تسبيح الله على إحساناته
لإمام المغنين . مزمور لداود . تسبيحة
“لك ينبغى التسبيح يا الله فى صهيون ..” (ع1)
مقدمة:
- كاتبه : داود النبى.
- متى كتب ؟ غير معروف بالتحديد، ويرى البعض أن داود كتبه عندما أصعد تابوت عهد الله من بيت عوبيد أدوم الجتى، الذى ظل فيه ثلاثة أشهر (2صم6: 13-16).
- هذا المزمور ليتورجى، كان يردده بنو إسرائيل فى عيد الباكورة (لا23: 9-12)، حيث تكتسى الحقول بالقمح (ع13). والكنيسة تصلى العددين الأول والثانى منه فى عيدى الصليب وأحد الشعانين؛ لأن بالصليب والخلاص فتح المسيح الباب لكل العالم؛ ليؤمنوا به، ويسبحوه. وكذلك فى صلوات الجناز يقال (ع4) وأيضاً فى عيد النيروز تصلى (ع11).
- يعتبر هذا المزمور من المزامير المسيانية؛ لأنه نبوة عن المسيح المخلص، الذى يغفر خطايا الذين يؤمنون به (ع3).
- هذا المزمور يقدم مع الثلاثة مزامير التالية له تسبيحاً، وشكراً لله، ويوجد كلمتى مزمور وتسبيحة فى العنوان.
- لا يوجد هذا المزمور فى صلوات الأجبية.
(1) تسبيح المخلص (ع1-4)
ع1: 1- لك ينبغي التسبيح يا الله في صهيون و لك يوفى النذر.
- يعلن داود أن الله مستوجب التسبيح فى صهيون، حيث هيكله العظيم، وهناك توفى النذور لله، أى العبادة وتقدمات المحبة، وتتم الوعود المقدمة لله؛ لأنه إله قادر على كل شئ، وهو وحده المخلص للإنسان، ومحبته ورعايته تستحق أن نشكره عليها ونسبحه.
- صهيون يقصد بها التل المرتفع، المبنى عليه أورشليم، فالتسبيح يرفعنا إلى السماويات، فنحيا فى روحانية تسمو على أفكار العالم الشريرة، ونقدم التسبيح فى كنيسة العهد الجديد تمهيداً لتقديم التسبيح الدائم فى أورشليم السماوية.
- حاول البابليون أن يجعلوا اليهود يسبحون لله فى بابل، فرفضوا؛ لأن التسبيح والعبادة لا تكون إلا فى أورشليم فى هيكل الله، أى فى صهيون. ولعل اليهود وهم فى السبى كانوا يقولون هذه الآية؛ أن التسبيح ينبغى أن يكون فى صهيون فقط، وليس فى أى مكان آخر؛ إذ لا يوجد إلا إله واحد هيكله فى صهيون.
ع2 : 2- يا سامع الصلاة إليك يأتي كل بشر.
- إذ قدم داود، وكل المؤمنين تسابيحهم فى صهيون، سمع الله واستجاب لهم، وهذا شجع البشر فى العالم كله أن يؤمنوا بالله، ويصلوا له، ويسبحوه. وهذه نبوة واضحة عن إيمان الأمم، فرغم أن اليهود كانوا يرفضون هذا الأمر، إلا أن داود – كإنسان روحانى – كشف له الله إيمان الأمم.
- استماع الله للصلوات يظهر محبته للبشر، وكذلك تمنيات داود أن يأتى إلى الله كل بشر يظهر اتساع قلب داود، ومحبته للأمم؛ لأن داود قد امتلأ قلبه بمحبة الله لكثرة صلواته.
ع3 : 3- آثام قد قويت علي معاصينا أنت تكفر عنها.
يعتبر داود أن خطاياه قد ثقلت عليه؛ لأن حمل الخطية هو أثقل حمل يعانى منه الإنسان. لكن داود أسرع لله بالتوبة، واعترف بخطاياه، وبمعاناته منها. وفى نفس الوقت أعلن إيمانه بأن الله هو وحده القادر أن يكفر عن هذه الخطايا، ويسامح عنها. وهذه نبوة واضحة عن المسيح الفادى الذى يكفر عن خطايانا.
ع4: 4- طوبى للذي تختاره و تقربه ليسكن في ديارك لنشبعن من خير بيتك قدس هيكلك.
تظهر محبة الله فى تقديمه المجد السماوى لمن يؤمن به، ويصلى إليه، ويسبحه، ويعترف بخطاياه. ويبين داود النبى أن المجد السماوى يعطى للمختارين، أى الذين آمنوا بالله، فيقربهم الله إليه على الأرض، ويمتعهم ببركاته من خلال عبادتهم له فى هيكله، ويشبعهم بمحبته. وهذا الإشباع رمزاً لما يقدمه المسيح فى كنيسته للمؤمنين به، حيث يعطيهم ثمار ومواهب الروح القدس، ويشبعهم بأسراره المقدسة، ووسائط النعمة. وكل ما ينالونه فى الكنيسة هو أيضاً عربون لما سيتمتعون به إلى الأبد فى الملكوت؛ ولهذا تودع الكنيسة أحباءها المنتقلين وتتلو هذه الآية فى صلاة الجناز.
إن الخلاص العظيم الذى أتمه المسيح عنا على الصليب، ويقدمه لنا فى الكنيسة على المذبح كل يوم، جسداً ودماً حقيقيين يستحق منك الشكر، والتسبيح كل يوم. وعندما تشكر يزداد تمتعك ببركات وعطايا الله فى كل وقت.
(2) تسبيح القدير (ع5-8)
ع5: 5- بمخاوف في العدل تستجيبنا يا إله خلاصنا يا متكل جميع أقاصي الأرض و البحر البعيدة.
- ظهر عدل الله المخوف عندما قدم الآب أعظم عطية للعالم، ببذل ابنه الوحيد على الصليب. وهذا العدل كان مخيفاً للشياطين الذين قيدهم المسيح بصليبه، وبهذا العدل استجاب الله لأولاده المعترفين له بخطاياهم، ووهبهم خلاصه. وعندما رأى العالم عدل الله المخوف خافوا، وآمنوا به؛ لأنهم رأوا معجزاته وقوته، إذ مجد المعترفين باسمه، وأهلك الخطاة، مثل حنانيا وسفيرة (أع5: 1-11) فهو مخلص أولاده، مثل الرسل الذين قواهم، فخافهم العالم، رغم ضعفهم الشخصى، ونشروا الكرازة فى المسكونة كلها، فاتحين باب الخلاص بالمسيح لكل من يؤمن به.
- أما خلاص الله العجيب، وعدله المخوف فقد شعرت به الأمم وأنه لا إله إلا هو وحده، فآمنوا به واتكلوا عليه، غير مضطربين لأجل هيجان الأشرار، أو تقلبات الحياة.
ع6: 6- المثبت الجبال بقوته المتنطق بالقدرة.
المتنطق : الذى يربط منطقة، وهى حزام يوضع على الوسط.
- تظهر قوة الله فى أنه يثبت الجبال، وهى أقوى وأرسخ شئ على الأرض، أى أنها ثابتة لا تتزعزع. وأيضاً هو مثبت الجبال المعنوية، والمقصود أولاده القديسين، مثل الرسل، والشهداء، وآباء الرهبنة الذين صمدوا أمام كل حروب إبليس. وعلى العكس كل إنسان اعتمد على قوته، مثل ملوك الأرض، والممالك العظيمة تعرضت كلها للزوال والانقلاب.
- الله قادر على كل شئ، ويشبهه داود برجل قد تنطق بالقدرة، فمن يستعد لأى عمل يتنطق بملابسه استعداداً للعمل، أما الله فله القدرة الكاملة على كل شئ، ولا يعثر عليه أمر، وبالتالى فهو قادر على خلاصنا.
- إن كان الله هو مثبت الجبال والمتنطق بالقدرة، فكل من يؤمن به، ويتمسك بوصاياه يكون ثابتاً مثل الجبل ويتنطق بقوة الله، فيصير له قدرة على عمل أعمال عظيمة، وينتصر على الشيطان.
ع7: 7- المهدئ عجيج البحار عجيج أمواجها و ضجيج الأمم.
عجيج : الصوت العالى للأمواج المتلاطمة.
ضجيج : الضوضاء والصياح.
- تظهر قدرة الله فى تهدئة الأصوات العالية، الناتجة من تلاطم الأمواج، والتى ترعب ركاب السفن؛ لأنها تهددهم بالغرق. والبحار ترمز للعالم، وعجيج أمواجها هو الأصوات العالية الخارجة من اضطرابات وتقلبات العالم، هذه يهدئها الله فى آذان أولاده، فلا ينزعجون منها. وكذلك ضجيج الأمم، أى كبرياء وهيجان الناس على أولاد الله، ويتدخل فيهدئ قوة الشر، ويحمى أولاده. والله يسمح بهيجان العالم، فهذه طبيعته، ولكن يتدخل ليحمى أولاده، فيحيون فى أمان وسلام وسط الاضطرابات؛ لرعايته وقوته.
- هذا ما فعله المسيح عندما هاجت الأمواج، وكادت تغرق السفينة التى كان يركبها مع تلاميذه، وقام من نومه، وأمر الرياح والأمواج أن تهدأ فأطاعته، كل هذا بسلطان لاهوته.
ع8: 8- و تخاف سكان الأقاصي من آياتك تجعل مطالع الصباح و المساء تبتهج.
- أمام آيات الله، مثل الضربات العشر، وشق البحر الأحمر (خر7-14) تنظر الأمم، فتخاف الله إله إسرائيل، حتى أن بعضهم آمن وانضم إلى شعب الله، مثل راحاب (يش6: 25). والآية العظمى هى تجسد المسيح، وفداؤه، كما أعلن أشعياء النبى
(اش7: 14). - الطبيعة كلها تفرح بخالقها، ومدبرها، ويختار داود منها الشمس فى مطلع الصباح عندما تشرق، ووقت المساء عندما تغرب. والمساء يرمز لوقت الصليب وموت المسيح ودفنه، ومطلع الصباح يرمز لقيامته. كما يرمز الصباح والمساء إلى المشرق والمغرب، أى العالم كله، أى أن المسيح بفدائه وقيامته أبهج العالم كله فى الشرق والغرب.
تأمل قدرة الله فى الطبيعة، وفى الكتاب المقدس، فتشعر بعظمته. وهذا يولد فيك مخافته، ومحبته، فتقودك المخافة إلى التوبة عن خطاياك، وتقودك المحبة إلى الالتصاق به، والتمتع بعشرته من خلال الصلوات والقراءات.
(3) تسبيح الراعى (ع9-13)
ع9: 9- تعهدت الأرض و جعلتها تفيض تغنيها جدا سواقي الله ملآنة ماء تهيء طعامهم لأنك هكذا تعدها.
- تظهر رعاية الله للإنسان فى اهتمامه بالأرض المزروعة التى تشبع الإنسان، فيعطيها الماء من الأنهار، والينابيع لتروى زرعها. وهذه المياه وفيرة حتى أنها تملأ السواقى التى تروى الأرض، فلا يحتاج الإنسان، ولا يجوع. وتعهد الله للأرض يطمئن الإنسان أن حياته فى يد الله الذى يرعاه. ونرى فى الشرق أنهاراً عظيمة، مثل النيل، والأردن، ودجلة والفرات، ولو نقصت المياه فى هذه الأنهار، فإن الصلاة إلى الله تجعله يملأها، كما حدث فى مصر فى بداية القرن التاسع عشر، أيام محمد على، عندما صلى البابا بطرس الجاولى. هذه المياه ترمز لعمل الروح القدس، الذى يروى المؤمن، أى الزرع فيثبت فى الأرض، أى الكنيسة، ويحيا مع الله.
- إعداد الله للأرض لا يقتصر على مياه الأنهار، بل أيضاً يعد الأرض، ويرويها بالأمطار كما فى أرض كنعان، فيعطى الله أولاده المطر المبكر، والمتأخر؛ لتسقى النباتات، فيأكلون طعامهم بوفرة. ونرى فى الأمطار بركات السماء، التى تهيئ طعام أولاده، ليس فقط المادى، بل بالأحرى الروحى، فيشبعهم دائماً بمحبته، وعشرته، فيتعلقون به، ويتكلون عليه.
ع10: 10- إرو أتلامها مهد أخاديدها بالغيوث تحللها تبارك غلتها.
أتلامها : جمع تلم وهو شق المحراث فى الأرض؛ لتوضع فيه البذور.
أخاديدها : جمع أخدود، وهو شق مستطيل فى الأرض، ويحتاج من الفلاح تسويته حتى يستطيع أن يزرع الأرض.
الغيوث : الأمطار.
غلتها : محاصيلها مثل القمح، والشعير ..
- إن الله فى اهتمامه بطعام الإنسان يهتم بالأرض المزروعة، فيمهد الأرض، ويجعلها مستوية، وتتخلص من أخاديدها، وتصبح صالحة للزراعة. وعندما يشقها المحراث، ويجعل فيها أتلاماً، ويضع فيها الفلاح البذار يرويها الله بالأمطار، ويحلل كتل الطين، أى يفتتها، فتنمو الزروع فيها، وتعطى غلتها بوفرة ببركة الله، لإشباع احتياجات الإنسان الجسدية.
- وهكذا أيضاً يهتم الله بالنفس، فيمهدها، أى يزيل نتائج الخطايا منها، ويجعلها مستوية، ويحللها أى يفحصها بالتوبة ومحاسبة النفس، ثم يرويها بمياه الروح القدس، ويغذيها بجسده ودمه، فتنمو روحياً، وتثمر، ويبارك هذه الثمار الروحية.
ع11: 11- كللت السنة بجودك و آثارك تقطر دسما.
- وهكذا نرى جود الله، ومراحمه يبارك السنة كلها بكل المحاصيل المزروعة فيها، سواء الشتوية أو الصيفية. وتمتلئ الأرض من الخضرة التى تتغذى عليها الحيوانات، وتظهر آثار بركة الأرض المزروعة فى حيوانات تعطى ألباناً ولحوماً مملوءة دسماً.
- الله أيضاً يكلم الإنسان الروحى بمراحمه وجوده طوال السنة، أى طوال عمره، ويحفظه، وينميه، ويباركه، وكذلك تظهر آثار رعايته له، فيعطيه نعمة فى أعين من حوله، ويكون قدوة للآخرين، فيؤثر فيهم. وهكذا يظهر دسم عمل النعمة فيه.
ع12: 12- تقطر مراع البرية وتنطق الآكام بالبهجة.
تقطر : تفيض.
الآكام : التلال.
- إذ يبارك الله الأرض يهتم بكل أنواعها، فالسهول، أو الأودية التى فى البرية يعطيها زرعاً تأكله الحيوانات، فتصير مراعى، وإذ تشبع هذه الحيوانات تعطى دسماً من لحوم وألبان. وكذلك الآكام تمتلئ بالمراعى، وتتغذى عليها الحيوانات، فيصير الكل فى بهجة وفرح.
- ترمز سهول البرية للمتضعين وكل المؤمنين، أما الآكام فترمز للمتقدمين روحياً، المرتفعين نحو السماء، أى أن كل المؤمنين يفرحون. وترمز أيضاً البرية إلى الأمم التى كانت قفراً، وامتلأت بالخضرة بنعمة الله، والآكام ترمز لليهود الذين عرفوا الله، وارتفعوا إليه من أيام الآباء، فعندما آمنوا بالمسيح فرحوا، وابتهجوا.
ع13: 13- اكتست المروج غنما و الأودية تتعطف برا تهتف و أيضا تغني
المروج : المراعى الخضراء.
تتعطف : تلبس معطفاً (بالطو) أى تكتسى.
براً : قمحاً.
- يواصل داود النبى وصف بركات الله الذى يرعى شعبه، فيبارك فى أرضه، ويجعل المروج تمتلئ وتكتسى بالأغنام، وكذلك الأودية أيضاً تكتسى بالقمح. فالإنسان والحيوان يأكلان، وبالتالى يهتف الكل فرحاً؛ لأنه فى شبع ويشكر الله.
- الأغنام ترمز للمتقدمين روحياً، والأودية ترمز للمبتدئين؛ الكل يكتسى ويشبع ويشكر الله، فيسبحه ويمجده فى فرح.
ليتك تشكر الله كل يوم على عطاياه، وبركاته لك، الروحية والمادية، فيطمئن ويفرح قلبك، بل تزداد عطايا الله لك، فتصير نوراً للعالم تدعوهم دون أن تتكلم إلى الحياة مع الله، إذ يرون فى حياتك الهدوء، والسلام، والسعادة.