الله مخلص شعبه
“لإمام المغنين على يدوثون. لأساف، مزمور
صوتى إلى الله فأصرخ، صوتى إلى الله فأصغى إلىَّ..” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : أ- آساف رئيس المغنين أيام داود النبى، وهو من سبط لاوى، وكان يرأس جميع فرق المغنين فى الأعياد الرسمية.
ب- هناك رأى بأن كاتبه هو يدوثون، وهو أيضاً قائد للمغنين تحت يد آساف، ويسمى أيضاً إيثان الأزراحى.
- يعتبر نبوة عن فترة سيعانى فيها شعب الله من الآلام والإحساس بابتعاد الله عنهم، وهى فترة السبى. ويرى البعض أنها نبوة عن الفترة التى قبل حكم يوشيا الملك، حين ابتعد الشعب عن الله أيام الملكين منسى وآمون.
- يشبه هذا المزمور صلاة حبقوق النبى (حب 3) ، ويرجح أن حبقوق اقتبس، أو تأثر بهذا المزمور؛ لذا ظهر هذا التشابه فى صلاته.
- يركز هذا المزمور على عمل الله العجيب فى عبور البحر الأحمر أيام موسى (خروج 14 ، 15).
- يناسب هذا المزمور كل إنسان يعانى من ضيقة وابتعاد الله عنه، فيتذكر أعمال الله السابقة معه، ومع شعبه، فيطمئن قلبه، ويثبت الرجاء فيه.
- لا يوجد هذا المزمور فى صلوات الأجبية.
(1) صراخ لتوقف مراحم الله (ع1-10) :
ع1: 1- صوتي إلى الله فأصرخ صوتي إلى الله فأصغى إلي.
- شعر كاتب المزمور بضيق شديد فى داخله واحتياج قوى إلى الله، فصرخ من ألمه إلى الله لينقذه. وهذا يبين إيمانه أولاً لأنه تكلم مع الله، وطلبه لكى ينقذه، ثم إزدادت حرارة الصلاة، فصرخ إليه. وبعد هذا يظهر إيمانه أيضاً فى ثقته أن الله أصغى إلى صلاته.
- لعل كاتب المزمور شعر بضعفه، وكثرة خطاياه، فصرخ إلى الله، لأنه ابتعد عنه، فطلب نجدته السريعة، ورحمته، وغفرانه، والله أصغى باهتمام إلى صلاته، وهذا يبين محبة الله، واهتمامه بالمصلين إليه.
ع2: 2- في يوم ضيقي التمست الرب يدي في الليل انبسطت و لم تخدر أبت نفسي التعزية.
تخدر : أى صارت كأنها تحت تأثير التخدير، فصارت فاقدة للإحساس (منملة) والعمل. “ولم تخدر” يقصد بها لم تتوقف عن العمل.
- عندما تعرض كاتب المزمور للضيق اتجه فوراً إلى الله؛ لينقذه، ويسانده، فهو لا يعرف أحداً سواه.
- رغم الضيق استمر كاتب المزمور فى العمل، وهو الصلاة، وعمل كل شئ صالح، والأمانة فى مسئولياته رغم الليل، أى الوقت الذى يستريح فيه الكل، ولكن الضيق دفعه للعمل البناء. ولو كان الليل يرمز للخطية، فهو لم يستسلم لحروب الخطية، وظل يجاهد، ولم تتوقف يديه عن العمل.
- استمر الكاتب فى الصلوات لينقذه الله من الضيقة، ورفضت نفسه أن يتعزى من كلمات الأحباء، وكل البشر المحيطين به، لأنه كان يطلب التعزية من الله وحده. وبالإضافة إلى هذا، فقد كان متمسكاً بالصلاة إلى أن يحل الله مشكلته، فهو لا يريد التعزية، بل يطلب أيضاً رفع الضيقة.
ع3: 3- أذكر الله فأئن أناجي نفسي فيغشى على روحي سلاه.
يغشى على روحى: أصاب بالإغماء
- يعبر كاتب المزمور عن مدى ضيقه بأنه عندما كان يصلى، ويذكر اسم الله ليمجده، كان قلبه ينفتح، ويحكى لله كل الآمه، فيتألم فى داخله، ويئن من الآلم النفسى والجسدى، فيتكل على الله، ويستند عليه.
- ولكن عندما لا يصلى، ويفكر فى أحواله بينه وبين نفسه فإن روحه، أو نفسيته لا تحتمل آلامه، فيصاب بالإغماء، أى لا يحتمل جسده تذكر صعوبة الآمه. فهذا يبين أنها كانت شديدة جداً، وفوق احتماله لولا مساندة الله التى ينالها من خلال الصلاة.
- ينهى هذه الآيات الثلاثة السابقة بكلمة سلاه، وهى وقفة موسيقية للتفكير والتأمل فى الله، الذى يساندنا وقت الضيقة.
ع4: 4- أمسكت أجفان عيني انزعجت فلم أتكلم.
من كثرة هموم كاتب المزمور لضيقته الشديدة أمسك أجفان عينيه، أى لم ينم، وظل يفكر فى مشاكله، فانزعج قلبه، وعجز عن الكلام مع الناس، ولكن ظل حديثه مع الله، كما ذكرنا فى الآيات السابقة. فهو يؤكد أن راحته الوحيدة فى الضيقة هى فى الصلاة. وبهذا نرى أن كاتب المزمور عندما فكر فى الضيقة بينه وبين نفسه انزعج؛ لأنها صارت فوق احتماله. وهذه هى فترة معاناة مرَّ بها، أو حرب من الشيطان جعلت ضيقه النفسى يزداد، فماذا سيفعل؟ سنرى فى الآيات التالية.
ع5: 5- تفكرت في أيام القدم السنين الدهرية.
وجد كاتب المزمور الحل للخروج من ضيقته، وهو تذكر عمل الله مع شعبه فى القدم والسنين الدهرية، أى القديمة، وكيف حفظ الآباء الأولين، وخلص شعبه من عبودية أرض مصر، وعبر بهم البحر الأحمر، وعالهم أربعين سنة فى البرية …. بالإضافة إلى تذكره أن الله يحبه من قبل تأسيس العالم، ويدبر كل شئ لخيره بما فيها الضيقات. فاطمأن قلبه وقبل الضيقة.
ع6: 6- أذكر ترنمي في الليل مع قلبي أناجي و روحي تبحث.
- عندما تذكر أعمال الله ومحبته، بدأ يرنم ليس فقط أثناء النهار، بل أيضاً فى الليل عندما كان يفكر، وتحول ضيقه إلى فرح. والليل يرمز أيضاً إلى الضيقة، فتحولت ضيقته إلى الراحة والبهجة. وتذكر أيضاً سعادته بأعمال الله السابقة التى ترنم لأجلها وفرح بالله.
- عندما حلت الضيقة بكاتب المزمور لم يتضايق ممن حوله الذين أساءوا إليه، ولكنه أخذ يفكر، ويراجع مشاعره، أما روحه المؤمنة بالله، فكانت تبحث عن الله؛ ليتدخل، أى كان يصلى طالباً سرعة عمل الله وإنقاذه له. وهكذا انشغل قلبه بالله، فتعزى ونسى الضيقة؛ لأن الخلوة والتأمل فى الله مشبع ويرفع عن الإنسان آلامه.
ع7-9: 7- هل إلى الدهور يرفض الرب و لا يعود للرضا بعد. 8- هل انتهت إلى الأبد رحمته انقطعت كلمته إلى دور فدور. 9- هل نسي الله رأفة أو قفص برجزه مراحمه سلاه.
قفص برجزه مراحمه: أى أنه بسبب غضبه أغلق على مراحمه ومنعها عنا كما لو كانت محصورة فى قفص.
- يتساءل كاتب المزمور؛ هل الله يرفضنى ويغضب علىَّ من أجل خطاياى؟ والدليل هو وجود هذه الضيقة. ولكنه يؤمن أن الله حنون ورؤوف، لا يمكن أن ينسى أولاده، وطالبيه، فهو سؤال استنكارى؛ لأنه يثق أن الله لو تخلى لفترة لتأديبنا يعود، فيغمر أولاده بمحبته، لأن رحمته غير محدودة، ولا تنتهى، ولا يمكن أن يحرم أولاده وطالبيه منها، ولا يمكن أن يخفى صوته عن شعبه من خلال أنبيائه، ورجاله الأبرار؛ مهما كانت خطيتهم.
- ينهى هذه الآيات بكلمة سلاه، وهى وقفة موسيقية للتأمل فى مراحم الله الفياضة على أولاده.
ع10: 10- فقلت هذا ما يعلني تغير يمين العلي.
يعلنى : يجعلنى عليلاً، أى مريضاً، ومتألماً.
- إن تغير يمين العلى، أى عمل الله القوى معى؛ بمعنى أنه يرعانى ويهتم بى، ثم يتخلى عنى لتأديبى، هذا يسبب لى ألماً شديداً؛ لأنه ليس لى راحة، أو استقرار إلا فى رعاية الله لى، ورحمته علىَّ.
- تغير يمين العلى تعنى تجسد المسيح لفداء البشرية، واليمين ترمز للقوة، والمسيح الذى فيه كمال قوة الله تجسد ليخلصنا. ولكن كاتب المزمور عندما علم هذا بروح النبوة صار مريضاً، ومتألماً لأنه علم أيضاً أن شعبه اليهود سيرفضون المسيح، ويصلبونه، وبالتالى فإن قساوة قلب شعبه الموجودة حالياً، ستستمر حتى تجسد المسيح وستسبب لهم تخلى الله عنهم، ودخولهم فى ضيقات كثيرة مثل السبى.
إن أتت عليك ضيقة، فاسرع إلى الله، وتذكر مراحمه السابقة وتدابيره لحياتك، حتى يطمئن قلبك؛ بل تقبل الضيقة التى لخيرك وتزداد صلواتك، واحساسك بالله، فترتفع فوق الضيقة.
(2) تذكر أعمال الله (ع11-20) :
ع11: 11- أذكر أعمال الرب إذ أتذكر عجائبك منذ القدم.
- إن كان الله عظيماً فى محبته وعطاياه، فينبغى على الإنسان أن يتذكر أعماله القديمة سواء تدبيره العجيب فى خلقته للإنسان والعالم كله، أو رعايته الخاصة لشعبه، وحمايته، ورعايته لهم. كل هذا يولد فى القلب طمأنينة وفرح.
ع12: 12- و ألهج بجميع أفعالك و بصنائعك أناجي.
لا يكتفى الإنسان الروحى بتذكر أعمال الله، بل أيضاً يلهج بها، ويرددها، ويشكر الله عليها بكل مشاعره أى يناجيه، فيتلذذ بعشرته.
ع13: 13- اللهم في القدس طريقك أي إله عظيم مثل الله.
- إن القدس هو الجبل الذى أخذ من عليه موسى الوصايا والشريعة، وهو أيضاً خيمة الاجتماع حيث وضعت الوصايا والشريعة. ولكن فوق كل هذا فالقدس هو قلب الإنسان المحب لله، الذى يحفظ وصاياه، هناك يستريح الله، ويجد طريقه، ويعمل بحرية فى الإنسان، فيقدسه، ويشبعه، ويكشف له أسرار ملكوت السموات.
- بعد اختبار الله فى القلب يعلن كاتب المزمور أنه ليس إله مثله، ليس فقط فى خلقته للعالم والإنسان، أو عنايته بشعبه، ولكن بالأكثر فى سكناه داخل قلب محبيه؛ ليشبعهم، ويفرحهم.
ع14 ،15: 14- أنت الإله الصانع العجائب عرفت بين الشعوب قوتك. 15- فككت بذراعك شعبك بني يعقوب و يوسف سلاه.
- إن عجائب الله لم تكن بين شعبه فقط، بل ظهرت بين كل شعوب العالم؛ لأنها كانت أعمال عظيمة مبهرة، فقد حرر شعبه من عبودية مصر، ثم شق البحر الأحمر، وعبرَّ شعبه فيه، أما فرعون وكل جيشه، فأعزقهم فى البحر الأحمر، وانتشر هذا الخبر فى العالم كله، حتى أنه بعد أربعين سنة أعلنت راحاب الزانية التى فى أريحا أنها قد سمعت بإله إسرائيل العظيم، الذى يبَّس بحر سوف تحت أقدام شعبه
(يش2: 10). - إن ذراع الله التى فكت شعبه، تشير إلى تجسد المسيح فى ملء الزمان؛ ليحرر المؤمنين به من عبودية الخطية.
- تنتهى هذه الآية بكلمة سلاه وهى وقفة موسيقية للتأمل فى عظمة الله وأعماله العجيبة.
ع16: 16- أبصرتك المياه يا الله أبصرتك المياه ففزعت ارتعدت أيضا اللجج.
اللجج : الأمواج
- عند تدخل الله لإنقاذ شعبه عند البحر الأحمر، عندما شقه ليعبر شعبه وسط المياه على اليابسة، خافت منه المياه، والأمواج، وانسحبت يميناً، ويساراً لتفسح مكاناً لعبور شعب الله، وهكذا أيضاً مياه نهر الأردن خافت من الله عندما أوقف المياه ليعبر شعبه أيام يشوع ومعه تابوت العهد.
- المياه واللجج ترمز للبشر، الذين عندما أبصروا المسيح الإله المتجسد آمنوا به، سواء كانوا من اليهود أو الأمم. وعبور شعب الله بين مياه البحر التى انشقت يرمز للمعمودية التى يعبر فيها المعمد، ثم يخرج ويتحرر من خطاياه.
ع17 ، 18: 17- سكبت الغيوم مياها أعطت السحب صوتا أيضا سهامك طارت.
18- صوت رعدك في الزوبعة البروق أضاءت المسكونة ارتعدت و رجفت الأرض.
- يضيف كاتب المزمور تفاصيل لما حدث عند شق البحر الأحمر، ثم عند دخول فرعون وجيشه وراء بنى اسرائيل، فيذكر أن هناك سحب ظهرت، وأمطرت مياها وحدثت رعود وبروق وزلزلة، فارتجفت الأرض، حتى أن بكر عجلات مركبات فرعون انخلع (خر 14 : 25) فهذه إضافات يعلنها لنا كاتب المزمور تبين أن الله سهامه قد طارت وانطلقت، وهى كل هذه الظواهر الطبيعية، لتخيف فرعون، وكل جيشه، ولكنه لم يؤمن ولم يخف الله، فاستحق فى النهاية أن يهلك، ويغرق فى البحر الأحمر.
- إن صوت السحب والرعود والبروق والزلزلة هى صوت الرسل وكهنة العهد الجديد الذين بشروا باسم المسيح، فارتعدت القلوب أمام قوة كلمة الله، كما ارتعد فيلكس الوالى أمام كلمات بولس الرسول (1ع24: 25).
ع19 ، 20: 19- في البحر طريقك و سبلك في المياه الكثيرة و آثارك لم تعرف. 20- هديت شعبك كالغنم بيد موسى و هرون
- الذى شق البحر الأحمر ونهر الأردن هو الله، ولكن عادت المياه كما كانت، وكأنه لم يكن هناك طريق، أو آثار لعمل الله، ولكن الشعوب كلها سمعت بهذه الأحداث العظيمة. كل هذا تم مع شعب الله بقيادة موسى وهرون، فحرر الله شعبه من عبودية مصر وأدخلهم إلى أرض كنعان.
- وهكذا أيضاً على مر التاريخ الله يعمل أعمالا عظيمة، ولكنها تنتهى، وينساها الناس، مثل اليهود الذين لم يدركوا أن المسيح هو الله، ومازالوا لا يعرفون آثار الله، وتجسده وفداءه الذى بشر به الرسل، الذين قادوا المؤمنين، ويرمز إليهم موسى وهارون.
- موسى هو قائد الشعب، أى الملك والحاكم، وهارون هو الكاهن، وهما رمز للمسيح الملك والكاهن الذى يقود شعبه وكنيسته فى العهد الجديد.
ليتك كل أسبوع تتذكر أعمال الله التى عملها معك، وتتذكر أيضاً أعماله السابقة فى حياتك وتشكره عليها، فيثبت إيمانك وتزداد ثقتك فى نفسك، ويمتلئ قلبك فرحاً.