الله القاضى العادل
لإمام المغنين. على لا تُهلك لداود. مذهبة
“أحقاً بالحق الأخرس تتكلمون…” ع1
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى كما هو مذكور فى العنوان.
- متى كتب ؟
عندما تعرض داود للهرب من وجه أبشالوم ورأى الشر مقبلاً عليه، فيطلب من الله القاضى العادل أن ينقذه، ويخلصه.
- هذا المزمور يرنم على لحن لا تهلك، وقد تكون لا تهلك آلة موسيقية تصاحب المزمور، كما ذكرنا فى المزمور السابق.
- موضوع هذا المزمور هو مهاجمة القضاة والرؤساء غير العادلين؛ لعلهم يتوبون، وتذكيرهم بالهلاك الذى ينتظرهم، وعلى العكس ينتظر الأبرار البركة والفرح.
- هذا المزمور من المزامير المتميزة لذا سمى “مذهبة”، وقد يكون كتب بماء الذهب.
- يرنم هذا المزمور بواسطة جماعة من المغنين لهم إمام، أو قائد؛ لذا كتب فى العنوان لإمام المغنين.
- يعتبر هذا المزمور من المزامير المسيانية؛ لأنه يتكلم عن قيام اليهود الأشرار على المسيح وصلبه، ولكنه فرح بأنه تمم خلاص البشرية.
- لا يوجد هذا المزمور فى صلوات الأجبية.
(1) توبيخ الأشرار (ع1-5) :
ع1: 1- أحقا بالحق الاخرس تتكلمون بالمستقيمات تقضون يا بني آدم.
الحق الأخرس : الحق المكتوم الذى لا يعلن، ولا ينفذ.
- يسأل داود النبى الرؤساء، والمسئولين الأشرار؛ هل فى أحكامهم ينطقون بالحق ؟ أم يكتمون الحق ولا ينفذونه، أو يقولون كلاماً مخادعاً يبدو حقاً، وهو باطل، مثلما كان يتعاطف أبشالوم مع الشعب، وقضاياه، متمنياً أن ينصفه لو تملَّك على الشعب، فهو كان يتملق شعبه ليحبه، ثم يقوم بثورة ضد أبيه. واستمر سنتين حتى استمال الكثيرين إليه، وقام بثورته، وطرد أبيه داود (2صم15: 2-6).
- يؤكد سؤاله الاستنكارى الأول بسؤال آخر مثله، فيسأل المسئولين هل تقضون بالمستقيمات ؟ لأنهم فى قضائهم كانوا يحكمون أحكاماً ظالمة، كما فعل اليهود مع المسيح، واستصدروا أمراً من بيلاطس لصلبه، معتمدين على اتهامات زور.
- يتعجب داود أن هؤلاء الرؤساء الظالمين يدعون أنهم يقضون بالحق والاستقامة، مع أنهم يريدون قتله وهو برئ، فهذا الظلم الذى وقع على داود يكشف شرهم، ودهاءهم. وذكرهم بضعفهم؛ إذ قال لهم يا بنى آدم، أى أن الله القاضى العادل بيده كل السلطان؛ حتى يمنع ظلمهم وشرهم الموجه نحوه.
ع2: 2- بل بالقلب تعملون شرورا في الأرض ظلم أيديكم تزنون.
يوضح داود للرؤساء الظالمين أن رغبتهم ونية قلوبهم هى الشر، ثم يحولون رغبتهم إلى فعل يفعلونه بأيديهم. فيقومون بوزن الظلم، ويقصد أنهم يعدون له، ويعلمون مقداره، وثقله، وهم فى وعى بما يعملون من شر. وهذا يبين إصرارهم على الشر، وتماديهم فيه.
ع3: 3- زاغ الأشرار من الرحم ضلوا من البطن متكلمين كذبا.
يصف داود هؤلاء القضاة الأشرار بأنهم زاغوا من الرحم، وضلوا من البطن. والمقصود ليس ضلالهم وهم أجنة؛ لأن الجنين لا يضل، ولكن يقصد أنهم منذ بداية حياتهم تعلموا الشر من آبائهم، فلما كبروا عاشوا فيه، وتكلموا بالكذب. فهذا يبين أهمية التربية الروحية السليمة.
ع4، 5: 4- لهم حمة مثل حمة الحية مثل الصل الأصم يسد أذنه. 5- الذي لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رقى حكيم.
حمة : مصدر السم فى جسم الحية.
الصل : الثعبان.
الحواة : جمع حاوى وهو من يقوم بجمع الثعابين حتى لا تلدغ البشر.
الراقين : يتلو الحواة بتعاويذ وينادون على الثعابين؛ ليجمعونها ويبطلوا أذيتها للبشر.
- يصف داود تأثير هؤلاء الأشرار كالسم الذى لا شفاء منه، ويصفهم أيضاً بأنهم كالثعبان الذى لا يسمع؛ لأنهم لا يسمعون صوت الله، ويسدون آذانهم عنه. ومن ناحية أخرى لا يسمعون لصرخات المظلومين، أى أنهم قساة القلوب، بلا رحمة على أحد، فهم بذلك أولاد الشيطان المعروف فى الكتاب المقدس بالحية، التى أسقطت الجنس البشرى بلا رحمة. فشاول مثلاً كان لا يطارد داود فقط، بل يحاول قتله، مثل الثعبان السام الذى يقتل ضحيته، ولا شفاء من سمه. وفى نفس الوقت كان شاول مخادعاً مثل الثعبان، فقد أظهر محبته لداود أولاً، وأنه يريد أن يهبه نعمة الزواج من ابنته، ثم طلب منه مهراً هو قتل مئة فلسطينى؛ ليتخلص منه.
- يشبه الأشرار ليس فقط بأنهم كالثعابين السامة، بل أنهم يرفضون الاستجابة للحواة، الراقين، الذين يحاولون إبطال سمومهم، أى أن هؤلاء الأشرار يرفضون الاستجابة لأية نصيحة ليتوقفوا عن شرهم.
ليتك تستجيب لصوت الله على لسان معلمى الكنيسة، وكل من ينصحك حتى لا تسقط فى الشر، وإن سقطت فيه لا تتمادى، فيتقسى قلبك.
(2) عقاب الأشرار (ع6-9) :
ع6: 6- اللهم كسر أسنانهم في أفواههم أهشم اضراس الأشبال يا رب.
أهشم : حطم.
- شبه داود أعداءه بوحوش لها أسنان حادة تريد أن تفترسه، وتقطعه، وبأشبال ذات أضراس لها القدرة على طحن عظامه، ولعله تذكر الأسد والدب اللذين نصره الله عليهما عندما كان راعياً للغنم (1صم17: 36). فهو إن كان قد شبه أعداءه فى
(ع4) بالحيات، أى الأعداء الذين يحاربونه بخبث ودهاء، يشبههم هنا بالأشبال الشرسة التى تهاجمه علانية، فداود يحَارب بكل الطرق فى السر، وفى العلانية، وهذا يبين صعوبة الحرب، ومدى معاناته. - يطلب من الله أن يكسر الأسنان الحادة التى ترمز لكلمات الأعداء الحادة الجارحة، ويهشم الأضراس التى ترمز لقوة الأعداء الطاحنة. ولكن فوق هؤلاء الأعداء يوجد الله الذى يحميه، وقادر أن يكسر، ويزيل كل قوة للعدو، لذا فداود مطمئن ما دام يصلى.
- هذا المزمور نبوة عن المسيح، الذى كان يحاربه أعداؤه بدهاء الحيات، فى محاولات اصطياد كلمة عليه، أو مهاجمته بعنف وطلب إهلاكه، كما نادوا أصلبه أصلبه (لو23: 21).
ع7: 7- ليذوبوا كالماء ليذهبوا إذا فوق سهامه فلتنب.
فوَّق : أعد السهم لإطلاقه.
فلتنب : فلتنحرف عن هدفها.
- يطلب داود من الله أيضاً أن يمحو قوة أعدائه، فيشبههم بالماء الذى يسقط على الأرض فى الصحراء، فيبتلع ويزول، ولا يبقى له أثر، أى تبطل قوة الأعداء ولا تؤثر فيه.
- يشبه أيضاً داود أعداءه بالسهام التى تعد لإطلاقها على الهدف، فتنحرف عنه، أى لا تصيب داود.وبهذا يحمى الله داود مهما كانت قوة أعدائه، وتهديداتهم له.
ع8: 8- كما يذوب الحلزون ماشيا مثل سقط المرأة لا يعاينوا الشمس.
الحلزون : هو حيوان رخو يعيش فى صدفة البحر.
- كذلك يشبه داود الأعداء بحيوان بحرى صغير يسمى الحلزون، يعيش داخل صدفة، وإذ خرج منها ووجد أحد الأعداء يغير لونه من اللون الأحمر إلى الأبيض الباهت، ثم يفرز مادة لزجة ليتزحلق عليها، فيصل إلى مخبأه داخل الصدفة ويبدو كأنه قد ذاب. هكذا يجعل الله أعداء داود ضعفاء يخافون، ويختفون من أمام وجه داود؛ لأن قوة الله معه.
- يشبه داود الأعداء بتشبيه جديد، وهو سقط المرأة، أى الجنين الذى لم يكتمل نموه؛ ليصير طفلاً، فيسقط من الرحم ويموت، أى لا يصير وليداً يتمتع بالشمس والهواء.
ع9: 9- قبل أن تشعر قدوركم بالشوك نيئا أو محروقا يجرفهم.
يجرفهم : يدفعهم أمامه بقوة.
- يعطى داود أيضاً تشبيهاً جديداً فى سرعة زوال الأعداء، فيتخيل قدوراً موضوعة على شوك أُشعلت فيها ناراً، فقبل أن تشعر القدور بالسخونة المنبعثة من الشوك – سواء كان هذا الشوك نيئاً لم يحترق، أو قد احترق جزء منه – أى قبل أن تتأثر المواد الموجودة داخل القدور من الحرارة المنبعثة من الشوك يزول الأعداء، وتجرفهم الرياح العاصفة، فلا يوجدون. كل هذا يبين قوة الله التى تبعد الأعداء سريعاً عن داود.
- إن القدور لا تشعر بالشوك، سواء نيئاً أو محروقاً (أخضراً أو يابساً)، أى أن داود لا يشعر بمضايقة أعدائه؛ لأن الله يبعدهم عنه سريعاً.
- الريح العاصفة ترمز لغضب الله، الذى يبعد الأعداء عن داود، سواء كانوا شوكاً نيئاً أخضراً، أى لهم حيوية، أو محترقاً، أى فى ضعف، ففى كلتا الحالتين لا يقفون أمام غضب الله.
إن كان إلهك كاملاً فى قدرته، فلا تنزعج من قوة الشياطين التى تحاربك، فهم لا شئ أمام قوته، حتى لو كانوا قد أسقطوك فى الخطية مرات كثيرة، قم مستنداً على الله فى صلوات، وجهاد، واثقاً من نصرتك.
(3) فرح الصديقين (ع10، 11) :
ع10: 10- يفرح الصديق إذا رأى النقمة يغسل خطواته بدم الشرير.
النقمة : أى الانتقام، ويقصد به غضب الله، وعقاب الأشرار.
- إن الله ينتقم من أعداء داود؛ لذا يفرح داود، أى الصديق بانتقام الله، ليس كراهية للأعداء، أو شماتة فيهم، بل لانتصار الحق، وظهور بطلان الشر، وبهذا يثبت فى البر والحياة مع الله.
- كانت هناك عادة قديمة فى الحروب أنه بعد الانتصار على الأعداء يغسلون أرجلهم بدماء الأعداء. فيستخدم داود هذا التشبيه؛ ليبين تمام نصرة البر، وفرح الصديق. وهذا يجعل داود يتعظ من هلاك الشرير، ويتباعد عن الشر، ويدوس كل فساد العالم.
ع11: 11- و يقول الإنسان إن للصديق ثمرا أنه يوجد إله قاض في الارض
- يلخص داود المزمور كله فى هذه الآية، إذ يرى البار عقاب الأشرار المذكور فى (ع6-9) يثق فى عدل الله القاضى الذى يحكم العالم، فلا ينزعج من قوة الأعداء مهما تكبروا.
- إيمان داود وكل الأبرار بقضاء الله العادل يدفعهم للثبات فى البر، والتحلى بثماره التى هى الفضائل، إذ يحيون مطمئنين، فيتقدمون فى حياة البر.
ليتك تنظر إلى المسيح القدوس البار فى كل يوم؛ لتثبت فى حياة البر، بل وتنمو فيه، وتتعلم من القديسين، فتجتاز وسط العالم وشروره بسلام، بل وبفرح.