حياة الاستقامة
لداود
“اقض لى يا رب لأنى بكمالى سلكت” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : هو داود النبى
- متى كتب ؟
أ – عندما كان داود هارباً من وجه شاول، وكان شاول يتهمه وقتذاك بخيانة شعبه، ورفضه لبيت الرب، والتجائه للسكن وسط الأشرار، أى الوثنيين، مع أنه كان مضطراً للهرب؛ لأن شاول كان يريد قتله. وكتب هذا المزمور؛ ليدافع عن نفسه.
ب – عندما قُتل إيشبوشث ابن شاول بيد اثنين من عبيده (2صم4: 5-12) واتهم اليهود داود بقتله، فكتب هذا المزمور دفاعاً عن استقامته، واثباتاً لبراءته.
ج- عند هروب داود من وجه أبشالوم كتب هذا المزمور؛ لشعوره بالظلم، وأراد اثبات استقامته.
- متى يقال ؟
كان يردده الكهنة عند اغتسالهم فى بيت الرب، قبل تقديمهم الذبائح؛ ليتذكروا تنقية قلوبهم قبل خدمة الرب، وليعلنوا أمام الداخلين إلى بيت الرب شروط الدخول إلى هذا المكان، أى النقاوة والاستقامة.
- هذا المزمور من المزامير المسيانية؛ لأنه يتكلم عن المسيح الذى بلا خطية، ومع هذا اتهم ظلماً واحتمل لأجلنا.
- يشترك هذا المزمور مع المزمور السابع والمزمور السابع عشر فى أن هذه المزامير كلها يدافع فيها داود عن براءته.
- يتكلم هذا المزمور عن الكنيسة المضطهدة، أو عن أى إنسان يسلك باستقامة مع الله، ويتعرض للظلم والاتهامات الباطلة.
- يوجد هذا المزمور بالأجبية فى صلاة الساعة الثالثة، التى فيها وجهت الاتهامات الزور للمسيح.
(1) اثبات بره (ع1-5):
ع1: 1- اقض لي يا رب لأني بكمالي سلكت و على الرب توكلت بلا تقلقل.
بلا تقلقل : بثبات وبلا تزعزع.
- يقول داود لله “اقض” أى احكم يا الله بالعدل؛ لأنك مختلف عن البشر الظالمين، فأنت عادل وتعرف خفايا القلوب،أى تعرف براءتى. فهو التجاء إلى الله بالصلاة؛ لينقذه من كلام الأشرار.
- يعلن داود براءته من الاتهامات الموجهة إليه، ويبين سلوكه بالكمال، أى بوصايا الله ويقصد بالكمال الكمال النسبى الذى يسمح به الله له. وهذا ليس كبرياء من داود، بل دفاع عن براءته.
- أمام الاتهامات الزور لم يكن أمام داود إلا أن يلتجئ إلى الله، ويتكل عليه ويثبت فيه؛ لأنه الملجأ الوحيد الحقيقى لجميع المظلومين. وهذا يثبت اتضاعه، وأنه ضعيف، والتجأ إلى الله ليدافع عنه، وهو بالتالى لا يقصد بقوله بكمالى أنه يثق فى بره الذاتى.
- التجاء داود لله يرد على الاتهامات الموجهة إليه أنه ترك بيت الرب وانضم للوثنيين.
- سلوك داود بالكمال يعلن نقاوة قلبه، وتسامحه مع ظالميه المسيئين إليه، مثل شاول وأبشالوم.
ع2: 2- جربني يا رب و امتحني صف كليتي و قلبي.
- قبل داود التجارب التى أتت عليه ولم يتذمر، أو يسأل لماذا هذه التجارب، بخلاف أيوب الذى اعترض على الله، وهذا يبين خضوع داود لله.
- طلب داود من الله أن يجربه بهذه التجارب، ولا يقصد أن يعرف الله نقاوته، فالله عالم بكل شئ. ولكن يقصد أن يجربه الله، فيعرف داود نفسه، ويكتشف أخطاءه ليعالجها بقوة الله، مثلما يمتحن الذهب بالنار ليتخلص من الزغل، أو الشوائب؛ لذلك قال داود “صفّى” قلبى وكليتاى؛ أى أعماق نفسى حتى تكون نقية تماماً.
- كلمة الله تفحص الإنسان وتجربه وتظهر خفايا قلبه، ليتنقى من كل شر.
- قول داود “جربنى – امتحنى – صفى” يعلن ثقته فى نقاوة قلبه نحو ظالميه، واستعداده إن وجد أى شر أن ينقيه الله منه.
- الكلية والقلب أعضاء داخلية، فهى تمثل أعماق داود التى يبغى تنقيتها، خاصة وأن الكلية تقوم بتنقية الدم من السموم، والقلب يقوم بتوزيع الدم النقى لتغذية كل أعضاء الجسم. فإذا فحصت الكلى والقلب وتنقت يكون الإنسان كله نقياً.
ع3: 3- لأن رحمتك امام عيني و قد سلكت بحقك.
- ينظر داود إلى رحمة الله دائماً، فيستطيع حينئذ أن يقبل التجربة ويحتملها، لأن رحمة الله تسانده وتقويه.
- عندما ينظر داود إلى رحمة الله يتذكر عناية الله به طوال حياته، أى أن رحمة الله كانت مصاحبة له دائماً، فيطمئن قلبه، بل يسبح الله.
- سلوك داود بالحق يعطيه شجاعة ليتقدم طالباً رحمة الله؛ لأن الله يرحم أولاده الحافظين حقوقه.
- إعلان داود سلوكه بالحق هو دفاع عن نفسه ضد الاتهامات بأنه انفصل عن شعب الله، ورفض العبادة فى بيت الله. فهو قد اضطر للهرب من وجه شاول، ولكنه متمسك بحقوق الله ووصاياه.
- تفكير داود متجه نحو الله، فهو يسلك فى حقه، ويطلب رحمته، وليس عنده أية مشاعر ضده أعدائه. فهو لا يطلب من الله أن ينصفه على حسابهم، أو يعاقبهم، ولكن يهتم بنقاوته الداخلية وخلاص نفسه. وهذا هو سلوك أولاد الله.
ع4، 5: 4- لم أجلس مع اناس السوء و مع الماكرين لا ادخل.
5- ابغضت جماعة الاثمة و مع الاشرار لا اجلس.
- اتهموا داود بأنه عاش وسط الوثنيين وانفصل عن شعب الله، ويؤكد هنا داود صلاحه وبره فى أنه لم يختلط، وابتعد أيضاً عن الأشرار، وأبغض شرورهم، أى أنه وسط الوثنيين حرص أن يجلس مع أولاد الله الأبرار، الذين صاحبوه فى هروبه.
- يعلن داود ابتعاده عن الخطاة بكل الصور، فقد ابتعد عن
أ – أناس السوء
ب – الماكرين
ج- الأثمة
د – الأشرار
- لم يبتعد فقط داود عن الأشرار، ولكنه أيضاً من قلبه كره ورفض الشر بكل صوره، ولم يتعلق قلبه به، أى أنه احتفظ بقلب نقى لله، كما طلب فى الآية السابقة فحص الله لقلبه ليكون نقياً.
- لقد رفض داود الاختلاط بالماكرين، الذين تظاهروا بالتقوى، ولكن قلبهم مملوء شراً. وهذا يبين تدقيق داود فيمن يخالطهم، وإرشاد الله له.
كن حريصاً فيمن تخالطهم؛ لأنهم إن كانوا أولاد الله سيكونون مشجعين لك فى طريق الحياة مع الله. وإن كانوا من الأشرار فابتعد عنهم، حتى لو كانت لك علاقة قديمة معهم. فلا تقامر بخلاص نفسك وأبديتك من أجل خجلك من هؤلاء الأصدقاء، أو الأقارب الأشرار.
(2) اثبات محبته لبيت الرب (ع6-8):
ع6: 6- اغسل يدي في النقاوة فاطوف بمذبحك يا رب.
- قال داود أغسل يدى فى النقاوة؛ لأنه نظر بقلبه إلى ما يحدث فى خيمة الاجتماع، حيث يغسل الكهنة أيديهم فى المرحضة قبل أن يقدموا الذبائح عن الشعب، فهو يشتاق بقلبه أن يشترك مع الكهنة فى غسل يديه؛ ليتنقى من كل خطية. وبرغم أنه بعيد عن الهيكل لهروبه من وجه شاول، ولكن قلبه متعلق بالعبادة المقدمة فى الهيكل.
- اليدان ترمزان للأعمال، فغسل داود يديه بالنقاوة، يقصد به نقاوة أعماله من كل شر، إذ لم يختلط بالوثنيين الذين حوله، ولم يشترك معهم فى خطاياهم.
- كان الكهنة يطوفون حول المذبح النحاسى قبل أن يقدموا المحرقات والذبائح عليه. وكان مقدم الذبيحة يشترك مع الكاهن فى الطواف حول المذبح. وداود يشتاق أن يوجد فى الهيكل؛ ليطوف حول المذبح، الذى يتم عليه تقديم الذبائح لغفران الخطية. فهو يشتاق أن يغفر الله له خطاياه.
- إن غسل اليدين عادة قديمة معروفة، يدلل الإنسان بها على براءته من أية تهمة ممكن أن تنسب إليه. فغسل داود يديه فى النقاوة إعلان عن براءته من التهم الموجهة إليه، وهى اختلاطه بالوثنيين ورفضه للعبادة فى الهيكل.
- غسل اليدين بالنسبة لنا فى العهد الجديد يتم فى سرى المعمودية والاعتراف. أما الطواف بالمذبح فهو يعمله الكاهن والشماس فى القداس نيابة عن الشعب فى دورات مصحوبة بالصلوات، وهى تعلن الارتباط بالمذبح، والاستعداد لنوال سر التناول. ويردد الكاهن هذه الآية عندما يغسل يديه أثناء القداس؛ ليعلن نقاوة قلبه، وحتى يستطيع أن يلمس جسد الرب ودمه.
ع7: 7- لأسمع بصوت الحمد و أحدث بجميع عجائبك.
- يستمر داود فى أشواقه نحو الهيكل، فيسمع وهو بعيد عنه أصوات التسبيح المقدمة لله (الحمد) والتى يرنمها اللاويون. وإن سكت اللاويون، فهو يسمع بالروح تسابيح الملائكة حول الله الحال فى هيكله. ويشتاق أن يشترك معهم فى تسبيح وحمد الله.
- عندما يسمع داود التسابيح يتحرك قلبه، فيشترك معهم بذكر عجائب الله، أى يشكر الله على إحساناته ويسبحه ويعلن تعلقه بعبادة الله، وانفصاله عن عبادات الوثنيين.
- سماع داود لصوت التسبيح (الحمد) – بالرغم من بعده عن الهيكل – دليل على نقاوته، وعلاقته القوية بالله وبعده عن الخطية.
ع8: 8- يا رب احببت محل بيتك و موضع مسكن مجدك.
- إن داود يفكر دائماً فى بيت الرب، الذى هو خيمة الاجتماع، ولذا تعلق قلبه به وأحبه، فصار اهم شئ فى حياته.
- يرى داود الله حال فى بيته بمجد عظيم، فانشغل به عن كل الماديات وأمجاد العالم، فازدادت أشواقه إليه، وعاش فيه بالروح، حتى لو كان بعيداً عنه بالجسد.
ما أجمل ارتباطك ببيت الرب، إذ تعاين فيه مجده وتتمتع بحضرته، ليس فقط عندما تتناول الأسرار المقدسة، بل أيضاً فى الأوقات التى لا توجد فيها صلوات طقسية؛ لأن الكنيسة ممتلئة دائماً بمجد الله وقديسيه.
(3) طلب رحمة الله (ع9-12):
ع9، 10: 9- لا تجمع مع الخطاة نفسي و لا مع رجال الدماء حياتي.
10- الذين في أيديهم رذيلة و يمينهم ملآنة رشوة.
- يطلب داود من الله أن يفصله عن الأشرار، الذين يفعلون الخطية وهم قساة القلوب، فيسفكون دماء الأبرياء، ويعوجون القضاء بالرشوة. ويقصد أن يفصل قلبه ومشاعره عنهم؛ ليحيا لله بفكره ومشاعره وأعماله.
- يقصد داود فوق كل شئ أن يكون مكانه فى يوم الدينونة بعيداً عن الأشرار، أى يتنعم بالحياة الأبدية مع الله بعيداً عن العذاب الأبدى؛ لأنه انفصل عن الأشرار على الأرض، فيطلب الانفصال عنهم فى الأبدية.
- لم يهتم داود بالاتهامات الموجهة إليه بأنه اختلط بالأشرار، وابتعد عن الله، ولكن كان كل همه هو نظرة الله إليه، ورأى الله فيه، فما دام الله راضياً عنه، وعارفاً نقاوة قلبه، فله مكانه فى الملكوت.
- لم يطلب داود انتقاماً من الأشرار، أو من الذين يتهمونه زوراً، أو أى مركز فى الأرض، أو شهوات أرضية. ولكن كان اهتمامه الوحيد هو علاقته بالله ومكانه فى الملكوت.
ع11: 11- أما أنا فبكمالي اسلك افدني و ارحمني.
- طلبته فى الآيتين السابقتين كانت سلبية أى طلبه الابتعاد عن الأشرار. أما هنا فيطلب طلبة إيجابية، وهى نوال الفداء الإلهى والرحمة؛ لأنه خاطئ ومحتاج لرحمة الله وغفرانه.
- رغم وجود داود وسط الأشرار سلك بكماله، أى بوصايا الله. ولا يقصد سلوكه بالكمال افتخاراً؛ لأنه يطلب بعدها مباشرة فداء الله ورحمته؛ لشعوره أنه خاطئ ولكن يقصد فقط تمسكه بوصايا الله؛ حتى لا يعثر أحد فيه.
- يؤكد داود هنا أن الخلاص يتم بفداء الله ورحمته، وليس فقط بالجهاد الإنسانى والسلوك بالكمال، بل يتضح أن رحمة الله وفداؤه توهب للمجاهدين روحياً، ولا توهب للمتكاسلين.
ع12: 12- رجلي واقفة على سهل في الجماعات ابارك الرب
- إذ طلب داود فداء الله ورحمته، أنعم عليه الله بسلام، رغم أنه مستبعد وهارب ولا يتمتع برؤيته بيت الرب، ولكنه شعر براحة، كأنه يقف فى سهل وليس بين الجبال والمرتفعات.
- السهل يرمز إلى طريق الملكوت، الذى أوقف الله داود فيه. وهذا يؤكد طمأنينة داود التى تدفعه للجهاد الروحى؛ حتى يصل للسماء.
- يشتاق داود أن يقف وسط الجماعات الآتية لعبادة الله فى خيمة الاجتماع، وهذا معناه تعلق داود ببيت الرب. وتظهر هذه الآية أهمية الصلاة الجماعية فى الكنيسة.
- تظهر هذه الآية محبة داود للعالم كله، فهو يشتاق أن يؤمنوا بالله، ويجتمعوا معاً لتسبيحه (الجماعات) وهذا يشمل اليهود المؤمنين بالله، ويرمز إلى المؤمنين بالمسيح فى كل مكان، الذى يصلون ويسبحون الله، الذى فداهم على الصليب.
- هذه الآية تبين إيمان داود، الذى شعر باستجابة طلبته، وأنه يقف فى سهل ووسط الجماعة ويبارك الله، رغم أنه مازال مشتتاً وهارباً فى البرارى.
كن حريصاً أن تحب كل الناس ولكن تبتعد عن الأشرار فى مجلسهم وأعمالهم وكلامهم؛ حتى تحتفظ بنقاوة قلبك، وتنال رضا الله، ثم تحظى بمكانك فى السماء.