قبول صرخة تائب
لإمام المغنين على ذوات الأوتار على القرار. مزمور لداود
“يا رب لا توبخنى بغضبك ولا تؤدبنى بغيظك …” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : هو داود النبى، الذى عاش مشاعر التوبة بأعمق صورها.
- هذا المزمور هو أول مزامير التوبة السبعة وهى (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143) كما حددها القديس أوغسطينوس.
- كان يصلى هذا المزمور كل يوم فى مجامع اليهود ويصلى الآن فى صلاة باكر فى الأجبية فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويصلى أيضاً فى الكنيسة اللاتينية.
- عنوان المزمور يبين أنه كان يردد بواسطة إمام المغنين، أى أنه مزمور جماهيرى يردده الشعب، وهذا ما يحدث فى العهدين القديم والجديد، كما ذكرنا.
- كان يصاحب هذا المزمور آلة موسيقية وترية تسمى ذات الأوتار وهى ذات ثمانية أوتار؛ إذ أن عنوان هذا المزمور فى الترجمة السبعينية أوكتاف، أى ثمانية باللغة اللاتينية. ولعل ثمانية ترمز ليوم الدينونة، حيث يقبل الله التائبين ويمجدهم معه، خاصة وأن الترجمة السبعينية تضع عنواناً لهذا المزمور “إلى النهاية” أى إلى يوم الدينونة.
- فى نهاية عنوان المزمور يقول على القرار والقرار هو درجة من طبقات الصوت.
(1) استغاثة تائب (ع1-4):
ع1: 1- يا رب لا توبخني بغضبك و لا تؤدبني بغيظك.
- يقر داود أنه خاطئ ويستحق العقاب ولكنه يتقدم كتائب وبدالة البنوة، يطلب أن يعامله الله برحمته، فهو يستحق التوبيخ والتأديب، ولكن يا ليته يكون برحمة الله وليس بغضبه وغيظه؛ لأن غضب الله وغيظه يهلك الإنسان الخاطئ؛ إذ أن أجرة الخطية موت (رو6: 23).
- وبهذا لا يتعارض كلام داود مع قول بولس الرسول “يا ابنى لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك” (عب12: 5)، بل إن داود نفسه قال “طوبى للرجل الذى تؤدبه” (مز94: 12). فداود يقبل التأديب على الأرض ولكن يتمنى أن يرفع الله عنه غضبه فى يوم الدينونة، فالتأديب بالغضب والغيظ الإلهى يكون للأشرار فى يوم الدينونة، أما داود كابن، فيترجى أبوة الله أن تشفق عليه ويوبخه ويؤدبه بمحبته ورحمته.
ع2: 2- ارحمني يا رب لأني ضعيف اشفني يا رب لأن عظامي قد رجفت.
- يعترف داود هنا أمام الله بضعفه، بل بارتعاش عظامه، والعظام هى أقوى ما فى جسم الإنسان، فلم يعد قادراً على الثبات أمام الله بسبب خطاياه، وهذا يبين مدى :
أ – توبة داود
ب – شعوره بمخافة الله.
- وداود شعر بالضعف فيما يلى :
أ – ضعف روحى لسقوطه فى الخطية، التى قد تكون سقطته مع إمرأة أوريا الحثى.
ب – ضعف نفسى ناتج من السقوط فى الخطية “نفسى قد ارتاعت جداً” (ع3).
ج – ضعف جسدى يمثله ارتجاف العظام.
د – خوفه من أعدائه ومضايقيه (ع7)
من أجل هذا الضعف يطلب داود رحمة الله وشفاءه بكل كيانه.
ع3: 3- و نفسي قد ارتاعت جدا و انت يا رب فحتى متى.
- طلب داود رحمة الله وعدم تأديبه بالغضب والغيظ فى (ع1) بسبب ما ذكره فى
(ع2، 3) وهو ضعفه وارتجافه وارتعاده. وهو بهذا يمثل التائب الكامل. - وفى نفس الوقت يتعجل الله ليستجب سريعاً ولا يتركه فى هذه الحالة الصعبة. ولكن لماذا يتأنى الله فى هذه الأحوال ويترك التائبين يتعذبون ؟
أ – لتكمل توبتهم بانسحاق واتضاع ودموع وصبر.
ب – ليتيقنوا من خطورة الخطية، فيبعدوا عن كل ما يؤدى إليها.
ج – ليزداد إيمانهم ورجاؤهم بالله وحرارتهم الروحية.
د – ليشتاقوا إلى حياة البر والنقاوة والسمو والروحى.
ع4: 4- عد يا رب نج نفسي خلصني من أجل رحمتك.
- يعبر داود فى نهاية استغاثته بأشواقه الشديدة لعودة حنان الله عليه ورحمته، فلا يتركه فى عذاب نتائج خطيته، بل يعود لسابق إحساناته الأبوية عليه وينجيه من الخطية التى أسقط نفسه فيها، فيصلح أخطاءه بالرحمة الإلهية ويخلصه؛ ليعود يتمتع بأحضان الله ويصلى فرحاً ويسبح الله.
- إن داود يشعر أن الخطية تجعله غريباً عن الله، فهو يطلب من الله أن يعيده إليه بعدما انحرف، فيتمتع بعودة الله إليه بالرحمة، فينجو ويخلص من كل شر.
- فى عودة الله التى يطلبها داود تعنى الآتى :
أ – عودة رحمته لتنجيه وتخلصه بدلاً من غضبه وغيظه.
ب – إعادة داود الذى ابتعد بالخطية؛ ليرجع إلى الله.
ج – عودة ظهور الله فى حياة داود، أى يتمتع داود – كإبن – برؤية الله.
على قدر توبتك واتضاعك وتذللك أمام الله، تفيض مراحمه عليك. ولا تنزعج إذا تأخرت استجابته، فإن أبوته تريدك أن تكمل توبتك لتنال خلاصاً وفرحاً عظيماً.
(2) دموع التوبة (ع5-7):
ع5: 5- لأنه ليس في الموت ذكرك في الهاوية من يحمدك.
- يشعر داود أن الخطية تفصله عن الله، فيكون كالميت بالنسبة لله، وكمن سقط فى هاوية الشر، فلا يستطيع أن يصلى ويسبح الله بسبب انغماسه فى الخطية.
- والخطية تؤدى إلى الموت الأبدى، إذا لم يتب عنها الإنسان وبالتالى هناك فى الهاوية والجحيم لا يستطيع أحد أن يذكر الله ويسبحه؛ لأنه ينال عقابه الأبدى.
- بل على العكس الموت الجسدى للأبرار لا يعطلهم عن مواصلة التسبيح والصلاة، بل ينطلقوا فيها بقوة أكبر، كما نقول فى الهوس الثالث وننادى أرواح وأنفس الصديقين التى فى السماء؛ لتشاركنا التسبيح (دا3: 86 أى تتمة دانيال).
- ومعنى هذا أن حياتنا على الأرض فرصة للصلاة والتسبيح، أما بعد الموت، فقد انتهت فرصتنا للتوبة والصلاة والرجوع إلى الله، بل مواجهة العقاب الأبدى.
ع6: 6- تعبت في تنهدي اعوم في كل ليلة سريري بدموعي اذوب فراشي.
- تظهر هذه الآية مدى عمق توبة داود، التى تظهر فى توجع قلبه المستمر من أجل خطيته؛ حتى أنه فى النهاية تعب نفسياً وجسدياً. وواضح أن التوبة استمرت فترة طويلة حتى أنه قال تعبت؛ بالإضافة إلى أنه مازال فى الحاضر يعوم سريره ويذوب فى فراشه؛ أى أنه مستمر فى التوبة. فالتوبة ليست لحظة ولكنها حياة، مهما كان التائب واثقاً من غفران الله له، لكنه كإبن متأثر جداً لما فعله فى حق أبيه بالخطايا التى صنعها.
- مما سبق يفهم أهمية أن يحاسب الإنسان نفسه كل يوم؛ سواء عن الخطية التى صنعها قريباً، أو منذ مدة، فيجد قلبه يتنهد ويتأثر جداً، فيحيا حياة التوبة.
- لم تقف المشاعر عند حد التنهد، بل سالت دموعه غزيرة، حتى أنه قال أعوم كل ليلة سريرى، أى أنه كان يبكى لساعات كثيرة.
- أثناء النهار كان داود الملك مشغولاً بمسئولياته فى إدارة المملكة، ولكن سلطانه وأعماله لم تشغل قلبه عن أن ينفرد وحده فى الليل؛ ليحاسب نفسه ويقف أمام الديان العادل، فيبكى كثيراً. لأنه من يستطيع الوقوف أمام الله فى يوم الدينونة مهما كان مركزه، فإنه لا شئ. وهكذا انسحق داود بالدموع الكثيرة، فعاش التوبة بأعماقها ونال بركات لا تحصى وقاد الله حياته طوال عمره. فإن كان داود قد دنس سريره مرة واحدة، ولكنه يعوم سريره كل ليلة. إن كان داود قد فعل خطيته فى الليل والظلام، ولكنه يحول ليله بدموع التوبة إلى حياة مشرقة مع الله، فنال مراحم الله التى لا تحصى.
- إن التوبة تعتبر معمودية ثانية، فكما يغطس الإنسان فى ماء المعمودية، هكذا أيضاً يغطس الإنسان فى بحر الدموع التى يسكبها أمام الله، عندما يحاسب نفسه ويتوب عن خطاياه، فتتجدد حياته كل يوم من خلال سر التوبة والاعتراف. ولم يقل داود أبلل سريرى، بل قال أعوم وهذا معناه أن دموعه كانت غزيرة جداً، وتوبته بالتالى كانت عميقة.
- يظهر داود كثرة دموعه فى أن سريره كان يذوب من الدموع الغزيرة، فلم يكن مستغرقاً فى نومه، بل منشغلاً بالتوبة كل ليلة، وعلى العكس فإن النفس المتراخية نعبر عنها فى قطع النوم بصلاة الأجبية أنها “على سرير الخطايا منطرحة وفى إخضاع الجسد متهاونة” أى أن داود كان على سريره. كأنه فى بحر؛ لأن السرير قد ذاب من كثرة الدموع، فكان داود يسبح فى هذه الدموع.
ع7: 7- ساخت من الغم عيني ساخت من كل مضايقي.
ساخت : غاصت واضطربت.
- غضب داود على نفسه بسبب سقوطه فى الخطية، فسالت دموعه من عينيه، حتى غاصت عيناه بالدموع وتغطت فى توبة عميقة.
- وقد غاصت أيضاً عيناه من تذكره لغضب الله عليه بسبب خطيته، فسالت دموعه؛ طالباً بالتوبة غفرانه ومراحمه.
- ومن كثرة الدموع ساخت عينا داود، أى صارت عيناه كعينى رجل شيخ، فضعفت وصارت هزيلة، متذكراً أعداءه الروحيين، أى الشياطين الذين أسقطوه فى الخطية، فقدم ندماً فى دموع كثيرة.
- ولكن العجيب ان داود كان يتمتع بسلام قلبى أثناء هذه التوبة والدموع الغزيرة، فاستطاع أن يستمر فى التوبة كل أيام حياته، فهو كان واثقاً من كلام ناثان النبى أن الرب رفع عنه خطيته، ولكن هذا لم يبعده عن رؤية الله، المخوف الديان، فامتزج فى حياته الندم الشديد، الظاهر فى دموع كثيرة، مع السلام العميق، الذى انعم به الله عليه طوال حياته. إنه سلام لا يمكن اختباره خارج التوبة.
إن كنت يا أخى محتاج للسلام الحقيقى، فتعال معى لنتوب عن خطايانا، فنقف أمام الله المخوف ونترك عيوننا تعبر عما فى داخلنا، متذكرين جرم خطايانا، فننال غفرانه وبركاته الإلهية الكثيرة.
(3) قبول التوبة (ع8-10):
ع8: 8- ابعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم لأن الرب قد سمع صوت بكائي.
- إذ أعطى الله سلاماً فى قلب داود اطمأن وثبت إيمانه، فنادى كل أعدائه الشياطين وكل من تبعهم من الأشرار، الذين شمتوا به ويحاربونه؛ حتى يبتعدوا عنه. والقوة التى يعتمد عليها هى الله، الذى سمع صلواته، بل وقبل دموعه وانسحاقه أمامه وبالتالى فالله معه يدافع عنه ويحميه، بعد أن قبله وغفر خطاياه.
- وهنا نرى أن البكاء هو مشاعر توبة عميقة لها صوت أقوى من صرخات البشر العادية؛ لأن البكاء نابع من مشاعر قلبية، نادمة، متضعة أمام الله.
- ونرى بوضوح قوة الإيمان لمن يتوب وينسحق أمام الله، فهو يتكلم بثقة أن الله قد سمع صوت بكائه وهذا معناه أن الله قد أعطاه فى قلبه هذه الثقة؛ حتى نطق بهذه الكلمات.
ع9: 9- سمع الرب تضرعي الرب يقبل صلاتي.
- إن التضرعات هى صلوات مملوءة اتضاعاً وإيماناً، إذ فيها نمسك بالله، الذى لا يمكن أن يخذل من يتشبث به، لذا قال داود الرب سمع، أى بصيغة الماضى فهو مطمئن أن تضرعاته قد وصلت إلى الله.
- والمتضع ينال مراحم الله وحنانه ويقبل الله صلواته ويرفعه من ضيقاته، مهما كان ضعفه.
ع10: 10- جميع اعدائي يخزون و يرتاعون جدا يعودون و يخزون بغتة
- يكمل داود كلامه فى إيمان التائب، الذى استجاب الله صلاته، فيقرر أن جميع الأشرار والشياطين يخزون ويخافون جداً، عندما يرون قوة الله المساندة له، إذ تحول من خاطئ مرذول إلى إبن مقبول، بل ويحميه أبوه السماوى، كل ذلك بالتوبة.
- بل إن كل تعبه فى التوبة والجهاد الروحى طوال حياته يصبح لا شئ أمام قبول الله له فى يوم الدينونة، عندما يمجده مع قديسيه، فكل الزمن الطويل الذى مرَّ به لا يحسب، إذ يقول ” بغتة “، عندما ينظر إلى أمجاد السماء.
- من ناحية أخرى يوضح أن الشياطين المحيطين به، الفرحين بسقوطه، يبتعدون ويخزون ويرتعدون، عندما يظهر الله فجأة ويعلن قبوله لتوبته، فالتوبة تنقل الإنسان من تحت سلطان إبليس إلى عزة ومجد أولاد الله.
- لعل داود فى هذه الآية، عندما يُظهر للأشرار خزيهم أمام قوة الله، فهو بهذا يدعوهم حتى يكفوا عن شرورهم ويتوبون.
كن واثقاً من سماع الله لصلواتك وتضرعاتك ودموعك وهو قريب جداً منك؛ ليمحو خطاياك ويشددك ويرفعك فوق الشياطين، الذين أسقطوك.