أعمال الشرير وبركات الله لأولاده
لإمام المغنين . لعبد الرب داود
“نأمة معصية الشرير…” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى، الذى يصف نفسه فى العنوان أنه عبد الرب، وهذا يعنى أن الكاتب يكتب بسلطان من الله؛ لأنه عبده، وقريب منه فيفهمه. وتتكرر صفة عبد الرب فى المزمور الثامن عشر فقط.
- يتكلم المزمور عن صفات الأشرار، ويقصد بهذا الأشرار عموماً، وقد يقصد شاول بالتحديد؛ لأنه صنع شروراً كثيرة ضد داود.
- متى كتبت ؟ كتبه داود عندما كان مطروداً من شاول الملك، أو من أبشالوم.
- ينقسم هذا المزمور إلى قسمين، كل منهما مقابل الآخر؛ الجزء الأول هو الأربع آيات الأولى، وتتكلم عن الأشرار وسماتهم. والجزء الثانى يحوى باقى المزمور، ويتكلم عن صفات الله العادل، والراعى لأولاده، والأب الحنون الذى يطلب منه أولاده، فيعتنى بهم.
- هذا المزمور يثبت إيمان أولاد الله؛ إذ يرفعهم للتأمل فى صفاته، فلا ينزعجون مهما أحاط بهم الأشرار، فيتباعدون عن الأشرار، ويتمسكون بحياتهم مع الله.
- هذا المزمور لا يوجد فى المزامير الموجودة بالأجبية.
(1) صفات الشرير (ع1-4):
ع1: 1- نأمة معصية الشرير في داخل قلبي ان ليس خوف الله امام عينيه.
نأمة : أنين، أو تنهد، أو توجع فى القلب.
- يتوجع قلب داود عندما ينظر إلى خطايا الأشرار، والتى تنتج كلها عن إهمالهم لمخافة الله، فإذ لا يخافونه يندفعون بسهولة فى أية خطية.
- عندما يهمل الأشرار مخافة الله يسقطون فى الخوف من الناس، فيهتمون بظاهر حياتهم، أما بواطنهم فتكون شريرة، أى يصبحون منافقين ومرآيين.
- لأن الأشرار لا يخافون الله؛ لذا يهملون وصاياه، فهذا يسهل سقوطهم فى الخطية.
- تظهر فى هذه الآية أبوة داود؛ ليس فقط لأولاده المطيعين الأبرار، بل أيضاً أبوته للأشرار، فيتوجع قلبه لأجلهم، ويشتاق أن يعودوا إلى الله، فيخافونه ليبتعدوا عن كل خطية.
ع2: 2- لأنه ملق نفسه لنفسه من جهة وجدان اثمه و بغضه.
ملَّق نفسه : أى خدع نفسه وكرمها بغير ما تستحق.
- من صفات الشرير أنه مخادع، يخدع غيره، ولكن الأصعب أنه يخدع حتى نفسه، فيوهم نفسه بأنه مستقيم ويسلك حسناً، وبالتالى يبتعد عن التوبة تماماً، إذ لا يشعر بخطيته، فكيف يتوب عنها ؟
- إن الشرير يتملق نفسه من أجل كبريائه، فهو لا يريد أن يتخيل الحقيقة، ولا يقبلها، فكبريائه مبنى على أوهام خدع بها نفسه.
- إن الشرير يبرر لنفسه الشرور والآثام التى يفعلها، وكذلك كراهيته للآخرين، فيتخيل أن آثامه ليست شراً، ويصور لنفسه أن كراهيته للآخرين هى عدم ارتياح لهم، وأن الآخرين هم السبب فى ذلك.
- يوهم الشرير نفسه أيضاً بأنه يكره الشر ويحب المستقيمات، وبهذا لا يجد فى نفسه خطية، أو كراهية ليتوب عنها.
- يبدأ الشرير بتبرير نفسه فى الخطايا الصغيرة، ثم يبرر نفسه فى خطايا أكبر، حتى يفعل أكبر الشرور، وهو لا يدرى؛ لأنه بعيد عن التوبة، فهو بهذا لا يبغض إثمه؛ لأنه لا يشعر به.
ع3: 3- كلام فمه اثم و غش كف عن التعقل عن عمل الخير.
- استباح الشرير الغش، وإذ استمر فى غش نفسه، وغش الآخرين صدق ما يقوله من شر، فابتعد عن الحق والتعقل، وفقد التمييز.
- إن ابتعاد الشرير عن التعقل هو بإرادته؛ لأنه خدع نفسه، فأبعدها عن الفهم والسلوك المستقيم.
- إذا انغمس الشرير فى خطاياه وابتعد عن التعقل، ابتعد عن كل شئ صالح، وعن مساعدة الآخرين؛ لأنه لا يشعر بهم، فكيف يساعدهم، أو يعمل خيراً معهم، إنه أنانى منشغل بنفسه وكبريائه، وبالتالى يفقد رحمة الله، ومحبة الآخرين له.
- استمرار الشرير فى الغش سيوقف عمل الروح القدس فيه، فلن يتبكت قلبه، أو يتوب عن خطاياه، ويظل بعيداً عن الله.
ع4: 4- يتفكر بالاثم على مضجعه يقف في طريق غير صالح لا يرفض الشر.
- عندما يدخل الشرير إلى المكان الذى سينام فيه، بدلاً من أن يحاسب نفسه ويتوب مثل باقى البشر، يتفكر فى الشر، فيظل مخدوعاً، وبعيداً عن الله.
- إذ فقد الشرير تمييزه لا يعود يبتعد عن الشر، بل على العكس، يقف فى طريق الشر، ويجلس فى مجلس المستهزئين والخطاة، وبالتالى يتمادى فى خطاياه، ويظل فى ضلاله.
- لكثرة خداع الشرير لنفسه، وكلامه المملوء إثم وغش، يفقد الشرير قدرته على مقاومة الشر، فيسهل سقوطه فى أية خطية، وهكذا يصير عبداً للشيطان يتحكم فيه كيفما يرى.
- الشرير فى الخفاء يفكر فى الشر، فيستسلم داخلياً له، ويصبح من السهل أن يعمل أعمالاً شريرة فى النهار؛ لأنه مبيت النية على فعل الشر.
- إن الأعمال الشريرة التى يفعلها الشرير تقوده للتفكير فى الشر عند رقاده ونومه. فالإنسان يجنى فى الليل ثمرة أفعاله أثناء النهار. أما الأبرار فالليل عندهم فرصة، للتوبة، والصلاة والتسبيح.
انظر إلى شناعة خطاياك وآثارها عليك حتى ترفضها بالتوبة، وتلتجئ إلى الله فى سر الاعتراف؛ حتى يغفرها لك وينقيك، وتخرج بطبيعة جديدة مائلة لمحبة الله والآخرين.
(2) عظمة الله وبركاته (ع5-12):
ع5: 5- يا رب في السماوات رحمتك امانتك الى الغمام.
- إن رحمة الله عظيمة ولا تقاس لأنها فى السماء، فهى غير محدودة، ولا يستطيع الإنسان أن يحصرها، فلهذا يطمئن قلب الإنسان أنه مهما كثرت خطاياه، فمراحم الله أوسع وتغطيها.
- إن مراحم الله أسمى من أفكار البشر، فهو يبحث عن خلاص نفوسهم، وليس مجرد سد احتياجاتهم المادية، لذا قد تسمح الرحمة بتأديب أولاد الله لفترة؛ حتى يرجعوا إليه.
- إن مراحم الله وأمانته أعلى من إدراك الإنسان، وهى فى الغمام مختبئة؛ لذا يليق بالإنسان أن يؤمن بالله ويخضع له، ويتركه يعطيه البركات فى أوانها.
- إن أمانة الله هى فى وعوده للبشر، فكما وعد نوح ألا يهلك العالم بطوفان مرة أخرى بظهور علامة قوس قزح فى السماء، عندما تمطر السماء بشدة، هكذا أيضاً وعود الله كثيرة تحمى أولاده وتطمئنهم، فالله يريد أن الجميع يخلصون، ويبحث عن كل الخطاة ليتوبوا.
- إن رحمة الله هى فيمن يسلكون سلوكاً سماوياً، فهى فى السموات، أى فى القديسين وأولاد الله السماويين فى حياتهم على الأرض.
ع6: 6- عدلك مثل جبال الله و احكامك لجة عظيمة الناس و البهائم تخلص يا رب.
لجة : مياه عميقة.
- عدل الله ثابت وقوى مثل الجبل، فلا يتموج، أو يتغير مثل عدل الناس، أى أن الله مبادئه ثابتة، ولا يمكن أن يخدع، وهو كاشف القلوب والكلى، هذا يطمئن الأبرار، ويخيف الأشرار، ويدعونا كلنا للتوبة.
- أحكام الله ووصاياه عميقة جداً مثل لجج البحر، وكل من يتأمل فيها يشبع ويفرح ويحيا بها، فيتذوق الملكوت وهو على الأرض.
- إن أحكام الله لا تتعارض مع عدله، فهو يرحم الخطاة ويطيل أناته عليهم حتى يتوبوا، فلا يعاقبون بالعدل الإلهى.
- إن أحكام الله ووصاياه أعمق من أن يفهمها الإنسان، فهو لا يدرك إلا القليل منها، والحل هو الخضوع لها، وترك الله يدبر حياتنا بمشيئته الصالحة.
- إن أحكام الله العميقة مثل البحر العميق تشهد بعظمته، فهو غير محدود فى حكمته؛ لذا ما أجمل أن يحفظ الإنسان وصايا الله، ويرددها، فتصبح مصدر بركات وشبع دائم لنفسه.
- الله فى محبته يرعى أولاده، وكذلك باقى المخلوقات لأجلهم، فيخلص، أى يهتم بالبهائم والنباتات، وكل المخلوقات لأجل الإنسان. فالله يهتم بأولاده وبالعالم كله؛ لأجلهم.
ع7: 7- ما اكرم رحمتك يا الله فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون.
- إن رحمة الله أعظم من أية رحمة أخرى؛ لأن رحمته غير محدودة، وسخية فى عطائها، وتناسب كل إنسان؛ لأنها هى التى خلقت الإنسان فتفهمه، وتستطيع أن تغطى كل البشر، خاصة وأن كلمة “الله” تعنى إله العالم كله، وليس فقط بنى إسرائيل الذين يستخدمون كلمة “الرب” غالباً.
- لأن رحمة الله واسعة، ومتميزة؛ لذا يلتجئ إليها كل بنى البشر؛ لتحميهم من كل شر، وتغفر لهم خطاياهم، وتعتنى بكل احتياجاتهم.
- المقصود ببنى البشر هم المؤمنون بالله، الذين يبحثون عن الله، ويثقون فى حمايته.
- جناحا الله يمثلان الحماية؛ كما تحمى الدجاجة فراخها تحت جناحيها، وكما يغطى الملاكان بأجنحتهما غطاء تابوت العهد؛ الذى يسمى كرسى الرحمة، فالجناحين يرمزان لأبوة الله، ورعايته، ومحبته لبنى البشر، ويرمزان أيضاً للعهدين القديم والجديد.
ع8: 8- يروون من دسم بيتك و من نهر نعمك تسقيهم.
- تظهر عناية الله فى اهتمامه باحتياجات أولاده، فيرويهم، ويغذيهم، ليس فقط بالطعام والشراب المادى، بل بالأحرى الروحى، فهم جياع وعطاش إلى البر، فيشبعون من حبه غير المحدود.
- الله يغذى أولاده بسخاء، فلا يعطيهم طعاماً عادياً، بل طعاماً دسماً، يغنيهم عن كل ما فى العالم.
- إن بيت الله هو الكنيسة، ودسمها هو أسرارها المقدسة التى تفوق العقل. فداود بروح النبوة يرى كنيسة العهد الجديد، والاتحاد بالله من خلال أسرارها.
- إن نهر النعمة هو الروح القدس، الذى يعمل فى كيان المؤمنين به بالأسرار، ووسائط النعمة، والمواهب المتعددة؛ فيروى الكل.
- إن نهر النعمة يرمز للماء والدم اللذان خرجا من جنب المسيح على الصليب؛ ليروى كل المؤمنين به.
ع9: 9- لأن عندك ينبوع الحياة بنورك نرى نورا.
- يظهر الثالوث القدوس فى هذه الآية؛ فى قوله “عندك” أى الآب و”ينبوع الحياة” هو الإبن، و”النور” هو الروح القدس. فالله بأقانيمه الثلاثة يعتنى بالإنسان المؤمن به.
- إن النور يرمز أيضاً إلى كلمة الله التى تنير عيون قلوبنا وسط ضلال العالم وشره.
- نور الله يرمز لتجسد المسيح الذى به نعاين النور، أى الآب؛ لأن “الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذى هو فى حضن الآب هو خبر” (يو1: 18). ونرى هذه الآية تتكرر فى العهد الجديد عند الحديث عن المسيح الذى “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” (يو1: 4).
ع10: 10- أدم رحمتك للذين يعرفونك و عدلك للمستقيمي القلب.
- الذين يعرفون الله يؤمنون به، ويعلمون أنه بار وقدوس، فيتوبون عن خطاياهم أمام قداسته، وإذ يتضعون يفيض عليهم الله بغفرانه ومراحمه.
- عندما يديم الله رحمته على من يعرفونه، يساعدهم هذا على النمو فى معرفة الله، والتمسك به، فتزداد مراحم الله عليهم، وهكذا تؤدى رحمة الله إلى النمو الروحى. وعندما ينمو الإنسان يفيض عليه بمراحم أكثر.
- إن مراحم الله تغطى كل البشر، مثل شمسه المشرقة على الأبرار والأشرار، وهوائه، ومياهه … ولكن الذين يعرفون الله ينتبهون، ويقدرون هذه المراحم، ويشكرون الرب عليها؛ لذا تستمر مراحم الله عليهم، وتتنوع أكثر من الذين لا يقدرون هذه المراحم.
- من يسلك بالاستقامة يتمنى أن يسود عدل الله؛ حتى لا يزداد الشر، بل يعرف الكل أن المستقيم يكافأ والشرير يعاقب. فالعدل ينصف المستقيمين ويباركههم.
- المستقيم القلب هو إنسان آمن بالله، واتكل عليه، وحفظ وصاياه، وبالتالى يقبل مشيئته، ولا يتذمر من أية ضيقة؛ لذا، فالعدل الإلهى ينصفه، ويكافئه.
ع11، 12: 11- لا تأتني رجل الكبرياء و يد الأشرار لا تزحزحني.
12- هناك سقط فاعلو الإثم دحروا فلم يستطيعوا القيام
دحروا : هُزموا.
- يتمنى داود الذى يسلك بالاستقامة، ويحيا مع الله أن لا يهاجمه الشيطان المتكبر، ويجعله يسير فى طريق الكبرياء؛ لذا قال “رجل الكبرياء”.
- ما دام داود يسير فى طريق الخير، ويحيا مع الله، يطلب ابتعاد يد الشيطان، أى أعمال الأشرار عنه؛ حتى لا يتزحزج عن طريقه المستقيم وعمل الخير.
- يطلب داود الأ يسير بإرادته، أى برجله فى طريق البكاء، ولا تمتد إليه حروب خارجية؛ أى يد الأشرار لتبعده عن طريق الله.
- من لا يتضع ويسير فى طريق الكبرياء، أو يتجاوب مع أعمال الأشرار، فسيسقط فى الخطية، وينفصل عن الله، كما فعل آدم فى جنة عدن، عندما أراد أن يصير مثل الله.
- إذا استمر الإنسان فى طريق الكبرياء وأعمال الشر، فإن إبليس سينتصر عليه، وتكون نهايته هى الهلاك والعذاب الأبدى، حيث يسقط ولا يستطيع القيام. والمقصود بكلمة “هناك” أى بعيداً عن الله يكون السقوط، ثم العذاب الأبدى.
احتمل أتعاب حفظ الوصية لتسلك بالاستقامة، وحينئذ تفيض عليك مراحم الله، وعدله يحفظك إلى حياة أبدية سعيدة، وتنجو من كل مكايد إبليس.