شكر الله الذى يرعى أتقياءه
لداود عندما غير عقله قدام أبيمالك فطرده فانطلق
“أبارك الرب فى كل حين…” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : هو داود النبى.
- متى كتبه ؟ عندما كان هارباً من وجه شاول فذهب إلى ملك مدينة جت الفلسطينية وهو “أخيش”، أو أبيمالك (وهو لقب لملوك الفلسطينيين مثل ملك جرار (تك20: 2))، فأشار عليه عبيده أن يقبض على داود؛ لأنه عدوهم، فتظاهر داود بالجنون، فأهمله أخيش وذهب داود بعد ذلك إلى مغارة عَدُلاَّم (1صم21: 10-14) وشكر الله على نجاته.
- كتب هذا المزمور على الحروف الهجائية لللغة العبرية، فتبدأ كل آية بحرف من هذه الحروف.
- يعتبر هذا المزمور آخر مزامير الشكر الخمسة التى بدأت من مزمور 30 .
- اقتبس منها بطرس الرسول فى رسالته الأولى (1بط3: 10، 11).
- يحدثنا المزمور عن معونة الله لطالبيه وخائفيه، فلعل داود صلى عندما ذهب إلى جت، وعندما شعر بخطورة الوقوع فى يد أخيش، فأرشده الله إلى التظاهر بالجنون، وجعل أخيش يزدرى به ويتركه؛ لأنهم كانوا يخافون قديماً من المجانين؛ لاعتقادهم بوجود روح غريبة فيهم. فنجا من يد الفلسطينيين، وكتب هذا المزمور شكراً لله الذى أنقذه؛ لذا فهذا المزمور يناسب كل من يقابل ضيقة، أو مشكلة بلا حل، فيطلب الله، القادر أن ينجيه، ثم يشكره على نجاته.
- يوجد هذا المزمور فى صلاة الساعة الثالثة فى الأجبية، حيث نتذكر حلول الروح القدس فى هذه الساعة، فنشكر الله الذى يفيض بروحه القدوس على طالبيه وخائفيه، وكل من يتقيه.
(1) التسبيح الدائم (ع1-3):
ع1: 1- ابارك الرب في كل حين دائما تسبيحه في فمي.
- شعر داود بيد الله الذى أنقذته من الموت، فرفع قلبه بالشكر والتسبيح، وشعر أن عمل الله معه يدعوه لتسبيحه طوال حياته، بل فى كل حين لعله يوفى لله شيئاً مما يستحقه، فهو عرفان بالجميل، وإحساس بنعمة الله وتقدير لها.
- إن التسبيح الدائم ناتج من إحساس داود برعاية الله المستمرة له، بل هو شعور بمعية الله، ورغبة من داود أن يتمتع على الدوام بحضرته؛ لذا يسبحه فى كل حين فى وقت الضيقة، أو فى وقت السعة، معلناً أن الله سر سعادته وفرحه.
- لعل داود أدرك أن عمل السمائيين هو التسبيح، فأراد أن يشترك معهم فى تسبيح الله، شوقاً منه للأبدية، واستعداداً لها، وتمتعاً بها كعربون، وهو مازال على الأرض.
- إن إرضاء الله فى كل عمل يعمله الإنسان – وليس فقط كلمات التسبيح – هو طاعة لله وانشغالاً به، فيعتبر هذا تسبيحاً مستمراً طوال اليوم.
ع2: 2- بالرب تفتخر نفسي يسمع الودعاء فيفرحون.
- يحتاج كل إنسان أن يفتخر بشئ، وأولاد الله يفتخرون بالله، أما أولاد العالم، فيفتخرون بأنفسهم، ويؤدى هذا إلى الكبرياء، أو يفتخرون بالشر، فيتمادون فى خطاياهم.
- الافتخار بالرب يعطى الإنسان ثقة فى نفسه؛ لأن الله معه، ويملأ قلبه سلاماً، ويدفعه إلى تحمل كل المسئوليات والنجاح فيها.
- الإنسان المتضع يسهل عليه الافتخار بالله وتمجيده فى كل حين، ويشعر بعطايا الله، فيشكره ويسبحه على الدوام، ولكن الله غير محتاج لافتخار الناس به؛ لأنه كامل فى ذاته.
- عندما يسمع الودعاء وهم الهائدون المملوءون سلاماً بافتخار داود المتضع بالله مخلصه يفرحون؛ لأن الودعاء المتضعين، ويفتخرون بالله، ويفرحون إذا سمعوا عن أى إنسان يفتخر بالله، بل يتحمسون ويزدادون فى الافتخار بالله وتسبيحه.
- الافتخار بالله وتمجيده يملأ القلب فرحاً، إذ يشعر بمحبة الله، بل ومعيته، فيتمسك به ويزداد تمتعه بعشرته.
- يفتخر الإنسان بالله، أما فى نفسه فيفتخر بضعفاته التى تؤدى إلى تدخل الله الذى يكمل نقصه، ويتمجد فيه، كما حدث مع بولس الرسول (2كو11: 30).
ع3: 3- عظموا الرب معي و لنعل اسمه معا.
- عندما انشغل قلب داود بتسبيح الله شعر بمسئوليته عن الآخرين، فدعاهم ليعظموا الرب ويسبحوه معه؛ ليتمتعوا معه بالوجود فى حضرته.
- دعوة داود أولاد الله ليمجدوه ويسبحوه تظهر إيمان داود بالعبادة الجماعية فى خيمة الاجتماع، التى ترمز لكنيسة العهد الجديد.
- إن تعلية اسم الله ليست إضافة لاسمه القدوس لأنه كامل، بل هى إظهار لمجده وشكره على إحساناته، فيتمتع الإنسان بمعرفة الله والتلذذ بعشرته.
- تعظيم الله يتم فى خمسة مراحل هى :
أ – فى العقل والفكر، أى التفكير فى عظمة الله وأعماله.
ب – فى القلب، عندما تتحرك مشاعر الإنسان بالحب نحو الله.
ج – فى الكلام؛ بكلمات التسبيح والشكر.
د – فى الأعمال بطاعة وصاياه، خاصة فى الضيقة.
هـ- فى دعوة الآخرين للمشاركة فى تمجيده.
ما أجمل تسبيح الله؛ لأنك عندما تشترك مع المسبحين ترتفع إلى السماء، فتكون مع الملائكة والقديسين. فلا تحرم نفسك من التسبيح كل يوم، ولو بجزء صغير من التسبحة.
(2) بركات الله لطالبيه (ع4-10):
ع4: 4- طلبت إلى الرب فاستجاب لي و من كل مخاوفي انقذني.
- يظهر إيمان داود حين يسترجع ما يثبت إيمانه، وهى المواقف التى طلب فيها الله فاستجاب له، وكلما تثبت إيمان الإنسان يتشجع، فيطلب من الله بثقة فى كل وقت، ويثق أن الله يسمعه ويستجيب له.
- الله لا يستجيب لأن الناس لا يطلبون، أو يطلبون بتشكك، أو يطلبون طلبات ردية، أو لجهلهم لا يعرفون مصلحتهم، أو خيرهم. وقد يكون الخير هو عكس طلبتهم.
- فى الضيقة يحارب الشيطان بشكوك ومخاوف داخل الإنسان. فعندما يستجيب الله وينقذ الإنسان من أعدائه يمكن أن يستمر الشيطان فى تشكيكاته، ولكن قوة الله ظهرت فى طرد كل هذه المخاوف من قلب داود.
ع5: 5- نظروا إليه و استناروا و وجوههم لم تخجل.
- يتحول داود هنا من الحديث عن نفسه إلى الحديث عن أولاد الله، الذين يطلبونه ويلتجئون إليه فى ضيقاتهم؛ ليؤكد أنه ليس وحده الذى يحيا مع الله، بل كثيرون يتمتعون بعشرة الله.
- عندما يطلب أولاد الله منه فى الضيقة، فإنهم ينالون بركة كبيرة وهى وجودهم مع الله، فتستنير قلوبهم وعقولهم، ويعرفون الله ويمتلئون سلاماً، وينالون القدرة على تمييز الحق؛ ليسلكوا فيه. وهذا أمر أعظم من زوال الضيقة. فقد تبقى الضيقة مدة، ولكنهم يكونون قد نالوا الاستنارة الروحية.
- الاستنارة الروحية التى ينالها طالبو الرب تعطيهم جرأة وسلاماً، فيتقدمون بدالة فى الصلاة، ويطلبون ويلحون على الله، فتزداد علاقتهم به، ويعطيهم الله أيضاً نعمة فى أعين من حولهم. وفى النهاية ينجحهم وينميهم روحياً، فلا يخزون.
ع6: 6- هذا المسكين صرخ و الرب استمعه و من كل ضيقاته خلصه.
- يقصد داود بالمسكين نفسه، أى المتضع الذى صرخ إلى الله، فسمعه واستجاب له؛ لأن الله يحب المتضعين، ويسمعهم بإنصات ويستجيب لهم سريعاً.
- المسكين يعانى من ضيقات كثيرة وشدائد، ولكن الله يحبه ويسرع إليه، وهو قادر أن ينجيه من جميع شدائده، فيتمجد الله فيه، فيشكر الله ويمجده.
- لعل داود بروح النبوة يتكلم عن حزقيا الملك المسكين والمتضرع إلى الله باتضاع، لينقذه من يدى سنحاريب، فاستمعه الله، واستجاب له، وأرسل ملاكه، فأهلك جيش سنحاريب، وأنقذ شعبه من يديه.
- الملائكة تسمع وتفرح بكلمات داود، وتؤيدها؛ لأن السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة. فالملائكة تفرح بالمتضعين الصارخين إلى الله، فيسرع إليهم وينقذهم من أعدائهم. ولعل داود شعر أن الملائكة يرددون هذه الآية فى السماء فرحاً بخلاص الخطاة.
ع7: 7- ملاك الرب حال حول خائفيه و ينجيهم.
- الله يعتنى بخائفيه، وبهذا أعلن داود إيمانه واتكاله على الله، فلا يمكن أن يتركه الله، بل ينجيه من جميع ضيقاته.
- إن الشياطين تساعد الأشرار، وتهيجهم على الأبرار خائفى الله؛ لذا لابد أن يساند الله أولاده القديسين، فيرسل لهم ملائكة تحميهم، وهى أقوى من الشياطين؛ لأن معها قوة الله.
- الله خصص ملاك لكل من يخافه، وهو لا يتركه أبداً؛ إذ هو حال حول خائفيه، أى ثابت فى حراسة من كلفه الله برعايته، وهو ينبهه ويشجعه على الحياة الروحية.
ع8: 8- ذوقوا و انظروا ما اطيب الرب طوبى للرجل المتوكل عليه.
- إن سماع الأخبار عن الله لا تكفى؛ لذا يدعو داود النبى كل محبى الله أن يتقدموا؛ لينالوا خبرة عملية فى معرفة الله، بأن يتذوقوا حلاوته. كما أن الكلام عن العسل ليس كافياً لمعرفة حلاوته، بل ينبغى تذوقه، كذلك أيضاً حلاوة الله لا تعرف إلا بتذوقه عن طريق الصلاة والقراءة.
- إذا تذوق الإنسان حلاوة الله سيحتاج أن ينظر إليه، أى يتأمل فيه، فيكشف له الله الجديد عن نفسه، فيتمتع بأعماق جديدة فى عشرته.
- من يتذوق حلاوة الله يعرف مدى أبوته، وقوته، فيتكل عليه، ويطمئن فى أحضانه، فيتمتع بسلام داخلى لا يعبر عنه، يشجعه على الاستمرار فى تذوق حلاوة الله والتأمل فيه.
- هذا التذوق والتأمل يستمر وينمو طوال الحياة، ثم يزداد عمقاً عند الدخول إلى الأبدية، وهناك يستمر الإنسان فى التمتع بتذوق الله بشكل جديد لا يعبر عن جماله، حتى أن من اختبره لا يستطيع أن يعبر عن مدى حلاوته، مثل بولس الرسول الذى لم يستطع إلا أن يقول عن حلاوة الله فى الأبدية بأنها ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشر (1كو2: 9).
ع9، 10: 9- اتقوا الرب يا قديسيه ، لأنه ليس عوز لمتقيه.
10- الأشبال احتاجت و جاعت و اما طالبو الرب فلا يعوزهم شئ من الخير.
عوز : احتياج.
- لماذا يطالب داود القديسين بأن يتقوا الله ويخافوه ؟ لأن القديسين يهتمون بعبادة الله، فيعرفونه، ويخافونه. فهذه دعوة للتعمق فى مخافة الله بازدياد معرفتهم وارتباطهم بالله، فيكشف الله لهم عن عظمته وصعوبة البعد عنه، كما اشتهى القديس باخوميوس أب الشركة أن يرى الجحيم، فرآه، وازدادت كراهيته للخطية، ومخافة الله أيضاً ازدادت فى قلبه.
- القديسون ينظرون دائماً إلى الله، وبالتالى تثبت فيهم مخافته، ويدفعهم هذا إلى النمو فى حياة التقوى.
- من ينظر ويتأمل فى الله كثيراً يشبع به، فلا يتعرض للجوع والاحتياج، وليس المقصود الاحتياج المادى، وإن كان الله يوفره لأولاده، ولكن المقصود بالأحرى الاحتياج الروحى، فلا يعانون من العوز الروحى، أى يكونون فى شبع دائم بالله.
- يتولد داخل أولاد الله الذين يخافونه عطش إلى البر، إذ تنقيهم مخافة الله من الخطية، فيزداد اشتياقهم لله، ولكن لا يصاحب هذا الجوع إحساس بالحرمان، بل على العكس شبع روحى يعمل فيهم باشتياقات دائمة لشبع أكثر وأكثر.
- إن كل المخلوقات تتعرض للعوز والاحتياج حتى الأشبال؛ لأن الأسد هو ملك الغابة، ولكن أولاده يمكن أن يحتاجوا للطعام. ولكن من يطلب الله لا يمكن أن يحتاج؛ إذ أن الله بنفسه يهتم به، ويوفر له احتياجاته.
والخلاصة أن بركات الله لطالبيه هى :
- منقذ من المخاوف (ع4).
- الاستنارة الروحية (ع5).
- عدم الخجل (ع5).
- يحوطنا بملائكته (ع7).
- حلاوة الله (ع8).
- يسد احتياجاتنا (9، 10).
ولكيما ننال هذه البركات لابد أن نتجه إلى الله بما يلى :
- نطلب (ع4).
- ننظر (ع5).
- نتضع (ع6).
- نتذوق (ع8).
- نتكل (ع8).
- نتقى (ع9).
الله غنى جداً، ومستعد أن يشبعك من غناه قدر ما تطلب، فلا تنشغل عنه بأمور هذا العالم الزائلة، أو تكون طلباتك هى فقط الطلبات المادية، ولكن اطلب أولاً ملكوت الله وبره، أى ليملك الله على قلبك ويشبعك؛ لتتمتع بعشرته التى لا يعبر عنها.
(3) سمات خائفى الله (ع11-14):
ع11، 12: 11- هلم ايها البنون استمعوا الي فاعلمكم مخافة الرب.
12- من هو الانسان الذي يهوى الحياة و يحب كثرة الأيام ليرى خيرا.
- يظهر من هاتين الآيتين اهتمام داود بمخافة الله التى هى مدخل للحياة الروحية، ولكل البركات فى الأرض، وفى السماء.
- مخافة الله أمر هام جداً، ويحتاج إلى تعلم، ونرى هنا اهتمام داود بتعليم شعبه هذه المخافة التى تحتاج إلى تداريب محددة لاقتنائها.
- مخافة الله لا يهتم بتعلمها إلا أبناءه ومحبيه، إذ ارتبطوا به ويريدون أن يشعروا بمهابته؛ ليتعمقوا فى معرفته، أما البعيدين عن الله فلا يهمهم الأمر.
- يدعو داود من يريدون التعلم بالبنين لما يلى :
أ – كلمة مملوءة حباً، إذ الآب يحب أولاده ويريدهم أن يكونوا فى أفضل صورة.
ب – الإبن يشعر أنه أصغر من أبيه ويحتاج إلى التعلم، فيقبل إلى سماع وطاعة ما تعلمه منه.
- إن بركات اقتناء مخافة الله هى :
أ – اقتناء الحيوية الروحية.
ب – تزداد أيام تمتعه بعشرة الله.
ج – ينال خيرات كثيرة بدايتها فى الأرض، وتمتد فى الأبدية بشكل لا يعبر عنه.
- إن الحياة التى يهواها الإنسان ليس المقصود بها الحياة على الأرض، والأيام الكثيرة فى العمر؛ لأن هذه يتمتع بها الحيوانات والأشجار والمخلوقات الجامدة مثل الكواكب. ولكن الإنسان يتميز عنها جميعاً بأنه ينال الحياة الأبدية، التى أيامها بلا عدد، فكثرة الأيام المقصود بها الأبدية، وهناك يتمتع بخيرات لا يعبر عنها.
ع13، 14: 13- صن لسانك عن الشر و شفتيك عن التكلم بالغش.
14- حد عن الشر و اصنع الخير اطلب السلامة و اسع وراءها.
- لإكتساب مخافة الله لابد من الابتعاد عن الشر، سواء بالكلام، أو الفعل “صن لسانك – حد (أى ابتعد) “لأن الشر يعمى بصيرة الإنسان فلا يرى الله، ولا يسمع صوته، فتضعف مخافة الله فى القلب. ويستدعى هذا الابتعاد عن خلطة الأشرار المعثرين.
- يلزم أيضاً من الناحية السلبية الابتعاد عن الغش؛ لأن فيه التواء القلب، والذى يظهر فى كلمات، أو أعمال غاشة مخادعة. والله لا يقبل الغش والكذب، لذا يلزم رفض الغش لاكتساب مخافة الله.
- من الناحية الإيجابية فإن فعل الخير يثبت مخافة الله؛ لأنه كيف أجد محتاجاً ولا أساعده ؟ وماذا أقول لله الذى يرانى ؟ فالخائف الله يسعى نحو كل أعمال الخير، كما كان المسيح يجول فى كل مكان يصنع خيراً (أع10: 38).
- من يخاف الله يسعى نحو السلام؛ ليكون ابناً لإله السلام، الذى هو المسيح إلهنا، الذى صنع سلاماً بين السماء والأرض، وأيضاً اليهود والأمم، وكذلك بين الروح والجسد.
ليتك تبحث عن السلام، فهو أغلى عطية تنالها من الله، وتقدمها لمن حولك مهما كانت تنازلاتك، فلا شئ يساوى السلام. إن حقك فى السلام أغلى من كل الحقوق المادية والمعنوية. وفى النهاية تثبت مخافة الله ومحبته فى قلبك.
(4) رعاية الله للصديقين (ع15-22):
ع15: 15- عينا الرب نحو الصديقين واذناه الى صراخهم.
- عينا الرب تعنى مراقبته ورعايته واهتمامه. ولأن الله فاحص القلوب والكلى، فعيناه ترى دواخل أولاده، وليس فقط خارجها. كل هذا ليسد احتياجاتهم الروحية والنفسية والجسدية.
- يهتم الله ويعتنى بالصديقين؛ لأنهم أبناؤه الذين يطيعون وصاياه، وأعمالهم الصالحة تؤكد بنوتهم له. فالله يخصهم برعاية خاصة، أكثر من باقى البشر.
- إن صراخ الصديقين يصل سريعاً إلى أذنى الله، أى أن الله يتأثر جداً باحتياجات أولاده، وتألمهم، فيسرع لنجدتهم. وإن كان يطيل أناته أحياناً، ويؤخر الاستجابة، فلكيما تكمل توبتهم، وتزداد بركاته التى يفيضها عليهم؛ لأجل احتمالهم، ومحبتهم له.
- إن الله يترك للإنسان حرية الحركة، واختيار ما يناسبه، ولكنه يرعاه بعينه، وينصت لكلماته وصراخه، كما تعتنى الأم بطفلها. فهذا يبين اهتمام الله بحرية الإنسان وكذلك اهتمامه برعايته التى تعطى الإنسان الأمان.
ع16: 16- وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم.
- وجه الرب هنا يعنى غضبه من الأشرار ودينونته لأفعالهم. فهو ضدهم وليس معهم، كما كانت عيناه تنظران عن بعد بحنان وحب ورعاية للصديقين.
- استمرار الأشرار فى شرورهم معناه أنهم يسيرون نحو هلاكهم المؤكد نتيجة غضب الله عليهم، فأجرة الخطية موت.
ع17: 17- أولئك صرخوا و الرب سمع و من كل شدائدهم انقذهم.
- أولئك هم الصديقون الذين تكلم عنهم فى (ع15). هؤلاء عندما قابلتهم ضيقات صرخوا إلى الله؛ لأنهم يؤمنون أنه إلههم، وأبوهم الذى يدبر كل احتياجاتهم، ويحل كل مشاكلهم. والصراخ معناه الاحتياج الشديد، فملجأهم الوحيد هو الله.
- سمع الله لصراخ أولاده يعنى ليس مجرد الاستماع العادى، ولكن الاهتمام بطلباتهم، والاستعداد الكامل لإنقاذهم من متاعبهم، وسد كل احتياجاتهم. ولكن فى الوقت المناسب الذى يراه لخيرهم، فهو قادر على كل شئ فى أى وقت، ولكن يختار ما هو أنسب لخلاصهم الروحى.
- الله أنقذ أولاده من جميع شدائدهم؛ لأنه قادر على كل شئ، ولكن إن كان يؤجل إنقاذهم مادياً لمصلحتهم، فلابد أن ينقذهم روحياً، ونفسياً، إذ يعطيهم الصبر، بل والتعزية، والتلذذ الروحى أثناء الضيقة؛ حتى أن أولاده يكادوا لا يشعرون بتعب الضيقة من كثرة التعزيات، على قدر ما يصرخون إلى الله، ويستمرون فى التمسك به.
ع18: 18- قريب هو الرب من المنكسري القلوب و يخلص المنسحقي الروح.
- يحدثنا فى هذه الآية عن مشاعر الله نحو أولاده الصارخين إليه، فيعلن اهتمامه الخاص بالمتضعين، وأنه قريب منهم، أى يشعر بمتاعبهم، ومستعد لمساندتهم فى كل ما يعانونه.
- المنكسر القلب هو من يقبل الضيقات التى يسمح بها الله، بل ويشعر أنها لكثرة خطاياه، فلا يتذمر، أو يلوم الله. ولكن يتضع أمامه، طالباً معونته، فينال فيض مراحم الله.
- المنكسر القلب يقبل أيضاً تأديبات الله، فيقوده للتوبة، وإصلاح حياته. وباتضاعه وطاعته يتم خطة الله لخلاصه، فيسانده ويفرح به.
- المنكسر القلب هو الخادم، والأب، والراعى، الذى يتأثر لسقوط أحبائه فى الخطية، فيصلى لأجلهم، ويجاهد ليرفع الله عنهم الظروف التى تساعد على الخطية. فإذ يرى الله صلواته، وأصوامه، وميطانياته لأجلهم، يعلن أنه قريب جداً منه، ويقدر أتعابه، ويكافئه عنها ببركات لا تحصى.
- الله عالى جداً فوق جميع البشر، فإذا تعاظم الإنسان فى تفكيره بحثاً عن الله، معتمداً على عقله، يشعر أن الله يتعالى أكثر وأكثر كلما اقترب إليه؛ حتى يشعر فى النهاية بعجزه عن معرفة الله. ولكن إن انسحق فى اتضاع شديد، وانكسر قلبه أمام الله، حينئذ يتحنن عليه الله، ويقترب إليه، ويكشف له ذاته. فهو قريب من المتضعين الباحثين عنه، ويكشف أسراره لهم.
- المنسحق الروح هو من يبذل حياته لأجل الله. والانسحاق معناه أنه لم تبق له شئ فى نفسه، إذ تم سحقه وطحنه وصار غباراً، وحينئذ ينال بركات وخلاص يفوق العقل. فعندما يصبح لا شئ يكون كل شئ بالله الذى يملأه ويشبعه، ويعطيه خلاصاً كاملاً. هذا هو المتضع بالحقيقة.
ع19، 20: 19- كثيرة هي بلايا الصديق و من جميعها ينجيه الرب.
20- يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر.
- الضيقات تمر على جميع الناس الأبرار والأشرار، ولكن تكون أكثر على الأبرار؛ لاختلافهم عن أهل العالم، فالشيطان يقاومهم، ولكن فى النهاية ينتظر الأبرار السعادة الكاملة فى الملكوت، أما الأشرار، فينتظرهم العذاب الأبدى، بالإضافة إلى تعزيات الله للأبرار أثناء ضيقاتهم كلها، ومساندته لهم، فلا يتعبون من الضيقات.
- الله ينجى الصديق من جميع الضيقات، فيرفعها عنه، وينهيها، ويعوضه ببركات كثيرة، بالإضافة إلى أنه ينجيه أثناء الضيقة بإحساسه أن الله معه، فيفرح قلبه، كما كان مع الثلاثة فتية وسط الأتون.
- العظام هى أقوى شئ فى الإنسان، والتى يجتمع حولها اللحم والعضلات والجلد، فهى ترمز للروح التى داخل الجسد، التى تؤمن بالله، وكل وصاياه ومبادئه الروحية. فالضيقات لا تستطيع أن تغير، أو تكسر إيمان أولاد الله، حتى لو تعرض الجسد للعذابات، أو الضيقات.
- الله يسمح بضيقات لأولاده، ورغم كثرتها ينجيهم منها جميعاً، ولا يسمح أن تنكسر واحدة من عظامهم، فيحفظهم فى الإيمان به، مهما كانت معاناتهم الجسدية والنفسية.
- لقد تحققت هذه الآية فى المسيح على الصليب، عندما لم يكسر له عظم، ليرمز هذا إلى ثبات فكره، والخلاص الذى يقدمه لنا بموته وقيامته.
- إن كان المسيح هو الرأس، والكنيسة جسده تكون العظام هى المؤمنين به. هذه كلها يحفظها الله فلا تنكسر، بل يثبت أولاده فى كنيسته، ويعطيهم خلاصاً أبدياً. ويصلى هذا المزمور فى الساعة الثالثة، التى حل فيها الروح القدس على الكنيسة وتأسست فى هذه الساعة.
ع21: 21- الشر يميت الشرير و مبغضو الصديق يعاقبون.
- الخطايا التى يفعلها الإنسان تضره هو أولاً قبل أن تضر غيره، إذ توتر أعصابه، وتملأ قلبه حقداً، فيتغير دمه، ويمتلئ سموماً تضر جسده. وباستمرار هذه الخطايا يتأثر الإنسان، ويموت بسبب شروره.
- إن كانت الخطايا تؤثر على الإنسان فى حياته على الأرض، ولكنها تؤثر أكثر عليه فى الحياة الأخرى، إذ ينتظره العذاب الأبدى، الذى يصعب إدراكه.
- أيضاً الشرير بسبب شروره يموت أحياناً بطريقة بشعة، مثل موت هيرودس، وكذلك أنطيوخوس الملك بأن أكلهما الدود (أع12: 23؛ 2مكابيين9: 8، 9)، وهم أحياء، وكذلك موت أريوس بخروج أحشائه منه عندما دخل إلى المرحاض.
- إن كان الصديق يحتمل من يبغضه، والله يطيل أناته على هؤلاء الأشرار، لكن فى النهاية لابد أن يعاقب مبغضو الصديق؛ لأنهم رفضوا البر، وامتلأت قلوبهم كراهية، وتكبروا، معتمدين على قوتهم. فلا ينتظرهم فى النهاية إلا العقاب الإلهى فى العذاب الأبدى، بالإضافة إلى عقوبات أرضية متنوعة، مثل معاقبة اليهود، الذين صلبوا المسيح، بخراب أورشليم عام 70 م، وقتل أعداد ضخمة منهم.
ع22: 22- الرب فادي نفوس عبيده و كل من اتكل عليه لا يعاقب
- الله فدى عبيده المؤمنين به بتجسده فى ملء الزمان، وموته على الصليب عنهم.
- إن كان أولاد الله يخطئون، ويستحقون العقاب، وعقوبة الخطية موت، لكن الله يفديهم بأن يعطيهم حياة، ويموت آخرون بسبب إصرارهم على الشر، كما أخطأ بنو إسرائيل فى مصر، وعبدوا الأوثان، فسمح لهم بالذل فى السخرة، ولكن ضرب المصريين بالضربات العشر، ثم غرق فرعون، وكل جيشه فى البحر الأحمر، أما بنو إسرائيل فعبروا فى أمان إلى برية سيناء. وكذلك فدى الله اسحق بكبش من أجل إيمان إبراهيم ومحبته لله.
- كل إنسان اتكل على الله، فبرغم خطاياه الكثيرة، الله يقبل توبته؛ لأجل إيمانه واتكاله عليه، فلا يعاقب فى الحياة الأخرى، بل يدخل ملكوت السموات.
الله يرعاك طوال حياتك، فلا تنزعج من الضيقات، لأنها مؤقتة، والله يحفظك أثناءها، ويسندك ويعزى قلبك.