الله الديان
مزمور . لآساف
“إله الآلهة الرب تكلم …” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : آساف وهو رئيس المغنيين أيام داود النبى، وهو من سبط لاوى، وكان يساعده اثنين من رؤساء المغنين هما هيمان الأزراحى وإيثان الأزراحى (1أى15: 19). وكان يقود جميع فرق التسبيح فى الهيكل أيام الأعياد المقدسة. وكان يلقب بالرائى (2أى29: 30). وبنو آساف كانوا أيضاً يخدمون خدمة الترنيم، واستمروا فى خدمتهم بعد السبى، إذ عاد منهم مئة وثمانية وعشرون رجلاً إلى أورشليم مع زربابل (عز2: 41).
وكتب آساف اثنى عشر مزموراً أولها هذا المزمور، ثم المزامير من (مز73-83).
- متى كتب ؟ كتب أيام داود النبى، وكان يتكلم عن عظمة أورشليم وجمالها، ولعله كتبه بروح النبوة عن أورشليم بعد انقسام المملكة، بالتحديد أيام حزقيا، أو يوشيا الملك.
- يحدثنا هذا المزمور عن الله الديان الذى سيدين شعبه، وكذلك الأشرار، وعن تفضيل الله للعبادة القلبية، وليس العبادة الشكلية.
- يوجه كاتب المزمور أنظارنا إلى أهمية محبة الله وتسبيحه، وكذا محبة الآخرين وعدم إدانتهم.
- هذا المزمور تعليمى يتكلم فيه الله ليوجه شعبه إلى العبادة الصحيحة.
- يحدثنا المزمور عن مجئ المسيح الأول فى ملء الزمان متجسداً، وخارجاً من أورشليم (ع1، 2) ثم عن مجيئه الثانى فى يوم الدينونة العظيم (ع4)، لذا يعتبر هذا المزمور من المزامير المسيانية.
- هذا المزمور غير موجود بالأجبية.
(1) مجئ الديان (ع1-6):
ع1، 2: 1- إله الآلهة الرب تكلم و دعا الارض من مشرق الشمس إلى مغربها. 2- من صهيون كمال الجمال الله اشرق.
- يتنبأ الكاتب عن تجسد المسيح ومجيئه فى ملء الزمان، فهو الرب الذى فوق جميع الآلهة الوثنية. وتكلم المسيح كلمة الله ودعى البشر من كل مكان فى العالم؛ ليسمعوا بشارة الخلاص. فقد ظهر فى أورشليم، التى يصفها بأنها كمال الجمال. وأورشليم مبنية على خمسة جبال أهمها جبل صهيون، ولذا تدعى أحياناً صهيون، كما فى هذه الآية. وسمع بشارته اليهود والأمم فى أورشليم، ثم انتشر خبر كرازته عن طريق الرسل فى أرجاء المسكونة من مشارق الشمس إلى مغاربها.
- يصف صهيون بكمال الجمال؛ لأن فيها هيكل الله، الذى يرمز إلى الكنيسة، حيث يعطى الروح القدس الخلاص الذى أتمه المسيح على الصليب، ويهبه للمؤمنين فى أسرار الكنيسة، ووسائط النعمة.
ع3، 4: 3- يأتي الهنا و لا يصمت نار قدامه تأكل و حوله عاصف جدا. 4- يدعو السماوات من فوق و الأرض الى مداينة شعبه.
- أتى الله بنار وعاصف عندما حل على الرسل والكنيسة فى يوم الخمسين، وتكلم على ألسنتهم بلغات لم يعرفوها، وبدأوا الكرازة لشعب الله الآتى من جميع الأمم. ودعى الله السماوات والأرض لمداينة شعبه؛ لأن السموات ترمز إلى الأنبياء الذين فى الفردوس، والأرض ترمز للرسل الأتقياء، الذين يعلنون جميعاً أن المسيا قد أتى وفدى شعبه، ويدينون اليهود الذين لم يؤمنوا، ويدعونهم للإيمان. وقد آمن فعلاً ثلاثة آلاف نفس من اليهود، واعتمدوا على أيدى الرسل فى يوم الخمسين.
- هاتين الآيتين تتكلمان أيضاً عن مجئ المسيح الثانى المخوف فى يوم الدينونة بنار وعاصف، ويشهد السماء والأرض، أى يشهد الملائكة والقديسون الذين فى السماء، وكذا الأتقياء الذين مازالوا يحيون على الأرض، والكل يدين شعب الله الذى لم يؤمن فيساق إلى العذاب الأبدى.
- ترمز النار إلى قوة عمل الروح القدس وكلمة الله، الذى يحرق الخطايا داخل من يؤمن بالمسيح. والعاصف هو عمل الروح القدس الذى يهز النفس، فيعيدها إلى خالقها. والنار والعاصف يرمزان أيضاً إلى الضيقات التى تحل بالمؤمنين؛ لكيما تجذبهم إلى الله.
ع5، 6: 5- اجمعوا إلي أتقيائي القاطعين عهدي على ذبيحة. 6- و تخبر السماوات بعدله لأن الله هو الديان سلاه.
- يطلب الله من ملائكته أن يجمعوا له المؤمنين باسمه القدوس، والقاطعين عهده على ذبيحة الصليب المقدمة على مذبح الكنيسة، جسده ودمه الأقدسين، يجمعونهم من أرجاء المسكونة؛ ليدخلوا ملكوته السماوى، هؤلاء هم الذين عاشوا فى مخافة الله، وسلكوا بالتقوى كل أيام حياتهم.
- عندما يضم الله أتقياءه إلى ملكوته تخبر الملائكة الذين فى السموات بعدله فى مكافأته للأبرار بالحياة الأبدية. أما الأشرار فيبعدهم عنه فى الظلمة الخارجية، أى العذاب الأبدى. وهكذا يتم الله الديان دينونته لكل البشر.
- كلمة “سلاه” فى نهاية الآية هى وقفة موسيقية تدعونا للتأمل فى عدل الله، ومخافته؛ لنبتعد عن كل خطية، ونحفظ وصاياه.
ليتك تضع يوم الدينونة أمام عينيك كل يوم؛ لتستعد له بالتوبة، والصلوات، ومحبة كل من حولك، والتسامح مع الجميع.
(2) الله يطلب ذبائح التسبيح (ع 7-15):
ع7: 7- اسمع يا شعبي فأتكلم يا اسرائيل فأشهد عليك الله إلهك أنا.
ينادى الله شعبه بنى إسرايل؛ ليسمعوا له. ويظهر من ندائه عدة أمور :
- اهتمامه بتنبيه شعبه حتى لا يستمر فى خطاياه.
- رغم أن لهم خطايا، لكن قبل كل شئ هم شعبه الذى يهتم به.
- يذكرهم أنهم نسل إسرائيل (يعقوب) أى أبيهم المحبوب لديه، فيتشجعون بأنهم قريبون إلى قلب الله.
- أنه الإله الخصوصى لهم، الذى يرعاهم، إذ يقول “إلهك أنا”، فهم تحت رعايته وعنايته، فيثقون أنهم قريبين إلى قلبه ومحبوبون.
- يبدأ الله بالتشجيع وإظهار محبته لشعبه قبل أن يشهد على أخطائهم ويوبخهم عليها، فهو أسلوب لطيف لجذب السامعين للإستماع.
ع8: 8- لا على ذبائحك اوبخك فان محرقاتك هي دائما قدامي.
يشهد الله أن شعبه ملتزم بتقديم الذبائح والتقدمات التى تفرضها العبادة. وبالتالى لا يوبخهم الله عن أى تقصير فى العبادة، ولكنه يوبخهم على شكلية العبادة، التى لا تصاحبها مشاعر قلبية، مثل التوبة، والاتضاع ومحبة الله، والله يريد محبة شعبه، ومشاعره قبل العبادة الخارجية. فقد قبل الله ذبيحة هابيل لمشاعره الطيبة، ولم يقبل تقدمة قايين لشره، وفرح بفلسى الأرملة أكثر من كل عطايا الأغنياء.
ع9-13: 9- لا آخذ من بيتك ثورا و لا من حظائرك أعتدة.10- لأن لي حيوان الوعر و البهائم على الجبال الألوف. 11- قد علمت كل طيور الجبال و وحوش البرية عندي. 12- إن جعت فلا أقول لك لأن لي المسكونة و ملاها. 13- هل آكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس.
أعتدة : يقصد بها التيوس، أو الجداء.
الوعر : المكان المقفر، أو غير المأهول، أو الجبلى.
- يعلن الله عدم احتياجه أن يقدم له الإنسان ذبائح كثيرة كعبادة شكلية. فالله غير محتاج، إذ يملك كل الحيوانات التى خلقها، وتجرى على الجبال، وفى البرارى، وتطير فى السماء. والله لا يجوع ولا يحتاج لأنه كامل فى ذاته، ولكنه يطلب فقد قلب الإنسان ومحبته، وإن اقترنت بذبائحه تصير الذبائح مقبولة ومحبوبة من الله. فالله يفرح برؤية أولاده الآتين لعبادته، المحبين له.
- لعل هذه الآيات إشارة إلى أن الذبائح الحيوانية ستبطل، بعد أن قدم المسيح دمه على الصليب، وأصبح لا حاجة للذبائح الحيوانية التى كانت رمزاً لذبيحة المسيح.
ع14: 14- اذبح لله حمدا و اوف العلي نذورك.
- الله يطلب ذبائح الحمد، وهى الصلوات والتسابيح التى يقدمها الإنسان من القلب والشفاه، فالله يطلب محبة الإنسان، وليس العبادة الشكلية. وكذلك الأعمال الصالحة، وأتعاب الخدمة هى ذبائح حمد. وأعظم ذبيحة فى العهد الجديد هى ذبيحة الأفخارستيا أى الشكر، وهى التناول من جسد الرب ودمه.
- يفرح أيضاً الله بإيفاء النذور، لأنها تعبير محبة من الإنسان لله، وتعلن عدم تعلق الإنسان بالماديات وتعلقه بالله، بالإضافة إلى أن هذه النذور تساعد المحتاجين. وإيفاء النذور هو إتمام لمحبة الإنسان لله، وتنفيذ للوعود، وفى نفس الوقت تغرب عن العالم والماديات.
ع15: 15- و ادعني في يوم الضيق انقذك فتمجدني.
- إن كنت تحب الله بتقديم ذبائح الحمد وتقديم النذور، فهو يفتح بابه لك لتطلب منه ما تريد، خاصة أثناء الضيقات. وثق أن الله قادر أن ينقذك من أصعب الضيقات، فتشكره وتمجده.
- إن يوم الضيق هو يوم الدينونة الذى يلتجئ فيه الإنسان إلى الله؛ لينقذه من الهلاك، فيستجيب له؛ لأنه أحب الله طوال حياته بذبائح الحمد وإيفاء النذور، ويدخله إلى الملكوت؛ ليحيا مسبحاً الله إلى الأبد.
ليتك تعى وتفهم معانى صلوات القداس عندما تشترك فيها، فتعد قلبك، وتحركه فى طريق الحب، وإذ تتناول فى النهاية من جسد الرب ودمه تنال قوة وبركة، ويفرح بك الله.
(3) الله يوبخ رياء الأشرار (ع 16-23):
ع16: 16- و للشرير قال الله ما لك تحدث بفرائضي و تحمل عهدي على فمك.
- يعاتب الله الأشرار؛ لأنهم فى الشكل هم خدام الله، وفى الحقيقة قلوبهم شريرة، فهم فى مظهرهم قطعوا عهداً مع الله أن يكونوا له ويخدمونه، ولكنهم يتحدثون عن فرائض الله، بدون أن يكون الكلام نابع من قلوبهم؛ لأنهم لا يحيون فيها، وفى روحها، وبالتالى ليس لها تأثير على الآخرين، بل تبدو ثقيلة؛ لأن ليس فيها روح الله.
- لماذا يهتم بالإنسان بسماع رأى الآخرين فيه، ويهمل الأهم وهو رأى الله ؟! الأجدر به أن يسمع صوت الله فيه؛ ليغير ويصلح نفسه بالتوبة، ثم بعدما يتنقى يستطيع أن يحيا بوصايا الله، فيسهل عليه أن يعلم بها. وحينئذ يتحول عهد الله من كلمات على فمه إلى كلمات حية فى قلبه، وفى حياته، فيقبل الناس تعاليمه.
ع17: 17- و أنت قد أبغضت التاديب و ألقيت كلامي خلفك.
- يوبخ الله الخدام الذين لا يعملون بوصاياه، فيقول للخادم إنك قد أبغضت كلامى الذى يكشف ضعفاتك، ويطالبك بأوامرى لتحيا بها. فأنت قد أبغضت أن تتأدب بها وتنفذها، بل أهملتها، أى ألقيتها خلفك.
- إن هذا الخادم الشرير كان يقبل كلام الله السهل، أما وصايا الله الصعبة فكان يرفضها، ويهملها. فهو ليس أمينا فى خضوعه لكل كلام الله، بل يختار ما يعجبه منها، والخلاصة أنه يرفض التأديب، أى وصايا الله التى تؤدبه.
ع18: 18- إذا رأيت سارقا وافقته و مع الزناة نصيبك.
- عندما يهمل الإنسان وصايا الله يتعرى من البر، فيصبح من السهل أن يسقط فى أية خطية، وتجذبه إغراءها. فعندما يرى سارقاً يغريه بالاشتراك معه، يوافقه ويسرق معه. وإذا رأى زناة يلتصق بهم، ويزنى مثلهم.
- إن الخادم الذى لا يعمل بوصايا الله، ويتحدث بها فقط، هو غير أمين لهذه الوصايا، أى سارقاً لقوة كلمة الله، ولا يدعها تعمل فيه. وهو أيضاً خائناً لكلمة الله برفض العمل بوصايا الله، فيتكلم بلسانه بوصايا الله، أما قلبه فمنشغل بانشغالات العالم ومتعلقاً بها، وهذا ما يسمى بالزنى الروحى، فهذا يستحق توبيخ بولس الرسول فى (رو2: 21-24).
ع19، 20: 19- اطلقت فمك بالشر و لسانك يخترع غشا. 20- تجلس تتكلم على اخيك لابن امك تضع معثرة.
- خطية أخرى يسقط فيها الخادم الشرير، وهى التكلم بالشر وبالغش وبالكذب؛ كما فعل اليهود مع المسيح، فاتهموه اتهامات زور باطلة. لأن الشرير يتكلم بما فى داخله، أى بالشر؛ لأنه من فضلة القلب يتكلم الفم (مت12: 34).
- تزداد بجاحة الشرير، فيسئ بكلامه الشرير إلى إخوته وبنى أمه. ويقصد بالإخوة كل البشر، وبنو الأم القريبين منه، مثل المسيحى الذى يسئ إلى المسيحيين، أو أقاربه فى الجسد. وبهذا يسئ للكل بلا ضوابط، أو حدود، أى أن الشر قد سيطر عليه.
ع21، 22: 21- هذه صنعت و سكت ظننت اني مثلك اوبخك و اصف خطاياك أمام عينيك. 22- افهموا هذا يا أيها الناسون الله لئلا افترسكم و لا منقذ.
- يوبخ الله الشرير بأنه يصنع خطايا كثيرة، والله ساكت ويطيل أناته؛ ليعطيه فرصة للتوبة. ولكن الغريب أن الشرير يظن أن هذا ضعف من الله، أو أن الله موافق على شره “ظننت أنى مثلك”.
- يهدد الله الشرير أنه إن لم يتب فلا ينتظره إلا عقاب يوم الدينونة، الذى فيه يصف الله خطاياه أمام عينيه، أى يشهر به، ويفضح خطاياه أمام كل البشر. وكذلك يفترسه ولا يستطيع أحد أن ينقذه من يد الله. والمقصود أن الله بعد أن يدين الشرير يلقيه فى العذاب الأبدى، الذى لا يستطيع أحد أن يشفع فيه، ولا يخرج من العذاب إلى الأبد، والله يقصد بهذا التهديد أن ينبه الشرير لعله يتوب. وقد يستخدم الله هذا الافتراس أثناء الحياة، عن طريق التجارب لتدعو الشرير للتوبة، كما افترس شعبه بالسبى الأشورى والبابلى.
ع23: 23- ذابح الحمد يمجدني و المقوم طريقه أريه خلاص الله
- يختم المزمور بمدح الأبرار الذين يقدمون ذبائح الحمد، وهى ذبائح الشفاه التى تسبح الله، أو الذين يجاهدون ضد الخطايا، ويرفعون الصلوات الكثيرة فى أتعاب وأسهار وهذه كلها ذبائح حمد؛ بالإضافة لكل الأعمال الصالحة والخدمة، وأيضاً كل تنازل وطاعة وتجرد، فهى ذبح الإنسان لمشيئته وخضوعه لله. فذبائح الحمد هى بالكلام، وبالأعمال أيضاً.
- يمدح الله أيضاً البار الذى يقوم طريقه عن طريق التوبة، والجهاد الروحى لتغيير سلوكه واكتساب الفضائل. وبهذا الجهاد يمجد الله؛ لأنه يسعى نحو الملكوت، ويتخلص من شهوات العالم وانشغالاته.
كن مطيعاً لوصايا الله، واخضع لها، مهما كلفتك من تعب، واثقاً أن الله سيسندك فى تنفيذها. وإن سقطت قم سريعاً، وكذلك أشكر الله على كل عطاياه، فيفرح قلبك، وتتقدم نحو الملكوت.