سلوك الأشرار والأبرار
لإمام المغنين. قصيدة لداود النبى عندما جاء
دواغ الآدومى وأخبر شاول وقال له جاء داود إلى بيت أخيمالك
“لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار …” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : هو داود النبى كما يظهر من عنوان المزمور.
- متى كتب ؟
فى بداية هروب داود من وجه شاول، بعد ذهاب داود إلى أخيمالك رئيس الكهنة فى مدينة نوب التى يسكنها الكهنة، حيث أكل خبز الوجوه، وأخذ سيف جليات، ورآه دواغ الآدومى هناك، فأخبر شاول، وآثاره ضد أخيمالك، فقتل شاول أخيمالك وكل الكهنة، ولم يهرب سوى واحد منهم هو أبياثار (1صم21).
- دواغ الأدومى هو من نسل عيسو وانضم إلى شعب اليهود، ووصل أن يكون أكبر الرعاة المسئولين عن أغنام شاول، وهو إنسان شرير، يميل إلى سفك الدماء، فنقل أخبار إلى شاول، وهى حقائق، ولكنها مدعمة باستفزازات لشاول، وكلها كذب، إذ أظهر أخيمالك متعاوناً مع داود ضد شاول، وهذا لم يحدث. وعندما أمر شاول بقتل الكهنة، خاف كل عبيد شاول من ذلك، فتقدم دواغ وذبحهم جميعاً بالسيف، فدواغ شرير، ويتباهى بالشر؛ لذا فهو يرمز لضد المسيح، المقاوم للحق.
- هذا المزمور يبين أن قوة الشرير مهما بدت طاغية، فهى سريعة الزوال، ولا ينتظر الشرير إلا العقاب الإلهى. أما الأبرار فيباركهم الله ويكافئهم، وهذا يثبت المؤمنين فى حياة البر.
- يعتبر هذا المزمور أحد المزامير الثمانية التى يحمل عنوانها أن داود مطرود وهارب من وجه شاول، وتسمى “مزامير الطريد” وهى (مز7، 34، 49، 52، 54، 56، 57، 142).
- هذا المزمور غير موجود بالأجبية.
(1) صفات الشرير (ع1-4):
ع1: 1- لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار رحمة الله هي كل يوم.
- أحب دواغ الأدومى الشر، فمارسه واستمر فيه، ولأجل تقربه للملك شاول فعل شروراً كثيرة مثل الكذب، واستهان بأرواح الكهنة وقتلهم بلا شفقة، بل وأباد كل من فى مدينتهم من النساء والأطفال، وأفتخر بأنه يصنع الشر، وهذه أول صفة من صفات الشرير.
فهو يمثل الفجور، ويرمز لضد المسيح، والكتاب المقدس يظهر أمثلة لهؤلاء الفاجرين المفتخرين بالشر، مثل ربشاقى، وسنحاريب.
- رحمة الله هى كل يوم؛ لتوقف شر الأشرار، وتحفظ وتنجى الأبرار، أو تعدهم بالأبدية، كما حدث مع كهنة نوب (1صم: 21)، فالله ضابط الكل برحمته يضع حدوداً للشر. وهكذا نرى فى هذه الآية مقابلة بين شرور الإنسان، ورحمة الله، وهذه هى فكرة المزمور كله.
ع2: 2- لسانك يخترع مفاسد كموسى مسنونة يعمل بالغش.
- الصفة الثانية فى دواغ، أو فى الشرير، هى الكذب، واختراع المفاسد، فقد أوهم شاول أن أخيمالك يتعاون مع داود ضد شاول، فحتى يتقرب دواغ من شاول كذب ليحقق هدفه، وكذلك هو مخادع وغشاش، فانضم إلى اليهود، واختتن، وقد صنع هذا وتظاهر، ولكنه حقيقة لا يحب الله وعبادته، بدليل قسوة قلبه، واندفاعه ليقتل الكهنة، أما اليهود الحقيقيون عبيد شاول، فلم يستطيعوا أن يقتلوا الكهنة.
- يشبه داود دواغ “بموسى مسنونة” التى تزيل الشعر كله بسهولة، كما قتل دواغ الكهنة، وأباد مدينتهم بسهولة، فهو يفكر بالشر، ويسرع إليه، ويفعله بسهولة؛ لأنه من طبيعته، وبالتالى يتمادى ويستمر فيه. وكذلك الموسى المسنونة تجرح وتقطع بسرعة كل من لا يحترس منها، فالشرير مخادع ولا يؤتمن.
ع3، 4: 3- أحببت الشر أكثر من الخير الكذب أكثر من التكلم بالصدق سلاه. 4- أحببت كل كلام مهلك و لسان غش.
- الصفة الثالثة للشرير هى محبة الشر أكثر من الخير، فدواغ أحب الكذب واستفزاز شاول ضد الكهنة أكثر من التماس العذر لأخيمالك فى مساعدته لداود؛ مثل أنه يجهل وجود أية مشاكل بين داود وشاول. وفى محبة دواغ للشر استخدم الكذب وقسوة القلب فذبح الكهنة.
- فى محبة الشرير للشر أحب كل كلام شرير يهلك الآخرين، ويغشهم، فالشرير يلتصق بالأشرار، ويحب شرورهم مما يجعله يتمادى فى شروره بلا حصر.
- نجد فى نهاية آية (3) كلمة “سلاه”، وهى وقفة موسيقية، ليتأمل الإنسان خطورة الشر، ويبتعد عنه.
احترس من أن يثيرك إبليس، فتتمادى فى أى شر، مهما كان صغيراً، أو بعيداً عن أعين الناس، فهو يريد تحويل قلبك إلى الشر؛ حتى يفصلك عن الله. وعندما ينبهك الله أسرع إلى التوبة؛ لتستعيد بنوتك لله، وتتنقى طبيعتك، وتعود لعمل الخير.
(2) جزاء الشرير (ع5-7):
ع5: 5- أيضا يهدمك الله إلى الأبد يخطفك و يقلعك من مسكنك و يستأصلك من أرض الأحياء سلاه.
- “أيضاً” تعنى لذلك، أى نتيجة لصفات الشر التى تمسك بها الشرير، يجلب عليه الله عقوبات كثيرة، وهى :
أ – يهدمك : أى يحطمك الله، ويفقدك كل مظاهر قوتك. وهذا الهدم يستمر طوال حياته، أى إلى الأبد، فيلقى فى العذاب الأبدى.
ب – يخطفك : يتم العقاب الإلهى فجأة، بعد أن أطال الله أناته على الشرير، الذى تمادى فى شروره مدة طويلة، يأتى عليه العقاب الإلهى فجأة، فيخطفه من كل لذاته، وكبريائه، ويفقده كل قدرة، وقوة.
ج – يقلعك من مسكنك : مهما كان الشرير متأصلاً، ومثبتاً نفسه، ومهما كانت له قوة، أو علاقات، أو أموال، يقلعه الله من مسكنه المستقر، كما يقلع النبات من الأرض، ويلقيه خارجاً؛ ليجف ويحرق بالنار، أى يفقد كل ما كونه لنفسه، ويلقى فى النار الأبدية.
د – يستأصلك عن أرض الأحياء : يفقد الشرير حياته، إما بالموت، أو يعتبر ميتاً فى نظر الله؛ لأنه انفصل عنه، ولا يكون له مكان فى أرض الأحياء، أى ملكوت السموات، فلأنه رفض الحياة مع الله على الأرض، يصبح ميتاً إلى الأبد، أى لا يشعر بالله، ويتعذب إلى الأبد، إذ معرفة الله هى الحياة، والبعد عنه هو العذاب الأبدى.
- تنتهى الآية بكلمة “سلاه” وهى وقفة موسيقية للتأمل فى عقاب الشرير؛ حتى يبتعد الإنسان عن الشر.
ع6، 7: 6- فيرى الصديقون و يخافون و عليه يضحكون. 7- هوذا الإنسان الذي لم يجعل الله حصنه بل اتكل على كثرة غناه و اعتز بفساده.
- عندما يرى الصديقون الشرير، الذى لم يعتمد على الله، ولم يجعله حصنه، بل اتكل على ممتلكاته، وعلى وسائله الشريرة، التى يكسب بها الماديات. إذ يرى الصديقون كل هذا، يخافون الله؛ لأنهم قد تعودوا رؤية الله، فيشعرون بمشاعره، وكيف يتضايق قلبه من الشر، ويخافون على أنفسهم أن يتهاونوا، فيسقطوا فى شئ من هذه الشرور، ولذا يزدادون حرصاً، وتدقيقاً، متذكرين دائماً مخافة الله.
- كذلك يضحك الصديقون على الشر، أى يستهزئون بالشر، ويشعرون أنه شئ سئ، وتافه، وزائل، فلا يغريهم ليصنعوه، بل ينفرون منه، ويزداد تمسكهم بالله.
تذكر مخافة الله كل حين؛ لتحفظك من الخطية، وتقربك إلى الله، فتتمتع برؤيته، بل ويكشف لك كنوز معرفته، وتفرح بعشرته.
(3) سلوك البار ومكافأته (ع8، 9):
ع8: 8- أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله توكلت على رحمة الله إلى الدهر و الأبد.
- إذ يرى الصديق خطايا الشرير يبتعد عنه؛ هذا هو الجانب السلبى، ولكن من الناحية الإيجابية يتمتع الصديق – كما يعبر فى هذه الآية – بما يلى :
أ – يشبه نفسه بزيتونة خضراء، أى شجرة تعطى ثماراً؛ لأن الإنسان الروحى له ثمار روحية، وكذلك ينتج الزيت، الذى يحتاجه المؤمن؛ ليملأ به مصباحه، وهذا الزيت هو الأعمال الصالحة. والزيتونة خضراء، أى مملوءة حياة بالله العامل فيها. وأيضاً الزيتونة ترمز للسلام كما فى قصة نوح؛ لأن الصديق يصنع السلام، ويميل إليه، فيملأ الله قلبه سلاماً.
ب – “فى بيت الله” : سر قوة هذه الزيتونة أنها مغروسة فى بيت الله، أى أن لها علاقة قوية جداً، ومتأصلة فى عبادة الله، فتنال كل البركات السابق ذكرها، ولا يستطيع أحد أن يقلعها، أى الأشرار وكل خطاياهم لا يؤثروا فيها.
- ثبات الصديق، أو البار يعتمد على اتكاله على الله، الذى يثبته، ويحفظه، ويدافع عنه، ويباركه فى هذه الحياة، ثم فى الأبدية.
- يشبه داود نفسه بالزيتونة المغروسة فى بيت الله، رغم أنه مطرود، ومستبعد عن بيت الله؛ لأن قلبه متعلق بالله، وببيته، ولذا نقرأ هذا الجزء من المزمور فى عشية عيد يوحنا المعمدان (2 توت) الذى عاش فى البرية، مطروداً من هيرودس، ولكن قلبه كان متعلقاً ببيت الرب، وبمسيحه أكثر من كل شعب اليهود.
- الزيتونة الخضراء ترمز للمسيح، فكل المعانى السابق ذكرها تكمل فى المسيح.
ع9: 9- أحمدك إلى الدهر لأنك فعلت و انتظر اسمك فإنه صالح قدام أتقيائك
- فى نهاية المزمور يشكر داود الله، ويسبحه؛ لأنه وهبه البركات المذكورة فى هذا المزمور. هذا هو فعل الله فيه، فهو يقدر عمل الله، ويشكره، فيثبت فى علاقة عميقة، وحب دائم لله.
- هذا التسبيح أنتج فى قلب داود أشواقاً نحو الله، يعبر عنها بأنه ينتظر الرب، أى أنه جوعان، وعطشان إلى الله، فيهبه الله بركات، وتمتع به. وإذ تستنير حياة داود يكون قدوة لأتقياء الله، الذين ينتظرون الرب أيضاً، فيتشجعون فى سعيهم نحو الله. وفى انتظار داود لإسم الله يحتمل أتعاب الحياة وحروب إبليس بفرح، واثقاً من مساندة الله له، وبركاته التى سيهبها له؛ لأن المؤمنين بالله يتعرضون لحروب كثيرة، والله يسمح بها، ولكن فى نفس الوقت ينعم على أولاده بالصبر والمساندة، بل أكثر من هذا اختبار عشرته وسط الضيقات.
اتكالك على الله يمتعك بالمساندة والثبات فى حياتك الروحية، فلا تضطرب من تقلبات الحياة، أو حروب إبليس، وتستمر فى نموك الروحى.