استغاثة واشتياقات
“اقض لى يا رب وخاصم مخاصمتى…” (ع1)
مقدمة :
- يرى معظم الدارسين للكتاب المقدس أن هذا المزمور هو استكمال للمزمور السابق، أى أن المزمورين كانا مزموراً واحداً، وتم تقسيمه. هذا المزمور لابد أن يكون كتبه داود؛ لانه قبل داود لم تكن خيمة الاجتماع فى أورشليم، ولم يكن هناك مسكنين لله “مساكنك” (ع3)، وبعد داود، أى فى عهد سليمان كان هيكلاً واحداً مبنياً فى اورشليم ولم يوجد مسكنين، أو خيمتين.
- متى قيل ؟
عندما رأى يوناثان ابن شاول الشر فى قلب أبيه نحو داود، فنبه داود ليهرب؛ حتى لا يصيبه أذى. وقد ذكر هذا الكلام فى عنوان هذا المزمور فى الترجمة السبعينية.
- يعبر هذا المزمور عن الآلام التى يتوقعها داود من شاول، ويطلب معونة الله لتنقذه، وتعيده من الأماكن التى هرب إليها؛ ليتمتع بالعبادة فى هيكل الله.
- يعبر هذا المزمور عن مشاعر كل إنسان تحيط به التهديدات والمشاكل، ولكن رجاءه ثابت فى الله، واشتياقاته مرتبطة بالكنيسة وأسرارها.
- إن هذا المزمور نبوة عن المسبيين فى السبى البابلى، والذين يحيط بهم الوثنيون، ويشتاقون للرجوع لأورشليم؛ ليتمتعوا بعبادة الله فى هيكله.
- هذا المزمور أيضاً نبوة عن المسيح، الذى أحاط به الهيود محاولين قتله، ولكن كان رجاؤه ثابتاً فى أن يتمم فداء البشرية، ويموت عنها، ثم يقوم؛ ليقيمها فيه.
- هذا المزمور موجود فى الأجبية فى صلاة الساعة الثالثة؛ لأنه يتكلم عن الروح القدس الذى ينير حياة أولاد الله، ويهديهم إلى عبادته فى الكنيسة (ع3، 4).
ع1: 1- اقض لي يا الله و خاصم مخاصمتي مع أمة غير راحمة و من انسان غش و ظلم نجني.
- يستغيث داود بالله العادل؛ ليحكم فى الظروف التى يمر بها، وهى هيجان شاول بكل مملكته محاولاً قتل داود، بل يطلب من الله أن يقف خصماً بدلاً منه أمام شاول الذى يخاصمه؛ ليصد عنه كل شر يحاول شاول أن يوجهه. وطلب داود لقاء الله يبين :
أ – ايمان داود بالله المحب والراعى له.
ب – استقامة داود، حتى أنه غير خائف من قضاء الله وعدله، فهو مظلوم، ويستغيث بالله.
ج – لم يذكر اسم عدوه الذى يظلمه، وهذا يبين لطف الله. فهو لا يريد إلا دفاع الله عنه، وحمايته من الشر الآتى عليه، رغم أنه برئ.
- هذه الآية تنطبق على المسيح الذى حاول الكتبة والفريسيون أن يصطادوا عليه خطأ، وحاول الكهنة قتله، وهيجوا أمة اليهود عليه؛ حتى صلبوه فى النهاية، مستعينين بالتلميذ الخائن الغاش يهوذا الإسخريوطى، الذى هو “إنسان غش وظلم”.
- تنطبق هذه الآية أيضاً على الكنيسة التى يقوم عليها العالم ويضطهدها، ويحاول البعض تملقها بالغش؛ ليصلوا إلى أهداف سيئة. فالكنيسة تطلب أن ينقذها الله من الأشرار، والعالم الشرير المحيط بها.
ع2: 2- لأنك أنت إله حصني لماذا رفضتني لماذا اتمشى حزينا من مضايقة العدو.
يؤمن داود أن الله هو حمايته، وحصنه الدائم. فهذا يطمئن قلب داود، ولكنه يتساءل لماذا رفضه الله، إذ بهروبه من شاول ابتعد وحُرم من تقديم العبادة فى هيكل الله، وهذا أدى إلى حزن فى قلبه. لذا يسال الله “هل أنت نسيتنى ؟ أو كيف تتفق حمايتك لى، ومحبتك، مع حرمانك لى من عبادتك فى هيكلك ؟! وهذا الأمر، أى استبعاد الله لداود وإهماله كان يؤلم قلب داود جداً؛ لذا كرره فى مزامير كثيرة مثل (مز3؛ 10؛ 73). ولكن رغم حزن داود لم يفقد رجاءه، فكان يتمشى، أى كان مستمراً فى حياته وجهاده الروحى، إلى أن يرفع عنه الله هذه الأحزان.
ع3: 3- ارسل نورك و حقك هما يهديانني و يأتيان بي إلى جبل قدسك و إلى مساكنك.
- إن نور الله وحقه، أى عدله، هو الروح القدس، الذى ينير حياة داود، ويسنده فى ضيقته، إذ هو مظلوم، ويمهد طريقه للرجوع إلى جبل الله المقدس ومساكنه؛ أى خيمة الاجتماع؛ ليتمتع بعبادة الله. وجبل الله هو جبل صهيون، الذى كانت مدينة أورشليم مبنية فوقه. ويقول الكاتب مساكنه؛ لأن فى ايام داود كان يوجد لله مسكنين؛ المسكن الأول؛ أو الخيمة الأولى فى أورشليم وبها تابوت العهد. والخيمة الثانية فى مدينة جبعون، وفيها باقى محتويات الخيمة (1أى16: 37-39). ويقول داود “يهدياننى ويأتيان بى” لأن داود كان يمشى وهو حزين مواصلاً جهاده، ولكنه غير قادر على الوصول إلى هيكل الله إلا بمعونة الروح القدس.
- إن النور والحق هما المسيح الذى قال أنا هو الطريق والحق والحياة، وقال أنا هو نور العالم. وبفدائه يصعد البشرية المؤمنة به كلها، للتمتع بالعبادة فى كنيسته، ثم بعد هذا يصعدهم إلى أورشليم السماوية إلى ملكوت السموات.
- إن الأنبياء فى العهد القديم ينتظرون المسيا الذى هو النور والحق وليهديهم مع كل البشرية، للتمتع بفدائه، وخلاصه الذى تممه على الصليب.
ع4، 5: 4- فاتي إلى مذبح الله إلى الله بهجة فرحي و احمدك بالعود يا الله إلهي. 5- لماذا أنت منحنية يا نفسي و لماذا تئنين في ترجي الله لأني بعد احمده خلاص وجهي و الهي
- عندما يأتى داود إلى هيكل الله ومذبحه يستطيع أن يتخلص من أحزانه؛ لأنه يتمتع برؤية الله فى عبادته، وهذا ما يفرحه ويبهجه. فليس له فرح بالعالم وكل ما فيه، لكن فرحه فقط بالله، والذى يعزى قلبه عن كل ما أحتمله من آلام. وحينئذ يستطيع أن يغنى لله بالعود؛ لأنه كيف يغنى ويفرح بعيداً عن الله، كما كان يشعر المسبيون فى بابل، فقالوا كيف نسبح الرب فى ارض غريبة (مز137: 4).
- يسأل داود نفسه، بعد هذا الرجاء فى الفرح بين يدى الله فى هيكله؛ ويقول لماذا أنت منحنية يا نفسى وتئنين فىَّ، تمسكى بالله رجائك، الذى سيعوضك عن كل أتعابك (أنظر شرح مز42: 5).
ليتك تنظر إلى المسيح رجائك وفرحك عندما تمر بآية ضيقة، أو أحزان، واعلم انها مؤقتة، وبعدها سيعوضك المسيح بسلام وعزاء يملأ قلبك لا يعبر عنه. تأمل محبته السابقة لك، والتى ستفيض عليك بعد قليل، فتهدأ نفسك وتستريح.