الله مانح البر والخلاص
صلوة لداود
” أسمع يارب للحق أنصت إلى صراخى .. ” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى الذى تميز بكثرة الصلوات وهذا المزمور كله يعتبر صلاة، لذا كتب فى عنوانه أنه صلاة لداود. فإن كانت سمة المزامير كلها الصلاة ولكن هذا المزمور أمتلأ بالتوسلات والتضرعات من بدايته إلى نهايته.
- متى قيل ؟
أ- عندما كان داود هارباً من وجه شاول.
ب- عندما هرب من وجه أبشالوم.
- هذا المزمور صادر من قلب مظلوم، يؤمن بالله القادر أن ينصفه ويخلصه، ثم يخرج بطمأنينة منتصراً بقوة الله.
- إن كان هذا المزمور عنوانه “صلاة” ، فتوجد أربعة مزامير أخرى عنوانها أيضا “صلاة” هى 86 ، 90 ، 102 ، 142 .
- هذا المزمور ينطبق تماماً على المسيح أثناء آلامه، فيعتبر من المزامير المسيانية . والمزامير من (مز16–24) تحدثنا عن المسيح المخلص، وأكثرها وضوحاً هو
(مز22) الذى قال المسيح بدايته وهو على الصليب (الهى إلهى لماذا تركتنى) وهذا المزمور والسابق له ، أى (مز16) متشابهان جداً، حتى أن الآباء يطلقون عليهما التوأمين. - هذا المزمور يصلح أن تقوله الكنيسة فى كل ضيقة وكل مؤمن، عندما تمر به أية تجربة.
(1) الله الذى يبرر (ع1-5):
ع1: 1- اسمع يا رب للحق انصت إلى صراخي اصغ إلى صلاتي من شفتين بلا غش.
- إذ يجد داود الظلم محيطا به، ينظر إلى الله الذى هو الحق واثقا أنه يرفض الظلم؛ لأنه كامل فى عدله، ويتوسل إليه أن يسمع شكواه التى هى حق ضد افتراءات ومظالم أعدائه.
- يخرج داود مشاعر من أعماقه لأنه متألم ومظلوم ، فخرجت صلاته كصراخ إلى الله.
- يؤكد داود أن كلامه وتوسلاته نقية أمام الله، عكس أكاذيب أعدائه، الذين قاموا عليه.
- يظهر إيمان داود بالله فى لجاجته، إذ يكرر الصراخ والتوسلات إلى الله ثلاث مرات فى هذه الآية وطوال المزمور عندما يقول (أسمع، أنصت، أصغ). ولجاجته تعبر أيضا عن مدى معاناته من الظلم وطلبه من الله الالتفات إليه والاهتمام بتفاصيل صلاته ولعله يحدث الثالوث القدوس ، طالبا المعونة من الله بكل أقانيمه.
- يثق داود أن الله يحب البر ويستجيب لصلوات الأبرار، فطلبة البار تقتدر كثيرا فى فعلها (يع 5 : 16) ، فيقول لله أن صلاته من “شفتين بلا غش” ولا يقصد بالطبع أن يتكبر .
- لا تنطبق هذه الآية بالتمام إلا على المسيح البار القدوس ، الذى شفتيه بلا رياء، فهو القائل “من منكم يبكتنى على خطية” (يو 8 : 46) . والمسيح هنا يشفع فى كنيسته كلها كنائب عنها أمام الله الآب ليرفع عنها ظلم الشيطان.
ع2: 2- من قدامك يخرج قضائي عيناك تنظران المستقيمات.
- يؤمن داود أن الله وحده هو القاضى للمسكونة كلها، وأن كل أحكام البشر باطلة بدون الله، فقضاء داود يخرج من قدام الله وهذا يثبت داود، فلا يتزعزع من أكاذيب الأشرار، مهما بدت كثيرة، أو مقنعة ، لأن الله فاحص القلوب والكلى وكل شئ مكشوف وعريان أمامه، ومن ناحية أخرى لا يحابى أحداً .
- الله القدوس لا يرى إلا المستقيمات، ويرفض المعوجات من أفعال البشر؛ لذا فداود متأكد أن الله سينظر إلى استقامة سلوكه وينقذه من الأشرار.
- إذ أحب داود الله وتعلق به يتمنى أن تخرج كلماته وأحكامه أى قضائه لشعبه كملك – من قدام الله، فداود بالحق قلبه مثل قلب الله ويريد أن مشيئته تكون هى مشيئة الله، وبالتالى تكون عيناه لا ترى إلا المستقيمات ، كما يظهر فى الترجمة السبعينية، التى تقول عيناى تنظران إلى المستقيمات.
- الترجمة السبعينية تقول “من قدام وجهك يخرج قضائى” ووجه الله هو المسيح “لأن الله لم يره أحد قط الإبن الوحيد الذى هو فى حضن الآب هو خبر” (يو 1 : 18) فالمسيح هو القاضى العادل والديان فى يوم الدينونة (يو 5 : 22 ).
- عندما يطلب داود قضاء الله، فهو يثق أن قضاءه لخير الأعداء وليس شراً لهم ، حتى لو كان قضاء الله فيه تأديب للأعداء ، فذلك حتى يتوبوا ويخلصوا. فداود يحب أعداءه ويطلب خيرهم، عندما يطلب القضاء من وجه الله.
ع3: 3- جربت قلبي تعهدته ليلا محصتني لا تجد في ذموما لا يتعدى فمي.
محصتنى : فحصتنى.
ذموماً : سوءا وهى من الفعل ذمَّ.
- إن داود الذى يسلم حياته لله ويخضع لوصاياه، يحاسب نفسه فى كل ليلة، فيجد أن الله بوصاياه يفحصه وينبهه إلى آثامه، ليتوب عنها وينقيه من كل شر.
- إن داود لا يراجع نفسه عن أفعاله وكلماته فقط، بل أيضا عن مشاعر قلبه ونياته الداخلية، فالله يجربه فى كل ليلة، أى أن الله يتعهده دائماً بالفحص عن طريق محاسبة النفس، وهذا يبين أن داود يحيا دائماً فى التوبة والنقاوة؛ لذا فصلاته الصادرة من قلب نقى، كلها كلمات نقية. ويبدو أنه كان يقضى فترة طويلة من الليل فى هذه التوبة؛ لأنه يقول تعهدته ليلا، فإن كان يقضى النهار فى العمل، فالليل يقضيه فى التوبة والتأمل فى وصايا الله ؛ ليكون نقيا.
- يتكلم داود بثقة مع الله الذى ينقيه فى كل ليلة، فيعلن أنه لا يوجد سوء، أو شر داخله. وهو أيضا لا يتكلم بكبرياء، بل يبين كيف أن عمل الله كامل فى تنقيته. وفى المزمور السادس يؤكد توبته العميقة فى كل ليلة بقوله “تعبت فى تنهدى. أعوم فى كل ليلة سريرى بدموعى أذوب فراشى” (مز6 : 6).
- إن الله عندما يجرب إنسانا، فإنه يفحصه فحصاً كاملاً ، فيكون فى منتهى النقاوة. فداود هنا ينسب التنقية لله، عندما يقول جربت قلبى؛ لتكون النتيجة مضمونة وهى النقاوة.
- الذى ينشغل بشهوات العالم أثناء النهار يمتلئ ليله بالأفكار والأحلام الشريرة، أما الذى يجعل الرب أمامه فى كل حين (مز16 : 8) مثل داود، فإن ليله يكون مع الله، فيسمع صوته الذى يتعهده وينبهه للتوبة ويتأمل إحسانات الله ، فيشكره، فيصير الليل لذة له أكثر من النهار، إذ أن قلبه متفرغ للصلاة، كما قال الآباء القديسون “الليل مفروز للصلاة”.
- إن تعهد الله لداود ليس فقط ليلا، بل أيضا فى النهار .
- إن أتى فكر شرير على ذهن داود، فهو يطرده فى الحال ولا يخرجه إلى كلمات؛ لذا يقول لا يتعدى فمى.
- داود فى اتضاع ينسب التنقية كلها لله عندما يقول “جربت قلبى” ثم “تعهدته ليلا” وبعد ذلك “محصتنى” أى فحصتنى بكل دقة فى تجارب صعبة ، كما ينقى الذهب بالنار من الشوائب، فوجدتنى فى النهاية نقيا “لا تجد فى ذموماً” وبالتالى يترجى الله أن يسمعه وينقذه من الأشرار الظالمين.
- نلاحظ أ ن داود لا يتكلم عن شرور أعدائه ، لكنه يصلى بقلب نقى ليس فيه ذموماً نحو أى إنسان، وهذا أحد شروط الصلاة المقبولة، التى نلاحظ باقى شروطها فى آيات المزمور كله، فهو لا يدين أحداً، ويصلى بقلب لا يحمل ضيقاً ممن أساءوا إليه؛ لذلك يسمع الله صلاته.
ع4: 4- من جهة اعمال الناس فبكلام شفتيك انا تحفظت من طرق المعتنف.
المعتنف : العنيف والقاسى
- يظهر فى هذه الآية اهتمام داود بكلام شفتى الله، أى وصاياه ، فيتأمل فيها ويطيعها ويجعلها تتقود حياته فى سلوكه مع الآخرين.
- لا يضطرب من أعمال الناس العنفاء، المسيئين إليه، أو لغيره، بل يظل فى سلوكه المستقيم بحسب وصايا الله، فيحب الكل ولا يغلبه الشر، بل يغلب الشر بالخير، فالفضل فى أعمال داود المستقيمة يرجع إلى كلام الله.
- يتمتع داود باللسان النقى كما قال فى (ع 1) “من شفتين بلا غش” وكذلك بقلب نقى (ع3) ، فالله جرب قلبه ولم يجد فيه “ذموماً” . وفى هذه الآية يحدثنا عن أعماله النقية التى بحسب وصايا الله، حتى لو عاش وسط الأشرار القساة القلوب ، فلا يتأثر بطرقهم وسلوكهم.
- إن كانت طرق الأشرار العنفاء تحمل كلاماً سيئاً ضد داود ، فلم يندفع داود البار بكلام شرير عليهم أو ضدهم؛ لأنه مطيع لكلام الله الذى يحفظه من الشر. فكلام الله يحفظ لسان أولاده الأبرار؛ لكى لا ينزلقوا فى الشر، حتى لو قال عنهم الأشرار كلاماً سيئاً.
ع5: 5- تمسكت خطواتي باثارك فما زلت قدماي.
- ما هى آثار الله، إلا أعماله مع البشر وفى الطبيعة التى كلها خير وللبنيان، بهذه الآثار أعجب داود، فسار وراء الله ليعمل خيراً مع كل إنسان حتى الأشرار منهم.
- نرى فى هذه الآية تعلق داود بالله وثقته كإبن فى تمسكه بآثار الله، فهو لا يستطيع أن يسير فى طريق بدون الله، أى يكون الله قائداً له ونوراً لسبيله.
- انقياد داود وراء الله حفظه من الانقياد وراء الشر، وبالتالى لم يتعرض للانزلاق والسقوط فى خطايا المحيطين به من الأشرار.
- تظهر محبة الله فى اهتمامه بأولاده الأبرار، إذ يضع علامات على الطريق الروحى المؤدى إلى الملكوت، ليسير أولاده على هداها وهى آثاره. فالله لا يترك نفسه بلا شاهد (أع 14 : 17) ، مثل الأبرار والصديقين الذين يعيشون بيننا، وكذلك كل ما يحدث من الأحداث التى تحيط بنا، حتى إساءات الآخرين إلينا قد تكون علامة على الطريق، لنحترس من الانزلاق فى الخطية.
- فى الترجمة السبعينية يقول “ثبت خطواتى” بدلا من “تمسكت خطواتى” ويظهر من هذا طلب داود معونة الله التى تثبته فى الطريق، فحتى ولو كان الطريق كرباً، ولكنه يستطيع أن يعبره بمعونة الله، بل يكون ثابتا فى الطريق الإلهى، لا ينحرف عنه بحيل إبليس.
- هذه الآية نبوة عن آثار المسيح الذى تجسد وعاش فى وسطنا لكى نقتدى به فى كل حياته، كما تظهر من الأناجيل الأربعة.
(2) الله القوى المخلص (ع 6-12):
ع6: 6- أنا دعوتك لأنك تستجيب لي يا الله أمل أذنك الي اسمع كلامي.
- يؤمن داود بأبوة الله وأنه يسمعه ويستجيب له، لأنه قادر أيضا على الاستجابة؛ لذا يدعوه ويطلب منه كل احتياجاته فى الصلاة، ويثق أيضا فى عدله، فهو لا يرضى بالظلم.
- يثق كذلك داود فى محبة الله واتضاعه، ويطلب منه أن يتنازل ويميل آذنه إلى صلواته. فهو يعرف أن له مكانة فى قلب الله لا يملأه سواه، ويثق أن الله يهتم به ويسمع طلباته.
- إن داود قد اختبر الله فى حياته فطلبه كثيرا واستجاب له، فهذا يعطيه ثقة ودالة ليدعوه اليوم.
- إمالة الله آذنه تظهر واضحه فى تجسد ابنه الوحيد، ليعلن قربه منا واهتمامه باحتياجاتنا، وبالتالى فهذه الآية نبوة عن المسيح، لأن المسيح شفيعنا لأننا بواسطة فدائه تصل طلباتنا إلى الآب.
ع7: 7- ميز مراحمك يا مخلص المتكلين عليك بيمينك من المقاومين.
- إن داود الذى يثق فى رحمة الله، يطلب مراحم متميزة وعجيبة للمتكلين على الله مثله، إذ ليس له إلا الله الذى يسنده، أما الأشرار المقاومون فيتكلون على قوى العالم، أى نفوذهم وأموالهم وكثرة عددهم، والله بحكمته وعدله يفيض مراحم لا تحصى على المتكلين عليه.
- إن داود يثق فى رحمة الله، فيطلب أن تكون هذه المراحم من يمينه، أى من كمال قوته، فتكون مراحم عجيبة وعظيمة، فهى بالطبع ستسند المتكلين عليه.
- إن داود يطلب من الله أن يستجيب لصلواته لأنه هو الحق والعدل (ع1) وأيضا لأنه بار، فهو يهتم بالأنقياء (ع 3) ، ثم من جهة ثالثة يطلب استجابة صلواته من الله الرحوم، الذى يرحم كثيراً المتكلين عليه (ع6).
- يمين الله ترمز للمسيح الذى جلس عن يمين الآب، فهى هنا ترمز لتجسد المسيح، الذى يرحم المؤمنين المتكلين على الله بفدائه.
- يطلب داود من الله أن يميز مراحمه، بمعنى أن يظهرها بوضوح لئلا يظن بعض الناس أنها تتم صدفة وليست من الله. فهو يريد أن يعرف كل البشر أن الله هو مصدر المراحم، وأنه يستخدم البشر وأحداث الحياة، كأدوات لإظهار مراحمه، أما هنا فيود داود أن تكون مراحم الله متميزة لا يستطيع الإنسان أن يتغافلها، أو يتشكك فيها، مثل وقوف الشمس ليشوع أثناء حربه (يش10: 13) أو تراجع الظل لإعلان رحمة الله فى امتداد حياة حزقيا الملك خمسة عشر عاماً (أش38: 8).
- إن يمين الله التى تسند الإنسان وتحميه لا تمنع حروب المقاومين ولكنها تسنده، فيتغلب عليها، ففى الحياة سنقابل تجارب ، لكن مسيحنا يعدنا أنه “فى العالم سيكون لكم ضيق لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم” (يو 16 : 33).
ع8: 8- احفظني مثل حدقة العين بظل جناحيك استرني.
حدقة: فتحة مستديرة وسط قزحية العين تبدو سوداء اللون ولكنها شفافة ومنها يدخل الضوء إلى داخل العين وهى فى مركز العين.
- يطمئن داود لرعاية الله وحنانه، فيطلب منه أن يعتنى به ويحفظه وهو يثق فى رعاية الله الدقيقة التى تعتنى بضعفه، كما يعتنى الإنسان بعينه فيغلق أجفانه عليها، حتى لا تتعرض للأتربة، أو لأى أجسام غريبة ، هكذا يحفظه الله من كل شر ، ومن أية مشاكل أكبر منه ويغلق عليه فى أحضانه، فيطمئن مهما أحاطت به المشاكل. فيجعله الله يغمض عينيه عن المناظر الشريرة، ويتأمل أعمال الله فى كل شئ حسن حوله.
- يشعر داود فى اتضاع بضعفه ويطلب حماية الله التى تستر عليه بجناحيه، حتى لا تحرقه الشمس التى ترمز إلى التجارب، فهو فى ظل الله يشعر بالحماية والطمأنينة، كما تحمى الدجاجة فراخها بجناحيها (مت 23 : 37).
- يثق داود فى بنوته لله، أى محبة الله له كأب لإبنه، بل وأعلى من هذا إذ يشعر أنه حدقة عين الله (زك 2 : 8) التى يحفظها برعايته وبثقة الحب هذه ينال بركات وفيرة ورعاية من الله.
- إن عين الإنسان خلقها الله وسط عظام تحيط بها تسمى محجر العين، لكى تحفظ العين من أية إصابات خارجية. والعين عضو هام جداً فى الجسم من خلاله يرى الإنسان كل ما حوله، فيقود الجسم كله فى الطريق السليم. فعناية الله بالعين عناية بالجسم كله، وعناية الله بداود هى عناية بكل شعبه، لأنه هو راعيه.
- حفظ الله لحدقة العين هو أن يجعلها عين بسيطة ترى الله فى كل ما حولها وتبتعد عن الشر ، فالله هو مصدر الاستنارة الروحية، التى يهبها للعين. والعين المحاطة بعظام الوجه تشبه أورشيلم المحاطة بالجبال المستنيرة بالهيكل الذى فى وسطها.
ع9: 9- من وجه الاشرار الذين يخربونني اعدائي بالنفس الذين يكتنفونني.
أعداء بالنفس : أعداء نفسى.
يكتنفوننى: يحيطون بى.
- فى الآية السابقة أظهر داود ثقته فى رعاية الله التى تشبه العناية بحدقة العين والاحتماء بجناح الله، وهنا يعلن عدم انزعاجه من محاولة الأشرار تخريب نفسه، فهم بلا قيمة ما دام متكلا على الله ومحتميا به. هذا ما حدث مع داود عندما قام مشيرو شاول بتحريضه ضد داود لقتله، ولكن الله كان دائماً يحميه.
- تظهر بشاعة حروب الشيطان فى أنه يريد تخريب نفس الإنسان وبالتالى فلا مهادنة مع الشيطان، بل يجب الابتعاد عن كل شر وشبه شر؛ لأن الشيطان المتحايل يقدم الخطية بشكل جذاب ، ليسقط الإنسان فى الفخ.
- الأشرار فى شرهم يحيطون بالبار لكيما يسقطونه، لذا فإن تحصن البار بالله، فى شكل الممارسات الروحية من صلوات وأصوام، يكون قد بنى سوراً حول نفسه، لا يستطيع الأشرار أن يقتحمونه، فالالتجاء إلى الله هو الحل الوحيد. فمن أجل إحاطة الأشرار بداود يتضرع إلى الله ليسرع ويحميه، فالتضرع إلى الله هو الملجأ والحل الوحيد.
ع10: 10- قلبهم السمين قد اغلقوا بافواههم قد تكلموا بالكبرياء.
- يصف داود الأشرار أن قلبهم سمين، لأنهم اهتموا بإشباع شهواتهم وعمل كل شر، فصاروا فى أنانية شديدة، وبالتالى صاروا عاجزين عن الإحساس بمن حولهم، أو تقديم الرحمة والمحبة للمحتاجين. ولكن على العكس أغلقوا قلوبهم ومشاعرهم عمن حولهم.
- من إغلاق الأشرار قلوبهم نفهم أن الإنسان له حرية أن يشعر بمن حوله، أو يرفض ذلك، فمن انشغل بتسمين قلبه، سيفقد إحساسه بالناس، فيرى احتياجاتهم بعينيه ولا يتحرك قلبه لمساعدتهم. والذى أغلق قلبه بالشهوات لن يشعر بالله، وبالتالى لن يشعر بالآخرين. فمن لا يحب الله سيعجز عن محبة الآخرين.
- إذا كانت الأنانية والشهوات ستؤدى إلى الابتعاد عن عمل الرحمة، فستقود الأشرار أيضا إلى ما هو أردأ وهو التكلم بكبرياء ومضايقة الآخرين، بل واحتقار الضعفاء . وهكذا نرى أن الخطية تندرج من مشاعر القلب الشريرة إلى الكلام السئ، فمن لا يعالج الأفكار والمشاعر الداخلية سيزداد الشر داخله ويظهر على شفتيه ، ثم أفعاله.
- تنطبق هذه الآية على الأشرار الذين أحاطوا بداود، مثل شاول وأبشالوم ابن داود، وكل من حاول الإساءة إلى داود. وتنطبق أيضا على المسيح الذى حاول الكتبة والفريسيون والكهنة ورؤساء الكهنة إصطياده بكلمة وإيقاعه فى يد السلطة الرومانية، ثم محاولات قتله، التى انتهت بصلبه، وهم بذلك قد أغلقوا قلوبهم عن الاستماع لكلامه، وتكلموا أيضا بالكبرياء عليه.
ع11: 11- في خطواتنا الان قد احاطوا بنا نصبوا اعينهم ليزلقونا الى الارض.
يزلقوننا : يسقطوننا فى الخطية.
- الأشرار يراقبون تحركات البار فى كل خطوة ليحيطوا به ويؤذونه، فهو محتاج لمعونة الله التى تحميه وتخلصه من أيديهم.
- الأشرار يعدون الفخاخ لنا، لتنزلق فيها وننخدع بها، فنسقط فى أيديهم، ثم يضحكون علينا. فهم يفرحون بالشر، إذ ليس عندهم محبة، أما البار فيسعى لعمل الخير حتى مع الأعداء، لذا يحميه الله.
- ينبغى أن يحترس البار من الفخاخ التى ينصبها الأشرار وهى مختفية، أو مغطاة بأمور جذابة ، ليخدعوا الأبرار بها. والعلاج هو الصلاة والتدقيق.
- إن كان داود فى الآيات السابقة قد تكلم عن البار بصيغة المفرد، فالآن فى هذه الآية يتكلم بصيغة الجمع، لأن الشيطان يحارب الكنيسة كلها، أو جماعة الأبرار، فليس المسيح فقط، بل كل أولاده.
- الأشرار يحاولون إسقاطنا فى الأرضيات، أى الشهوات الأرضية، ولكن إن تعلقت قلوبنا بالسماء ستضعف حيلهم وتكاد تنتهى، إذ نستخدم الأرضيات كقوت وكسوة ولكن تنجذب قلوبنا السمائيات.
ع12: 12- مثله مثل الاسد القرم الى الافتراس و كالشبل الكامن في عريسه.
القرم : المتلهف للافتراس.
عريسه : عرينه وهو بيت الأسد.
- يستنجد داود بالله، لأن الشرير الذى يقف أمامه – ويقصد به الشيطان وكل من يتبعه- يشبه الأسد فى قوته، وهذا الأسد يشتاق، ويتلهف لافتراس داود، إذ ان طبيعته الشريرة تدفعه للإساءة إلى الآخرين، فهو يحب الشر ويفرح بتدمير الآبرار.
- يشبه الشرير أيضا بأنه لو بدا صغيرا مثل الشبل لكنه يجلس فى بيته منتظراً الفرصة، ليحطم البار، فإن كان يعانى من بعض العجز الآن، لكنه ينتظر أقرب فرصة ليسئ إلى البار.
- الشرير فى شره صار مثل الحيوان المفترس وهو الأسد، أى أنه ابتعد عن الله، فصار مثل الحيوان، فلا يفهم المحبة والقيم الروحية، بل يؤمن فقط بشهواته واتمامها على حساب الآخرين.
- إن الشرير يشبه الأسد المشتاق لافتراس كل من يصادفه. ومعلوم أن الذى يفترس هو اللبؤة، أى الأم التى تترك أبناءها الأشبال فى بيتهم، وتخرج لافتراس من يصادفها وتأتى بالفريسة لتكون طعاماً لزوجها وأبنائها، وتكون اللبؤة بقلقها على أبنائها الذين تركتهم فى البيت عنيفة فى افتراسها، ومن ناحية أخرى تبحث عن طعام لهم، حتى لا يموتوا جوعاً . هكذا الشرير دائم الميل للشر وفى قلق مستمر، فيسئ لكل من يقابله، خاصة الأبرار ، الذين يرمز إليهم بالحيوانات الأليفة.
- الأسد يتميز بالقوة وأيضا بالمكر، فهو ينتهز الفرصة، ليهاجم الحيوان الأخير فى القطيع الكبير؛ حتى لا يفتك به القطيع، وهو بهذا يرمز للشرير الذى يتحين الفرصة ليهلك البار، إذا ابتعد قليلاً عن باقى القطيع، أى أعضاء الكنيسة وتهاون فى علاقته مع الله.
إن كان الأشرار أقوياء ومخادعين ويريدون إفتراسك فلا تنزعج لأن إلهك أقوى منهم. لا تنظر إلى ضعفك، بل إلى قوة الله، فتسير مطمئناً وسط الأشرار، بل تحبهم وتشفق عليهم، فتكسبهم وتعيدهم لله بمحبتك.
(3) الله المنتصر (ع 13-15):
ع13: 13- قم يا رب تقدمه اصرعه نج نفسي من الشرير بسيفك.
- يرى داود أنه ضعيف فى مواجهته مع الشيطان من خلال الأشرار، الذين يريدون إهلاكه فيطلب من الله أن يكون حاجزاً بينه وبين الشرير، مثلما تقدم الله وحجز بين بنى إسرائيل والمصريين بعمود النار أمام البحر الأحمر، وحجز بينهما حتى عبر شعب الله أمام فرعون وجيشه، فلم يلمسوا شخصا واحدا من شعب الله وغرقوا فى البحر الأحمر (خر 14 : 29) فيمنع إساءاته إلى داود لأن الله أقوى من كل الأشرار وقادر أن يحمى أولاده.
- يثق داود فى قوة الله القادرة أن تنتصر وتهلك الشيطان، أى تخضعه وتحمى أولاد الله منه. وهكذا ينقلب الشر على رأس الشرير، فبدلا من أن يصرع البار يصرعه الله. وداود هنا لا يريد الانتقام من الشرير، بل الانتقام من الشر وإظهار بطلانه ليثبت إيمان أولاد الله.
- يطلب داود من الله أن ينجيه بسيفه وهو كلمة الله التى تشبع الأبرار وفى نفس الوقت تحكم على الأشرار وتدينهم وتهلكهم إن لم يتوبوا.
- يظن الأشرار أن طول أناة الله معناها إهماله للبشر، أو ضعفه ، لذا ينادى داود الله أن يقوم، أى يظهر قوته، ليوقف تمادى الأشرار فى شرهم، ويخلص نفسه وكل الأبرار.
- إن كان سيف الله يقصد به كلمة الله، فهو يرمز أيضا إلى سلطانه وعدله، وكذلك غضبه وهو يعلن الحق أمام أباطيل الأشرار. والله إن صمت فترة ليعطى فرصة للأشرار حتى يتوبوا، ولكنه حتما سيستخدم سيفه لإهلاك المقاومين له، الذين يريدون إهلاك الأبرار.
ع14: 14- من الناس بيدك يا رب من اهل الدنيا نصيبهم في حياتهم بذخائرك تملا بطونهم يشبعون اولادا و يتركون فضالتهم لاطفالهم.
ذخائر: كنوز وعطايا ثمينة.
- يؤكد داود حاجته إلى الله لينقذه من أيدى الناس، أهل الدنيا، أى الأشرار المحيطين به، فهو يثق فى يد الله القادرة أن تحميه مهما كثر أعداؤه.
- إن الأشرار نصيبهم هو شهواتهم الأرضية التى ينالونها أثناء حياتهم على الأرض. أما نصيب الأبرار فهو الله، الذى يحيون معه على الأرض، حتى يأخذهم معه فى الملكوت السماوى.
- إن الأشرار ينسون أن الله هو مصدر كل النعم التى يتمتعون بها من طعام، أو شراب، أو مقتنيات، فلا يشكرونه، بل يقومون على أولاده الأبرار ليهلكونهم.
- من عطايا الله للبشر أنه يعطيهم أولاداً، ويعطيهم أيضا بركات مادية ليشبعوا بها ويعطوا الباقى منها لأولادهم، فيشبعون هم أيضا. فى كل هذا لا ينسبون المجد لله، ولا يشكرونه، وتظهر هنا أنانية الأشرار، الذين يشبعون أولا ثم يعطون أولادهم، وهذا يتعارض مع المحبة الباذلة.
- يد الله ترمز لعمله الملموس بين البشر، وأوضح صورة لعمله وهو تجسده ليفدى البشرية. فداود يشتاق لفداء المسيح، ويتكلم عنه بروح النبوة حتى تخلص البشرية من سطوة الشيطان.
- إن الأشرار الذين وهبهم الله ذخائراً كثيرة مازالوا فى شرهم يريدون افتراس الآخرين، فهم غير محتاجين للافتراس لأنهم فى شبع، ولكن محبتهم للشر تدفعهم لذلك .
- إن ترك الأشرار فضلاتهم لأولادهم يعلم الأولاد شهوة الافتراس وإهلاك الآخرين، فيصيرون أشراراً مثل أبائهم. وهذا منتهى الغباء الروحى أن يفسد الإنسان أولاده وهو يظن أن هذا يفيدهم.
ع15: 15- أما أنا فبالبر انظر وجهك اشبع اذا استيقظت بشبهك.
- على الجانب الآخر فإن البار يسلك فى حياة مستقيمة مع الله، وبهذه الاستقامة والبر يفرح به الله، فيكشف له أسراره ومعرفته فيتمتع برؤية الله. وهذا هو الملكوت على الأرض الذى إذا عاشه الإنسان يتأهل للملكوت السماوى. وكلما سار الإنسان فى البر يكتشف الله فى أعماله ويراه بوضوح فى كل ما حوله.
- إذا نظر الإنسان الله يمتلئ قلبه بمخافته ومحبته، فيبتعد عن الشر ويقبل إلى الخير، أى ينمو فى البر كل يوم.
- إن البار لا يستطيع أن يبدأ يومه إلا بالصلاة ليرى الله، فيشتاق للتشبه به فى أعماله طوال اليوم. وعندما يتشبه بالله يفرح ويشبع روحياً بمحبة الله، بل ويكفيه أيضا فى كل احتياجاته الجسدية.
- إن البر الكامل هو المسيح، الذى عاش بلا خطية على الأرض “والله لم يره أحد قط الإبن الوحيد الذى هو فى حضن الآب هو خبر” (يو 1 : 18). فبالمسيح البار نستطيع أن نرى الله الآب، والمسيح أعلن ذلك بوضوح عندما قال “بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا” (يو 15 : 5 )، وننهى الصلاة الربانية بالمسيح يسوع ، الذى به ننال كل طلباتنا. وأهم طلبة أن نرى الله، فإذا رأينا الله تشبع نفوسنا، ونظل طوال حياتنا كلها نسعى للتشبه به، حتى نراه أمامنا دائماً. وفى النهاية نصل إلى الملكوت بالبر الذى وهبه لنا على الأرض. وهناك لا نرى إلا الله، الشبع الدائم إلى الأبد. من هذا نفهم أن هذه الآية نبوة عن المسيح.
- إن البر هو نقاوة القلب، والمسيح أعلن فى عظته على الجبل قائلاً “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5 : 8) ، فبالبر ننظر وجه الله .
- إن كان الأشرار يشبعون بشهوات العالم ولا يدركون الله عاطيها (ع 15) فإن الأبرار يشبعون برؤية الله والتشبه به، ويرون أن كل الماديات التى بين أيديهم نعمة من الله وتحدثهم عنه.
- إن البار بالبر ينظر الله طوال اليوم، وفى الليل يرى الله فى أحلامه، وعندما يستيقظ يشتاق للتشبه بالله فى أفكاره وكلامه وسلوكه.
- يختم داود المزمور بأن حياة البار هى فى رؤيته لله دائماً من خلال صلاته المستمرة. وهو إن انشغل عن الله يعود فينتبه ويستيقظ من غفلته، فيرى الله ويشبع به ويكون فى حياته متشبها بالله، أى إنسان حقيقى كما يريده الله الذى خلقه على صورته وشبهه. وإن سقط فى خطية يقوم منها مع المسيح القائم، فيعود وينظر الله ويتمتع به.
إن حياتك هى الله وتستطيع أن تتذوقه وتعاينه من خلال الصلاة، فلا تبتعد عنها أبدا، بل أطلب الله كل حين ليس فقط فى أوقات صلاتك الرسمية، بل قبل كل عمل وأثناءه وبعده، فتتمتع برؤيته.