا بعدهم؛ لأنهم فى حياتهم حاولوا إخفاء تعاستهم بانهماكهم فى الشهوات الشريرة، وخداع أنفسهم. ولكن بعد موتهم صارت حياتهم مثالاً للتعاسة، نتيجة البعد عن الحكمة، أى أن سيرتهم أصبحت مؤذية لمسامع الناس.
ع9: نصب : شر، أو إساءة واحتيال وعداوة الآخرين.
وعلى النقيض، فإن الذين أحبوا الحكمة، وتمسكوا بها، وعاشوا حياتهم لخدمة الله، تمتعوا بعشرته، وبسلام داخلى لا يستطيع الأشرار أن يعرفوه، “ليس سلام قال إلهى للأشرار” (إش57: 21)، وأنقذهم الله من شر المحيطين بهم، ومحاولة إبعادهم عن الله. وليس للأبرار أعداء إلا الشياطين الذين ينصبون الفخاخ لإسقاطهم، ولكن الله ينقذ أولاده، وتكون فى النهاية سيرتهم العطرة قدوة لمن يأتى بعدهم.
تأمل سير الأبرار لتقتدى بهم، وسير الأشرار حتى لا تسقط مثلهم فى فخاخ إبليس؛ لأن إبليس حيله متكررة، وقراءة أقوال القديسين تكشفها لك. تمسك بكلمات الكتاب المقدس، وعِش فى الكنيسة، فتسلك مطمئناً بالحكمة فى الحياة.
(3) يعقوب ويوسف (ع10-14):
10وَهِيَ الَّتِي قَادَتِ الصِّدِّيقَ الْهَارِبَ مِنْ غَضَبِ أَخِيهِ فِي سُبُلٍ مُسْتَقِيمَةٍ، وَأَرَتْهُ مَلَكُوتَ اللهِ، وَأَتَتْهُ عِلْمَ الْقِدِّيسِينَ، وَأَنْجَحَتْهُ فِي أَتْعَابِهِ، وَأَكْثَرَتْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِ. 11وَعِنْدَ طَمَاعَةِ الْمُسْتَطِيلِينَ عَلَيْهِ، انْتَصَبَتْ لِمَعُونَتِهِ وَأَغْنَتْهُ، 12وَوَقْتَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَحَمَتْهُ مِنَ الْكَامِنِينَ لَهُ، وَأَظْفَرَتْهُ فِي الْقِتَالِ الشَّدِيدِ، لِكَيْ يَعْلَمَ أَنَّ التَّقْوَى أَقْدَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. 13وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَخْذُلِ الصِّدِّيقَ الْمَبِيعَ، بَلْ صَانَتْهُ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَنَزَلَتْ مَعَهُ فِي الْجُبِّ. 14وَفِي الْقُيُودِ لَمْ تُفَارِقْهُ، حَتَّى نَاوَلَتْهُ صَوَالِجَةَ الْمُلْكِ، وَسُلْطَانًا عَلَى الَّذِينَ قَسَرُوهُ، وَكَذَّبَتِ الَّذِينَ عَابُوهُ، وَأَتَتْهُ مَجْدًا أَبَدِيًّا.
ع10: ثم تظهر قوة الحكمة الإلهية فيما يلى :
1- “هى التى قادت الصديق الهارب من غضب أخيه” فى سبل مستقيمة” :
فأنقذت الحكمة يعقوب آب الآباء من يد أخيه عيسو، إذ بعدما سرق البكورية، بإيعاز من أمه رفقة، وعلم عيسو، أضمر له الشر. فهرب يعقوب فى البرية، مسافرا نحو خاله لابان.
وقاده الله فى سبل مستقيمة، فلم يضل فى البرية، بل هداه الله إلى طريق خاله لابان. ومن ناحية أخرى، أبعده الله عن الكذب الذى سقط فيه بإرشاد أمه، فسار باستقامة، يريد أن يهرب بحياته، ويحيا لله.
2- “أرته ملكوت الله وأتته علم القديسين” :
كان يعقوب مضطرباً وخائفاً، وعندما نام فى البرية وحيداً، ظهر له الله فى حلم عجيب، إذ رأى سلم من الأرض يمتد نحو السماء، وملائكة صاعدون ونازلون عليه، وسمع صوت الله من السماء يطمئنه ويباركه. وهكذا فى عمق الضيقة انكشفت له أسرار الله العجيبة. وكان هذا نبوة عن تجسد المسيح وفدائه.
3- “أنجحته فى أتعابه وأكثرت ثمرات أعماله” :
ثم أوصله الله إلى خاله، الذى رحب به؛ ليعمل عنده وزوجته وابنتيه ليئة وراحيل. وعمل أربع عشرة سنة فى رعاية غنم لابان بدون أجر، كمهر لزوجته. وكان الله معه، فأنجحه فى عمله، فزادت أملاك خاله جداً، كما أعطاه الله نسل كثير، هم أثنا عشر ابناً عدا البنات. وصار أبناؤه رؤساء أسباط الله بعد هذا.
ع11: المستطيلين : المتطاولين الظالمين.
انتصبت : قامت.
بعد أربع عشرة سنة عمل يعقوب بالأجرة عند خاله لمدة ست سنوات. وكان خاله طماعاً، فغير أجرته عشر مرات (تك31: 7)، بغرض استغلاله. ولكن الله كان معه، فوعده الله فى حلم أنه سيباركه رغم ظلم خاله له (تك31: 11). فعندما كان خاله يقول له أن نصيبه هى الغنم المخططة، يبارك الله هذا النوع من الغنم أكثر من باقى الغنم، فتزيد أجرة وأملاك يعقوب. وكلما غير لابان نوع الغنم التى هى نصيب يعقوب يبارك الله هذا النوع، فصار يعقوب غنياً جداً.
ع12: ووقته : وحمته.
وأظفرته : ونصرته.
وأمام استغلال لابان خاله له، إضطر فى النهاية أن يهرب منه؛ هو وزوجتاه وأولاده. وعندما علم خاله قام وراءه برجال كثيرين؛ ليعيده بالقوة، ويسئ إليه. ولكن الله ظهر له، وحذره من الإساءة إلى يعقوب، فخاف جداً (تك31: 24). وعندما أدركه لابان، أعلن له حماية الله له، وقطع معه عهداً، يعلن فيه أنه لن يسىء إليه أبداً. وعندما وصل يعقوب إلى مكان إقامته الأول، وخرج عيسو بأربعمائة رجل عليه؛ لينتقم منه، بعد عشرين سنة، صلى طوال الليل، وظهر الله له، وباركه. ثم تقابل مع أخيه بعد أن هدأه الله، فتعانق الأخوان بمحبة.
وهكذا ظهرت قوة حياة البر وعشرة الله، التى تبارك من يتبعها وتحميه من كل الشرور، فلم يكن ممكناً ليعقوب أن ينجو من يد لابان، أو يد عيسو إلا بقوة الله، الذى ظهر فى الحلم للابان، ثم ظهر فى الرؤيا ليعقوب، وصارع يعقوب الله طالباً البركة، فنالها. فزاد هذا تمسك يعقوب بالله؛ ليعلم أن التقوى هى سر قوته.
ليتك تثق فى الصلاح والبر أكثر من كل شهوات وقوى هذا العالم؛ فهذه الأخيرة باطلة ومؤقتة، والله يسمح فيظهرها أمامك ليختبر بها إيمانك، وتمسكك به “الذى يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” (مت10: 22).
ع13: تخذل : تتخلى.
الجب : حفرة عميقة، والمقصود بها البئر، أو السجن.
أما قصة يوسف الصديق، فتعلن قوة الحكمة التى تحمى الضعفاء والمضطهدين. فرغم حسد إخوته له، ومحاولة قتله، وإلقاؤه فى البئر، وبيعه كعبد، كان الله معه فى مصر، وأنجحه فى بيت فوطيفار، وشدد قلبه فى طريق الطهارة، فرفض إغراءات إمرأة سيده فى إصرار عجيب، متمسكاً بمخافة الله؛ حتى ألقى فى السجن، وكان الله معه فى السجن، فوجد نعمة فى عينى رئيس السجن، وصار مساعداً له فى إدارة السجن بكفاءة ونجاح كبير.
ع14: صوالجه : جمع صولجان وهو قضيب المُلك، الى يمسكه الملك، ويشير إلى سلطانه.
قسروه : أجبروه، وتسلطوا عليه، وأذلوه. والمقصود إخوته، وفوطيفار، وكل معاونيه فى بيته، أو فى السجن.
ثم رفعته الحكمة إلى عرش مصر، بعد تفسير أحلام فرعون، فصار الرجل الثانى فى مصر، وخضع له فوطيفار، وكل رؤساء مصر، وظهرت براءته ونقاوته، بل بارك الله مصر كلها من أجله، وأعد الله له مجداً أبدياً فى السماء من أجل تقواه، فصار حكيماً فى الأرض، وفى السماء ممجداً بين القديسين.
إن الحكمة قادرة أن ترفع عنك كل ظلم، وتعلن نقاوتك، وتعوضك عن كل أتعابك، وتهبك مجداً فى السماء، فتمسك بها؛ حتى لو كنت وحدك، ووقفت الدنيا كلها ضدك، فستنتصر فى النهاية فى الأرض وفى السماء.
(4) خروج بنى إسرائيل من مصر (ع15-21):
15وَهِيَ الَّتِي أَنْقَذَتْ شَعْبًا مُقَدَّسًا، وَذُرِّيَّةً لاَ وَصْمَةَ فِيهَا مِنْ أُمَّةِ مُضَايِقِيهِمْ. 16وَحَلَّتْ نَفْسَ عَبْدٍ لِلرَّبِّ، وَقَاوَمَتْ مُلُوكًا مَرْهُوبِينَ بِعَجَائِبَ وَآيَاتٍ. 17وَجَزَتِ الْقِدِّيسِينَ ثَوَابَ أَتْعَابِهِمْ، وَقَادَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ عَجِيبٍ، وَكَانَتْ لَهُمْ ظِلاًّ فِي النَّهَارِ، وَضِيَاءَ نُجُومٍ فِي اللَّيْلِ. 18وَعَبَرَتْ بِهِمِ الْبَحْرَ الأَحْمَرَ، وَأَجَازَتْهُمُ الْمِيَاهَ الْغَزِيرَةَ. 19أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَأَغْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ قَذَفَتْهُمْ مِنْ عُمْقِ الْغِمَارِ عَلَى الشَّاطِئِ؛ فَسَلَبَ الصِّدِّيقُونَ الْمُنَافِقِينَ، 20وَرَنِّمُوا لاِسْمِكَ الْقُدُّوسِ، أَيُّهَا الرَّبُّ، وَحَمِدُوا بِقَلْبٍ وَاحِدٍ يَدَكَ النَّاصِرَةَ،
21لأَنَّ الْحِكْمَةَ فَتَحَتْ أَفْوَاهَ الْبُكْمِ، وَجَعَلَتْ أَلْسِنَةَ الأَطْفَالِ تُفْصِحُ.
ع15: ذرية : نسل، أو أبناء.
وصمة : عيب، أو عار.
ثم يتكلم عن الحكمة التى أنقذت شعباً كاملاً، وليس فقط أفراداً؛ هذا هو شعب الله، بنو إسرائيل، الذين عاشوا فى مصر، يعبدون الرب وسط الوثنيين المصريين.
ويصفهم بأن لا وصمة فيهم، كما وصف الله عروس النشيد، أى النفس البشرية بأنها لا عيبة فيها (نش4: 7). وهذا يبين محبة الله لشعبه الذى يفعل خطايا كثيرة، ولكنه يرى فيه الإيمان. ورغم أنهم كانوا مستعبدين لفرعون، وكانوا يعملون بالسخرة، أى بدون أجر، ورغم محاولات فرعون إضعافهم بإنهاكهم بالعمل، وقتل أطفالهم الذكور، إلا أن الحكمة الإلهية أجبرت، بالضربات العشر، فرعون على تركهم يخرجون من مصر.
ع16: يتكلم سليمان فى هذه الآية عن موسى النبى، فيقول :
“حلت نفس عبد الرب” :
حلت الحكمة على نفس موسى عبد الرب، ليصير قائداً حكيماً ومنقذاً لشعبه، بعد أن تربى فى قصور فرعون أمام عينيه، وتعلم كل حكمة المصريين.
“وقاومت ملوكاً مرهوبين بعجائب وآيات” :
وبقوة الحكمة استطاع موسى أن يقف أمام فرعون، ويضربه بالضربات العشر التى لم يتخيلها الملك؛ حتى أخرج شعبه بقوة واقتدار من مصر. والمقصود بالملوك المرهوبين هم فرعون، وكل عبيده ومشيريه.
عجيب هو الله فى محبته وقوته، يعتنى بالضعفاء، ويهز بهم عروش الأقوياء. لا تخف يا أخى مهما كان ضعفك، ومهما تعرضت للظلم؛ لأن إلهك قوى، يطيل أناته، ثم يسخر من قوى الأقوياء، ويمجد أولاده.
ع17: جزت : كافأت.
ومن أجل تمسك شعب الله بالإيمان، واحتمالهم أتعاب العبودية، لم يباركهم الله فقط بكثرة النسل، إذ دخلوا مصر وعددهم 72 فرداً، وبعد أربع مئة سنة صار عددهم 32 مليوناً. ولكن تكاثرت عليهم نعمة الله، فبعد خروجهم من مصر قادهم بعمود من السحاب نهاراً، وعمود من النار ليلاً. فالسحاب يظلل عليهم من الشمس، و النار تضئ لهم فى الليل كالنجوم. “والطريق العجيب” إما هو الطريق من عاصمة مصر “تنيس” إلى وصولهم للبحر الأحمر، أو يقصد طريقهم فى برية سيناء، حتى داروا فى البرية كلها؛ ليقضوا أربعين عاماً فى رعاية الله، بدلاً من أن يسلكوا الطريق الساحلى القصير، الذى يمر بالعريش؛ لأن الله أراد تنقيتهم بموت المتذمرين، ودخول الأبناء الأطهار إلى أرض كنعان.
ع18، 19: الغمار : البحر.
وأكثر من هذا كافأهم الله بشق البحر الأحمر لهم؛ ليعبروا فى وسطه بسلام. أما جيوش المصريين الذين خرجوا وراءهم؛ ليعيدوهم إلى العبودية بالقوة، فعندما تبعوهم فى البحر غمرتهم المياه، وغرقوا جميعاً. وفى اليوم التالى طفت جثثهم على وجه البحر، وقذفتها الأمواج على الشاطئ، وسلب بنو إسرائيل ما تغطت به هذه الجثث من حلى، أو ثياب وأسلحة، فخلصوا من شرهم، وصاروا غنيمة لهم، بالإضافة لما أخذوه من المصريين من حلى وجواهر قبل خروجهم من مصر. ونلاحظ هنا الكتاب المقدس يذكر لأول مرة ما حدث لجثث المصريين، وسلب اليهود لهم.
ع20: وأمام هذا الانتصار العظيم، الذى لم يسمع مثله من قبل فى العالم كله، قادت مريم أخت موسى وهارون الشعب فى تسبيح الله وتمجيده.
ع21: تفصح : من فصاحة، أى تتكلم بكلام عظيم هو تسبيح الله.
وهكذا انفتحت أفواه الضعفاء، الذين هم بالقياس بالمصريين يعتبرون أطفالاً. والذين سكتت ألسنتهم عن الكلام سنيناً طويلة من الذل والسخرية، الآن انفتحت بالترنيم، وبعد صمت طويل كانوا فيه كالبُكم، رنموا لقوة الله، الذى نصرهم على أقوى جيش فى العالم آنذاك. ولعل أطفال العبرانيين اشتركوا أيضاً فى التسبيح (خر15). إن كان الشيطان قد أذلك بالخطية سنيناً طويلة، وسد فمك عن الصلاة، فالله مستعد أن يحررك من كل شهواتك، إن مُت عن العالم بالتوبة فى سر الاعتراف، الذى هو معمودية ثانية، ويعطيك حياة جديدة، ويفتح فمك للصلاة و التسبيح، فتفرح بنصرة الله، ويده التى تسندك.