حيـاة البـر
لإمام المغنين على ذوات الأوتار. مزمور لداود
“عند دعائى استجب لى..” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى كما يُذكر فى العنوان.
- نجد عنواناً لهذا المزمور أنه لإمام المغنين، أى أنه كان يغنى من فرقة كبيرة من المغنين لها إمام، أو قائد، فهو أنه مزمور جماهيرى يرنم أمام جماعة كبيرة، فهذا يظهر أهميته.
- نجد أيضاً فى عنوانه أنه على ذوات الأوتار، أى أنه كان يغنى بمصاحبة آلة موسيقية قديمة وترية تسمى ذوات الأوتار، أى فيها عدد من الأوتار.
- فى الترجمة السبعينية نجد فى عنوانه “إلى النهاية مزمور لداود”.
ومعنى إلى النهاية ما يلى :
أ – فى (ع1) يقول إله برى، أى أن الله هو مصدر برى وإلى النهاية تعنى إلى المسيح، الذى يتجسد ويظهر بر الله فيه، وهو أيضاً الذى يملك فى النهاية إلى الأبد على قلوب كل المؤمنين به، الذين رنموا وصلوا له فى حياتهم على الأرض، فيستحقون أن يرنموا معه ترنيمة جديدة فى السماء إلى الأبد.
ب – إلى النهاية أى يرنم طوال العمر، وذلك لأهمية المزمور.
جـ- النهاية هى انتصار داود على كل أعدائه المحيطين ببلاده وإخضاعهم له، وهو يرمز بذلك للمسيح، الذى فى النهاية يخضع كل أعدائه الشياطين له، إذ قيدهم على الصليب، وفى نهاية الأيام يلقيهم فى العذاب الأبدى، معلناً نصرة أولاده عليهم فيمجدهم فى السماء معه.
- ويرى الآباء أن هناك ارتباطاً بين المزمور الثالث والرابع، إذ يشعر داود فيهما بالحزن، فإن كان المزمور الثالث مرثاة لداود عند قيام أبشالوم عليه، فالمزمور الرابع امتداد له لأنه يقول فيه “حتى متى يكون مجدى عاراً” و”حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب” (ع2).
- يرى بعض الآباء أن هذا المزمور قاله داود أثناء مطاردة شاول له، عندما ساعدته ميكال على الهرب (1صم19: 11-12) وقد نجاه الله من يد شاول، فيشكر داود الله إله بره.
(1) صراخ لله (ع1):
1- عند دعائي استجب لي يا اله بري في الضيق رحبت لي تراءف علي و اسمع صلاتي.
رحبت : فرجت، أو وسعت.
- شعر داود بالخطر يقترب إليه أثناء مطاردة شاول له، فصرخ إلى الله؛ لينقذه ويحفظ سلامه فى داخله، ويحفظ أيضاً محبته نحو شاول، وهذا كله من نعمة الله عليه، أى بر الله الفائض عليه، لذا يقول يا إله برى، فالبر ليس فضائل ناتجة من داود، بل هو هبة إلهية، فهذا يبين اتضاع داود ونسبته كل شئ جميل فيه إلى الله.
- فى صلاة داود وصراخه، يظهر إيمانه ورجاؤه فى الله، فيطلب منه أن يستجيب له؛ فينقذه من هذه الضيقة وذلك بأية طريقة يراها الله مثل :
أ – يرفع الضيقة عنه، فيخلصه من شاول وأبشالوم.
ب – يعطيه الصبر والاحتمال لهذه المطاردات.
جـ- يعطيه سلام أثناء هذه الضيقة، فلا ينزعج منها، كما كان مع الثلاثة فتية فلم يخرجهم من النيران، بل أعطاهم سلاماً وفرحاً فى داخلها. وهذا هو أعلى وأعظم تدخل لله فى الضيقة.
- يفهم من هذا أنه ليس من الضرورى أن تكون استجابة الله هى رفع الضيقة، بل إن اختبار عمل الله أثناءها يكون عميقاً، فيتمتع الإنسان بالله أكثر من أى وقت آخر. ومعنى “رحبت لى” أى أعطيتنى سلاماً وسط الضيقة، ومعناها أيضاً أعطيتنى مكاناً فى قلبك وأحضانك يا الله، فأشعر بحبك وأتمتع بعشرة لا يعبر عنها.
- وليس معنى إيمان داود باستجابة الله والسلام الذى يناله أثناءها أن يوقف صلاته، بل يستمر فيها ويطلب من الله أن يسمع صلاته ويتراءف عليه بحنانه الأبوى. وقد أعطى الله لداود السلام أثناء الضيقة، ثم أنقذه من شاول، فلم يؤذه وكذلك أبشالوم.
إذا حلت بك ضيقة إرفع قلبك بإيمان لله، واثقاً أنه سينقذك ويحفظك ويعطيك سلاماً. وإذا استجاب الله لك، فلا تتوانى عن مواصلة صلاتك؛ لئلا يصيبك الفتور الروحى، أى احفظ عمل الله فيك والحرارة الروحية باستمرار الصلاة.
(2) دعوة البشر لحياة البر (ع2-5):
ع2: 2- يا بني البشر حتى متى يكون مجدي عارا حتى متى تحبون الباطل و تبتغون الكذب سلاه.
- ينادى داود، فى اشفاق، كل البشر وأولهم شاول، ثم أبشالوم حتى لا يتمادوا فى شرورهم، فيحولون مجده – لأنه ملك ممسوح من الله – إلى عار بمطاردتهم له، فبدلاً من أن يكرم كملك يجرى غريباً فى كل مكان؛ لأنه مهدد بالقتل.
- وهو بهذا يتكلم عن المسيح أيضاً، الذى بدلاً من أن يكرمه اليهود صلبوه على صليب العار، فلم يكرموه كملك الملوك، بل صلبوه كمجرم أثيم.
- وداود لا يقصد بهذا راحته؛ لأنه يقبل كل شئ من الله، لكنه يشفق على الخطاة بنى البشر؛ لابتعادهم عن الله والإساءة إلى مسيحه، أى داود.
- والسبب فى شر بنى البشر هو محبتهم للشهوات والكبرياء وكل الماديات الباطلة التى فى العالم. إنها كلها كاذبة وستزول، أما هم فسيحاسبوا على خطاياهم، فهو يدعوهم إلى التوبة وعدم التمادى فى الشر.
- تنتهى هذه الآية بكلمة سلاه وهى وقفة موسيقية؛ حتى يراجع الإنسان نفسه ويتوب عن خطاياه.
- وهو يناديهم ببنى البشر؛ حتى يتعقلوا كبشر ولا ينغمسوا فى الشهوات، مثل الحيوانات، بل يتمنى أن يرتفعوا إلى التفكير الروحانى، ويهتموا بخلاص نفوسهم، ويحيوا مع الله فيكونون مثل القديسين، كملائكة على الأرض.
ع3: 3- فاعلموا أن الرب قد ميز تقيه الرب يسمع عندما ادعوه.
- ينبّه داود البشر جميعاً إلى حقيقة هامة وهى أن الله، ليس فقط يهتم بداود تقيه، أو صفيه وقدوسه، كما فى الترجمة السبعينية، بل أيضاً يميزه عن باقى البشر. وقد حدث هذا فعلاً بأن أنقذ الله داود من يد شاول، بل نصره عليه، إذ ان شاول وقع فى يد داود، ثم عفا عنه ولم يؤذه. وفى النهاية مات شاول فى الحرب، وتملك داود بدلاً منه، وكذلك خلصه من يد أبشالوم ونصره عليه.
- وداود هنا يرمز للمسيح، الذى عاش كإنسان بين البشر ولكن الله ميزه بعمل المعجزات والتعاليم القوية، ثم مات وأقام نفسه.
- والله دائماً يميز أولاده وشعبه برعايته لهم وعمله فى داخلهم، فيتمتعوا بوجود الله معهم على الأرض، وكأنهم فى الملكوت.
- ويعلن داود النبى حقيقة أخرى فى هذه الآية هى أن الرب يستجيب له عندما يصلى إليه، فالصلاة وسيلة متاحة لأولاد الله؛ ليدخلوا إلى حضرة الله فيستجيب لهم، ولذا يشعرون بالطمأنينة مهما أحاطت بهم الضيقات، بل يتمتعون بلقيا الله فى كل حين.
- يعلن أيضاً داود للبشر أن من أهم الوسائل التى يظهر فيها الله وجوده وقوته، هو عمله فيمن يتقيه ويقدس قلبه له. فالله يعلن نفسه للبعيدين عنه، أما من خلال المخلوقات وأحداث الحياة، أو من خلال رؤيتهم لعمله فى أولاده، كما أعطى داود نفسه مثالاً فى تمييز الله له واستجابته لصلواته؛ حتى يقتدى به البشر ويؤمنوا بالله ويعبدوه بكل قلوبهم.
ع4: 4- ارتعدوا و لا تخطئوا تكلموا في قلوبكم على مضاجعكم و اسكتوا سلاه.
- يدعو داود النبى البشر أن يرتعدوا، أى يخافوا الله، فلا يخطئوا، إنها دعوة للابتعاد عن الخطية والتحصن فى مخافة الله.
- وفى الترجمة السبعينية، أى الأجبية يقول “إغضبوا ولا تخطئوا”، أى يكون غضبكم من النوع المقدس، الذى ليس فيه خطية، كما أكد بولس الرسول ذلك مقتبساً نفس هذه الآية فى (أف4: 26). والغضب المقدس هو فى غضب الإنسان ضد خطاياه، وغضبه على الشر والشيطان، أو غضبه بمعنى الحزم مع المخطئين؛ حتى يتوبوا.
- ويدعو أيضاً البشر إن أخطأوا فى غضبهم أن يندموا على ذلك ويتوبوا عندما يدخلون إلى مخادعهم قبل أن يناموا على مضاجعهم. ففكرة التوبة كل يوم قبل أن ينام الإنسان فكرة يحتاجها كل إنسان وقد اختبرها داود، عندما كان يعوم كل ليلة سريره بدموعه (مز6: 6)، أى جيد أن يسكت الإنسان ويفحص أفكاره ونيات قلبه فى كل ليلة ويتوب عنها أمام الله.
- تنتهى الآية بكلمة سلاه، وهى وقفة موسيقية لمراجعة النفس، والتوبة.
ع5: 5- اذبحوا ذبائح البر و توكلوا على الرب.
بعد أن دعا داود البشر إلى الابتعاد عن الخطية، ثم الصلاة لله الذى يستجيب ويميز أولاده، وبعد ذلك التوبة كل يوم، يضيف هنا عملاً إيجابياً وهو تقديم ذبائح البر وهى :
- ذبائح حيوانية على مذبح العهد القديم بحسب شريعة موسى؛ لتقديم التوبة والمحبة لله وكلها ترمز إلى ذبيحة المسيح على الصليب، التى ننالها فى سر الافخارستيا، عندما نتناول من جسد الرب ودمه، فنتحد به، ويعمل فينا.
- ذبح الحيوانات المفترسة والوحوش التى فى داخلنا، أى الخطايا بالتوبة، فيتنقى القلب.
- ذبح الكبرياء والذات بالإتضاع.
- تقديم أنفسنا ذبائح مبذولة فى خدمة الآخرين، فنحتملهم ونسامحهم ونتعب ونبذل لأجل خيرهم.
- ذبيحة إخلاء المشيئة والاتكال على الله وتسليم الحياة له، فنحيا مطمئنين تحت رعايته.
- ذبيحة التسبيح وهى الصلوات والشكر والتسبيح المرفوع أمام الله من القلوب والشفاه.
الله ينتظر منك ذبائح الحب فى الصلوات والعبادة والخدمة، فلا تتهاون فى انتهاز كل فرصة للاقتراب إلى الله وخدمته.
(3) الفرح (ع6-8):
ع6: 6- كثيرون يقولون من يرينا خيرا ارفع علينا نور وجهك يا رب.
- إن خيرات الله تعم كل البشر ولكن يتعجب داود النبى أن البعض يتذمرون ويقولون من يرينا الخيرات، كأن الله لم يصنع معهم أى خير. وهناك معنى آخر هو أن رجال الله والأنبياء – فى العهد القديم – كانوا يتمنون أن يروا الخيرات، وهى التى تظهر فى شخص المسيح المتجسد فى ملء الزمان.
- يجيب داود على المتذمرين، الذين لا يرون خيرات الله وعلى الصالحين، الطالبين أن يروا المسيح، بأن الله قادر أن يرفع نور وجهه على أولاده، وفى الترجمة السبعينية يقول “قد أضاء علينا نور وجهك يا رب” وفى الترجمة اليونانية “قد ارتسم علينا نور وجهك”، وهذا معناه أن الله يضئ وينير على أولاده بنوره وذلك من خلال ما يلى :
أ – النور الذى يتميز به الإنسان عن باقى الخلائق من خلال الروح الذى فيه.
ب – نور الإيمان بالله والتمتع برعايته وقوته.
جـ- نور الحكمة والتمييز التى يهبها لأولاده، فيميزوا الخير ويرفضوا الشر ويسعوا بحب إلى أعماق الله.
د – النور الإلهى والضياء، الذى يرتسم ويتصور على وجوه أولاد الله، ويضئ على الآخرين، فيرون الخير من خلال أولاد الله السالكين بالبر.
- وقد اكتسى وجه موسى بلمعان شديد، عندما قابل الله، وهكذا أيضاً أولاد الله فى كل جيل يعطيهم الله نعمة ومهابة فى أعين من حولهم.
ع7: 7- جعلت سرورا في قلبي اعظم من سرورهم اذ كثرت حنطتهم و خمرهم.
- نتيجة لإضاءة الله على قلب داود، شعر بسرور وفرح أعظم من أى سرور يناله الإنسان على الأرض، فالبشر يشعرون بالسرور من أجل ممتلكاتهم؛ مثل الخمر والقمح، خصوصاً عندما تكون كثيرة، ولكن كل ماديات العالم زائلة، فيتعرض الإنسان للتقلب بين الفرح والحزن، أما الذى يضئ عليه الله، فيعطيه فرح دائم، وهو أسمى وألذ من كل فرح أرضى.
- إن هذا السرور بنعمة الله يناله الإنسان من خلال تقديم ذبائح الصلاة والعبادة والخدمة، كما ذكرنا فى (ع5).
ع8: 8- بسلامة اضطجع بل أيضا انام لأنك أنت يا رب منفردا في طمأنينة تسكنني
- إذ يمتلئ قلب داود بالسرور والسلام؛ لأنه اتكل على الله الذى صرخ إليه واستضاء بنوره؛ لذا يستطيع أن يضطجع وينام مطمئناً بين يدى الله، فكما بدأ يومه بالصراخ إلى الله فى (ع1) وسط الضيقات، ولكنه يثق أنه فى نهاية اليوم يستطيع أن يضطجع وينام فى راحة؛ لأنه فى رعاية الله ولذلك يقال هذا المزمور فى صلاة الستار عند نهاية اليوم.
- والاضطجاع والنوم ينطبق أيضاً على رقاد الموت، فمن يحيا مع الله حياة البر يكون فى سلام، فلا يخاف الموت، بل يكون منفرداً ومتميزاً عن غيره من البشر فى قبول الموت بطمأنينة على رجاء الحياة الأبدية؛ وهكذا فى الترجمة السبعينية يقول “اسكنتنى على الرجاء”.
- وهذه الآية نبوة عن المسيح الذى يضطجع وينام فى القبر، منفرداً عن كل البشر فى أنه سيقيم نفسه فى اليوم الثالث.
- وهذه الآية تعطى سلاماً للإنسان فكل من ينام وحده بعيداً عن البشر، ينام مطمئناً؛ لأنه بين يدى الله، وعلى رجاء أن يقيمه ليصّلى ويحيا معه. وتنطبق على كل من يحيا وسط الكثيرين، الذين لا يشعرون به وبكل ما يعانيه لكن الله معه، فإن كان يضطجع وينام وحيداً منفرداً؛ ولكنه مطمئناً أنه سيستيقظ ويحيا مع الله.
ليتك تصلى فى نهاية كل يوم بعمق لتتخلص من كل همومك وتشعر بالله، فتنام مطمئناً على رجاء أن تستيقظ؛ لتسبحه وتحيا لهدفك الوحيد وهو محبة الله.