الله الراعى
مزمور لداود
“الرب راعىَّ فلا يعوزنى شئ…” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى.
- متى كتب ؟
عندما كان داود راعياً، فهو من أوائل المزامير التى كتبها داود.
- متى يقال ؟
- فى تتويج الملوك، فكان يقال فى الطريق ما بين الهيكل وينبوع الماء، حتى يتذكر الملك وكل الشعب ما يلى :
أ – إن الملك من نسل داود كاتب هذا المزمور، الذى هو رمز للمسيح.
ب – إن الراعى الحقيقى هو الله، والأداة التى يستخدمها هو الملك.
- كان المعمدون الجدد يرددون هذا المزمور بعد نوالهم سرى المعمودية والميرون، وقبل تناولهم ليلة عيد القيامة.
- هذا المزمور موجود بالأجبية فى صلاة الساعة الثالثة ويشير لعمل الروح القدس فى الإنسان، فهو الذى يكفى احتياجاته، ويقوده، ويصادقه، ويضيفه. لذا يسميه بعض الآباء مزمور البارقليط، لأن مياه الراحة ترمز إلى مياه المعمودية، والمائدة ترمز لسر الأفخارستيا.
- هذا المزمور مرتبط بالمزمور السابق له، الذى يتحدث عن المسيح الفادى على الصليب، فمن يؤمن بالمسيح الفادى ينال بركات الخلاص التى يقدمها الروح القدس فى هذا المزمور.
(1) الله كفايتى (ع1، 2):
ع1: 1- الرب راعي فلا يعوزني شيء.
- يشعر داود أن الله قد رعى حياته منذ وجوده فى العالم ويستمر يرعاه، فهو الراعى الدائم لحياته، وليس فى زمن معين فقط.
- المسيح وصف نفسه بأنه الراعى الصالح، فكلمات المزمور تنطبق على المسيح كراعٍ لنفوسنا، وفى نفس الوقت قد صار المسيح حملاً بتجسده؛ ليكون بكراً بين إخوة كثيرين، فينطق معنا؛ أن الرب راعىَّ، وكل مؤمن يرى أبوة الله فى كونه راعياً لحياته.
- اعتاد الناس فى الشرق أن يلقبوا الملوك الصالحين بالرعاة؛ لأنهم يهتمون بشعوبهم، ويظهرون أبوة لهم.
- إن الراعى يوفر لقطيعه كل الاحتياجات فلا يحتاج إلى شئ، هكذا الله لم يجد داود لقباً يعبر عن اهتمامه وكفايته لاحتياجات أولاده إلا لقب الراعى.
- كلما اتكل الإنسان على الله، وأخلى مشيئته يشعر بكفاية الله له، وحتى فى الضيقات يراها لخيره، ويرى اقتراب الله منه، فلا ينزعج ويطمئن أنه سيدبر له كل احتياجاته.
ع2: 2- في مراع خضر يربضني الى مياه الراحة يوردني.
يربضنى : يجلسنى، فالأغنام تثنى أرجلها وتستقر على الأرض لتستريح.
يوردنى : يأتى بى إلى موارد المياه لأشرب.
- المراعى الخضر يأكل منها القطيع ويستريح فيها مطمئناً لتوفر الغذاء فيها، وهذه المراعى الخضر هى :
أ – الأفخارستيا التى تشبع أولاد الله، وإذ يرتبطون بها دائماً، يظلون فى شبع مستمر.
ب – كلمة الله التى تغذى النفوس.
ج – المسيح الذى تستقر فيه النفس، فتجد شبعها.
د – الكنيسة التى تشبع أولادها بتعاليمها، وطقوسها، وألحانها، وتسابيحها.
- بعدما يأكل القطيع يحتاج للشرب؛ لذا يقوده الراعى إلى مياه الراحة، فالغنم لا تستطيع الذهاب للماء إلا بقيادة الراعى. وكذلك الغنم يسهل عليها أن تشرب من المياه الساكنة أفضل من المياه الجارية، فماء الراحة أفضل للغنم. ومياه الراحة هى:
أ – عمل الروح القدس فى النفس.
ب – سر المعمودية.
ج – عمل النعمة الذى يعطى مجاناً للإنسان لاحتياجه.
د – مياه الراحة هى مياه الروح القدس التى من يشرب منها لا يعطش أبداً، كما قال المسيح للسامرية (يو4: 13، 14) لأن كل من يشرب من مياه العالم يعطش أيضاً.
- المياه تغسل الأوساخ، وكذلك مياه الروح القدس تطهر الإنسان من كل خطية.
- المياه تطفئ النار وتبرد الحرارة، هكذا أيضاً مياه الروح القدس تطفئ نار الشهوات.
- المياه تروى الأرض فتعطى ثماراً، كذلك مياه الروح القدس تعطى ثمار الفضائل.
أنظر إلى الله راعيك القادر أن يكفى كل احتياجاتك؛ حتى لا تنزعج من أية ضيقة، حتى لو انزعج كل الناس حولك.
(2) الله قائدى (ع3، 4):
ع3: 3- يرد نفسي يهديني الى سبل البر من اجل اسمه.
- أنا معرض للإنشغال عن راعىَّ والضلال فى طرق بعيدة عنه. ولكن محبته لا تتركنى، فيردنى من ضلالى وأسير مع باقى القطيع، أى أرجع إلى كنيسته وعبادته والتمتع بعشرته، فهو لا يغضب علىَّ ويتركنى نتيجة شرورى ولكن محبته تسامحنى، وتعيدنى إلى الحياة معه.
- إن كنت متمتعاً بالمراعى الخضر التى أربض فيها، ولكن بجهلى أسير فى طريق الشهوات، أى البرية القاحلة المملوءة بالأشواك، فأنجرح بأشواك الخطية، ولكن إلهى يهدينى إلى سبل البر، وهى القداسة والصلاح والفضائل وعمل الخير.
- المسيح هو الطريق والحق والحياة، فسبل البر هى المسيح، أى أنه يهدينى إليه؛ لأن كل ضلالى هو اختيار لشهوات العالم بدلاً من المسيح، والهداية هى الرجوع لشخصه الحبيب.
- المسيح الذى يهدينى إليه يفعل هذا ليس من أجل استحقاقى، بل بمحبته تمجيداً لإسمه القدوس.
ع4: 4- أيضا إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا لأنك أنت معي عصاك و عكازك هما يعزيانني.
- وادى ظل الموت هو التجارب والضيقات، فهو ليس وادى الموت ولكن ظله، أى يشعر الإنسان أنه يكاد يموت، أى أن الضيقة شديدة جداً، ولكن الإحساس بوجود الله معى يطمئن قلبى، فلا أخاف من أى متاعب.
- إن ظل الموت يرمز إلى الموت الجسدى، أما الموت الحقيقى فالمقصود به الموت الروحى، أى الهلاك الأبدى. ولذا فالمقصود بالآية إنه أثناء حياتنا فى العالم حتى نهايتها بالموت لا نخاف شراً، لأن الله معنا، بل إن الموت الجسدى يؤدى إلى انطلاق للحياة الأبدية.
- الإحساس بأن الله معى ليس فقط يطمئن قلبى، بل يعزيه، ويصبره على الآلام، وأكثر من هذا، إذ أشعر بمحبة الله أفرح وأتذوق الملكوت وأنا على الأرض.
- إن معية الله تجعلنى أخافه، وحينئذ أبتعد عن كل خطية ولا أخاف منها، ولا من الناس، أو المشاكل وتقلبات الحياة.
- العصا والعكاز يرمزان للصليب، إذ الكل مصنوع من الخشب، وبيد الراعى يستخدمها، لرعاية قطيعه والعناية به.
- العصا تحمى القطيع بأن تجمع الضال وتضرب الذئاب وكل أعداء القطيع، فهى حماية من الشيطان وكل حيله وعنفه.
- العكاز يستند عليه الراعى وهو يرمز للمساندة الإلهية فى الحياة الروحية، حتى وإن كان الإنسان ضعيفاً، فبإستناده على العكاز يواصل طريقه نحو الملكوت، ويقتنى الفضائل.
- العصا والعكاز يستخدمها الراعى لقيادة قطيعه، أى بالنظر إلى الصليب نرفض كل شر، ونقدم حياتنا فى حب مبذول ونجد خلاصنا. والخلاصة نجد فى الصليب كل ما نشتهيه، فيعطينا فى النهاية العزاء والفرح.
- إن عصا التأديب تختلف غلاظتها بحسب احتمال الخروف، فتكون رقيقة لتناسب الخروف الضعيف، وغليظة للمعاند والمكابر. بالإضافة إلى أن العصا يمكن أن تتحول إلى عكاز والعكاز إلى عصا بحسب الاحتياج. فالضعيف يحتاج إلى مساندة، أما المستهتر والمعاند، فيحتاج إلى التأديب حتى يتوب.
- إن العكاز يفيد فى حالة الشيخوخة، هكذا أيضاً فى حالة الشيخوخة الروحية والفتور يساند الله بنعمته.
- إن العكاز يفيد إن سار الإنسان فى الظلام فهو يهديه إلى الطريق، ويحميه من المخاطر. هكذا أيضاً عندما تختفى التعزيات، ويحتجب الله ولو قليلاً، نستند على أسرار الكنيسة ووسائط النعمة، فتهدينا إلى طريق الملكوت.
- إن العصا للتأديب والعكاز للمساندة والمعاونة ولكن كليهما بيد الله الآب الحنون راعى نفوسنا، الذى يستخدمهما لخلاصنا، فهما يعزياننا، أى يعطيان سلام داخلى، ثم ملكوت السموات.
إن الله يحبك ومستعد أن يقود حياتك، فسلم نفسك له؛ لأن مشيئته هى خلاصك، سواء سمح لك بضيقة، أو أعطاك مساندة ولكن فى النهاية أنت فى يد أمينة توصلك إلى الملكوت.
(3) الله مضيفى (ع5، 6) :
ع5: 5- ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي مسحت بالدهن رأسي كأسي ريا.
ريا : مروية، أو ملآنة.
- إن المائدة هى مذبح العهد الجديد، حيث يقدم جسد الرب ودمه، وهى تشبع نفوس المؤمنين. والله يقدمها لأولاده، ويعرضها أمامهم كل يوم؛ ليشبعوا بحبه.
- المائدة أيضاً هى احتياجاتى الجسدية التى يرتبها لى الله ما دمت أنا منشغلاً بطلب الملكوت، فلا اضطرب من أجل أى احتياج؛ لأن الله يرعانى، ويشبعنى مادياً وروحياً.
- ترتيب الله لاحتياجاتى الروحية والمادية يكون أمام مضايقىَّ، أى أعدائى الشياطين، فلا أخاف منهم؛ لأن الله معى، ويعلن مساندته لى فى مائدة لا سلطان للشيطان عليها. ولا يقدر أن ينزع سلامى وكفايتى؛ لأنها من الله.
- إن المائدة واحدة وهى مذبح العهد الجديد، والتى كان يرمز إليها هيكل سليمان وخيمة الاجتماع. ويقدم جسد الرب ودمه على هذه المائدة فى كل مكان لكل من يؤمن به.
- إن مسح الرأس بالدهن هو إشارة واضحة لسر الميرون وحلول الروح القدس، الذى يبدأ بدهن الرأس، وهو هام جداً لأنه يحوى العقل، ثم يمتد ليمسح باقى الأعضاء.
- كان الكهنة والأنبياء والملوك يمسحون بالدهن بأن يُصب على رؤوسهم، وهو إشارة لسر الكهنوت فى العهد الجديد، حيث يمسحهم الروح القدس، ليقودوا الكنيسة، ويتمموا الأسرار المقدسة.
- كانت العادة قديماً وضع الدهن والطيب على المائدة، ليتم مسح الضيف بها. ومسح الرأس يرمز للفرح، فالصائم كما أوصى المسيح يدهن رأسه، حتى يخفى نسكه، ويعبر عن فرحه الروحى. وكان المضيف يصب دهناً على رؤوس الضيوف، كما ذكر المسيح ذلك فى بيت سمعان الفريسى عندما التقى بالمرأة الخاطئة. فمسح الرأس بالزيت يمثل الإكرام، وتقديم المحبة للآخرين حتى تبتهج نفوسهم.
- إن المسح بالدهن أو الزيت كان يستخدم قديماً فى علاج وتطييب الجروح، فالله يريد أن يعالج أوجاعنا، ويزيل عنا خطايانا، فهو يشفى أمراض نفوسنا وأجسادنا بروحه القدوس، كما يحدث فى سر مسحة المرضى.
- إن الكأس هى كأس دم المسيح على مائدة العهد الجديد التى تروى نفوس المؤمنين رياً كاملاً، فلا يحتاجون إلى مياه العالم، أى يرتفعون عن الأرضيات، ولا ينزعجون من أجل تقلباتها.
- كان الرعاة قديماً يملأون كئوساً كبيرة الحجم، مصنوعة من الحجر، يضعون فيها الماء من العيون؛ لتشرب الأغنام من الكؤوس، ويستمر صبهم للماء فى الكؤوس حتى تكون باردة، وهذا يرمز لتجديد عمل الروح القدس فى النفوس؛ فيعطيها برودة، وسلاماً، وعطايا متجددة كل يوم.
- إن الكأس ترمز لكأس الخمر التى تفرح من يشربها، وهذا يرمز إلى عمل الروح القدس الذى يسكر النفس بحب الله، فتفرح وتنسى ما حولها من ماديات، أى ترتفع عن الماديات، وتنشغل بالحب الإلهى.
ع6: 6- إنما خير و رحمة يتبعانني كل أيام حياتي و أسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام
- إن سار الإنسان فى طريق الله، كما ذكرت آيات هذا المزمور، فإن الله يمنحه فى النهاية خيراً ورحمة كل أيام حياته، أى يسامحه عن خطاياه، ويلتمس له الأعذار، ويباركه بخيرات كثيرة.
- إن الخير والرحمة يكملان فى شخص المسيح، أى أن من يحيا مع المسيح يفرح به المسيح ويسعى إليه ويملأ قلبه. فالمسيح يتبعه، ويدركه، ويسكن فيه طوال حياته؛ لأن هذا الإنسان أعلن محبته وخضوعه لله.
- يهب المسيح من يحبه ويتجاوب معه أن يسكن ويستقر فى بيته طوال أيام حياته، فرغم أن هذا الإنسان له سكن خاص وعمل، ولكن الوقت الذى يقضيه فى بيت الرب هو لذة حياته، وقلبه يتعلق بالكنيسة وتعاليمها، ويستقر فيها؛ حتى أنه يشبع ويستنير، فيكون نوراً للعالم فى كل مكان يذهب إليه. وكانوا قديماً يصلون صلاة باكر فى الكنيسة، ثم يذهبون إلى أعمالهم، وعند رجوعهم من أعمالهم يصلون صلاة الغروب فى الكنيسة، أى يبدأون اليوم ببركة الكنيسة، ويختمونه بالوقوف أمام الله والشبع من محبته، ليعودوا فرحين إلى بيوتهم.
إن الكنيسة هى بيت الله أبوك السماوى، الذى يفرح برؤيتك فى بيته ويباركك. فالتصق بالكنيسة وكل ما فيها قدر ما تستطيع، فتنال نعمة وبركة لا يعبر عنها.