الشكر وطلب الخلاص
لإمام المغنين مزمور لداود
“انتظاراً أنتظرت الرب فمال إلىَّ…” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى.
- متى كتب ؟
أ – الرأى الأول : فى نهاية فترة مطاردة شاول له، أى قبل تملك داود بقليل.
ب – بعد انتصار داود على أبشالوم وعودته إلى عرشه.
- بعد احتمال داود آلام كثيرة يشكر الله فى هذا المزمور، معلناً طاعته له، وطالباً استمرار معونته. فهو مزمور شكر، يناسب أولاد الله عندما يشعرون بعمل الله معهم.
- هذا المزمور من المزامير المسيانية؛ لأنه يتكلم بإشارات كثيرة عن المسيح.
- اقتبس بولس الرسول من هذا المزمور فى رسالته إلى العبرانيين (عب10: 5-10).
- هذا المزمور غير موجود بصلوات الأجبية.
(1) تسبحة شكر (ع1-3):
ع1: 1- انتظارا انتظرت الرب فمال إلي و سمع صراخي.
- من الواضح أن داود تعرض لإساءات كثيرة من المسيئين، ولكنه احتمل وانتظر مدة طويلة. ويؤكد ذلك بقوله “انتظاراً انتظرت..” وهذا يؤكد إيمان داود، ورجاءه فى الله، واتكاله عليه. فقد صمت، ولم يتذمر، وسلم حياته لله، وانتظر تدخله، لثقته أنه حتماً سينقذه.
- يظهر حنان الله واتضاعه فى ميله نحو داود، واهتمامه بسماع صلواته وصراخه، فلم يهمله لأنه يحبه. وداود هنا رمز للمسيح الذى احتمل الآلام من أجلنا، وانتظر إعلان مجده بعد العذابات والصليب، فظهر فى قيامته.
ع2: 2- و اصعدني من جب الهلاك من طين الحماة و اقام على صخرة رجلي ثبت خطواتي.
الحمأة : الطين الأسود المختلط بالقاذورات.
- يشبه داود معاناته وضيقاته بأنه فى جب، أى حفرة عميقة لا يستطيع الخروج منها. ويقول أيضاً أن هذا الجب ممتلئ بالطين، الذى لا يستطيع الخروج منه، بل لو حاول الخروج يزداد غوصاً فيه، فهو محتاج حتماً لتدخل الله الذى مد يده وأصعده.
- إن السقوط فى الجب والطين يعبر عن سقوط داود فى الخطية، وعجزه عن الخروج منها بقوته الشخصية رغم أنه تاب عنها، فمد الله يده، وأصعده منها وغفر خطاياه.
- لم يكتفِ الله بإصعاد داود من الجب، بل رفعه إلى صخرة، أى أرض صلبة وليست مثل الطين. فاستطاع داود أن ينتصر بثقة وقوة، بل يسير فى خطوات قوية، ويتقدم وينجح؛ لأن الله إذ رأى جهاده ثبت خطواته فصارت أكثر قوة. والصخرة ترمز للمسيح الذى يستند عليه أولاده فى كل حياتهم (1كو10: 4).
ع3: 3- و جعل في فمي ترنيمة جديدة تسبيحة لالهنا كثيرون يرون و يخافون و يتوكلون على الرب.
- بالإضافة إلى أن الله خلص داود من الجب، فقد دفعه فى طريق الإيجابية، بأن علمه ترنيمة جديدة تعبر عن مشاعر جديدة، وفرح عظيم شعر به داود، فسبح الله الذى يهتم بأولاده، وينقذهم من جميع المشاكل والأخطار، ويغفر لهم جميع خطاياهم.
- عندما رأى الناس عمل الله العجيب مع داود خافوا الله، إذ شعروا أنه أقوى من جميع الآلهة، وأنه قادر على كل شئ، وأنه الوحيد الذى يمكن الاتكال عليه فى جميع المواقف، فصار إيمان واتكال داود قدوة لكل من حوله.
انتظر الرب عندما تحل بك مشكلة، وثابر فى صلواتك، واثقاً أنه قريب منك ولابد أن يتدخل، وينقذك مهما كانت تهديدات الأشرار.
(2) الاتكال على الله (ع4-10):
ع4: 4- طوبى للرجل الذي جعل الرب متكله و لم يلتفت الى الغطاريس و المنحرفين الى الكذب.
الغطاريس : مفردها غطريس وهو المتكبر والمغرور.
- يمجد داود الرجل المتكل على الله؛ ليدعو كل الناس للاتكال على الله، ويقصد بهذا الرجل نفسه، وذلك ليثبت كل الأبرار أمام إساءات الأشرار.
- يساند ويطوب داود الإنسان المتكل على الله؛ حتى لا يلتفت إلى الأشرار المتكبرين والكذابين، ولا إلى عظماء العالم ذوى السلطان، بل يثق فى الله الذى فى يده كل الأمور.
- من لا يتكل على الله يواجه التعاسة بدلاً من التطويب، فعندما لم يتكل شعب الله عليه، وخافوا من سكان أرض كنعان، حرمهم الله من دخولها وماتوا فى برية سيناء
(عدد14: 22، 23).
ع5: 5- كثيرا ما جعلت أنت أيها الرب الهي عجائبك و أفكارك من جهتنا لا تقوم لديك لاخبرن و اتكلمن بها زادت عن أن تعد.
لا تقوم : لا تحصى.
- تأمل داود فى رعاية الله له، ولشعبه على مدى التاريخ، فوجد أن أعمال الله عجيبة تفوق العقل، وكثيرة لا يستطيع أن يحصيها. وأفكاره وتدابيره من نحو أولاده عظيمة جداً.
- غرض داود من تأمله لأعمال الله هو أن يخبر بها الآخرين؛ ليمجد الله. ولكنه وجد أنه من المستحيل إحصاءها، وبالتالى اكتفى أن يتحدث عن بعضها، وهو ما استطاع أن يحصره ويتحدث عنه.
ع6، 7: 6- بذبيحة و تقدمة لم تسر. أذني فتحت. محرقة و ذبيحة خطية لم تطلب. 7- حينئذ قلت هانذا جئت بدرج الكتاب مكتوب عني.
الدرج : قطعة من الجلد، أو ورق البردى كانت تكتب عليه الكتابات قديماً.
- أوضح داود أن الله يطلب طاعة وصاياه قبل تقديم الذبائح. والله يفتح أذنى داود ليسمع فيطيع؛ لأن الطاعة أفضل من تقديم ذبيحة. وتقديم الذبائح بدون طاعة وصايا الله لا يفيد شيئاً. وليس المقصود رفض تقديم الذبائح؛ لأن الله قد أوصى بها، ولكن يريد أن يعلن أن طاعة وصايا الله تفوق كل ذبيحة، سواء ذبيحة محرقة، أو ذبيحة خطية. لأنه بالطاعة يذبح الإنسان مشيئته، ويفضل مشيئة الله عما يريده هو.
- تكلم داود بروح النبوة عن المسيح، الذى يقول للآب أنه لم يسر بذبائح العهد القديم؛ لأنها كانت مجرد رمز، بل مسرته كانت فى مجئ المسيح وتجسده، فهو الذبيحة المرموز إليها، التى ستقدم على الصليب، كما ذكر فى درج الكتاب، أى نبوات العهد القديم. وتجسد المسيح هو طاعة الإبن للآب، فطاعة المسيح أفضل من ذبائح المحرقة والخطية، ومجئ المسيح بتجسده، هو إتمام مشيئة الآب، لذلك قال “هأنذا جئت”.
ع8: 8- ان افعل مشيئتك يا الهي سررت و شريعتك في وسط احشائي.
- أحب داود الله، وصارت شريعة الله هى مسرته؛ لذا تمسك بها وطبقها فى حياته، وكان يتلذذ بتنفيذها؛ لأنها صارت فى قلبه وأحشائه، أى أنه شعر بها، وظهرت بعد هذا فى سلوكه. وهكذا يشعر المؤمنون فى كل جيل، فتصبح كلمة الله معاشة فى قلوبهم وتصرفاتهم، بل تصبح حياتهم انجيلاً معاشاً.
- هذه الآية نبوة واضحة عن المسيح، الذى تجسد ليتمم مسرة، ومرضاة الآب، ويفعل مشيئته، التى هى فداء البشرية. وكانت شريعة الله فى أحشائه، أى أعماقه؛ لأنه هو كلمة الله الأقنوم الثانى، الذى تجسد لنرى فيه كيف تطبق الشريعـة فى الحياة العملية.
ع9، 10 : 9- بشرت ببر في جماعة عظيمة هوذا شفتاي لم امنعهما أنت يا رب علمت. 10- لم اكتم عدلك في وسط قلبي تكلمت بامانتك و خلاصك لم اخف رحمتك و حقك عن الجماعة العظيمة.
- يعلن داود أنه قد بشر بالله فى وسط شعبه، وهو الجماعة العظيمة، سواء بقتل جليات، أو خدمته مع شاول الملك، أو احتماله مطاردة شاول، أو عندما ملك على شعب الله، واستمر متمسكاً ببر الله، فتكلم بشفتيه، وعلم المحبة لكل من حوله. والله يعلم قلب داود أنه مع الله، وليس مجرد كلمات ينطق بها بشفتيه (أع13: 22).
- هذه الآية أيضاً نبوة عن المسيح الذى بشر ليس وسط شعب اليهود فقط، بل بين الأمم أيضاً، إذ قدم البر والحب على الصليب فى موته، وهو البار الذى بلا خطية لفداء البشرية كلها. وبشر فى حياته على الأرض بشفتيه، واللتين ترمزان إلى العدل والرحمة، اللذين يكملان فى تجسده وفدائه، وكل كلماته. والآب يعلم كيف أن الإبن هو البار القدوس.
- مازال المسيح يتكلم بأمانته وخلاصه من خلال الرسل، والكهنة، والخدام إلى هذا اليوم بعمل الروح القدس، ليس فقط فى كلام البشير، ولكن أيضاً فى الحياة المعاشة لأولاده. ولا يخفى أيضاً رحمته وحقه، أى غفران الله ومساندته لأولاده، بالإضافة لإنذاراته حتى يتوب أولاده. وذلك فى الجماعة العظيمة، أى فى العالم كله للمسيحيين؛ حتى يعيشوا فى نقاوة، وللعالم كله حتى يؤمن ويتوب.
إعلن صوت الله لكل من حولك بتمسكك بوصايا الله وابتعادك عن كل شر، وتقديم محبتك لكل إنسان، فتصير نوراً للعالم وملحاً للأرض.
(3) طلب النجاة من الشرور (ع11-17):
ع1: 11- أما أنت يا رب فلا تمنع رأفتك عني تنصرني رحمتك و حقك دائما.
- يظهر اتضاع داود فى طلبه أن يتراءف الله عليه، فهو يشبه العشار الذى طلب باتضاع رحمة الله فنال غفرانه، وهذا يؤكد أهمية الاتضاع فى الحياة الروحية.
- يعتمد داود على رحمة الله فى غفران خطاياه، ومساندته، بالإضافة إلى حق الله، أى عدله الذى يثبت فى طريق البر، ويحكم ببطلان الشر، فبالرحمة والحق ينتصر داود على الشيطان، ويحيا مع الله غير متزعزع بنجاح الأشرار، بل ويصل إلى النصرة الكاملة فى الحياة الأبدية.
ع12: 12- لأن شرورا لا تحصى قد اكتنفتني حاقت بي آثامي و لا استطيع أن أبصر كثرت أكثر من شعر رأسي و قلبي قد تركني.
حاقت : أحاطت.
- يتذكر داود إساءات الأعداء له، فيعلن أن الشرور أحاطت به من كل جانب، وأن سبب هذا خطاياه التى أحاطت به. وهذا يبين أن داود رجل تائب، يعزى الضيقات إلى كثرة خطاياه، وبمشاعر الندم هذه ينال مراحم الله وغفرانه.
- عندما كثرت خطايا داود أفقدته قدرته على التمييز، فلم يعد يبصر الله، وأيضاً مشاعره أى قلبه تركه، أى لم يعد يشعر بالله كما كان قديماً، فهو فى معاناة شديدة لكثرة خطاياه، لكنه عندما تاب استعاد استنارته الروحية.
ع13: 13- ارتض يا رب بأن تنجيني يا رب إلى معونتي اسرع.
- الآيات بدءاً من هذه الآية وحتى نهاية المزمور تتكرر فى المزمور السبعين. ونجد فيها توسل من داود إلى الله القدوس؛ ليتنازل ويرضى أن ينجيه من خطاياه الكثيرة التى أشار إليها فى الآية السابقة. فداود مستمر فى اتضاعه وتذللـه أمام الله، ولكن فى رجاء ثابت أن يرفع عنه الضيقات المستمرة المحيطة به.
- لضيق أيوب الشديد من خطاياه يعلن حاجته السريعة لتدخل الله؛ ليرفعها عنه، ويعيد إليه بنوته وعلاقته بالله؛ فيسنده حتى لا يسقط مرة ثانية.
ع14، 15: 14- ليخز و ليخجل معا الذين يطلبون نفسي لاهلاكها ليرتد الى الوراء و ليخز المسرورون بأذيتي. 15- ليستوحش من أجل خزيهم القائلون لي هه هه.
ليستوحش : ليخاف ويرتعب.
هه هه : تعبير عن الشماتة.
- يطلب داود من أجل الأشرار الذين يريدون إهلاكه، ليس طلب انتقام منهم، بل أن يلحقهم الخزى والخجل؛ ليعرفوا نتيجة شرورهم، فيبتعدوا عن الشر، ويتوبوا، وبالتالى يرجعون إلى الله، فهو يصلى لأجلهم ولا يشمت فيهم. بل يطلب أن يرتدوا إلى الوراء عن خطاياهم، أى يندمون عنها.
- عندما ترى الشياطين خزى الأشرار، الذين حاولوا أن يؤذوا ويهلكوا داود يخافون ويرتعبون، إذ يرون أن شماتتهم قبلاً بداود، بقولهم “هه هه”، لم تنفع شيئاً. كما شمتوا قديماً بآدم عند سقوطه، ولكن المسيح تجسد وفدى البشرية.
ع16: 16- ليبتهج و يفرح بك جميع طالبيك ليقل أبدا محبو خلاصك يتعظم الرب.
- آمن داود بأن الله مخلصه، فاشتهى أن يشاركه فرحه كل أولاد الله الذين يطلبونه. فداود يشعر بعضويته فى جماعة شعب الله، ويريد أن يشتركوا معاً فى الأفراح والأحزان. ووسط هذه الأفراح وتمتعهم بالخلاص يعظمون الرب واهب هذا الخلاص.
- تظهر محبة داود لطالبى الرب فى دعوتهم للفرح “ليبتهج ويفرح” بالله، والالتجاء إليه فى كل احتياجاتهم “جميع طالبيك”، ثم يسبحون الله، ويعظمونه “ليتعظم الرب”، وأخيراً يشتاقون لخلاصه الأبدى، أى ملكوت السموات “محبو خلاصك”.
ع17: 17- أما أنا فمسكين و بائس الرب يهتم بي عوني و منقذي أنت يا الهي لا تبطئ
- يختم داود مزموره باتضاع معلناً أنه فقير وبائس، أى ليس له رجاء، أو قوة إلا فى الله معينه. ومن أجل اتضاعه ينال مراحم الله العظيمة، بخلاف الشياطين وأتباعهم الأشرار المتكبرين والشامتين، الذين يخجلون ويخزون.
- يختم داود مزموره بالصلاة أيضاً، فيطلب معونة الله بسرعة؛ لأن الضيقة مازالت محيطة به، ويثق فى أن الله سيتدخل؛ لأن لداود علاقة شخصية ودالة عند الله، فيقول له “عونى ومنقذى .. إلهى” وهكذا أيضاً ختم موسى تسبيحته بعد عبوره البحر الأحمر بالصلاة وتمجيد الله (خر15).
على قدر ما تتضع تصل صلواتك إلى الله، وتنال كل عون، بل ويسرع إليك أكثر مما تتخيل.