عطش وأفراح
مزمور لداود لما كان فى برية يهوذا
“يا الله إلهى أنت. إليك أبكر..” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود.
- متى كتب : أ – عندما كان داود هارباً من وجه أبشالوم فى برية يهوذا (2صم15: 23). وهذا هو الرأى الأرجح؛ لأنه يذكر أن الملك يفرح بالله (ع11).
ب – عندما كان داود هارباً من وجه شاول فى برية يهوذا (1صم23: 14)، وكان صموئيل قد مسحه ملكاً، ولكن لم يعلن كملك على الشعب لوجود شاول على العرش.
- هذا المزمور نبوة عن المسبيين فى السبى الأشورى والبابلى، والعطاش إلى الله وعبادته فى هيكله بأورشليم.
- يحوى هذا المزمور نبوة عن هلاك شاول، أو أبشالوم (ع9).
- يناسب هذا المزمور كل إنسان يشعر باشتياقه إلى الله، وحاجته للوجود فى بيته.
- تصلى الكنيسة هذا المزمور فى بداية كل يوم فى صلاة باكر بالأجبية؛ لأنه يظهر اشتياقات الإنسان المصلى إلى الله فى بداية اليوم. ثم تصليه الكنيسة مرة أخرى فى صلاة الساعة السادسة التى قال فيها المسيح على الصليب أنه عطشان ليس فقط إلى الماء، بل إلى خلاص البشرية، فترد عليه البشرية بأنها عطشانة إلى حبه وفدائه.
(1) أشواق وتسبيح (ع1-7) :
ع1: 1- يا الله إلهي أنت إليك أبكر عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء.
- أشواق داود نحو الله بنفسه وجسده جعلته يستيقظ مبكراً ليصلى. وكلمة التبكير فى الأصل العبرى تعنى وقت السحر، أى قبل الفجر، وذلك لأن انشغال قلب داود بالله جعلته لا يستطيع أن ينام إلا قليلاً، ثم يستيقظ ليصلى.
- كان داود فى البرية حيث العطش لأنه لا يوجد ماء، ولكن عطش نفسه إلى الله كان أقوى. ولما صلى ارتوت نفسه. وعطشه إلى الله ليس فقط للصلاة فى مخدعه، ولكنه عطش للوجود فى حضرة الله أمام تابوت العهد، ليقدم عبادة فى أورشليم؛ لأنه كان بعيداً عنها بسبب أبشالوم.
- إن الأرض الناشفة التى بلا ماء لا تستطيع أن تعطى ثماراً، وهذا وصف لنفسية داود التى أصبحت ناشفة لبعدها عن الله. والحل هو الصلاة فيرتوى ويثمر ثمار الروح.
ع2: 2- لكي أبصر قوتك و مجدك كما قد رأيتك في قدسك.
- كما اختبر داود رؤية الله، وإحساسه به فى أورشليم، عندما قدم عبادة وسط الجموع أمام تابوت العهد، يشتاق الآن أن يرى قوة الله ومجده وهو فى البرية؛ لأن الله يملأ كل مكان، وهو عاجز عن الذهاب لأورشليم، ومحتاج لقوة الله ومجده، ليس فقط لتشبعه، بل أيضاً لتسنده أمام شر أعدائه. فداود يحب الصلاة التى تعودها فى أورشليم ولا يستطيع أن يستغنى عنها فى أى مكان.
- عندما نقول داود أبصر، فهو يعبر عن أشواقه برؤية قوة الله ومجده فى تجسده الذى سيتم فى ملء الزمان.
ع3: 3- لأن رحمتك أفضل من الحياة شفتاي تسبحانك.
- يشعر داود أن الحياة مع الله، والتمتع بعشرته أفضل من كل مباهج حياة العالم، وكذلك أمام عظمة رحمة الله تنطلق شفتاه بتسبيح الله وشكره. ولا تستطيع شفتاه أن تسبح الله إلا بمعونته ورحمته.
- إن الحياة مع الله والتمتع برحمته، ولو لفترة قصيرة من العمر أفضل من حياة طويلة بعيداً عن الله.
- لعل هذه الآية نبوة عن مشاعر المسبيين فى بابل، إذ يشعرون أن التمتع برحمة الله وعبادته فى أورشليم أفضل من كل عظمة الحياة فى بابل، وهناك فى أورشليم يلذ لهم التسبيح أمام هيكل الله.
ع4: 4- هكذا أباركك في حياتي باسمك أرفع يدي.
- إذ تمتع داود برؤية الله، وشعر بيده المساندة له، أعلن وعداً واضحاً لله أن يباركه فى حياته، ويقصد طوال حياته، وفى كل أوقات وجوانب حياته؛ لأن الله هو سبب كل بركة، ونجاح، وأمان فى حياته.
- رفع اليدين هو تعبير عن الصلاة، والتضرع، والشكر لله، وهو مشاركة للجسد مع الروح فى الصلاة. ورفع اليدين، ومحبة الصلاة يتمان بمعونة الله الذى يشجعنا على الصلاة. بل إن الصلاة، ورفع اليدين موجهان لاسم الله، أى شخصه؛ لأن القلب قد تعلق بالله، فارتفع إليه مع الجسد، وهذا يبين مدى أشواق داود لله، حتى أنها سمت به إلى السماء، فارتفعت به عن خطايا كثيرة لانشغاله بحب الله. ورفع اليدين رمزاً للنصرة على الشيطان، كما رفع موسى يديه فتغلب يشوع على عماليق (خر17: 11). ورفع اليدين أيضاً يعنى الوعد لله بأن يظل داود مستمراً فى الصلاة، كما وعد الله شعبه ورفع يده معلناً وعده بأرض كنعان ميراثاً (خر6: 8).
ع5: 5- كما من شحم و دسم تشبع نفسي و بشفتي الابتهاج يسبحك فمي.
يعلن داود أنه كما يشبع الجسد من الشحم والدسم، هكذا أيضاً تشبع نفسه بدسم الحب الإلهى، فيبارك الله، ويسبحه بفرح. وعندما يصلى يزداد شبعه ونموه الروحى، كما ينمو الجسد بالشحم والدسم. والشحم والدسم يعطيان مذاقاً حسناً للطعام، وكذلك الصلاة والتسبيح تعطى لذة للحياة، بل إن النفس تتذوق حلاوة الأبدية وهى على الأرض؛ لأن الملكوت كله تلذذ بالصلاة والتسبيح.
ع6: 6- إذا ذكرتك على فراشي في السهد ألهج بك.
السهد : الأرق وعدم القدرة على النوم.
ألهج : أكرر وأردد اسم الله.
- بدأ داود المزمور بأنه يبكر إلى الصلاة؛ لأن نفسه عطشانة للحب الإلهى، واستمر طوال اليوم يحدث الله، وعندما دخل لينام ظل يحدث الله، ويذكر اسمه، وإذ نام قليلاً من تعب اليوم قام وأخذ يردد اسمه القدوس، مع أن الفجر لم يكن قد طلع، وفى الترجمة السبعينية فى أوقات الأسحار استيقظ داود، فقد بكر لله من وقت السحر، بينما الظلام يغطى الأرض والناس نيام لم يستطع قلبه أن ينام، واستيقظ ليصلى، واستمر حتى طلع الفجر وبدأ يومه، وحقاً عبر داود عن نفسه عندما قال “أما أنا فصلاة” (مز109: 4).
- على فراشى، أى فى وقت راحتى، وفى السهد، أى وقت الضيقة والأرق، كنت أصلى، وألهج باسم الله، فداود يصلى فى جميع الظروف؛ الراحة، أو الضيقة.
ع7: 7- لأنك كنت عونا لي و بظل جناحيك ابتهج.
هرب داود من وجه أبشالوم وقبل ذلك من وجه شاول، والله أعانه، إذ لم يمكن مطارديه من الإمساك به، أو قتله، فشعر داود بأنه تحت رعاية الله، وهو يظلله بجناحيه، فصار فى فرح عظيم، ليس فقط برعاية الله، بل لأنه تلذذ وشبع بحب الله. وقد يكون الله متعه بإحساس به بشكل ما، كما ذكر عن الثلاثة فتية أنهم رأوا الله وسط الأتون، ودانيال رأى الملاك فى الجب (دا 3: 25؛ 6: 22) فداود تمتع بعشرة الله، وهذا هو سبب فرحه.
إذا شعرت باشتياق لله فلا تؤجل، بل قم إلى الصلاة والتسبيح، أو اقرأ فى كتابك المقدس، وتأمل فيه، فتجد الله واضحاً، وتتمتع بعشرته، فيفرح قلبك.
(2) فرح وافتخار (ع8-11) :
ع8: 8- التصقت نفسي بك يمينك تعضدني.
- من شدة أشواق داود لله لم يكتفٍ برعايته، أو رؤيته، ولكنه التصق بالله بالحب؛ حتى تمتع به على الدوام. وعندما رأى الله محبة داود، سانده وعضده بيمينه؛ ليثبت فى هذا الحب. فمن يسعى باشتياق لله، ويلتصق به، يتمتع بقوة الله، التى تدخله إلى أعماق الله، فيختبر أموراً لا يعبر عنها، أى يتذوق الملكوت وهو على الأرض.
- يمين الله ترمز للمسيح، الذى هو قوة الله، وظهرت فى التجسد، فمن يسعى نحو الله يتمتع بخلاص المسيح وفدائه.
ع9، 10: 9- أما الذين هم للتهلكة يطلبون نفسي فيدخلون في أسافل الأرض. 10- يدفعون إلى يدي السيف يكونون نصيبا لبنات آوى.
بنات آوى : حيوان يشبه الثعلب، حجمه وسط بين الثعلب والذئب، وهو من الحيوانات المفترسة.
- بعد أن عرض داود تمتعه بالله، كمثال لسعادة أولاد الله، عرض على الجانب الآخر مصير الأشرار الذين يريدون إهلاكه، وحدده فى ثلاثة نقاط :
أ – يدخلون فى أسافل الأرض، أى ينتظرهم الهلاك الأبدى، فيلقون فى الجحيم؛ لإصرارهم على الشر، وقتل الأبرياء مثل داود.
ب – يدفعون إلى يدى السيف، أى يهلكون، وهذا هو الهلاك على الأرض، أى أنهم يهلكون على الأرض وفى الحياة الأخرى، حيث العذاب الأبدى.
ج – يكونون أنصبة لبنات آوى : الأسد – الذى يرمز للشيطان – عندما يهجم على فريسة يقتلها، ويأكل جزءاً منها، ويترك الباقى للحيوانات المفترسة الأخرى، مثل بنات آوى، فهؤلاء الأشرار يعذبهم الشيطان، وكذلك باقى الأشرار الذين على الأرض يهاجمونهم، أى ينقلب الأشرار بعضهم على بعض، فيظهر خزى كل من يتبع الشر، ويعتمد عليه. كل ما يحدث للأشرار يثبت إيمان الأبرار، فلا ينزعجون من إساءات الأشرار، أو نجاحهم المؤقت، لأن نهايتهم شنيعة.
ع11: 11- أما الملك فيفرح بالله يفتخر كل من يحلف به لأن أفواه المتكلمين بالكذب تسد
- يختم داود المزمور بأن الملك، أى داود يفرح بالله الذى بكر إليه بالصلاة، وتمتع بعشرته، ورعايته، بل يصير داود قدوة لغيره، فيفتخر الأبرار لأجل إيمانهم بالله، ويزداد تمسكهم به، ويحلفون باسمه، وليس بأسماء الآلهة الغريبة؛ لأن الحلف فى العهد القديم كان إعلاناً لإيمان الإنسان، وتبعيته لله، أو الآلهة الوثنية. فعندما يحمى الله داود، يثبت الأبرار المؤمنون بالله فى إيمانهم، بل ويفتخرون بإلههم الذى يحلفون به.
- على الجانب الآخر فإن كل الأشرار المتكلمين بالشر، وهو كلام كاذب يحمل ظلماً للأبرياء، وإساءات كلها مؤقتة وبلا قيمة، كل هذا يبطل، وأفواه الأشرار يسدها الله، عندما يرون رعاية الله وحمايته لأولاده، وأن شرور الأشرار لا تصيب الأبرار.
تأمل عمل الله فى قديسيه، وكذلك فى أولاده الذين حولك، فيثبت إيمانك، وتنمو فى محبتك لله … حقاً شهية هى أخبار القديسين.