الطبيعة وكلمة الله تدعونا للكمال
لإمام المغنين مزمور لداود
“السماوات تحدث بمجد الله …” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى كما يظهر فى عنوان المزمور.
- متى قيل ؟
بعد جلسة أو جلسات هادئة لداود يتأمل فيها الطبيعة، فرأى الله فيها وتمتع بالوجود بين يديه. فعبر عن مشاعره فى هذا المزمور.
- هذا المزمور يتكلم عن ثلاثة أمور:
أ- الله الذى خلق الطبيعة ويظهر من خلالها إذا تأمل الإنسان فيها.
ب- كلمة الله التى تعد الإنسان وتقوده لتوصله إلى الملكوت، ويتجلى عمل كلمة الله فى تجسد المسيح؛ لفداء الإنسان، وإظهار طريق الملكوت فيه، بقوله أنا هو الطريق.
جـ- تجاوب الإنسان مع الله الظاهر فى الطبيعة وكلمة الله، فى سعيه نحو الكمال؛ ليرضى الله.
- فى عنوان هذا المزمور فى الترجمة السبعينية يقول إلى التمام، والمقصود كمال ظهور الله فى الطبيعة، وكمال عمل كلمته فى الإنسان.
- هذا المزمور مشجع لمن يريد أن يجلس فى خلوة ويتأمل الله، فيناسب أن يردده الإنسان إذا اختلى بالله.
- هذا المزمور موجود فى صلاة باكر؛ ليقود الإنسان فى بداية يومه للنظر إلى الله، والتأمل فى خلائقه وكلمته.
(1) الطبيعة تمجد الله (ع1-6):
ع1: 1- السماوات تحدث بمجد الله و الفلك يخبر بعمل يديه.
الفلك : الأجرام السماوية ومساراتها
- بدأ داود بالسموات التى تمجد الله؛ لأن الله فى بداية الخليقة خلق السماء أولاً.
- يذكر هنا السموات بصيغة الجمع، لأن الكتاب المقدس يذكر لنا مجموعة سموات وليست سماء واحدة، كما أعلن موسى (تث 10 : 14) وداود (مز 68 : 33) وسليمان (1مل 8 : 27) ونحميا (نح 9 : 6). والمسيح نفسه عندما علمنا الصلاة قال لنا قولوا “أبانا الذى فى السموات (مت 6 : 9). وبولس الرسول أعلن أنه ارتفع إلى السماء الثالثة (2كو 12 : 2). فكل السموات تمجد الله.
- الطبيعة – أى السموات والفلك – تحدث بمجد الله، كيف وهى لا تستطيع النطق؟ من خلال خضوعها لله والنظام الذى وضعه لها، فلا تصطدم معاً وتنفذ مشيئته، فتعلن قوة خالقها ودقته من خلال عملها، وليس كلامها، كما تذكر الآية.
- إن السموات هى الملائكة والقديسين التى فى السموات، فهم يمجدون الله ويسبحونه فى كل حين.
- السموات أيضا هى نفوس الأبرار وهم الرسل والإنجيليون والقديسون فى كل مكان فى العالم، الذين يسبحون الله، ويخدمونه بأمانة، ويعلنون اسمه فى كرازتهم، وذلك من خلال كلامهم وأعمالهم، فسيرتهم فى حد ذاتها تمجيد لإسم الله. وثبات هؤلاء القديسين فى الصلاح، مثل ثبات السموات والفلك على مر الأزمان منذ خلقها الله.
- عندما يردد الإنسان هذا المزمور ويقول “السموات تحدث بمجد الله” يرفع عينيه إلى فوق، فيكشف له الله عن أعماله ويستنير عقله، فيفهم أعماقاً لا نهاية لها عن محبة الله له.
- السموات ترمز أيضا لساكنى السماء، والفلك يرمز لساكنى الأرض، أى أن الكنيسة المنتصرة فى السماء والكنيسة المجاهدة على الأرض تتحدث عن الله وتكرز به.
- عندما ينظر الإنسان إلى السماء ويرى كل ما عمله الله لأجله، يفرح جداً، ويتضع أمام الله الذى أحبه وعمل كل هذا لأجله.
- السموات ترمز لسكنى الله، فهى تمثل عمل النعمة، والفلك تعنى الأرض حيث يسكن الإنسان فتمثل الجهاد الروحى، وهكذا يتكامل عمل النعمة والجهاد لكيما ينال الإنسان خلاصه، فبهما يمجد الله.
- هذا الجزء من المزمور (ع 1 – 6) يشبه المزمور الثامن “أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك فى كل الأرض” ولكن هذا المزمور يتحدث عن تمجيد الطبيعة لله، أما المزمور الثامن، فيتحدث عن علاقة الخالق بخليقته.
- من هذا الجزء نرى أن الله أعطانا كتابين مقدسين الكتاب المقدس الأول هو الموجود بين أيدينا ويشمل الأسفار من سفر التكوين حتى الرؤيا. أما الكتاب الثانى فهو الطبيعة التى حولنا، والكتابان يحدثاننا عن الله؛ حتى نحبه ونمجده وكل منهما يكمل الآخر ويثبته.
- كل فنان يُعرف من أعماله، فعلى قدر روعتها وعظمتها تكون عظيمة، فكم تكون عظمة الله، عندما نرى الطبيعة التى خلقها بدقة واتقان لا يماثله أحد فيها.
ع2: 2- يوم إلى يوم يذيع كلاما و ليل إلى ليل يبدي علما.
- اليوم يمثل النهار الذى تظهر فيه عظمة الله، ثم يأتى بعده الليل بهدوئه، فيؤكد عظمة الله، فتعاقبهما بشكل دقيق يؤكد قدرة الله وتنظيمه للكون.
- اليوم فرصة للعمل والجهاد، والليل فرصة للهدوء والصلاة وتقبل عمل نعمة الله بشكل أوفر، فاليوم والليل يرمزان للجهاد والنعمة.
- اليوم فيه نور ويرمز للقديسين المضيئين، الذين يذيعون كلام الله من خلال سيرهم وكلامهم.
- الليل يرمز للغموض، فالإنسان لا يعرف من أسرار الله إلا ما يكشفه الروح القدس لأولاده المؤمنين به، الساهرين معه فى الصلاة والتسبيح.
- اليوم يرمز لفترات السعة والفرج التى يعطيها الله لأولاده. أما الليل والظلمة فيرمزان للضيقة التى تمر بأولاد الله، وخلال كليهما يعمل الله ويعطى بركاته.
- اليوم يرمز للعهد الجديد، حيث تجسد المسيح وأعلن أسراراً عظيمة وخلاصاً للبشرية، أما الليل فيرمز للعهد القديم، حيث توجد نبوات ورموز، أعلنت وأظهرت فى العهد الجديد.
- الله يعلن معرفته بأعمال ظاهرة فى اليوم والنهار، أى يذيع كلاماً. وأيضا فى الليل يبدى علماً، فيعلن أسراراً عميقة عن نفسه لكل من يحبه ويسهر معه، فهو دائما يريد أن يعرف أولاده به ويمتعهم بعشرته.
ع 3: 3- لا قول و لا كلام لا يسمع صوتهم.
- إن تكلم الشمس والقمر والنجوم وكل الكواكب بخضوعها للنظام الذى وضعه الله لها هو أقوى من كلمات اللغات البشرية؛ لأن أى لغة مفهومة لبعض الناس، أو الأجناس، أو المثقفين ولكن كلام الكواكب يستطيع أن يصل إلى كل إنسان، فيعلن قوة الله القدير.
- إن كانت الكواكب العظيمة ستتكلم بكلمات اللغات البشرية، أو بأى صوت، لكان صوتاً مزعجاً لا يحتمله البشر. ولكن تكلمهم بدون صوت يوصل المعنى الذى يريده الله بهدوء لكل إنسان، عندما يتأمل فى هذه الكواكب، فيمجد الله.
- إن الكنيسة على مر التاريخ برسلها وشهدائها وكل خدامها تكلموا من خلال سيرهم وسلوكهم بقوة تفوق كل لغة بشرية وكل وعظ مؤثر فى الناس؛ لأن حياتهم كانت تطبيق عملى لوصايا المسيح، ومثالاً لا يمكن مقاومته.
ع 4: 4- في كل الارض خرج منطقهم و إلى اقصى المسكونة كلماتهم جعل للشمس مسكنا فيها.
- الأرض ترمز للأرضيين الذين يسلكون حسب الجسد وليس حسب الروح، إلى هؤلاء سيصل صوت كواكب السماء، التى تعلن الله لهم؛ حتى يؤمنوا به ويسلكوا بالروح، فيقل اهتمامهم بالجسديات.
- سيصل أيضا صوت هذه الكواكب بدون كلمة إلى كل مكان يسكنه أى إنسان، أى أن الله سينادى كل البشر عن طريق هذه الكواكب؛ حتى يؤمنوا به، ويتركوا عنهم خطاياهم ويحيوا له.
- إن كلام هذه الكواكب يرمز لبشارة الرسل، التى وصلت إلى أقصى المسكونة، وانتشرت المسيحية فى العالم، عندما وصلت إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية التى تحكم العالم، ومنها انتشرت إلى كل البلاد.
- إن الشمس صار لها مسكنا واستقراراً بين هذه الكواكب السمائية، وهذا يرمز للمسيح شمس البر، الذى سكن فى جسدنا ومشى بين المخلوقات كواحد منا؛ ليفدينا ويكون مثالاُ لنا فى السلوك النقى الكامل.
- إن أمنا العذراء مريم هى المسكن الذى سكن فيه شمس البر، أى المسيح إلهنا ولد منها.
- إن الكنيسة أيضا سكن فيها شمس البر المسيح إلهنا من خلال أسراره المقدسة وكل عمل الروح القدس فى المؤمنين. وصارت الكنيسة ظاهرة أمام العالم كله، معلنة أنها بيت الله الذى يسكن فيه.
- إن شمس البر – ربنا يسوع المسيح – سكن كذلك فى المؤمنين به، فصاروا نوراً للعالم.
ع 5: 5- و هي مثل العروس الخارج من حجلته يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق.
العروس : يقصد بها العريس؛ لأن الأصل العبرى لها يعنى المذكر والمؤنث ولكن هنا نرى باقى كلمات الآية تعنى المذكر (مثل الخارج – يبتهج).
الحجلة : الحجرة الخاصة بالعروسين
- يشبه الشمس بالعريس الخارج من حجرة العرس (حجلته) ويعنى بها بطن العذراء التى ولد منها ليفدى البشرية، أو حضن الآب الذى كان فيه منذ الأزل وكانت عروسه – أى الكنيسة – فى قلبه من قبل تأسيس العالم (أف 1 : 4). خرج العريس من حجلته فرحاً مبتهجاً، وتحرك بقوة ليتمم خلاصنا، مثل الشمس التى تتحرك كجبار خارجاً للسباق، ولا يستطيع أحد أن يقف فى طريقها.
- كما أن الشمس قوية لا يمكن إيقاف حركتها، هكذا المسيح تمم خلاصنا بقوة على الصليب ولم يستطع إبليس بكل حيله وشره أن يعوق خلاصه، بل على العكس، عندما مات المسيح على الصليب كان فى كمال القوة، إذ قيد بموته الشيطان ولم يعد له سلطان أن يأخذ المؤمنين بالمسيح إلى الجحيم.
- المسيح قدم لنا خلاصاً مملوءاً بالابتهاج والفرح، وفى نفس الوقت خلاصاً قوياً جباراً يسحق الشر الذى فينا، ويعطينا حياة جديدة فيه، وبهذا ننال فى المسيح الفرح الدائم والقوة لسحق الشيطان الذى يحاربنا أثناء جهادنا الروحى على الأرض. فجبروت المسيح يعطيه لنا فى قوة واستمرارية جهادنا، مهما كانت معطلات الشيطان.
- إن المسيح العريس الذى أعد لنا الحجلة – أى مكان العرس – وكنا فى قلبه قبل أن يخلقنا أتى فى ملء الزمان وفدانا على الصليب، وصعد إلى السماء، وأعد لنا مكانا هو الحجلة التى سنتمتع فيها بأحضانه إلى الأبد، ومن فرط حبه فينا يمتعنا بحجلته ونحن على الأرض جزئياً، عندما يملك على قلوبنا ويمتعنا بعشرته؛ لنتشجع حتى نصل إلى الحجلة السماوية.
ع 6: 6- من أقصى السماوات خروجها و مدارها إلى أقاصيها و لا شيء يختفي من حرها.
- إن الشمس ترمز للمسيح شمس البر، ذو القدرة الواضحة؛ من أقصى السموات إلى أقاصيها وعنايته بمخلوقاته واضحة للكل؛ حتى لو أنكرها الملحدون.
- إن تجسد المسيح عرف فى العالم كله وفداءه وموته على الصليب، ولكن أهمله الكثيرون وأنكره البعض.
- فى مجئ المسيح الثانى سيظهر وتعرفه المسكونة كلها من أقصى السموات إلى أقاصيها.
- أظهر الله فعله وقوته، ليس فقط بنوره مثل الشمس، بل أيضا بحرارة عمل روحه القدوس، التى تؤثر فى مشاعر الناس، ولا يستطيع أحد أن يختفى من عمل الروح القدس، ولكن يمكنه رفض هذا العمل ومحاولة إطفاء هذه الحرارة. وإن عجز الإنسان أن يرى نور الشمس مثل العميان، لكنه لا يستطيع أن يبتعد عن حرارة الشمس المؤثرة فيه، فالله يبحث عن الكل ويدعو الكل للإيمان به والتوبة.
- إن حرارة الشمس ترمز لدفء المحبة والرحمة الإلهية التى يهبها الله للبشر، وتجعل البشر يعطفون بعضهم على بعض، ويحبون بعضهم البعض.
الله يناديك بواسطة كل خلائقه لتحبه وتعبده وتتمتع بعشرته، فتطلع دائماً إلى الطبيعة المحيطة بك وابحث عن الله فيها، وحينئذ سيعلن لك عن نفسه ويمتعك برؤيته.
(2) أثر كلمة الله (ع7-11):
ع 7: 7- ناموس الرب كامل يرد النفس. شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيما.
- إن الشمس تغطى المسكونة بنورها وحرارتها، وكذلك كلمة الله تنير حياة الإنسان، وتحرك مشاعره وتعتنى به وتقوده فى الطريق إلى الله.
- يوضح فى هذه الآية والآيات التالية عمل كلمة الله فى الإنسان فى ستة أفعال، كما أن أيام الخليقة ستة التى خلقت بكلمة الله. وكما استراح الله فى اليوم السابع، هكذا تستريح النفس فى النهاية بوجودها مع الله.
- ناموس الرب هو ناموس موسى والوصايا العشر وهو أيضا ناموس المسيح، أى تعاليم العهد الجديد. وناموس الرب كامل؛ لأن الله هو واضعه، وهو لا يمكن أن ينقص فى شئ ويدعو الناس إلى الكمال ويرد النفوس من انحرافات الخطية.
- يدعو كلام الله – بالإضافة إلى أنه ناموس، أى نظام وقانون، فيقول أنه شهادة، أى يشهد أمام الإنسان بالطريق الصحيح إلى الله، ويشهد على الإنسان إن أخطأ بأنه مستحق العقاب، ويشهد للصالحين أنهم تمسكوا بكلمة الله.
- إن كذب كل الناس تظل كلمة الله صادقة وأمينة وليس فيها أى كذب. ولأنها كلمة الله تستطيع أن تحول الجاهل من جهله إلى الحكمة، فيسلك فى طريق الله، ويبتعد عن الخطية، ويسير فى طريق ملكوت السموات.
- إن شهادة الرب صادقة؛ لأنها تشهد بمرارة الخطية وإفسادها للإنسان، وفى نفس الوقت تشهد أيضا بصدق مواعيد الله وأثر كلامه المحيى فى النفوس.
ع 8: 8- وصايا الرب مستقيمة تفرح لإياه . أمر الرب طاهر ينير العينين.
- وصايا الله مستقيمة وسط تعاليم العالم المنحرفة المعوجة، التى تؤدى إلى طرق الهلاك، أما وصايا الله المستقيمة، فتضمن الوصول إلى الله والتمتع بعشرته.
- الذين يميلون للإستقامة يفرحون بوصايا الله المستقيمة؛ لأنها تساعدهم على الوصول إلى الله، وأيضاً تجعل مشيئتهم مثل مشيئة الله، فيفرحون بمعرفة الله وحلاوة حياة الاستقامة.
- كل من يتأمل فى وصايا الله يكشف استقامتها وسموها عن كل أفكار العالم، وإذ يسلك فيها يستطيع أن يعاين الله، فيفرح قلبه.
- إذا أخطأ الإنسان الذى يسعى فى طريق الملكوت، ثم ينظر إلى وصايا الله المستقيمة يجدها مساعدة له فى الوصول إلى طريق الملكوت، فيستعيد فرحه مع دموع التوبة.
- إن كلام الله، أى أوامره، طاهرة ونقية بلا غرض إلا معرفة الله، فتستطيع أن تطهر كل من يتمسك بها، وحينئذ يستنير عقله وعينيه، فيرى الله ويتمتع بعشرته.
- إن أوامر الله الطاهرة تسمو بالإنسان فوق أفكار البشر، ويهبه الله الإستنارة الروحية بكل ما تحمل من حكمة وإفراز وتمييز، فيكتشف حلاوة الوجود مع الله ويميز الخطية، فيبتعد عن كل ما يؤدى إليها.
- إن من يحيا بأوامر الله الطاهرة ينال الحكمة التى يستطيع أن يرشد بها الآخرين، فالخادم وكل أب وأم وجميع المربين يحتاجون إلى كلمة الله التى تهبهم الحكمة، فيستطيعون إرشاد غيرهم.
- إن أوامر الله الطاهرة هى الضمير، أى صوت الله داخل الإنسان الذى ينير عينيه، فيرى الله فى كل من حوله، وفى كل المخلوقات.
- إن أوامر الله الطاهرة هى أيضا فى كمالها هى عمل الروح القدس، الذى ينير عينى الإنسان ويرشده فى كل طرقه ولا يستطيع أحد أن يعوج كلام الروح القدس، كما يحدث أحيانا مع الضمير.
ع 9: 9- خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد أحكام الرب حق عادلة كلها.
- إن كلمة الله تزرع خوف الله فى القلب، فيبتعد عن كل خطية ويثبت الإنسان إلى الأبد، حيث يتمتع بعشرة الله فى الملكوت.
- إن خوف الله ينقى قلب الإنسان من الخطية، فيستطيع أن يعاين الله وبهذا يثبت فى الله إلى الآبد.
- خوف الله ينقى قلب الإنسان، فيرى كل شئ نقياً ويرى الله فيه، فيحيا مع الله ويدوم فيه إلى الأبد؛ لأنه يعبر فوق الخطية ويرفضها.
- كلمة الله هى أحكامه التى تحكم على كل شئ فى العالم، فهى مقياس الصواب وتكشف الأخطاء، فمهما اعوجت مقاييس البشر تظل كلمة الله هى الحق السليم المعلن للبشر.
- كلمة الله كلها عادلة لا يمكن أن تحابى لإنسان ضد آخر، أياً كانت ظروفه، وهى تقود الكل لخلاص نفوسهم، وهى أيضا مصدر العدل لكل من يبغيه، فعلى قدر خضوع شرائع وقوانين البشر لكلمة الله تصير قوانيناً عادلة.
ع 10: 10- اشهى من الذهب و الابريز الكثير و احلى من العسل و قطر الشهاد.
الإبريز : الذهب النقى الخالص.
قطر الشهاد : عسل النحل النقى الخالى من الشمع.
- يصف كلمة الله بأنها أشهى وأفضل من كل مقتنيات العالم وأثمنها مثل الذهب الخالص، فكلمة الله هى اللؤلؤة الغالية الكثيرة الثمن، التى من أجلها يبيع التاجر كل اللآلى ليقتنيها.
- كذلك كلمة الله لها لذة روحية تفوق كل اللذات الحسية، فهى أحلى من العسل والشهد المصفى من الشمع.
- إن كانت للخطايا والشهوات الشريرة لذات ولكنها كلها فاسدة، أما كلمة الله فهى عسل نقى، بل أحلى منه؛ لأنها لذة مصفاة من كل شئ، بها يعرف الإنسان الله ويتمتع بعشرته.
ع 11: 11- أيضا عبدك يحذر بها و في حفظها ثواب عظيم.
- إن وصايا الله وناموسه تحذر داود من الخطايا، وبهذا يعرف الأمور الخاطئة ويبتعد عنها، فيحيا فى الحياة المستقيمة ولا ينحرف عن الحق. أى أن وصية الله تحميه من الخطية، وتسير به فى طريق الملكوت.
- تظهر طاعة داود ومحبته للوصية فى تمسكه بها وحفظه لها. والمقصود بحفظها تطبيقها فى حياته، وليس فى الحفظ الذهنى فقط، أى أنه يحيا بها ويتذوق حلاوتها، فيتمتع بعشرة الله من خلالها.
- أيضا عندما يحفظ داود كلام الله ينال المكافأة الأبدية والثواب العظيم، أى الحياة الأبدية السعيدة.
كن حريصا على قراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه كل يوم، حتى تستطيع أن تطبقه فى حياتك، فتلمس عمل الله ومباركته لكل أعمالك، بل وأيضا كلامك وأفكارك، فتشعر بلذة العشرة الإلهية.
(3) طلب الكمال (ع12-14):
ع 12: 12- السهوات من يشعر بها من الخطايا المستترة ابرئني.
السهوات: الخطايا التى لا ينتبه إليها الإنسان، أى تسهو عليه ولا يلتفت إليها، إما لصغرها، أو عدم وضوحها أنها خطية.
- يعلن داود النبى ضعفه أمام الله، وأنه عاجز عن اكتشاف خطايا السهوات، ويطلب غفران الله وتسامحه معه عن هذه الخطايا، فمهما حفظ كلام الله سيسهو عن بعض الخطايا؛ لأن الله فى كماله ينسب لملائكته حماقه (أى4: 18) فبالأولى ضعف الإنسان وسقوطه فى هفوات كثيرة.
- فى زحام الحياة رغم معرفة الإنسان بالخطايا يسهو عليه، فيسقط فيها. وقد يصور له الشيطان تبريرات لها، فيشعر أنها ليست خطية، وهذا من ضعف الإنسان، ولكن الله الرحوم يسامحه، إن كان يسعى فى طريق التوبة.
- الإنسان لضعف فهمه رغم حفظه للوصية قد لا يفهم أن بعض الأمور خطأ، أى أثناء تطبيقه العملى يسقط فى بعض الخطايا دون أن يشعر، ويحتاج إلى إرشاد إلهى وغفران أيضا من الله.
- يقابل الإنسان أموراً كثيرة فى حياته تشتت ذهنه، وأثناء هذا التشتت يدس الشيطان خطايا، فيحتاج إلى تنبيه إلهى.
- الخطايا المستترة هى خطايا مستترة عن الإنسان نفسه، أى لا يعرف أنها خطية، فيحتاج من الله إلى إرشاد وتوضيح، وهذا ما يحدث عند كثرة القراءة فى الكتاب المقدس والكتب الروحية يكتشف الإنسان كل يوم بعضاً من هذه الخطايا المستترة.
- الخطايا المستترة قد تكون مستترة عن الناس، ولكنها معروفة للإنسان نفسه، مثل خطايا الفكر والقلب، فيطلب داود من الله أن يسامحه عنها، فهو يقدم توبة بينه وبين الله، حتى لو لم ير الناس خطاياه.
ع 13: 13- أيضا من المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا علي حينئذ اكون كاملا و أتبرأ من ذنب عظيم.
- يقصد “بالمتكبرين” خطيتهم، أى الكبرياء، فيطلب أن يحفظه الله منها، وفى الأصل العبرى يقول “وأيضا من الخطايا التى عملت بكبرياء”، وهى استكمال للآية السابقة؛ أى السهوات والخطايا المستترة، فيضيف خطية الكبرياء، خاصة وأن ما يعمل بكبرياء قد يتمادى فيه الإنسان ويبرره، فيصعب تقديم التوبة عنه.
- يطلب داود باتضاع من الله أنه إن سقط فى خطية بكبرياء يتوب عنها، ويدعو الله ألا يترك هذه الخطية تتسلط عليه، فتميز داود هو اسراعه إلى التوبة وخوفه من الخطية، مما يجعله يبتعد عنها.
- يترجى أيضا داود ألا يكون سبباً فى سقوط غيره فى خطية الكبرياء، أو ما يتصل بها مثل الإدانة، وذلك عندما سقط فى خطية الزنا مع امرأة آوريا الحثى، وعرض آوريا للقتل فى الحرب، فيخشى أن يكون أعثر شعبه وأسقطهم فى الإدانة والكبرياء.
- لخطورة خطية الكبرياء يشعر داود أنه بالتخلص منها وكل ما يتبعها يسير فى طريق الكمال؛ لأن خطية الكبرياء أم لخطايا كثيرة؛ مثل الغضب والكراهية والقتل، فبتطهره من خطية الكبرياء العظيمة يتخلص من خطايا كثيرة. فهو لا يركز على خطية الزنا والقتل رغم خطورتهما، ولكن الأخطر هو الخطايا الأمهات، مثل الكبرياء.
عندما تحاسب نفسك اهتم باكتشاف سبب خطاياك، أى الخطية الأم التى أسقطتك فى هذه الخطايا، فتفحص مدى أنانيتك، أو كبريائك؛ لتعالجه، فتتخلص من الخطايا الناتجة عنها.
ع 14: 14- لتكن اقوال فمي و فكر قلبي مرضية امامك يا رب صخرتي و وليي
- فى ختام المزمور – بعد أن أظهر داود حرصه الشديد من الخطايا الأمهات مثل الكبرياء – يطلب من الله أن تكون كلماته وأفكاره بحسب مشيئة الله، أى ما يظهر عليه وما فى داخله يرضى عنه الله.
- يقصد بأقوال الفم، ليس فقط فى التعامل مع الآخرين يلتزم بوصايا الله وناموسه، بل أيضا تكون صلواته، أى كلامه مع الله بالطريقة المناسبة التى ترضى الله، أى باتضاع ومحبة وخضوع له.
- إن كانت أفكار الإنسان ونيات قلبه مرضية لله تصبح كلماته أيضا نقية؛ لأن من فضلة القلب يتكلم اللسان، ثم فى النهاية تكون تصرفاته مستقيمة.
- إن أقوال الفم وفكر القلب تشمل الكلمات والأفكار والمشاعر الداخلية، وهذه كلها تعبيرات عن الصلاة التى يقدمها الإنسان لله، سواء باللسان، أو بالفكر، أو بالمشاعر، كما يقول القديس يوحنا الدرجى “سكت لسانك لكيما يتكلم قلبك”.
- فى اتضاع يشكر داود الله، فهو سبب نقاوة أقواله وأفكاره ومشاعره، إذ يقول له “أنت صخرتى”، أى سبب قوتى وطمأنينتى وثباتى فى الحياة معك.
- يطمئن داود فى النهاية أن الله وليه، أى مخلصه من الخطايا، والمدافع عنه، والمسئول عن رعايته؛ ليحيا فى نقاوة كل أيام حياته.