التوبة وطلب الخلاص
مزمور لداود للتذكير
“يا رب لا توبخنى بسخطك …” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : هو داود النبى كما يذكر عنوان المزمور.
- متى كتب ؟
بعد سقوط داود فى خطية الزنا مع بثشبع إمرأة أوريا الحثى، وبعد قتل ابنه أمنون لزناه مع أخته ثامار، وبعد أن ثار عليه ابنه أبشالوم، وطرده من المملكة. ويرى البعض أنه أصيب بمرض جسدى أيضاً، كل هذا ذكَّره بخطيته، فكتب هذا المزمور المملوء بمشاعر التوبة.
- هذا المزمور يظهر لنا شناعة الخطية وآثارها حتى نكرهها ولا يصطادنا الشيطان بلذتها المؤقتة.
- هذا المزمور رغم أنه يحمل آلاماً كثيرة، فيعده الآباء مرثاة لداود، ولكنه ينتهى بالرجاء.
- هذا المزمور ليتورجى كان يردد مع تقدمة القربان، والتى يوضع معها أيضاً بخور ويحرق على المذبح (لا2: 2) فهو تذكير مقدم التقدمة بخطاياه وآثارها ليتوب عنها.
وكان اليهود الأشكيناز (الذين من أوروبا الشرقية) يصلونه فى مساء اليوم الثالث من كل أسبوع.
وكان يصلى أيضاً فى القرن الثانى قبل الميلاد أيام أنطيوخس الملك من أجل أمة اليهود كلها فى يوم السبت، ولذا نجد فى عنوان هذا المزمور فى الترجمة السبعينية “للتذكار من أجل السبت”.
والسبت هو يوم الراحة الذى يرمز للأبدية، وهذا المزمور تذكير بالخطية كاستعداد للأبدية، فلا يمكن الوصول للأبدية بدون التوبة.
وعندما نصلى بهذا المزمور ونسبح الله نصير نحن ذبيحة حب أمام الله، أى نصير نحن تذكار أمام الله يفرح قلبه.
- هذا هو المزمور الثالث من مزامير التوبة السبعة وهى كما ذكرنا (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143).
- هذا المزمور يعد من المزامير المسيانية لأنه يحوى آيات كثيرة ترمز للمسيح (ع6، ع11-14).
- هذا المزمور غير موجود بصلاة الأجبية.
(1) أوجاع الخطية (ع1-12):
ع1، 2: 1- يا رب لا توبخني بسخطك و لا تؤدبني بغيظك. 2- لأن سهامك قد انتشبت في ونزلت علي يدك.
سخطك : غضبك الشديد.
انتشبت : انغرست.
- إن داود لا يرفض توبيخ الله، أو تأديبه، ولكن يترجى حنان الله ومحبته، فلا يكون التأديب والتوبيخ بغضب؛ لأن غضب الله من يحتمله.
- إن كنت استحق العقاب لأجل خطاياى، ولكن وبخنى أولاً، واعطنى فرصة للتوبة قبل أن تغضب علىَّ يا رب وتعاقبنى؛ لأن عقاب الخطية هو الهلاك. أما التوبيخ والتأديب فيقودان للتوبة والرجوع إليك والحياة معك.
- هذه هى بداية المزمور السادس وهو مزمور للتوبة، فهناك تشابه بين المزمورين فى المعنى.
- شعر داود أن كلمات ناثان النبى التى أرسلها الله إليه ليوبخه على خطيته مع امرأة أوريا الحثى قوية فى آثارها عليه؛ حتى أنه شبهها بالسهام التى انغرست فيه، وبيد الله القوية التى نزلت وضغطت عليه. وهذا يبين أن داود رغم سقوطه فى الخطية، لكن يحب الله، ويتأثر جداً بكلامه.
- سهام الله التى انتشبت فى داود يمكن أن تكون الأوجاع الجسدية والنفسية التى أصابته عندما وبخه ناثان، وهى تشبه الأوجاع الجسدية التى أصابت أيوب لتدعوه إلى التوبة، ودعاها أيوب بسهام الرب (أى6: 4).
- إن نزول يد الله على داود هى ضغوط إلهية لتقوده إلى التوبة، وفى نفس الوقت هى معونة لمساعدته على التوبة، ولتحميه من اليأس، وكذلك من التهاون، فهى يد الله الآب الحنون الذى يريد خلاصه.
- سهام الله تشير إلى وعود الله، فقد قال ناثان لداود عندما اعترف بخطيته أن الرب نقلها عنه (2صم12: 13). فسهام الله هى وعود قوية انغرست فى قلب داود، فأعطته رجاءً امتزج بدموع التوبة.
- هذه السهام ترمز لمحبة المسيح التى قدمت على الصليب، فهى تنغرس فى قلب كل خاطئ لتجرحه، فيتأثر ويرجع بالتوبة إلى الله. فينال غفران خطاياه. فالمسيح هو سهم الآب الذى اصطادنا نحن الخطاة، وأعادنا للحياة فيه.
ع3: 3- ليست في جسدي صحة من جهة غضبك ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي.
- عندما شعر داود بغضب الله عليه بسبب خطيته تأثر جداً روحياً ونفسياً وأيضاً جسدياً؛ لأنه يخاف الله ويحبه، فشعر بجرم خطيته، وتأثرت صحته، فصار فى ضعف جسدى. إنه يعلن تذللـه أمام الله، واتضاعه، وتوبته عن خطيته.
- إن عظام داود يقصد بها داخله، فالعظام هى أعمق ما فى جسد الإنسان، وهى التى تسند الجسد وتعطيه قواماً، أى أن كيان داود الداخلى؛ عقله ومشاعره وكل ما فيه قد تأثر جداً، بل فقد سلامه الداخلى بسبب خطيته، فهو يعلن احتياجه لله؛ حتى يغفر له، ويعيد إليه سلامه.
- إن هذه الآية نبوة عن المسيح وفيها يتحدث عن آلامه التى احتملها بسبب خطايانا، فاحتمل فى جسده على الصليب نتائج العالم كله، وتألم ومات ليفدينا.
- هذه الآية تبين فظاعة الخطية التى تهز كيان الإنسان، فداود الذى لم يرتعب من الأسد والدب اللذين قتلهما، ولا من جليات الذى قطع رأسه، اضطرب جداً نتيجة سقوطه فى الخطية.
ع4: 4- لأن آثامي قد طمت فوق رأسي كحمل ثقيل اثقل مما احتمل.
طمت : غطت وارتفعت.
- تأمل داود فى خطاياه فوجد أنها كثيرة، فهو إن كان قد سقط فى الزنا والقتل ولكنه فكر أن خطاياه متعددة الآثار. فقد أعثر وأسقط إمرأة أوريا، وكذلك كانت خطيته خيانة لزوجاته، بالإضافة إلى أنه أخطأ نحو الله ونحو جسده، وكذلك صار قدوة سيئة ليوآب رئيس جيشه، وكثيرين حوله ممن علموا بالأمر، وأساء نحو أحد قادة جيشه وهو أوريا، كما أنه أعثر يوآب وجعله يشترك معه فى قتل أوريا، وخان جيشه المحارب عنه … فشعر أنه لم يخطئ خطيتين فقط، بل خطايا كثيرة قد ارتفعت فوق رأسه وغطت كل كيانه. إنه بالحقيقة إنسان تائب من كل قلبه، يعرف كيف يحاسب نفسه.
- إن الخطية التى تبدو لذيذة فى لحظتها تضغط على الإنسان، وتنخس ضميره، وتؤثر على كل كيانه. فالحكيم يحترس من أية خطية مهما كانت جاذبيتها.
- الإنسان المتضع يخفض رأسه، فلا يتعب من ثقل الخطايا، بل يرحمه الله ويرفعها عنه. أما المتكبر فيشعر بثقلها عليه، ولا يستطيع حملها.
- الآثام عندما غطت رأس داود، أى أفكار الخطية، أفقدته تمييزه وفهمه، فانساق بلا فهم وسقط فى الخطية؛ لذا فحذارى من التسرع فى أى تصرف حتى لا تدفعنا الشهوة إلى خطايا كثيرة.
ع5: 5- قد انتنت قاحت حبر ضربي من جهة حماقتي.
قاحت : سال منها الصديد.
حبر : جرح لم يلتئم.
- يشعر داود أن خطيته أثرت فيه، مثل مرض أنتج جروحاً وصديداً، ويظن البعض أنه قد أصابه مرض جسدى فعلاً بعد خطيته، ولكنه هنا يتكلم بالأكثر على آثار خطيته؛ أنها مثل جروح وصديد أتعب جسده فتألم جسدياً، بالإضافة للآلام النفسية والروحية.
- إن الخطية نتيجة الحماقة والغباء، تبدو فى نظر الخاطئ لذة، واقتناء، ولكن حقيقتها هى هدم وتدمير للإنسان، ولكن متى تاب يفهم كل هذا، فداود فى ساعة خطيته رأى أن خطيته هى الصواب، ولكن عندما تاب شعر بشناعتها وأنها نتانة وحبر وحماقة.
- إن كانت الخطية تسبب النتانة والجروح والآلام، فإن الأعمال الصالحة ينتج عنها الرائحة الذكية أمام الله، وبنيان النفس، والنمو الروحى، وراحة الجسد.
ع6: 6- لويت انحنيت إلى الغاية اليوم كله ذهبت حزينا.
- من آثار الخطية على داود أنها جعلته يلتوى، فلم يعد منتصباً باستقامة ومجد وعظمة، بل صار معوجاً، وجعلته أيضاً يتلوى من آلامها التى تعتصر جسده ونفسه، وهكذا شعر بجرم الخطية.
- إن التواء داود هو نتيجة خوفه ورعبه اللذين سببتهما له الخطية، أما نقاوة القلب فتعطى قوة وسلاماً واستقامة.
- الخطية أيضاً جعلت داود ينحنى نحو الأرض خجلاً من الله، فلا يستطيع أن يرفع رأسه أمامه، بل هو فى خزى وعار مثل العشار الذى لم يستطع أن يرفع عينيه نحو الله، وطأطأ رأسه من أجل خزى خطيته (لو18: 13).
- إن كانت خطية الزنا والقتل تحمل وراءها خطية كبرياء، فبعد ارتكابهما شعر داود بشره، فانحنى نحو الأرض فى توبة وطلب الغفران، فالكبرياء ارتفاع، والتوبة عنها تحتاج إلى اتضاع ونظر إلى الأرض. لأن المتضع يحميه الله من السقوط فى الخطية.
- إن خطايا داود هى شهوات تممها، فهو تصرف جسدانياً ناظراً إلى الأرض وشهواتها؛ لذلك كانت النتيجة أنه انحنى نحو تراب الأرض؛ ليعرف نتيجة خطيته.
- الخطية سببت لداود الحزن الشديد جداً حتى المنتهى، أما الفضيلة فتعطى فرحاً وسلاماً.
- التواء الإنسان وانحنائه نحو الأرض، أى ذله وخزيه، يستمران طوال اليوم، أى طوال العمر، إلا لو تاب، فإن الله يغفر له، ويرفعه، ويمجده.
- هذه الآية أيضاً نبوة عن المسيح الذى قال إن نفسه حزينة حتى الموت، وقد سقط “انحنى” على الأرض من ثقل الصليب؛ كل هذا احتمله المسيح من أجل خطايانا.
ع7: 7- لأن خاصرتي قد امتلاتا احتراقا و ليست في جسدي صحة.
خاصرتى : جنبى.
- من آثار الخطية أن داود تألم آلاماً صعبة فى خاصرتيه كمن يعانى من مغص كلوى شديد، ويقصد باحتراقاً أنها آلام تفوق الاحتمال. هذا يبين :
أ – شناعة الخطية.
ب – مدى ندم داود
- داود يعلن أن آلامه صعبة، وليس لها شفاء “ليس فى جسدى صحة”، والحل الوحيد هو الرجوع إلى الله بالتوبة ليرفع عنه خطيته.
ع8: 8- خدرت و انسحقت إلى الغاية كنت ائن من زفير قلبي.
خدرت : فقدت إحساسى وضعفت.
- تأثر داود جداً عندما سقط فى الخطية، ففقد إحساسه نحو الله وانحلت إرادته، فصار كإنسان قاموا بتخديره، وأصبح فاقد وعيه، فاندفع نحو الخطية.
- إن الخطية حطمت داود وسحقته، ففقد كيانه الروحى، وتمتعه بحضرة الله، وانسحاقه إلى الغاية معناه أنه صار مثل تراب الأرض، أو رمل البحار، أو فى غاية الضعف، وفاقد قدرته على السير فى طريق الله، فهنا سيطرت عليه الخطية فسقط فيها.
- شعر داود بالندم بعد سقوطه، فقدم توبة ليس فقط بشفتيه، بل من كل قلبه وتنهد بأنين عميق، يعبر عنه هنا بزفير القلب، أى أنين مستمر مع كل نفس يخرجه. هذا جعل الله يهبه الغفران.
ع9: 9- يا رب أمامك كل تأوهي و تنهدي ليس بمستور عنك.
- يؤكد هنا داود ندمه الشديد بأمرين هما :
أ – التأوه وهى أصوات خارجة من فمه.
ب – التنهد وهو أنين يخرج من أعماقه.
- إن تأوه وتنهد داود هو أمام الله طالباً غفرانه، وليس تأوهاً، وتنهداً بينه وبين نفسه؛ لأن هذا الأخير يولد اليأس، أما الأول فهو أمام الله، فيثبت رجاءه فى مراحم الله وغفرانه.
- إن التأوه والتنهد أمام الله هو الصلاة، وهى صلاة تتصف بما يلى :
أ – صلاة عميقة بالقلب واللسان.
ب – صلاة مستمرة لأن التنهد مستمر.
وبهذا يقدم داود صلاة دائمة مملوءة رجاء؛ لأنها مقدمة لله العالم بخفايا القلوب، ولا يستتر عليه شئ. وبهذه الصلوات ينال داود ليس فقط غفراناً، بل سلاماً، ويتعلق قلبه بالله، وبالتالى يبتعد عن الخطية.
ع10: 10- قلبي خافق قوتي فارقتني و نور عيني ايضا ليس معي.
خافق : مهتز ومضطرب.
- عندما سقط داود فى الخطية تأثر قلبه واهتز كثيراً، وصارت نبضاته سريعة؛ لأنه فعل أمراً غريباً عن طبيعته، وهو الخطية، وكذلك سقط فى عصيان الله، وتحولت لذة الشهوة إلى مرارة وألم واضطراب.
- إن اندفاع داود نحو الخطية بقوة أسقطه فى الضعف الشديد، فشعر أن قوته قد فارقته، أى قوة الله العاملة فيه؛ لأنه انفصل عن الله بالخطية، فصار كالميت.
- كذلك بالسقوط فى الخطية فقد داود نور عينيه، أى استنارته الروحية وقدرته على التمييز؛ لأن الخطية هى الضلال والعمى الروحى.
- إن شعور داود بكل هذه الآثار للخطية، واعترافه بها، يؤكد محاسبته لنفسه وتوبته، وبالتالى نواله غفران الله.
ع11، 12: 11- احبائي و اصحابي يقفون تجاه ضربتي و اقاربي وقفوا بعيدا. 12- و طالبو نفسي نصبوا شركا و الملتمسون لي الشر تكلموا بالمفاسد و اليوم كله يلهجون بالغش.
- إن الخطية شريرة، وتضايق الناس، فكل الأحباء والأصدقاء الذين عرفوا أن داود رجل الله، تضايقوا جداً، وابتعدوا عنه؛ لأنه ابتعد عن الله. لأن سر قوة داود التى جعلت الأحباء يلتفون حوله هى محبته لله.
- إن الخطية تدمر العلاقات القريبة من الإنسان، فتبعد عنه حتى أقاربه. فالخطية كريهة، وبالتالى تفقد الإنسان مساندة من حوله، ويشعر بالعزلة، فإن كان إنساناً حكيماً يسرع للتوبة، فيشعر بمساندة الله، ثم يرجع إليه أحباؤه، وأقاربه.
- فوجئ داود بأن أحباءه انقلبوا ضده، فكان هذا أمراً جارحاً له. فقد خدم داود شاول الملك بأن عزف له الموسيقى عندما حل عليه الروح النجس، فقام عليه شاول وحاول ضربه بالرمح عدة مرات (1صم18: 11). وقرب داود إليه أخيتوفل كمشير، فانقلب عليه ودبر مكيدة لقتله، وحتى ابنه أبشالوم قام عليه وطرده، وحاول قتله.
- هذه الآية تنطبق على المسيح الذى تركه كل أحبائه فى ساعة القبض عليه وفى آلامه، وقال “وتتركوننى وحدى وأنا لست وحدى لأن الآب معى” (يو16: 32)، فتفرق عنه تلاميذه، ووقفت أمته ضده عندما حاكموه وسلموه لبيلاطس.
- عندما نرتكب الخطية نتفرق عن المسيح، بل ونقف ضده، مع أنه هو الحبيب الذى مات لأجل خلاصنا، هكذا نتحول من أحباء إلى أعداء.
وعندما نرتكب الخطية يتفرق أحباؤنا الملائكة والقديسون عنا. بينما عندما نتوب عن خطايانا يقف أصدقاء السوء بعيداً عنا.
- تعرض داود ليس فقط لتخلى الأحباء عنه، بل لقيام الأعداء ضده، الذين أساءوا إليه بشرور كثيرة هى :
أ – حاولوا قتله، ووضعوا الفخاخ لاصطياده، كما فعل شاول وأبشالوم وأخيتوفل.
ب – تكلموا بالمفاسد على داود وبكلام غش وباطل، كما فعل شمعى بن جيرا، وكل أتباع شاول.
- تعرض المسيح لشهادات زور من اليهود فى محاكمته، بالإضافة إلى اتهامات باطلة، مثل اتهامه أنه مجدف، وفاعل شر، ومهيج للأمة، ويتعاون مع بعلزبول رئيس الشياطين.
احترس من بريق الخطية التى تحاول أن تجذبك، فهى تحمل السم فى داخلها. تذكر أوجاعها، وأنها سوف تهلكك، فتبتعد عنها، وكل ما يتصل بها مهما كان الثمن، فخلاصك أهم من أى شئ. واتكل على الله واستند عليه، فهو قادر أن ينصرك ويخلصك منها.
(2) توسل لله المخلص (ع13-22):
ع13، 14: 13- و أما أنا فكأصم لا اسمع و كأبكم لا يفتح فاه. 14- و اكون مثل انسان لا يسمع و ليس في فمه حجة.
- سمع داود اتهامات زور باطلة كثيرة، ولكنه لم ينزعج منها، بل كان كأصم لا يسمع، أى احتفظ بسلامه القلبى، وثبات إيمانه، بل وصلى لأجل من يسئ إليه.
- كذلك لم يرد داود على الاتهامات الباطلة التى أثارها عبيد شاول ضده، بل أكد فقط محبته لشاول عملياً، عندما سقط شاول مرتين فى يده ولم يؤذه داود. ولم يرد داود إذ كان لا يريد الدخول فى جدل غير مفيد، فهو يتكلم عندما يكون هناك فائدة من كلامه، فكان كأبكم، أو من لا حجة له مع أنه قادر على الرد، ولكنه لا يتكلم إلا فى الوقت المناسب.
- مما ساعد داود على صمته إنشغاله بتوبته، فلم يرد على شمعى بن جيرا، وقبل إساءاته كأنها تأديب من الله (2صم16: 11، 12).
- المسيح صمت تماماً أمام الاتهامات، والشهادات الزور، والمناقشات غير المجدية، سواء من الكتبة والفريسيين، أو رؤساء الكهنة أثناء محاكمته، أو أمام الرؤساء المدنيين، مثل بيلاطس وهيرودس.
ع15، 16: 15- لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب الهي. 16- لأني قلت لئلا يشمتوا بي عندما زلت قدمي تعظموا علي.
- صبر داود على إساءات أعدائه، وتخلى أحبائه عنه؛ لأنه كان يؤمن أن الله قاضى عادل، ولن يضيع حقه، فاحتمل من أجل الله، والله رفعه ومجده على الأرض وفى السماء، فهذا دليل على رجاء داود الثابت فى الله.
- كان صمت داود مصحوباً بالصلوات التى كان يثق أن الله يستجيب لها فى الوقت المناسب، وهذا يؤكد إيمان داود بمحبة الله، وقدرته على الإجابة عنه أمام الإساءات الموجهة إليه.
- ويطالب الله بسرعة التدخل حتى لا يشمت أعداؤه به، فهو صامت أمام إساءاتهم، واتهاماتهم، منتظراً تدخل الله، ودفاعه عنه، وهذا أيضاً يؤكد رجاءه فى الله.
- استغل أعداء داود، وبالأكثر الشياطين سقوط داود فى خطية الزنا والقتل، فتعاظموا، وتكبروا عليه، مستغلين ضعفه، ولكنه كان أحكم منهم، إذ اتضع والتجأ إلى الله بالتوبة، فنقل عنه خطيته وغفر له.
ع17: 17- لأنني موشك أن اظلع و وجعي مقابلي دائما.
أظلع : أعرج.
- انزلاق قدم داود – أى سقوطه فى الخطية. جعله معرضاً لسقطات أخرى وحروب من إبليس، فيتحول الإنزلاق إلى ضعف دائم، أى يظل يعرج طوال حياته، والمقصود استمرار سقوطه فى الخطية.
وهنا يظهر اتضاع داود، وطلبه معونة الله، وتدخله السريع لينقذه من يد الشيطان.
- يعلن داود هنا أن وجعه – أى خطيته – أمام عينيه فى كل حين، وهذا يعنى ما يلى:
أ – ندم مستمر وانسحاق أمام الله.
ب – احتراس دائم من الخطية حتى لا يسقط فيها مرة ثانية.
ج – يؤكد تمسك داود بمخافة الله؛ إذ يشعر بجرم خطيته أمام بر الله، فمع ثقته أن الله غفر له، لكنه يشكر الله فى كل حين على غفرانه.
- تنطبق هذه الآية على المسيح المستعد أن يحتمل الآلام حتى الموت ليتمم خلاص البشرية، فالمسيح يقترب من الصلب ويقول إنى موشك أن أظلع، أى أن أصلب، ووجعى مقابلى، أى آلام الصلب أمام عينيه. وهذا يؤكد أن المسيح كان له جسد حقيقى، واحتمل كل الآلام عنا ليفدينا.
ع18: 18- لأنني اخبر باثمي و اغتم من خطيتي.
- يعلن داود اعترافه بخطيته أمام كل الشعوب فى هذا المزمور، وهذه شجاعة عظيمة؛ لأنه مهتم بخلاص نفسه مهما كان الثمن، أو الفضيحة.
- إن سبب حزن داود هو خطيته التى يتذكرها كل حين، وليس أية ضيقة، أو عقاب يأتى عليه، فالتوبة هى شاغله الشاغل.
- إن توبة داود واعترافه بخطيته هى التى جعلته يستطيع أن يصلى طالباً معونة الله، فنال مراحمه.
ع19: 19- و أما اعدائي فاحياء عظموا و الذين يبغضونني ظلما كثروا.
- قابل داود مشكلة وهى أن أعداءه الأشرار امتلأوا حيوية وقوة، بل وتعاظموا فى مركزهم وقوتهم، وسلطانهم، وغناهم. كل هذا لم يؤثر فى داود؛ لأنه تمسك بإيمانه، واثقاً من قوة الله التى تسانده. لم ينزعج من قوتهم وعظمتهم؛ لأنه يؤمن بالقناعة والتجرد، ولم يتشكك من أجل عظمتهم؛ لأنه واثق فى قوة الله التى معه، وأن الله قادر أن يعوضه بسلام وفرح داخلى، أفضل من كل مباهج وقوى العالم.
- من المشاكل التى قابلت داود أيضاً أن أعداءه الذين يبغضونه ويطلبون الشر له كثر عددهم، ولكنه لم يتشكك فى إيمانه، وسلوكه، حتى ولو بقى وحده، بل ظل يحيا بنقاوة، وحب لهؤلاء الذين يبغضونه، فسامح شاول ولم يؤذه رغم سقوطه مرتين فى يد داود، إنه مثال للثبات فى الإيمان.
ع20: 20- و المجازون عن الخير بشر يقاومونني لأجل اتباعي الصلاح.
- من الغريب أن يجازى الإنسان عن الخير بشر؛ لأن الإنسان الطبيعى وليس الروحانى يجازى عن الخير بخير، وعن الشر بشر، ولكن الشرير وحده هو الذى يجازى عن الخير بشر. ولكن داود المتمسك بالخير ظل فى سلوكه المستقيم، ولم يرد على الشر بشر، بل رد على الشر بخير، فأحسن إلى شاول الملك ولم يؤذه. وكذلك كان شفوقاً على ابنه ابشالوم الذى طرده وحاول قتله، فكان يقول لجيشه الخارج لمحاربة أبشالوم “ترفقوا لى بالفتى أبشالوم” (2صم18: 5). إنه مثال لمحبة الأعداء التى نادى بها المسيح فى العهد الجديد، ولكن عاشها داود فى العهد القديم.
- الأشرار يجازون عن الخير بشر؛ لأن نور الصديقين يظهر شر الأشرار، فبدلاً من أن يقتدى الأشرار بالصديقين ويصلحون طرقهم؛ يغتاظون، ويسيئون للصديقين؛ ليطفئوا نورهم؛ حتى يستمروا فى ظلمتهم.
- هذه الآية تنطبق على المسيح، الذى أتى لخلاص العالم، وكان يجول فى كل مكان يصنع خيراً، فقام عليه اليهود وصلبوه، وجازوه عن خيره بشرورهم، أما هو فمات من أجل خلاصهم. إنه الحب الذى يفوق العقل.
ع21، 22: 21- لا تتركني يا رب يا الهي لا تبعد عني. 22- اسرع إلى معونتي يا رب يا خلاصي
- أمام قوة الأعداء التجأ داود لله بإيمان، طالباً منه ألا يتخلى عنه؛ لأنه يثق فى قوة الله القادرة على حمايته، معلناً بهذا احتياجه لله. فهو بالحقيقة إنسان متضع.
- إن الضغوط النفسية التى وقعت على داود من تخلى الأصدقاء والأحباء، وقيام الأعداء عليه، جعلته يشعر أنه لم يبق له إلا سند واحد وهو وجود الله معه، وهذا كاف له جداً ومشبع؛ لذا يؤكد على الله ألا يبتعد عنه. وفى داخل أحضان الله يشبع، ويفرح، ويتقوى.
- لقد أحاط بداود أعداؤه وكادوا يهلكونه، لذلك يطلب نجدة سريعة من الله، وهو يشعر بدالة عند الله، فيقول له يا إلهى. وهو يطلب تدخل الله السريع ويؤمن أن الله مخلصه؛ فهو حتماً سينجيه؛ لذا فداود يحيا مطمئناً مهما أحاط به الأعداء.
- إن كان داود قد سقط فى الخطية، وأعلن لنا فى بداية المزمور نتائجها، وأوجاعها، ولكن عندما نظر إلى الله، ورفع قلبه إليه، تشدد، وتقوى، وامتلأ سلاماً وفرحاً. فالصلاة التائبة تنقلنا من الموت إلى الحياة، ومن الضعف إلى القوة.
أعط وقتاً كافياً للصلاة؛ لتتمتع بعلاقتك بالله، وتتخلص من خطاياك بالتوبة، وتستند على الله فى كل خطواتك، فتعيش حياة هادئة مملوءة بالحب الإلهى.