مرثاة لغريب
لإمام المغنين . ليدوثون . مزمور لداود
“قلت أتحفظ لسبيلى من الخطأ …” (ع1)
مقدمة
- كاتبه : داود النبى.
- قاد يدوثون المرنمين بهذا المزمور، ويدوثون هذا هو غالباً إيثان الأزراحى، الذى كان هو وهيمان الأزراحى رؤساء مغنين مساعدين لآساف الرئيس الأكبر المغنين أيام داود. ويتكرر اسم يدوثون فى عنوان مزمورى 62، 77 .
- متى كتب ؟
أ – إما أيام هروب داود من وجه أبشالوم.
ب – أو أثناء هروب داود إلى مدينة جت الفلسطينية عند لخيش ملكها.
- يُعد هذا المزمور مرثاة شخصية لداود، يعلن فيها أتعابه وآلامه، وله علاقة بالمزمور السابق والتالى له. وهو من أعظم مراثى داود.
- هذا المزمور مملوء أيضاً بالرجاء والإيمان، فهو معين لمن يجتازون الضيقات.
- هذا المزمور غير موجود بصلاة الأجبية.
(1) التذمر وبطلان العالم (ع1-6):
ع1: 1- قلت اتحفظ لسبيلي من الخطأ بلساني احفظ لفمي كمامة فيما الشرير مقابلي.
- عندما رأى داود نجاح الأشرار وقوتهم تضايق فى داخله، وكاد يتكلم بكلام تذمر، ولكنه استطاع بقوة الله أن يمسك لسانه عن الخطأ.
- إن ضبط داود للسانه جعله قادراً على عدم السقوط فى تصرفات سيئة، إذ الكلام السئ يولد أفعالاً سيئة. وبالتالى فتحفظ داود لسبيله جعله قادراً على ضبط لسانه، وفكره، وأفعاله.
- هذه الآية تظهر حواراً داخل نفس داود، أى أنه يحاسب نفسه أمام الله حتى لا ينزلق فى أخطائه.
- هذه الآية تبين خطورة اللسان القادر أن يشعل الشر داخل كيان الإنسان وفى أعماله، فيحتاج إلى كمامة، كأن اللسان وحش مفترس، فيحتاج بالضرورة إلى ضبط، خاصة عندما تهيجه أحداث الحياة وتصرفات الأشرار.
- لسان داود كان معرضاً أن يدين الأشرار، أو يبرر نفسه، أو يتذمر على الله. فهو معرض لأخطاء كثيرة استطاع داود أن يتخلص منها حتى لو كان قد سقط فيها بالفكر، أو القلب، ولكنه يبين جهاد داود، ومحاولته ضبط نفسه.
- إن تحفظ داود لسبيله، أى ضبطه أفكاره، وتصرفاته، جعلت أيضاً لسانه غير قابل للخطأ؛ لأن من فضلة القلب يتكلم اللسان، فإذا صار داخله نقياً أصبح كلامه نقياً.
- إن داود يشعر أن الشرير مقابله وليس ضده، فلا يعاديه داود، أو يدينه، بل يشعر فقط أن الشرير مختلف عنه لسلوكه فى الشر، ولذا يحتفظ داود بقلب محب له، ويصلى لأجله، بل كان مترفقاً بابنه أبشالوم، رغم أن أبشالوم يريد قتل داود. هكذا أوصى داود يوآب رئيس جيشه ليترفق بأبشالوم.
ع2: 2- صمت صمتا سكت عن الخير فتحرك وجعي.
- استطاع داود أن يضبط لسانه ويصمت، فلم يخطئ بكلمة شريرة، وكذلك سكت عن كلام الخير، فلم يقل كلمة طيبة، ولكن مازال الضيق فى داخله، أى فى أفكاره ومشاعره، واستمر يعانى من هذه الأوجاع حتى هدأ قلبه.
- إن صمت داود جهاد عظيم يمدحه الله، ولكنه لم يستطع أن يعمل الخير مع الشرير الذى مقابله، ولذا استمر الوجع فى داخله.
- إذا صمت الإنسان عن سماع صوت الله سيفقد قدرته على عمل الخير، وبالتالى تتحرك أوجاع الخطية فى داخله.
- عندما شتم شمعى داود صمت داود صمتاً عن الرد عليه، سواء بالكلام، أو بالسماح ليوآب أن يقتله، ولكنه سكت عن فعل الخير أو الكلام الطيب، وحينئذ لام داود نفسه وتوجع؛ لأن محبته ليست كاملة نحو شمعى، إذ كان ينبغى أن يصمت عن الشر، ويتكلم أيضاً بالخير أمام شتائم شمعى.
- صمت داود عن الكلام الشرير، ولكنه لم يستطع أن يتكلم بالخير، إذ أن الشرير لا يقبل كلام الخير، فكان هناك صراع داخل داود، وأوجاع لأنه غير قادر أن يقول كلام الله، فالشرير يرفض سماع الكلام المقدس.
ع3: 3- حمي قلبي في جوفي عند لهجي اشتعلت النار تكلمت بلساني.
لهجى : أكرر الفكرة، أو الكلام.
- عندما أساء الأشرار إلى داود تأثر قلبه فى جوفه، وتضايق لأنهم أساءوا إليه وهو برئ. ثم تكررت الأفكار فى داخله حتى اشتعل قلبه ضيقاً من المسيئين. وأخيراً تكلم بلسانه، وعاتبهم على إساءتهم إليه رغم أنه برئ، كما عاتب شاول الملك مرتين عندما سقط شاول فى يد داود ولم يؤذه (1صم24: 11؛ 26: 23).
- هذه الآية أيضاً يمكن أن يكون معناها أن قلب داود عندما سمع إساءة الأشرار إليه أشفق عليهم لأنهم أخطأوا فى حق الله، فهو يريد خلاص الكل، ويحب حتى من يسئ إليه. وتكررت فى داخل داود صلوات لأجل المسيئين؛ حتى كاد قلبه يشتعل بنار الحب لهم. وتكلم لسان داود عن المسئ، أو معه ملتمساً له العذر، كما فعل مع شمعى بن جيرا، إذ أعلن أن إساءة شمعى توجيه إلهى لداود (2صم16: 10).
- وهناك تفسير ثالث لهذه الآية، وهو أن داود عندما سمع إساءات موجهة ضده تضايق من هذه الإساءات، وقلبه حمى فى داخله ضيقاً منهم. ولكنه وجه قلبه إلى الله فى صلاة طالباً معونته، واشتعل فى صراخ إلى الله؛ لينقذه، ويعزيه، فزاد تعلق داود بالله. وانشغال داود بالحديث مع الله جعله يصمت فلم يرد على إساءة الأشرار بأية كلمة إساءة؛ لأن الله أعطاه سلاماً وطمأنينة، بل وتسامح، فاكتفى بحديثه مع الله بلسانه وصلوات الحب لله التى اجتذبت قلبه، وترك التفكير فى إساءة الآخرين.
ع4: 4- عرفني يا رب نهايتي و مقدار أيامي كم هي فاعلم كيف أنا زائل.
- يطلب داود من الله أن يعرفه أن حياته قصيرة على الأرض، وستنتهى ويزول من على الأرض، وبالتالى لا ينزعج من إساءات الأشرار، بل يحتملها؛ لأنها مؤقتة وستنتهى بانتهاء عمره على الأرض، وسينال عوضاً عنها أمجاداً سماوية.
- يشعر داود أن الضيقات التى يمر بها لها نهاية، فيطلب من الله أن يعرفه نهايتها وعدد أيامها، وكيف أنه سيزول من على الأرض، فبالتالى يسرع إلى اقتناء الفضيلة، وعمل الخير استعداداً للأبدية، ولا ينشغل بإساءات الآخرين، بل يستطيع أيضاً أن يجعل الإساءات تدفعه للتوبة عن خطاياه، والتعلق بالله والأبدية. فداود لا يطلب أن يعرف عدد أيامه على الأرض، أو أيام تجربته بالتحديد، ولكنه يريد أن الله يذكره بأن أيامه محدودة؛ حتى ينشغل بالأبدية.
ع5: 5- هوذا جعلت أيامي أشبارا و عمري كلا شيء قدامك إنما نفخة كل انسان قد جعل سلاه.
- إذ ينظر داود للأبدية يرى أن حياته قصيرة جداً يعبر عنها بأنها أشبار، وليست مدة طويلة، بل أنها نفخة وليست ريحاً عظيمة، ثم يراها لا شئ، إذ تمر أيام الحياة فلا تُذكر بعد ذلك، وبالتالى هذا يؤدى إلى اتضاع داود، وعدم تعلقه بالماديات، إذ يشعر أنه غريب على الأرض.
- إذ يشعر داود بقصر حياته على الأرض، بل أنها لا شئ فى ذاتها، يهتم أن يحيا مع الله لتصير لحياته قيمة، وتمتد إلى الأبدية فى سعادة لا يعبر عنها.
ع6: 6- إنما كخيال يتمشى الانسان إنما باطلا يضجون يذخر ذخائر و لا يدري من يضمها.
- يشبه داود حياة الإنسان بأنها خيال، وليست واقعاً ملموساً، وأنها أصوات عالية (ضجيج)، ثم تنتهى ولا تستطيع أن تمسك بها. وأيضاً يكنز الإنسان كنوزاً مادية كثيرة، ثم يموت ولا يأخذ منها شيئاً. وبالتالى فالإنسان الحكيم لا يتعلق بهذا العالم الزائل، وكل مقتنياته.
- هذا العالم مملوء بالضجيج، أى الاضطراب، والإنسان الحكيم هو الذى يحيا مع الله، فيمتلئ قلبه سلاماً، بل يقتنى الله فى داخله، فتصبح حياته واقعاً حقيقياً وليست خيالاً، ويكثر معرفة الله وكل فضيلة بدلاً من الماديات الزائلة. وهكذا يستعد كل يوم للأبدية التى يدوم فيها.
ليت غربة العالم تثبت فى قلبك، فلا تضيع وقتك فى جدال ومشاكل مع الآخرين على أمور زائلة، وتهتم أن تقتنى الله فى داخلك بكثرة الصلوات.
(2) رجاء وتوسل (ع7-13):
ع7: 7- و الآن ماذا انتظرت يا رب رجائي فيك هو.
إذ يرى داود بطلان العالم وزواله، وأن حياة الإنسان قصيرة، وستنتهى، وبالتالى لا ينتظر شيئاً فى العالم الزائل، بل الوحيد الذى ينتظره هو الله، فهو الرجاء الوحيد فى هذه الحياة؛ ليحيا معه الإنسان، وهو الوحيد الباقى إلى الأبد، فيترجاه، ويضع كل آماله فيه.
ع8: 8- من كل معاصي نجني لا تجعلني عارا عند الجاهل.
- إن الخطايا والمعاصى التى يرتكبها الإنسان تحجز بينه وبين الله، فيفقد وجود الله فى حياته، لذا فداود يطلب من الله أن ينجيه من معاصيه، وبالتالى يصير نقياً وأهلاً أن يسكن الله فيه، ويتمتع بعشرته.
- إن المعاصى تجعل الشيطان، وهو الجاهل، وكل من يتبعه، وهم الأشرار، يفرحون بسقوط البار. فيطلب داود من الله أن يسامحه عن خطاياه حتى لو احتاج إلى تأديب إلهى، ولكن لابد أن يرفع الله عنه خطاياه؛ حتى لا يفرح الجاهل بسقوط داود، وبالتالى لا يذهب داود إلى العذاب الأبدى، بل على العكس يكون له تمتع مع الله فى الملكوت.
ع9، 10: 9- صمت لا افتح فمي لأنك انت فعلت. 10- ارفع عني ضربك من مهاجمة يدك انا قد فنيت.
- داود يخضع لله فى كل تأديباته؛ لأن داود تائب وخاضع لمشيئة الله، فيصمت ويقبل كل تدابير الله لحياته. وبالتالى يتمتع بقيادة الله له وعنايته به.
- يعبر داود عن معاناته من تأديب الله له، فيترجاه أن يرفع عنه ضربه، أى تأديباته؛ سواء كانت إساءات من الآخرين، أو تخلى الله عنه، فتعرض للسقوط فى الخطايا، فهو يترجى الله أن يوقف ضربه له، ويشفق عليه؛ لأنه تعب جداً حتى قارب الفناء. وبهذا التذلل أمام الله ينال داود غفرانه، ومحبته، ورعايته.
ع11: 11- بتأديبات ان أدبت الإنسان من اجل اثمه افنيت مثل العث مشتهاه انما كل إنسان نفخة سلاه.
- عندما يسمح الله بتأديبات لأولاده، حتى يتوبوا، يشعرهم أن العالم زائل، إذ كما يفنى العث الملابس والمقتنيات الصوفية، هكذا يفنى الله مشتهيات، ومقتنيات الإنسان؛ حتى لا يتعلق بالعالم، ويشعر أن حياته قصيرة وصغيرة، مثل نفخة، فيتغرب عن العالم، ويتعلق بالله.
- من أجل أهمية غربة العالم يضع داود وقفة موسيقية وهى كلمة سلاه بعد هذه الآية، كما وضعت بعد الآية الخامسة من هذا المزمور؛ لتأكيد غربة العالم داخل قلب كل من يرنم هذا المزمور.
ع12: 12- استمع صلاتي يا رب و اصغ إلى صراخي لا تسكت عن دموعي لأني انا غريب عندك نزيل مثل جميع آبائي.
- فى نهاية المزمور يترجى داود الله أن يستمع إلى صلاته، وصراخه، بل وإن لم يستطع أن يتكلم ويعبر، ينظر الله إلى دموعه ويتدخل ويرفع آلامه، ويغفر خطاياه. فداود يشعر ان خطاياه هى السبب فى تأديبات الله وكل آلامه.
- يترجى أيضاً داود الله أن يستجيب له؛ لأنه غريب فى الأرض، مثل آبائه إبراهيم واسحق ويعقوب، الذين عاشوا فى الخيام متغربين كل أيامهم على الأرض. ولأن الغريب ليس له تعلق بالأرضات فرجاءه هو علاقته بالله، وأبديته.
ع13: 13- اقتصر عني فاتبلج قبل أن اذهب فلا اوجد
اقتصر عنى : ابتعد.
أتبلج : من انبلاج الفجر، أى ظهور نور الفجر وإشراق الشمس، والمعنى المقصود أشرق وأستريح وأستنير.
- إن داود التائب قبل تأديب الله فى كل ما يمر به من آلام، ولكنه شعر بثقل الآلام عليه، فطلب من الله أن يبعد يده المؤدبة له؛ حتى يستريح، وتشرق حياته من جديد، فيتمتع بحياته مع الله قبل أن ينتهى عمره.
- فى الأصل العبرى كلمة “اقتصر” تعنى اغفر، فداود يريد أن يطمئنه الله أنه غفر له خطاياه، حينئذ يشرق وجهه، ويفرح قبل أن يترك هذا العالم.
إن لك دالة عند الله كإبن له، فاطلب منه، بل ألح عليه ليسمع صلاتك، ويسندك ويعطيك راحة، بل يمتعك بوجوده معك، فيتجدد رجاؤك، ويثبت إيمانك فيه.