بركات الله للتائبين
لداود . قصيدة
“طوبى للذى غفر إثمه” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه داود النبى.
- متى كتب ؟
بعد المزمور الحادى والخمسين، الذى يبدأ بكلمات إرحمنى ياالله كعظيم رحمتك. وقد كتب داود هذين المزمورين بعد حوالى سنة من سقوطه فى الزنا مع إمرأة أوريا الحثى، إذ أتى إليه ناثان النبى ونبهه، فكتب المزمور الحادى والخمسين، ثم كتب هذا المزمور.
- هذا المزمور مشجع للتائبين، فإن كان المزمور الحادى والخمسين مملوءاً بالانسحاق أمام الله، فهذا المزمور يبين بركات الله لكل من يتوب.
- هذا المزمور من مزامير التوبة السبعة وهى (مز6، 32، 38، 51، 102، 130، 143).
- يعتبر أيضاً هذا المزمور – كما ذكرنا – من مزامير الشكر وهى المزامير من
(مز30-34)، فداود هنا يشكر الله الغافر الخطايا. - يذكر جزء من هذا المزمور فى سر المعمودية؛ لأن فيه يتم غفران خطايا المعمدين.
- يعتبر هذا المزمور من المزامير البولسية، أى التى تتشابه كلماتها وأفكارها مع كلمات وأسلوب بولس الرسول وهى (مز32، 130، 143).
- كان القديس أغسطينوس يحب هذا المزمور ويحرص على ترديده حتى نهاية حياته.
- يسمى هذا المزمور فى العبرية “أشير”، وهو أحد أسباط بنى إسرائيل ومعناه يالسعادة، لأن هذا المزمور يبدأ فى الآيتين الأولتين منه بكلمة “طوبى” أى يالسعادة.
- هذا المزمور لا يوجد فى صلاة الأجبية.
(1) الاعتراف والغفران (ع1- 6):
ع1: 1- طوبى للذي غفر اثمه و سترت خطيته.
- يظهر داود فرحه بغفران خطاياه بعدما أخطأ خطيته الشنيعة وهى الزنا والقتل، فيقول يالسعادة من يغفر له الله خطاياه، فيرفعها وينقلها عنه، ويلقيها فى بحر النسيان.
- الله بمحبته يستر على خطايا التائب، فلا تعود تظهر، أى يمحوها. وهذه محبة إلهية تفوق العقل؛ لأن أكثر شئ يؤرق الإنسان هو خطيته. والله بمحبته يزيلها تماماً.
- إن كان المزمور الأول يحدثنا عن سعادة السالك بالاستقامة، والمبتعد عن الشر، فهذا يحدثنا عن الإنسان المعرض للسقوط أثناء حياته على الأرض، ولكنه يحب الله ووصاياه، فيعود بالتوبة إلى الله، وحينئذ ينال غفرانه، فيفرح بهذا الغفران.
- من هذه الآية نفهم أن الغفران هبة إلهية مجانية يهبها الله للتائبين، فالله يشفق على أولاده الضعفاء إن أخطأوا، ورجعوا إليه بالتوبة، فيمحو عنهم خطاياهم كأنهم لم يعملوها.
ع2: 2- طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية و لا في روحه غش.
- يالسعادة وفرح الذى يغفر له الله خطاياه، وبالتالى يصبح نقياً، وبهذه النقاوة يقف أمام الله يعاينه، ولا يظهر فيه أية خطية أمام كل السمائيين، فيصبح من حقه التمتع بالله وهو على الأرض، إلى أن يصل إليه فى السماء.
- إذ يتمتع هذا الإنسان بغفران الله، ونقاوة قلبه، يشعر بجرم الخطية، وحلاوة النقاوة، فيبتعد عن كل شر، وكل غش، أى يدقق فى حياته وتصبح روحه نقية لا تريد أن تخطئ لانشغالها بالله.
- إن الخطية تدنس الإنسان، وهذا التدنيس يكون للروح أولاً، ثم للجسد لأنه من فضلة القلب يتكلم اللسان، ولكن الأصعب أن يوجد غش فى روح الإنسان، فهو يخدع نفسه، وليس الله بالطبع. وهذا الغش يجعله يتمادى فى الخطية، فتسكن فى داخله، وتظهر على جسده، مثل كلامه ونظراته وأفعاله؛ لذا من يتنقى من الغش يصبح بالحقيقة نقياً.
- اقبتس بولس الرسول (ع1، 2) من هذا المزمور وقالها فى (رو4: 6-8) تأكيداً لأهمية عمل نعمة الله فى غفران خطايا الإنسان وليس أعمال الناموس.
ع3: 3- لما سكت بليت عظامي من زفيري اليوم كله.
- بعدما سقط داود سكت ولم يعترف بخطيته أمام الله، ولا أمام الكاهن، ولم يقدم ذبيحة عن خطيته، ولا أمام نبى مثل ناثان؛ لذا كان ضميره ينخسه، ويحاول الهرب منه، فظل مضطرباً، فاقداً سلامه.
- توبيخ ضمير داود له لم يهدأ، خاصة وأن داود إنسان روحى يعرف الله ووصاياه جيداً، وتوبيخ الضمير أتعب داود، ليس فقط فى روحه، فكانت مضطربة، بل تأثر جسده أيضاً. ويعبر داود عن عمق آلامه فيقول بليت عظامى، أى عانى متاعب داخلية كثيرة حتى كادت عظامه أن تتلف وتنحل، وهى أقوى شئ داخل الجسم.
- ظهر ضيق داود وتأثره من توبيخ ضميره فى تنهد قلبه المتوجع كل يوم وطوال اليوم، وعبر عن ذلك فى أنه كان متوجعاً مع كل زفير يخرج من أنفه، أى كان متوجعاً توجع دائم، ولعل هذا التنهد كان بصراخ قوى، إما فى داخله، أو حتى بصوتٍ عالٍ مسموع، لم يفهمه من حوله، أو لعلهم ظنوا أنه متألم من شئ ما؛ حتى أن بعضهم قالوا أنه أصيب بمرض جسدى من كثرة توبيخ ضميره له.
- إن سكوت داود هو سكوت عن الصلاة وتسبيح الله، فالخطية تحجز الله عنا وتفصلنا عنه، فنفقد تمتعنا به، وتضعف، أو تقف صلواتنا، ولكن بالتوبة يمكن استعادة القدرة على الصلاة.
ع4: 4- لأن يدك ثقلت علي نهارا و ليلا تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ سلاه.
يبوسة : جفاف.
القيظ : الحر الشديد.
- يد الله كانت مساندة لداود، ولكن عندما أخطأ ثقلت عليه يد الله حتى يتوب، فبعدما أخطأ مع امرأة أوريا الحثى، وولد طفل من الزنا صلى داود، ولكن الطفل مات، ثم أخطأ آمنون بن داود مع أخته ثامار، وبعد ذلك قتله أخوه أبشالوم، ثم هرب وبعد رجوعه هيج الشعب وقام بخلع داود من على عرشه وطرده من المملكة. كل هذه هى يد الله التى ثقلت على داود؛ لتتعمق توبته، فينال مراحم الله.
- بسبب الضيقات التى سمح بها الله لداود تحولت حياته الداخلية من الرطوبة؛ أى التمتع بعمل الله فيه إلى يبوسة شديدة، فشعر بالضيق والضغط، وحينئذ إلتجأ إلى الله الذى سامحه ونقل عنه خطيته.
- تنتهى هذه الآية بكلمة سلاه، وهى نغمة موسيقية، وتعنى هنا طلب مراحم الله؛ لأن داود فى ضيقة ومحتاج إلى عطف الله وحنانه.
ع5: 5- أعترف لك بخطيتي و لا أكتم إثمي قلت اعترف للرب بذنبي و أنت رفعت آثام خطيتي سلاه.
- وصل داود إلى حل مشكلته، وهو الاعتراف بخطيته أمام الله، وأمام رجله ناثان النبى، وبهذا تخلص من خطيته إذ نقلها الله ورفعها عنه.
- تخطى داود حاجز الخجل، والكبرياء بأن اعترف بخطيته ولم يكتمها وكان اعترافه اعترافاً علنياً؛ حتى أنه كتبها فى مزاميره، وتذلل أمام الله، إذ شعر بجرم خطيته، فلم يعد يهمه كرامته أمام الناس.
- الاعتراف الذى قاله داود يعلن رفضه وكراهيته للخطية، وفضح للشيطان الذى أسقطه، وبهذا استعاد داود بنوته لله، الذى غفر له وأعاد إليه نقاوته.
- إن رفع الله خطية داود عنه أعطى داود سلاماً داخلياً، ولكن الله سمح له بقصاص فى مشاكل مرت به ذكرناها فى الآية السابقة. فإن كان الله قد غفر خطيته، ولكنه بهذا التأديب أراد أن يعمق فكر التوبة داخل داود؛ حتى يرفض بعد ذلك أية خطية.
- الله يريد بمحبته أن يغفر خطايا أولاده، ولكنه ينتظر توبتهم واعترافهم، فعندئذ يسرع للغفران، ويعيدهم إلى بنوتهم له، فيتمتعون برعايته. وذلك لأن داود عندما واجهه ناثان اعترف فى الحال بخطيته عكس ما حدث مع قايين الذى نبهه الله ليعترف بخطية قتله لأخيه، فرد بوقاحة، وقال أحارس أنا لأخى فلم تغفر له (تك4: 9). فداود وقايين سقطا فى خطية، ولكن داود اعترف باتضاع أمام الله، أما قايين فرد على الله ببجاحة وكبرياء.
- تنتهى هذه الآية بكلمة سلاه وهى نغمة موسيقية وتعنى هنا شكر الله والفرح بغفرانه. وبهذا تختلف عن كلمة سلاه التى فى الآية السابقة، فالنغمتان مختلفتان بحسب معنى الآية السابقة لكلمة سلاه.
ع6: 6- لهذا يصلي لك كل تقي في وقت يجدك فيه عند غمارة المياه الكثيرة إياه لا تصيب.
غمارة المياه : مياه كثيرة تغمر الأرض، أو الإنسان، مثل الطوفان.
- لأن الله غافر الخطايا، فكل إنسان يخاف الله ويحيا معه، يؤمن بمحبته ويسرع إليه بالتوبة لينال غفرانه.
- الصلاة ليست فقط للاعتراف بالخطية، ونوال الغفران، بل إن من يتقى الله ويسقط فى الخطية، يشعر أنها تحجز الله عنه، وتضعف صلاته، فيسرع إلى التوبة ويستعيد صلاته، بل تصبح أكثر حرارة لشعوره باحتياجه لله.
- عندما يشعر التقى بالتوبة عن خطيته، فى هذا الوقت يستطيع أن يجد الله الرحوم، الذى يصلى إليه معترفاً بخطاياه، فينال غفرانه.
- من يتقى الله دائماً ويخافه، يشعر بوجوده الدائم، فالله موجود فى كل حين، ولذا فالصلاة متاحة للإنسان فى كل حين.
- عندما تمر بالإنسان ضيقات شديدة حتى يكاد يهلك كما حدث أيام الطوفان، يسرع إلى الله بالتوبة، فلا يصيبه أذى، بل ينقذه الله، كما أنقذ نوح وأسرته.
- غمارة المياه الكثيرة ترمز ليوم الدينونة، حيث يطلب الأشرار أن تغطيهم الجبال والآكام، أما أولاد الله فلا يصيبهم أذى، بل عندما يظهر الله يأخذهم إليه ويشبعهم بمحبته.
? إن باب التوبة والاعتراف هو أكبر نعمة يهبها الله لنا، فأسرع إليه بالتوبة إذا سقطت فى خطية واثقاً من محبته وغفرانه، بل على قدر إحساسك بجرم الخطية قدم صلوات ودموع أمام الله طوال حياتك، وهكذا تمتزج دموعك بمشاعر السلام والفرح والشكر لله غافر خطيتك.
(2) بركات الله للمتكلين عليه (ع7-11)
ع7 : 7- أنت ستر لي من الضيق تحفظني بترنم النجاة تكتنفني سلاه.
تكتنفنى : تحيط بى من كل جانب.
- عندما يرى الله توبة أولاده يستر عليهم، فلا ينفضحون أمام الناس، فإذا فضحوا الشيطان بالتوبة يستر عليهم، وإذ كتموا خطاياهم ينفضحون أمام الناس، خاصة فى اليوم الأخير.
- ستر الله على التائب يعنى أيضاً أن يحميه من السقوط فى خطايا جديدة، سواء نفس خطيته التى سقط فيها، أو أية خطايا أخرى.
- إن مرَّت بهذا التائب ضيقات لتأديبه يحفظه الله فيها، فلا يسقط فى الخطية، بل يتعلم من التأديب ويرجع إلى الله بكل قلبه، أى يحيا توبة أعمق.
- عندما ينجى الله التائب من خطايا كثيرة، يفرح ويسبح الله ويرنم له، فيتمتع بالصلاة. وهكذا يمتلئ قلبه فرحاً، ويحوطه أيضاً الفرح، فيظهر على وجهه بابتسامة وسلام قلبى.
- كلمة سلاه هنا هى نغمة موسيقية تعنى الفرح والتسبيح والشكر.
ع8: 8- أعلمك و أرشدك الطريق التي تسلكها أنصحك عيني عليك.
- يعد الله داود وكل التائبين بأن يعلمه طريق الحياة معه حتى يسلك فى الحياة الجديدة، بعدما تخلص من خطيته. وسلوكه هذا يمتعه بعشرة الله، فيرفض الخطية، وبهذا يحميه من السقوط فى خطايا كثيرة.
- الوعد الثانى أن يرشد الله التائبين للطريق التى يسلكون فيها، حتى لا يستطيع العالم أن يخدعهم بطرقه المعوجة، مهما كانت تشكيكات العالم. ويتغلبون أيضاً على كل يأس وإحباط اللذين يسدان الطرق أمامهم، فيرشدهم الله إلى الطريق المفتوح المؤدى إلى الحياة الأبدية.
- الوعد الثالث هو أن ينصحه الله، حتى يحترس من السقوط مرة أخرى، وكذلك ليسعى فى طريق الفضيلة، فتزداد عشرته مع الله.
- الوعد الرابع هو عناية الله الدائمة ورعايته له، فتكون عينه على التائب؛ ليحفظه من كل شر وينبهه من أى خداع شيطانى، ويرعاه فى كل خطواته، وبهذا يثبت فى طريق البر.
ع9: 9- لا تكونوا كفرس أو بغل بلا فهم بلجام و زمام زينته يكم لئلا يدنو اليك.
لجام : قطعة حديدية توضح فى فم الفرس، أو البغل لمنعه من السير، أو الجرى.
زمام : شريط من الجلد يربط اللجام من الناحيتين للتحكم فى حركة الفرس، أو البغل.
يكم : يعتبر اللجام ككمامة، أى مانع يوضع على فم الفرس للتحكم فى حركته.
- يحذر الله أولاده أن يسلكوا كالحيوانات، مثل الفرس والبغل اللذين يتميزان بالكبرياء والشهوة، بل يكونون هادئين، متضعين، يحيون فى طهارة؛ ليتمتعوا بعشرة الله.
- إن الفرس والبغل يوضع فى أفواههما اللجام والزمام؛ لضبطهما ومنعهما من الاندفاع، أما الإنسان فقد وضع الله فيه الضمير ليضبطه ويمنعه من كل شر. وفى العهد الجديد منحه الروح القدس؛ لينخس قلبه إن أخطأ ويحذره من كل شر.
- الفرس والبغل يرمزان للأشرار المتكبرين، الشهوانيين، والله يمنعهم، حتى لا يقتربوا من أولاده ويؤذونهم، فيسمح للأشرار بضيقات؛ حتى لا يتمموا شرورهم ضد أولاد الله، أو ينبههم بوصاياه، ويخيفهم بالدينونة الأخيرة؛ حتى يبتعدوا عن الشر.
ع10 : 10- كثيرة هي نكبات الشرير أما المتوكل على الرب فالرحمة تحيط به.
نكبات : مصائب.
- الأشرار يتعرضون لضيقات كثيرة،سواء ضيقات خارجية، مثل الأمراض والمشاكل والمصائب الخارجية، أو ضيقات داخلية، وهى توبيخ ضمائرهم لهم، فهم فاقدو السلام دائماً؛ حتى لو ضحكوا وانغمسوا فى الشهوات المختلفة.
- الإنسان الذى يحيا مع الله ويتكل عليه ويتوب عن خطاياه، ينال مراحم الله، وعلى قدر توبته يحوطه الله بمراحم وبركات كثيرة، فيزداد اتكاله على الله وتمتعه بحبه. ويحميه الله من فخاخ الشياطين؛ حتى لا يسقط فى الخطايا المتنوعة.
ع11: 11- افرحوا بالرب و ابتهجوا يا أيها الصديقون و اهتفوا يا جميع المستقيمي القلوب
- يختم داود المزمور بدعوة أولاد الله للفرح بالله، الذى يحمى أولاده ويغفر خطاياهم، ويفيض عليهم بركات كثيرة، فيشكروه ويتمتعون ببركاته.
- من يتمتع بالفرح هو من اقتنى القلب النقى المستقيم، ثم ظهرت نيات قلبه النقية فى سلوك حسن هو سلوك الصديقين، فالبر الخارجى ناتج من نقاوة داخلية، ولذا ففرح الصديقين داخلى لا يُنزع منهم؛ لأنه داخل قلوبهم، أما الأشرار فأفراحهم خارجية زائلة.
- إن كان الفرح هو نصيب الأبرار، فهذا عدل إلهى؛ لأن الأشرار نصيبهم هو النكبات – كما فى الآية السابقة – فلا يمكن أن يتمتع بالسلام الداخلى والفرح الحقيقى إلا أولاد الله، الذين يخافونه.
- يبدأ هذا المزمور بتطويب من غفرت خطاياه، وينتهى بفرح الصديقين ومستقيمى القلوب. وهذا يبين أهمية التوبة التى ترفع خطايا الإنسان وتملأ قلبه فرحاً، فيشكر الله كل حين.
إن كانت التوبة تعطى كل هذه البركات، لذا ليتنا نسرع إليها كل يوم، بل بعد السقوط مباشرة، فنتضع أمام الله، ويفيض علينا بمراحمه وبركاته.