السماء والأرض الجديدتان
مقدمة الأصحاح : بعد طرح الشيطان وأعوانه وكل الأشرار فى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت ومشهد الدينونة، ينقلنا الروح إلى مشهد رائع وهو حديثه عن ملكوت السموات ولقاء المسيح مع أولاده القديسين.
(1) مسكن الله مع الناس (ع1-8):
1ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِى مَا بَعْدُ. 2وَأَنَا، يُوحَنَّا، رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ، نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. 3وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «هُوَذَا مَسْكَِنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهًا لَهُمْ. 4وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِى مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِى مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ.» 5وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَىْءٍ جَدِيدًا.» وَقَالَ لِىَ: «اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ.» 6ثُمَّ قَالَ لِى: «قَدْ تَمَّ. أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِى الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانًا. 7مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَىْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلَهًا، وَهُوَ يَكُونُ لِىَ ابْنًا. 8وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِى الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِى هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِى.»
ع1: سماءً جديدة وأرضًا جديدة : أى منظر لخليقة جديدة لم يعرفها البشر من قبل ولم ترد حتى على خيالنا.
يلاحظ أنه فى بدء الكتاب المقدس (تك1) كان الكلام عن خلقة السماء والأرض، وإذ ينتهى الكتاب المقدس، يكون الكلام أيضًا على “سماء جديدة وأرض جديدة”، وللتأكيد على هذه الصورة الجديدة للسماء والأرض، يضيف لنا ويؤِّكد زوال الأرض المادية وسماء النجوم التى اعتاد البشر الحياة عليها وتحتها.
أما سبب وجود سماء جديدة وأرض جديدة فهو كناية عن حياة جديدة لا علاقة لها بقوانين الحياة القديمة ولعل أهم معالمها هو وجود الله الدائم فيها، كما سنفهم من الأعداد التالية، فهى إذًا السماء والأرض الروحيتان واللتان تليقان بوجود الله.
البحر لا يوجد فيما بعد : البحر يشير للإنقسام والإضطراب، فهو الذى كان يقسم اليابسة، وأمواجه العالية رمز للإضطراب والهياج وعدم السلام.. والمعنى المراد أنه فى الملكوت لا يوجد شئ من الصراعات أو الإنقسام البشرى.
ع2: أنا يوحنا : لتأكيد ما هو آتٍ .. كأن يقول إنسان “رأيت بعينىّ”.
أورشليم الجديدة : رمز لملكوت السموات.
يستكمل القديس يوحنا رؤياه فيعلن لنا أنه رأى مدينة الله المقدسة مهداة من الله (نازلة من السماء) ليرثها الغالبون ويتمتعوا بها؛ ولوصف شدة جمالها لم يجد القديس يوحنا تعبيرًا أبلغ من أنها “عروس مهيأة لرجلها” لأنه معروف عند الناس أن أبهى صورة للفتاة هو يوم زفافها.
ع3: وفى فرح وغبطة تعلن الخليقة السمائية “صوتًا عظيمًا من السماء”، أن هذه المدينة العظيمة أجمل اسم لها هى أنها “مسكن الله مع الناس” أى المكان الذى سيجمع الله مع الناس فى سكنى دائمة حيث نراه جميعًا “وجهًا لوجه” (1كو13: 12) وسيكون الجميع شعب ورعية الله، أما الله ففى وسط الجميع بمجد لاهوته مصدر إشباع وسعادة أبدية.
“مسكن الله مع الناس” : استخدم الوحى الإلهى كلمة “المسكن” عند وصف أول كنيسة صنعها الله بأدق تفاصيلها وهى “خيمة الاجتماع”، لأن الله أراد أن يعلن لشعبه أنه يريد أن يسكن فى وسطهم أيضًا إذ كانت الخيمة “المسكن” تُنصَب فى وسط أسباط شعب بنى إسرائيل. والكنيسة أيضًا “المسكن” رمز دائم للسماء حيث يتقابل فيها الإنسان مع الله، ومسكن الله مع الناس هو أيضًا بيان لعظم محبته لجنس البشر، فهذه مسرة قلبه أن يكون كأب بين أولاده، وكذلك بيان لإتضاعه وتنازله.
ع4: سيمسح الله كل دمعة من عيونهم : بالطبع لن تكون هناك أية دموع فى أورشليم الجديدة ولكن كفانا أن نتأمل هذا المنظر الجميل الذى صوَّره لنا القديس يوحنا، فالمسيح فى كمال حنانه يمد يده على وجه كل منا ليمسح من فكرنا كل ذكرى ألم أو تعب أو ضيق إجتازه الإنسان أثناء حياته الأولى وجهاده من أجل اسم الله. والمنظر بجانب إبرازه لحنان المسيح يحمل أيضًا مدى إحساس الله بنا وعدم نسيانه لأمانة أولاده، وأخيرًا يؤكد الله لنا فكرة التعويض بالراحة والسعادة عن الألم السابق؛ فما أروع حنانك يا إلهى ورقة مشاعرك وعدلك وحبك لرعيتك أيها الراعى الصالح.
الأمور الأولى مضت : تأكيد أن زمن الأحزان والأوجاع والصراخ كلها من الأمور السابقة التى لا مكان لها حيث السعادة اللانهائية فى حضرة الله.
ع5: خرج أمرًا مباشرًا من السيد المسيح “الجالس على العرش” ليوحنا بكتابة أقواله ووعوده الصادقة الأمينة، وهى أقوال تؤكد ما سبق الإشارة إليه فى الأعداد الأربعة السابقة من زوال الأمور القديمة وإتيان الله بأمور جديدة لم نعرفها قبلاً .. ولكنها مصدر سعادتنا الأبدية.
ع6: قد تم : هذا القول للمسيح ومعناه أنه أنجز بالفعل هذه الخليقة الجديدة وهيَّأ ملكوته لاستقبال أولاده المؤمنين بعد الدينونة؛ ولقد استخدم المسيح هذا التعبير مرتين، الأولى عندما أفرغ غضبه على الأشرار (16: 17) والثانية هنا عندما مجَّد أولاده فى الملكوت. وتعبير “قد تم” تذكرنا بقول مخلصنا أيضًا على عود الصليب “قد أكمل” (يو19: 30) ويقصد إتمام الفداء الذى نناله بالكمال فى الأبدية.
الألف والياء البداية والنهاية : تعبير استخدمه المسيح عن وصفه نفسه فى (ص1: 8) عند أول سفر الرؤيا وهو تعبير يخص لاهوته فهو مصدر كل الأشياء وخالقها وهو أيضاً الإله الأزلى الأبدى.
أنا أعطى العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانًا : يذكرنا هذا الكلام بحديث الرب يسوع مع المرأة السامرية “يو4” والذى لم تفهمه أولاً … والمعنى الروحى هنا أن كل العطاش إلى البر والقداسة (ماء الحياة)، المسيح هو مصدر عطائهم الوحيد، سواء كان هذا أثناء الزمن الأرضى أو فى زمن الأبدية المطلقة …
مجانًا : أى هبة ونعمة من الله وهذا يتمشى مع محبته وأبوته، فالخلاص قُدِّم مجانًا وكل نعمه علينا مجانية وكذلك هباته الروحية، ولكن لا ننسى أن الله عادل أيضًا ولا ينسى كل من رفض البر وطلب الشر.
ع7: من يغلب : هذا التعبير استخدم فى (ص2، ص3) مع رسائل أساقفة الكنائس السبع وللتذكير هنا نقول أن هذا التعبير معناه :
أ ) امكانية الغلبة التى أعطيت بالخلاص لأولاد الله.
ب) ضرورة الغلبة للميراث والتمتع بالعطايا المجانية (ينبوع ماء الحياة).
يرث كل شئ: ما أعده الله لأبنائه محبى اسمه القدوس والغالبين بصبر إيمانهم وجهادهم.
أكون له : إنتقل السيد المسيح هنا لخصوصية العلاقة بين كل نفس غالبة وبين مسيحها، فبعد أن كان الكلام عن الشعب المسيحى “يكونون له شعبًا” (ع3).. يوجه الكلام هنا لكل نفس غالبة على حدة فيصير كل الميراث (كل السماء) لكل واحد، وكل إنسان يصير ابنًا مُمَيَّزًا كأنه ابن وحيد يستمتع بملء أبوة أبيه … ولنلاحظ أيضًا رقة تعبير المسيح فى وصف العلاقة حينما قال “أكون له إلها” فلم يقل يكون لى عبدًا بل قال ابنًا وهو التعبير الأكثر إتفاقًا مع أبوة الله الواهب الميراث ليس للعبيد بل للأبناء.
ع8: جاء هذا العدد يوضح فئات الممنوعين من الميراث الأبدى ومن عطية ماء الحياة المجانى والذى يكون نصيبهم ليس فى أورشليم السمائية بل هلاكهم “الموت الثانى” والعذاب اللانهائى فى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت… وهؤلاء الفئات هم :
- الخائفون : ليس المقصود هنا الخوف بمعنى القلق على الآخرين أو الخوف من الحيوانات أو الحشرات … ولكن المقصود الذين خافوا من العالم والأشرار فأنكروا المسيح وتركوا الإيمان من أجل الحياة الأرضية.
- غير المؤمنين : الذين رفضوا الإيمان بالمسيح وفدائه المجانى وقاوموا كنيسته، فبغير إيمان لا يمكن إرضاءه.
- الرجسون : مرتكبى خطايا النجاسة ولم يتوبوا عنها.
- السحرة : من استخدموا السحر وقوى الشر والظلمة وابتعدوا بهذا عن الله وعادوه.
- جميع الكذبة : أى من ضلوا وأضلوا الناس … وبدلاً من أن يصنعوا حقًا (إرادة الله فى حياتهم) صنعوا كذبًا (أى كذبوا على أنفسهم وعلى الآخرين). ومن عاش حياته فى الكذب فما هو إلا ابن لإبليس إذ يقول السيد المسيح عن الشيطان “متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو8: 44).
- عبدة الأوثان : فى مفهومها المباشر أى من يسجد ويعبد الأوثان أما فى معناها الروحى هو كل من يعبد ويتعلق بالذات أو المال..
? محبة الله وأبوته لا تنسى تعبك على الأرض وتعوضك عنه بأمجاد فى السماء لا يُعَبَّر عنها، فتمسك بجهادك الروحى واحتمل آلام الأرض المؤقتة ولا تنجذب وراء الشهوات الزائلة فتحصل على أمجاد السماء.
(2) وصف مدينة الله (أورشليم الجديدة) (ع9-27):
9ثُمَّ جَاءَ إِلَىَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَلاَئِكَةِ، الَّذِينَ مَعَهُمُ السَّبْعَةُ الْجَامَاتُ الْمَمْلُوَّةُ مِنَ السَّبْعِ الضَّرَبَاتِ الأَخِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ مَعِى قَائِلاً: «هَلُمَّ فَأُرِيَكَ الْعَرُوسَ امْرَأَةَ الْخَرُوفِ.» 10وَذَهَبَ بِى بِالرُّوحِ إِلَى جَبَلٍ عَظِيمٍ عَالٍ، وَأَرَانِى الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ، أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ، نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، 11لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ، كَحَجَرِ يَشْبٍ بَلُّورِىٍّ. 12وَكَانَ لَهَا سُورٌ عَظِيمٌ وَعَالٍ، وَكَانَ لَهَا اثْنَا عَشَرَ بَابًا، وَعَلَى الأَبْوَابِ اثْنَا عَشَرَ مَلاَكًا، وَأَسْمَاءٌ مَكْتُوبَةٌ هِىَ أَسْمَاءُ أَسْبَاطِ بَنِى إِسْرَائِيلَ الاثْنَىْ عَشَرَ. 13مِنَ الشَّرْقِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الشِّمَالِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الْجَنُوبِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الْغَرْبِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ. 14وَسُورُ الْمَدِينَةِ، كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْخَرُوفِ الاثْنَىْ عَشَرَ. 15وَالَّذِى كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعِى، كَانَ مَعَهُ قَصَبَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، لِكَىْ يَقِيسَ الْمَدِينَةَ وَأَبْوَابَهَا وَسُورَهَا. 16وَالْمَدِينَةُ كَانَتْ مَوْضُوعَةً مُرَبَّعَةً، طُولُهَا بِقَدْرِ الْعَرْضِ. فَقَاسَ الْمَدِينَةَ بِالْقَصَبَةِ مَسَافَةَ اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفَ غَلْوَةٍ. الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالاِرْتِفَاعُ مُتَسَاوِيَةٌ. 17وَقَاسَ سُورَهَا: مِئَةً وَأَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، ذِرَاعَ إِنْسَانٍ، أَىِ الْمَلاَكُ. 18وَكَانَ بِنَاءُ سُورِهَا مِنْ يَشْبٍ، وَالْمَدِينَةُ ذَهَبٌ نَقِىٌّ شِبْهُ زُجَاجٍ نَقِىٍّ. 19وَأَسَاسَاتُ سُورِ الْمَدِينَةِ مُزَيَّنَةٌ بِكُلِّ حَجَرٍ كَرِيمٍ، الأَسَاسُ الأَوَّلُ يَشْبٌ، الثَّانِى يَاقُوتٌ أَزْرَقُ، الثَّالِثُ عَقِيقٌ أَبْيَضُ، الرَّابِعُ زُمُرُّدٌ ذُبَابِىٌّ، 20الْخَامِسُ جَزَعٌ عَقِيقِىٌّ، السَّادِسُ عَقِيقٌ أَحْمَرُ، السَّابِعُ زَبَرْجَدٌ، الثَّامِنُ زُمُرُّدٌ سِلْقِىٌّ، التَّاسِعُ يَاقُوتٌ أَصْفَرُ، الْعَاشِرُ عَقِيقٌ أَخْضَرُ، الْحَادِى عَشَرَ أَسْمَانْجُونِىٌّ، الثَّانِى عَشَرَ جَمَشْتٌ. 21وَالاثْنَا عَشَرَ بَابًا اثْنَتَا عَشَرَةَ لُؤْلُؤَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الأَبْوَابِ كَانَ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ. وَسُوقُ الْمَدِينَةِ ذَهَبٌ نَقِىٌّ كَزُجَاجٍ شَفَّافٍ. 22وَلَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلاً، لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ هُوَ وَالْخَرُوفُ هَيْكَلُهَا. 23وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا. 24وَتَمْشِى شُعُوبُ الْمُخَلَّصِينَ بِنُورِهَا، وَمُلُوكُ الأَرْضِ يَجِيئُونَ بِمَجْدِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا. 25وَأَبْوَابُهَا لَنْ تُغْلَقَ نَهَارًا، لأَنَّ لَيْلاً لاَ يَكُونُ هُنَاكَ. 26وَيَجِيئُونَ بِمَجْدِ الأُمَمِ وَكَرَامَتِهِمْ إِلَيْهَا. 27وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَىْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا، إِلاَّ الْمَكْتُوبِينَ فِى سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ.
ع9: ظهر وتكلم مع القديس يوحنا ملاك عرفه القديس بالروح وأشار لنا أنه أحد الملائكة الذين حملوا سبع جامات غضب الله (ص15)، وقد كُلِّف (الملاك) هنا بمهمة جديدة وهى أن يُرى القديس يوحنا المدينة السمائية، فكما أعلن هذا الملاك عدل الله فى عقاب الأشرار بالجامات يعلن هنا عدل الله فى مجازاة الأبرار. وقد لقب المدينة السمائية بالعروس كما جاء فى (ع2) وأعلن أن عريسها هو المسيح فى اشارة قوية إلى إتحاد المسيح (العريس) بكنيسته المنتصرة (العروس)، واستخدم الملاك اسم الخروف هنا لأنه يتمشى مع العريس الفادى الذى اشترى خلاص كنيسته بدمه.
ع10: ذهب بى بالروح : وهو ما يتمشى مع حال القديس يوحنا فى الرؤيا كلها.
جبل عظيم عالٍ : التعبير هنا رمزى فقد جرى العرف عند العامة أن يتسلقوا القمم العالية حتى يروا المنظر كاملاً وشاملاً.
كان الغرض من أخذ الملاك للقديس يوحنا هو رؤية المدينة بالتفصيل من كل جوانبها وأبعادها، ولهذا كانت الرؤية من مكان مرتفع حتى لا يفوته شئ، والإرتفاع على الجبل يرمز للإرتفاع عن الماديات الأرضية لأن المدينة السماوية روحية تمامًا. ويكرِّر القديس يوحنا نفس ما جاء فى (ع2) من أنها نازلة من السماء من عند الله (راجع الشرح).
ع11: أكرم حجر : أعظم وأبهى حجر.
من شدة جمال المدينة (أورشليم السمائية) لم يستطع القديس يوحنا أن يصوِّر لنا هذا الجمال بلغة البشر القاصرة، فاستخدم تعبير “لها مجد الله”، أى لأنها مدينته وكنيسته والمكان المُعَدّ من قبل تأسيس العالم لأبناء الله الوارثين، ولأنها صناعة الله نفسه وإعداده نسب إليها مجده الغير موصوف والغير محدود فصارت كرامتها من كرامة الله ومكانتها وجمالها يفوق كل تصور، وأضاف أنها كانت لامعة جدًا فى شدة لمعان حجر كريم مثل الماس فى وقتنا الحاضر، وقد جاء ذكر هذا الحجر أيضًا فى الحديث عن عرش الله (ص4: 3)، والحجر الشفاف النقى فى معناه الرمزى يدل على نقاء تعليم الكنيسة وإيمانها الصلب وفضائل قديسيها.
ع12، 13: سور عظيم عال : السور هنا له أكثر من دلالة أو معنى :
- يرمز لإحاطة الله بنفسه لشعبه المفدى فى المدينة فالله هو الحصن والملجأ (مز43: 2)
- يرمز السور أيضًا للكنيسة الواحدة الوحيدة فالسور الواحد يحيط كله بالمدينة الواحدة.
- إرتفاع السور “عالٍ” يرمز لسمو شأن المدينة إذ كانت المدن قديمًا تقاس عظمتها بعظمة ارتفاع واتساع أسوارها.
اثنا عشر بابًا: يتفق هذا القول مع ما ذكره أيضًا حزقيال فى رؤياه(حز48: 31-34) ووجود اثنى عشر بابًا (ثلاثة أبواب من كل جانب إشارة إلى) :
- إتساع مراحم الله، فإذا كان طريق الجهاد على الأرض بابه ضيق إلا أن المكافأة السمائية أبوابها رحبة ومتسعة.
- قبول الأمم من كل الأجناس ومن كل جهات الأرض.
- الأبواب مثل السور تعطى الإحساس بالأمن والحراسة.
“اثنا عشر ملاكا” : جعل الله على كل باب ملاكًا، وهذا يذكرنا “بالكاروب المظلل” على تابوت العهد، ووجود الملائكة على الأبواب يرمز للرعاية والحماية والتظليل على شعب الله.
أسماء أسباط بنى إسرائيل : إشارة إلى دخول مؤمنى وقديسى العهد القديم إلى هذه المدينة فالله حفظ عهده لشعبه وكل من كان أمينًا فيهم له بابًا يدخل من للأبدية. والمعنى العام للعددين (12، 13) هو قبول كل المؤمنين من كل الجهات وتمتعهم بخصوصية وجود الله “سورهم” وخدمة الملائكة لهم.
ع14: كما قُِبلَ مؤمنو أسباط بنى إسرائيل الاثنى عشر، سيُقبَل أيضًا مؤمنو كنيسة العهد الجديد وكل من قبل واستلم الإيمان من الآباء الرسل الاثنى عشر ومن الكنيسة.
اثنا عشر أساسًا : كانت أسماء الاثنى عشر سبطًا مكتوبة (ع12) على أبواب المدينة أما أسماء الآباء الرسل فكانت الأساسات الحاملة للمدينة، وهذه إشارة واضحة أن هذه المدينة السمائية أساس بنائها ودخولها هو الإيمان بالمسيح نفسه والذى كان أساس بشارة وكرازة الرسل الأطهار، وهذا يتمشى مع ما ذكره القديس بولس الرسول “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، والمسيح نفسه حجر الزاوية الذى فيه كل البناء مركبًا معًا…” (أف2: 20، 21).
ع15: فى (ص11) أعطى للقديس يوحنا قصبة لقياس هيكل الله والمذبح، أما من يقوم بالقياس هنا فهو الملاك المصاحب، والغرض من القياس هو إبراز مجد وبهاء واتساع المدينة.
قصبة من ذهب : القصبة هى وحدة القياس (كالمتر) أما كونها من ذهب فللدلالة على كرامة المدينة التى سوف يتم قياس أبعادها. وهناك معنى آخر جميل وهو أن الأمور الروحية (الذهبية) لا تقاس إلاّ بالروحيات (قصبة من ذهب).
ع16: أما وصف المدينة كما رآه القديس يوحنا (وهى بالطبع كلها قياسات روحية رمزية وليست مادية حقيقة) أنها كانت مربعة، أى أن بهاء مجدها متساوى لو نظر إليها الإنسان من أى جهة، كذلك أيضًا إرتفاعها.
الغلوة : حوالى 185 مترًا.
اثنى عشر ألف غلوة : لا قيمة هنا للمقياس المادى (الفان ومائتان وعشرون كيلو متر) ولكن الفرض هو ترك خيال القارئ لمدى اتساع هذه المدينة.
ع17: أما ارتفاع سورها فكان (144 ألف ذراع)، ورقم “144000” قد تكرر فى السفر مرتين فى (ص7: 4) عدد “المختومين”، و(ص14: 1) “أتباع الخروف” وفى الحالتين كان هذا العدد كناية عن الكثرة، لأنه حاصل ضرب أرقام الكمال (12 × 12 × 1000)، وبالتالى يكون ارتفاع سور المدينة هنا كناية عن ارتفاع مجدها فوق تصور أى إنسان.
ذراع إنسان أى الملاك : الذراع الإنسانى يساوى حوالى 50سم ولكن الذى قام بالقياس هو الملاك، فالمقصود معنى روحى أى ارتفاع وسمو عظيم لهذه المدينة.
ع18-20: بعد أن ذكر القديس يوحنا أن أساسات المدينة هى اثنا عشر أساسًا (رسل المسيح)، يبدأ فى هذه الأعداد الآتية وصف كل أساس منها من حيث الحجر المصنوع منه ولونه بما يحمل ذلك من معنى وتأملات روحية.
فجاء أولاً فى (ع18) الوصف الإجمالى إذ كان السور من حجر كريم لامع كالماس “يشب” (ع11) وهو بلورى أى شفاف، وكذلك المدينة من ذهب وهو معدن ثمين جدًا “ونقى” أى بلا شوائب أو إضافات تقلل من قيمته، ولكنه ليس ذهبًا عاديًا أيضًا إذ هو ذهب شفاف كالزجاج بمعنى أن لمعان المدينة ومجدها لا يحجب ولا يشغل الإنسان عن رؤية الله ذاته.
الأساس الأول يشب : حجر شفاف لامع يميل لبعض الخضرة ويرمز بلمعانه وشفافيته إلى الإيمان المستقيم وفى خضرته للحياة الأبدية.
الأساس الثانى ياقوت أزرق : يرمز إلى أن المدينة روحية سمائية لا تخضع للمقاييس الأرضية.
الأساس الثالث عقيق أبيض : حجر أبيض يرمز للطهارة والنقاء.
الأساس الرابع زمرد ذبابى : حجر أخضر يرمز للنمو فى النعمة.
الأساس الخامس جزع عقيقى : وهو أبيض مجزع بأحمر رمز أن الطهارة أساسها دم المسيح.
الأساس السادس عقيق أحمر : أى أنها مبنية على سر فداء المسيح (دمه الكريم).
الأساس السابع زبرجد : أنقى أنواع الذهب فكل ما بها لا يصدأ (لا يتغير ولا ينتهى).
الأساس الثامن زمرد سلقى : هولون البحر الهادئ الصافى وهو حال ساكنى مدينة الله.
الأساس التاسع ياقوت أصفر : الياقوت يرمز للبصيرة المستنيرة.
الأساس العاشر عقيق أخضر : الحياة وديمومتها (الأبدية).
الأساس الحادى عشر أسمانجونى : أزرق سماوى وحجره صلب جدًا فى رمز لخلود المدينة وساكنيها.
الأساس الثانى عشر جمشت : حجر لونه أرجوانى (أحمر قاتم).
وقد حملت هذه الأحجار وألوانها الكثير من التأملات الروحية للعديد من المفسرين ولكن أجمع الكل على أنه لم يقصد بهذه الحجارة سوى إبراز ما تتميز به المدينة من غنى وفضيلة ونعمة.
ع21: جاءت أسس المدينة (أحجار متنوعة) فى إشارة إلى الفضائل المتنوعة التى يجب أن يحملها داخلوها، ولكن الأبواب جاءت متماثلة فى إشارة إلى أن الدخول هو من باب الخراف الواحد فى صفاته.
اللؤلؤة : هى الحجر المختفى فى قوقع البحر، وترمز هنا إلى بهاء مجد الله الذى يضئ على أبواب المدينة وقد كان مخفيًا عنَّا وظهر.
سوق المدينة : أى وسطها ومركزها وجاء مثل وصف سورها فى (ع18)، أى أن اجتماع المؤمنين فيها فى مجد عظيم يرمز إليه الذهب الثمين.
وفى ترجمات أخرى جاءت كلمة “سوق المدينة” بمعنى ساحتها.
ع22: الهيكل هو رمز حضور الله ومسكنه، والله فى الحقيقة لا يحده مكان مصنوع أو مخلوق وبالتالى لا يصير هناك داعٍ لهيكل، فأورشليم الجديدة السمائية سيكون الله الآب دائم الحلول بها وابنه (الخروف) قائم بمجده فى وسطها ولهذا استخدم القديس يوحنا تعبير أن “الإله القادر والخروف هيكلها” أى أن الله يرعى أولاده فى الملكوت كأب حنون وكمخلص وفادى أحبهم حتى الموت.
ع23: بمثل ما قاله عن عدم جدوى وجود هيكل، فلن يكون هناك أيضًا شمس أو قمر وذلك أولاً : لأنهما من مستلزمات الحياة الأرضية الزمنية والحياة القديمة التى انتهت، ثانيًا : لأنه لا حاجة لأى نور إذ صار الله أيضًا هو نورها وبهائها.
ع24: بنورها : أى نور المدينة الإلهى..
يتمتع أولاد الله بنوره ويسيرون أى ينمون فى معرفته ومحبته، ويتفق هذا المشهد السمائى الرائع مع ما ذكره أيضًا إشعياء “فتسير الأمم فى نورك والملوك فى ضياء إشراقك قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك” (إش60: 3-5).
ملوك الأرض : يأتى أيضًا القديسون حاملين فضائلهم وآلامهم السابقة من أجل الإيمان “مجدهم وكرامتهم”.
ع25، 26: لأن الله شمسها التى لا تغيب فلن يكون هناك ظلمة أو ليل بعد هذا ولا احتياج أيضًا لغلق أبوابها.. لأن الأبواب كانت تغلق فى الزمن الأرضى لحماية الإنسان من أعدائه وحراسته من مخاوف الظلام، أما الآن فلا شئ من الأمور القديمة قد صار له مكان.
مجد الأمم وكرامتهم: أى تسبيح وتمجيد كل الشعوب وكل الأمم لاسم الله الحى القدوس.
ع27: لن يدخلها : بالطبع وبعد الدينونة العامة تعبير “لن يدخلها” مقصود به لن يكون فيها، إذ أن كل من كان “دنسًا أو رجسًا” صار مصيره البحيرة المتقدة بالنار والكبريت … ولكن التعبير أيضًا يحمل للقارئ تذكيرًا أخيرًا بوجوب التوبة الدائمة على الأرض فلا مكان فى المدينة لخطاة غير تائبين.
المكتوبين فى سفر حياة الخروف : أى الذين دعاهم السيد المسيح للخلاص الأبدى وقبلوا هذا الخلاص وأكملوا سعيهم وجهادهم ضد الشر حتى النهاية فصار لهم الميراث العظيم.? إلهى الحبيب أردت بمحبتك لنا أن تبرز لمحة عن جمال الأبدية وروعة الحياة الدائمة معك وفى حضرتك، وبالرغم من جمال هذه اللمحة إلاّ أن عقلنا الإنسانى لازال قاصرًا على فهم أو تخيل كل شئ ولكننا نثق فيما أعلنه لنا القديس بولس أنه “ما لم تره عين… ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (1كو2: 9، 2كو12: 4). أشكرك يا إلهى على ما أعدَّته يداك من أجلى حتى وإن كنت لا أفهمه الآن ولكنىّ مع القديس بولس أشتهى هذا المكان وأشتهى أن أكون معك دائمًا فأنا أؤمن أن ذاك أفضل جدًا” (فى1: 23)