الله منقذ الأبرار ومنتقم من الأشرار
“يا إله النقمات يا رب إله النقمات أشرق” ع1
مقدمة :
- كاتبه : هناك رأيان :
أ – ليس لهذا المزمور عنوان فى النسخة البيروتية، فيعتبر من المزامير اليتيمة؛ أى التى بلا عنوان.
ب – فى الترجمة السبعينية لهذا المزمور عنوان ويذكر أنه لداود.
- فى عنوان الترجمة السبعينية يذكر أن هذا المزمور فى “اليوم الرابع” فكان يتلى فى اليوم الرابع فى خيمة الاجتماع، أو هيكل سليمان. ولعل هذا المزمور نبوة عن انتقام الله من يهوذا الأسخريوطى، الذى خان المسيح، وتآمر مع اليهود لتسليمه فى اليوم الرابع.
- موضوع هذا المزمور هو تضايق شعب الله من مضايقيهم، ويطلبون من الله أن ينقذهم، فهم مسالمون لا ينتقمون ممن يضايقهم، ولكن يطلبون تدخل الله.
- يظهر من هذا المزمور أن الله لا يمنع التجارب عن أولاده، ولكنه يستمع باهتمام إلى صلواتهم، ويعزيهم، ويعاقب مضايقيهم.
- لا يوجد هذا المزمور فى صلاة الأجبية.
(1) صراخ إلى الله لينتقم من الأشرار (ع1-7):
ع1: 1- يا إله النقمات يا رب يا إله النقمات أشرق.
- يكرر كاتب المزمور تعبير إله النقمات مرتين، ويعنى به الإله العادل الذى يجازى كل أحد بحسب أعماله، فهو دليل على احتياجه الشديد لتدخل الله لأنه مظلوم. وقد يكون هذا التكرار نبوة عن مجئ المسيح مرتين الأولى فى تجسده لينتقم من الشيطان، ويقيده على الصليب، والمجئ الثانى ليدين العالم، ويلقى الشيطان وكل أتباعه الأشرار فى العذاب الأبدى.
- ينادى الله ليشرق لأنه شمس البر، ويطلب منه أن يضئ المسكونة بعدله ليظهر البار ويكافئه، والشرير فيعاقبه. والإشراق هذا نبوة أيضاً عن تجسد المسيح؛ ليضئ العالم بقداسته وفدائه.
ع2: 2- ارتفع يا ديان الأرض جاز صنيع المستكبرين.
- يطلب كاتب المزمور من الله الديان الوحيد للأرض كلها أن يرتفع؛ أى يظهر رفعته وعظمته كديان تخضع له كل الشعوب، وحينئذ يخاف كل المستكبرين ويجازيهم الله على كبريائهم، ويطمئن كل الأبرار المظلومين بأن الله الديان سيتدخل وينصفهم من الأشرار المستكبرين الذين يضايقونهم.
- ارتفاع الله الديان هو نبوة عن الصليب، فعندما ارتفع المسيح على الصليب جازى المستكبرين أى الشياطين، فقيدهم بموته.
ع3: 3- حتى متى الخطاة يارب، حتى متى الخطاة يشمتون.
يشعر المظلومون بطول مدة ظلمهم ويعاتبون الله على طول أناته على الخطاة، الشامتين بهم عندما يرون المظلومين فى ضيقة. وينسى المظلومون أن الله يطيل أناته عليهم، ويفرحون بهذا. فهذه الآية تعبير عن احتياج المظلومين الشديد والسريع لنجدة الله. والله بالطبع سيرفع عنهم الضيقة. وإن تأخر لحكمته فهو يعزيهم ويعطيهم سلاماً.
ع4: 4- يبقون يتكلمون بوقاحة كل فاعلي الإثم يفتخرون.
يبقون : يتكلمون كثيراً، والمقصود هنا يتكلمون كلاماً ردياً كثيراً.
- الأشرار يتكلمون كلاماً ردياً دون أدب، أى بوقاحة على البار وعلى الله نفسه. كل هذا لأنهم متكبرون ولا يخجلون من خطاياهم، بل على العكس يفتخرون بها، ولذا فكاتب المزمور يستنجد بالله ليوقف هذا الشر.
- هذه الآية نبوة عما سيفعله اليهود بالمسيح عندما يتهمونه باتهامات باطلة وبكبرياء يشتمونه وهو احتمل كل هذا لأجلنا.
ع5: 5- يسحقون شعبك يا رب و يذلون ميراثك.
يتمادى الأشرار فى شرهم، فيسحقون أولاد الله، أى الأبرار فيحطمونهم، ويضعفونهم حتى يقودونهم إلى اليأس، ولا يستطيعون أن يقاوموهم. ثم يذلونهم بإسقاطهم فى الشهوات، ثم تعييرهم بانهم أصبحوا أشراراً؛ حتى ييأسوا. وكل هذا موجه لله شخصياً، إذ أن الشيطان يسىء إلى الله من خلال أولاده؛ لأنه يقول “شعبك .. ميراثك ..” وبهذا يستثير كاتب المزمور الله ليستدر مراحمه، فيتدخل وينقذ أولاده.
ع6: 6- يقتلون الأرملة و الغريب و يميتون اليتيم.
- تظهر شناعة شرور الأشرار فى استغلالهم لضعف بعض البشر، مثل الأرملة والغريب واليتيم ليقتلونهم، فهو تمادى فى الشر.
- هؤلاء الأشرار هم الهراطقة الذين يستغلون البعض الذين يرمز إليهم بالأرامل؛ إذ ليس لهن سند، أو اتكال على الله، فيسهل اسقاطهن فى الشهوات الشريرة. أما الغريب فهو الذى ليس له استقرار فى عشرة الله، أى أن علاقته بالله ضعيفة ويسهل قتله روحياً بإبعاده عن الله، وإسقاطه فى الهرطقة. وأخيراً اليتيم الذى يرمز لحديث الإيمان ويمكن تشكيكه فيتزعزع ويبعد عن الله. وهذا ما فعله الكتبة والفريسيون ووبخهم المسيح فى (مت23) ليتوبوا.
ع7: 7- و يقولون الرب لا يبصر و إله يعقوب لا يلاحظ.
إذ يفعل الأشرار الخطايا السابقة ولا يعاقبهم الله يتهمونه بأنه لا يبصر ولا يلاحظ، متناسين أنه طويل الأناة، ويعطيهم فرصة للتوبة. وعندما يوهمون أنفسهم بهذا يتمادون فى خطاياهم، فيستحقون العقاب الإلهى فى النهاية.
لا تتمادى فى تهاونك وخطاياك واحترس لأن الله طويل الأناة ولكنه عادل، وارجع بالتوبة إليه، فهو حنون فيسامحك.
(2) الله سامع شكوى الأبرار (ع8-15):
ع8: 8- افهموا أيها البلداء في الشعب و يا جهلاء متى تعقلون.
البلداء والجهلاء هم الأشرار الذين يتناسون وجود الله، فيتمادون فى خطاياهم، يضاف إليهم الأبرار الضعفاء فى الإيمان الذين من كثرة التجارب يتشككون فى إيمانهم بالله. فكاتب المزمور يستثيرهم لكى يفهموا ويؤمنوا، ويخضعوا لله.
ع9: 9- الغارس الأذن ألا يسمع الصانع العين ألا يبصر.
يقدم كاتب المزمور أمثلة بسيطة يسهل على الأطفال والبسطاء أن يفهموها؛ ليثبت أن الله يعرف كل شئ عن الإنسان، ويلاحظ كل ما يتم فى العالم، فيقول هل من يخلق الأذن، ويعطيها قدرة على السمع هو نفسه لا يسمع؛ ومن يخلق العين، ويعطيها قدرة على الإبصار ألا يبصر، ويرى كل شئ !
ع10: 10- المؤدب الأمم ألا يبكت المعلم الإنسان معرفة.
- ثم يقدم كاتب المزمور دليلاً آخراً منطقياً؛ لإثبات قدرة الله، ومعاينته لكل شئ، فيقول إن كان الله يؤدب الأمم البعيدين عن الإيمان به ألا يوبخ الجهلاء من شعبه؛ ليدعوهم إلى التوبة ! فهو وإن كان يطيل أناته على البشر الأشرار فذلك لكى يتوبوا، ومن ناحية أخرى ليكمل تأديبه لأولاده بواسطة هؤلاء الأشرار ليتوب أولاده. ومن هذا يظهر أن الله يراقب ويعتنى بكل البشر سواء يهود، أو أمم مؤمنين، أو غير مؤمنين، فالكل خليقته.
- إن الله يعلم الإنسان معرفة وذلك بما يلى :
أ – يعلم شعبه وصاياه ليعرفوه ويثبتوا فى إيمانهم.
ب- يعلم غير المؤمنين به معرفته عن طريق الضمير، وهو صوت الله فيهم، حتى يقودهم إلى الإيمان، ويتركوا خطاياهم.
ع11: 11- الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة.
الله يعرف أن معظم البشر لا يؤمنون به، أو حتى كثيرمن أولاده منشغلين عنه بالأمور المادية، وبالتالى فأفكارهم مرتبطة بالشهوات الأرضية، فهى أفكار باطلة لا توصلهم للملكوت، ومع هذا فالله يطيل أناته عليهم ليتوبوا، وقد يؤدبهم ليرجعوا إليه، فيغيروا أفكارهم، ويرتفعوا من الماديات إلى الروحيات ويسعوا نحو الله والوجود معه.
ع12، 13: 12- طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب و تعلمه من شريعتك. 13- لتريحه من أيام الشر حتى تحفر للشرير حفرة.
على الجانب الآخر يطوب المزمور الإنسان البار الذى يؤدبه الرب بأن يسمح له بتجارب حتى يتعلم شريعة الله، ويتمسك بإيمانه، ويبتعد عن الشر. وبهذا يحميه الله من أيام الشر؛ أى الهلاك الأبدى، وهى الحفرة، أو الهوة التى يسقط فيها الأشرار؛ أى الجحيم والهاوية. فالتأديب المؤقت الذى يحتمله البار فى هذه الحياة يبعده عن الخطية، ويلصقه بالله، ويوصله للملكوت. بالإضافة إلى أن الله يسنده أثناء ضيقات الحياة ويعزى قلبه.
ع14، 15: 14- لأن الرب لا يرفض شعبه و لا يترك ميراثه. 15- لأنه إلى العدل يرجع القضاء و على أثره كل مستقيمي القلوب.
مما سبق يظهر عدل الله الذى لا يترك أولاده فى الضيقات ويهملهم، بل ويساندهم ويعزيهم ويعوضهم بعد هذا فى الملكوت. وبهذا يظهر كمال العدل بعد هذه الحياة، عندما ينتقل الأبرار إلى فردوس النعيم، ثم ملكوت السموات. وهذه هى آثار العدل التى يتمتع بها المستقيمون، أى أفراح الملكوت.
لا يضطرب قلبك مما يمر بك من ضيقات، فهى ضرورية لتقويم حياتك، وإعدادها للملكوت، وثق فى مساندة الله لك، فهو يحميك من الشيطان، وينصرك فى النهاية، ويعوضك بما لم تره عين، أى أمجاد الملكوت.
(3) الله معزى الأبرار ومعاقب الأشرار (ع16-23):
ع16، 17: 16- من يقوم لي على المسيئين من يقف لي ضد فعلة الإثم. 17- لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعا أرض السكوت.
- يستنجد البار فى ضيقته طالباً معونة وإنقاذ من أيدى الأشرار الذين يسيئون إليه ولا يجد؛ لأن فى الضيقة يتفرق الناس عن المتضايق، ولكنه يرى رجاءه فى الله الذى لا يتركه حتى لو تركه الجميع، ويرسل له من يعينه، كما أرسل يوناثان لداود لينقذه من يدى شاول (1صم19: 1-7) وأرسل أيضاً عبد ملك لإرميا لينقذه من الجب؛ حتى لا يموت (إر38: 7-13)، وإن لم يرسل الله إنساناً يعطى قوة للذى فى التجربة وسلاماً داخلياً ويقويه كما فعل مع بولس.
- الله المعين يظهر فى تجسد المسيح الفادى ليخلص المؤمنين به من أيدى المسيئين وفاعلى الإثم، أى الشياطين. ويحرر أولاده من أرض السكوت؛ أى القبور والموت، فلم يترك أولاده يذهبون إلى الموت الأبدى، بل حررهم وأصعدهم من الجحيم إلى الفردوس.
ع18: 18- إذ قلت قد زلت قدمي فرحمتك يا رب تعضدني.
يطمئن البار أنه وإن كان ضعيفاً كإنسان ومعرض للسقوط فى الخطية مهما كانت كبيرة، أو خطيرة فلإيمانه بالله يثق أن رحمته تسانده؛ إذ تدعوه للتوبة، ثم تغفر له خطيته. وهذا يعنى أمرين :
- إعلان البار باتضاع ضعفه وحاجته لله.
- إيمانه برحمة الله الواسعة التى تسنده وتنقذه من أية خطية.
ع19: 19- عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي.
يستكمل البار كلامه فيعلن أنه إذا زادت الهموم والضيقات الآتية عليه وكثرت جداً فإن الله لا يتركه وحده، بل يعزى قلبه بتعزيات لذيذة لا تعطيه فقط سلاماً، بل تلذذ وتنعم بعشرة الله حتى تنسيه آلامه، بل إن هذه التعزيات تفوق كل تعزيات الأرض والبشر. وعلى قدر ما يلتجئ المؤمن لله فى ضيقته بصلوات متضعة وإلحاح، على قدر ما ينال تعزيات عظيمة جداً، وعلى قدر إيمانه ينال بركات تفوق العقل، كما حدث مع الثلاثة فتية فى أتون النار عندما رأوا الله، وكما تمتع يوحنا بالرؤيا وهو منفى فى جزيرة بطمس، وكذلك اسطفانوس الذى رأى المسيح فى مجده وهو يرجم.
ع20، 21: 20- هل يعاهدك كرسي المفاسد المختلق إثما على فريضة. 21- يزدحمون على نفس الصديق و يحكمون على دم زكي.
يسأل كاتب المزمور سؤالاً استنكارياً فيقول لله : هل من المعقول أن يتفق معك، ويصنع معك معاهدة الأشرار المتسلطون فى العالم ؟ ويجلسون على كرسى الحكم والرئاسة والقدرة، ولكن أفعالهم كلها فاسدة وشريرة، ومن كثرة مفاسدهم يجعلون الشر فريضة وقانون ويحكمون بهذا القانون على البار، كما فعلوا مع المسيح وصلبوه، وكما حكموا على الرسل بالجلد، والقتل. والإجابة بالطبع لا يتفق هؤلاء الأشرار مع الله، فهم فى كبريائهم يشعرون بسلطانهم فى العالم، وينسون الله، فيسيرون سريعاً فى طريق الهلاك الأبدى، بل فى كبريائهم هذا، حتى لو تذكروا الله، يتحدونه ويقفون نداً له ويرفضون التوبة عن مفاسدهم وظلمهم للأبرار، فبتحديهم لله يرفضون معاهدة الله؛ أو الخضوع له بل يعاندونه.
ع22، 23: 22- فكان الرب لي صرحا و إلهي صخرة ملجأي. 23- و يرد عليهم إثمهم وبشرهم يفنيهم يفنيهم الرب إلهنا.
صرحاً : بناءً عظيماً مرتفعاً.
- يختم كاتب المزمور كلامه بأن الله هو حصنه وملجأه العظيم الذى يحتمى فيه من الأشرار ومن كل الضيقات التى تمر به. ويقرر أيضاً أن الله سيعاقب الأشرار ويبيدهم بإلقائهم فى العذاب الأبدى. ويأتى بنتائج شرهم على رؤوسهم؛ أى يعاقبون على كل شر عملوه.
- المسيح إلهنا بتجسده وفدائه هو ملجأنا وصخرتنا القوية التى تنقذنا من كل شر ومن كل ضيقة، فترفعنا فوق الآلام، فنشعر بسلام وراحة داخل الضيقة، ثم ترفعنا إلى أمجاد السماء.
- بدأ المزمور بأن الله هو إله النقمات فى (ع1) وينتهى بأنه يفنى الأشرار فى (ع23) فهو إله عادل. وفى نفس الوقت بعدله يكافئ أولاده الأبرار بتعزيات لذيذة (ع19)، ثم أمجاد فى السماء (ع15).
ليطمئن قلبك عندما ترى الظلم ينتشر حولك، أو تأتى عليك إساءات دون أن تخطئ فى شئ، فالله عادل يعوضك عن كل أتعابك إن صبرت فى رضا وشكر وثبات فى علاقتك معه، ويسندك، ثم يمتعك بعشرته إلى الأبد.