الله المخلص فى الضيقة
لإمام المغنين. مزمور لداود
“ليستجب لك الرب فى يوم الضيق ..” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : هو داود النبى كما نرى فى العنوان.
- متى كُتب ؟
كتبه داود النبى قبل حربه مع بنى عمون الذين عضدهم جيش آرام العظيم، وكان هذا الجيش به خيل ومركبات كثيرة (2 صم 10 : 6 ، 8 ؛ 1أى 19 : 7) وانتصر داود بقوة الله فى هذه الحرب.
- متى يُقال ؟
عند خروج ملوك يهوذا لمحاربة أعدائهم، أو عندما يهجم عليهم أعداؤهم، مثل سنحاريب عندما حاصر أورشليم، فقيل هذا المزمور لحزقيا الملك؛ ليثق فى قوة الله الذى ينصره (2 أى 32). فكان الشعب يقول هذا المزمور للملك عندما كان يقدم الذبائح أمام الله قبل خروجه للحرب (ع 3).
- هذا المزمور نبوة عن المسيح الذى خرج وانتصر على الشيطان، ليس فقط فى التجربة على الجبل، بل بالأحرى على الصليب، حين قيده بموته عنا.
- يصلح أن تردد الكنيسة، وكل مؤمن هذا المزمور فى حربه مع الشيطان، ليثق ويثبت إيمانه فى الله، الذى ينصره على الشيطان فى كل الحروب الروحية.
- يمكن أن يقال هذا المزمور فى بداية العام الجديد لله، الذى يملك على قلوب أولاده وينتصر على الشياطين ويطردهم.
- هذا المزمور يرتبط بالمزمور التالى له، أى (مز21). فالمزمور العشرين يحدثنا عن الملك الخارج للحرب لينتصر على أعدائه، أما المزمور الحادى والعشرين، فهو صلاة شكر بعد الانتصار على الأعداء.
- يُظهر هذا المزمور أهمية الصلاة من أجل الآخرين وخاصة القائد، أى الملك، وكل مسئول فى مكانه؛ لخطورة مركز القائد، وفى نفس الوقت يظهر حاجته لصلاة تابعيه له.
- هذا المزمور موجود فى الأجبية فى بداية صلاة الساعة الثالثة، التى يظهر فيها عمل الروح القدس الذى يساند الإنسان فى حربه الروحية.
(1) عمل الله أثناء الضيقة (ع1-4):
ع1: 1- ليستجب لك الرب في يوم الضيق ليرفعك اسم اله يعقوب.
- الشدة شئ صعب وتضايق الإنسان، ولكنه يختبر فيها عمل الله، فيفرح بعشرته، فتصير الضيقة سبب بركة ونمو روحى للإنسان، بل واختبار الملكوت وهو على الأرض.
- لكيما ترفع الشدة، أو الضيقة، ينبغى للإنسان أن يصلى ويجاهد، مثل يعقوب أب الآباء، الذى صارع الله، فنال البركة. فالله يستجيب لمن يصرخ إليه وليس للمتكاسلين.
- إن كان داود يصلى إلى الله أثناء ضيقته، ولكنه محتاج أيضا لصلوات الشعب لأجله، فيقولون له “ليستجب لك الرب”.
- الله الذى سينصر داود، كما نصر يعقوب قديما عندما صارعه، هو إله ملموس وحقيقى وله إسم، فهو ليس خيال، بل واقع معاش، قد اختبره الآباء على مدى الأجيال، ورآه يعقوب، وشعر به داود عندما قتل جليات (1صم17: 45).
- هذه الآية اعتراف من داود بضعفه وحاجته لله، القادر أن يستجيب له وينصره، كما اعترف يعقوب بضعفه أمام قوة عيسو وتشبث بالله فباركه، وكما تضرع إلى الله فنجاه من يد خاله لابان (تك31: 24).
- هذه الآية تظهر محبة الشعب لملكهم فى صلواتهم لأجله، وهذا يفرح قلب الله؛ أن يحب القائد شعبه والشعب قائده، فيسرع للاستجابة.
- يوم الضيقة والشدة هى يوم الصليب، أما النصرة التى تمت على الصليب فظهرت بالقيامة والصعود. وكما نشعر بالضيقة فى هذا العمر، نشعر بالنصرة عندما ينقذنا الله من الخطية، ثم تكمل النصرة فى الوصول إلى الأبدية.
- صلاة داود تمثل الصلاة الفردية، وصلاة الشعب تمثل الصلاة الجماعية، وعندما يقترن الاثنان يستجيب الله ويعطى النصرة، فالله يفرح بالنوعين من الصلاة.
ع2: 2- ليرسل لك عونا من قدسه و من صهيون ليعضدك.
- إن الله يشعر بك ويرسل لك عوناً فى الوقت المناسب، وإن تأخر فلكيما يزداد جهادك وتمسكك به، فتنال بعد هذا عوناً أكبر، وتختبر محبته بشكل أوفر.
- إن قدس الله هو السماء، حيث يسكن، والعون السماوى عون قوى جداً، يغطيك ويحميك ولا يستطيع أحد أن يقاومه.
- إن قدس الله هو تابوت العهد، والذى يرمز إلى الكنيسة حيث المذبح وسر الافخارستيا، وهذا هو أكبر قوة تسندك ضد حروب إبليس.
- إن صهيون هى أيضا الكنيسة، حيث يجتمع المؤمنون ويرفعون صلوات جماعية، تسند كل مجاهد من أعضاء الكنيسة فى حياته وجهاده.
- إن صهيون هى النفس البشرية، فالله يعضد الإنسان فى داخله، فيشعر بقوة الله تسانده، فيكون مطمئناً حتى وسط الضيقة.
ع3: 3- ليذكر كل تقدماتك و يستسمن محرقاتك سلاه.
- الله فى محبة لا ينسى التقدمات القديمة التى قدمها داود، فهو لا ينسى أية محبة تقدم له، ويمد له يده بالبركة والعون فى وقت احتياج الإنسان.
- الله يستسمن محرقاتك، أى يراها سمينة، حتى لو كانت ضئيلة، لكنها فى عينيه كبيرة، كما رأى عظمة عطية الأرملة ذات الفلسين (لو21: 3) وكذلك السمكتين والخمس خبزات (يو6: 9)، وأيضا كأس الماء البارد لا يضيع أجره أمام الله
(مت10: 42). - الذبائح هى ما يقدمها الإنسان ويشترك معه الآخرون، فيأكلون منها، فهى ترمز لمحبة الإنسان لمن حوله، أما المحرقة، فتحرق كلها لإرضاء الله، فهى ترمز لمحبة الإنسان لله. فالله يفرح بمحبتنا له ومحبتنا للآخرين.
- الإنسان عندما يرى المسيح المصلوب يشعر أنه يريد أن يقدم حياته ذبيحة حب لله، بل محرقة من أجله، أى يبذل حياته فى الصلاة والعبادة والخدمة.
- كلمة سلاه هى وقفة موسيقية، نرفع قلوبنا فيها لله؛ ليقبل عبادتنا، وجهادنا، وخدمتنا الصغيرة،التى يراها كبيرة بمحبته، وأبوته لنا.
ع4: 4- ليعطك حسب قلبك و يتمم كل رايك.
- إن العاطى هو الله لكل أمر حسن فى حياة الإنسان هو الله؛ فيجب عليه أن يرفع قلبه بالشكر لله فى كل حين. فجيد للإنسان أن يطلب من الله، ولكن الأفضل ألا ينسى أن يشكر الله بعد أن ينال العطية، فلا يتكبر، أو ينسبها لنفسه، أو للآخرين، أو للظروف.
- الله مستعد أن يعطيك كل ما تتمناه، أى حسب قلبك، إن كان قلبك يتمنى ويقبل مشيئة الله، أما إن كانت مشيئتك مخالفة لله، فلن يعطيها لك؛ لأن مشيئته هى خلاص نفسك، فإن كانت مشيئتك مخالفة، أى تطلب العالم الذى يبعدك عن الله، فلن يستجيب لك.
- إن كان لك آراء وبدأت فى تنفيذها فلا تقلق لأجل استكمالها؛ لأن الله الذى يحبك سيتمم لك ما بدأته، ما دمت متمسكاً بوصاياه.
اطمئن لأن الله راعيك، وأبوك السماوى معك، فلن يتركك، بل يعطيك ما تطلبه وما تتمناه. فقط كن خاضعاً له، متمسكاً بكلامه، ثابتا فى كنيسته، وحتى لو مرت بك ضيقات ستخرج منها بأكثر قوة.
(2) نصرة الله (ع5-8):
ع5: 5- نترنم بخلاصك و باسم الهنا نرفع رايتنا ليكمل الرب كل سؤلك.
- عندما يخلص الله الإنسان من الضيقة لابد أن يترنم ويشكر الله، أى يعبر عن فرحه بكلمات التسبيح والحمد لله.
- إن الخلاص من الضيقة هو أول ما يفرح الإنسان، ولكن الأكبر منه هو الخلاص من الخطية والتمتع بالخلاص الأبدى، أى يشكر الله على أنه أعد له الملكوت، ويناله من خلال الكنيسة وأسرارها ووسائط النعمة.
- كان هناك عادة شرقية قديمة أنه إن قتل إنسان آخر، ثم هرب واحتمى بمدينة، أو أى شخص عظيم، ثم أمكن التصالح بينه وبين أهل المقتول، فإنه يرفع راية يعلن فيها خلاصه ومصالحته، وعفو من لهم حق أخذ الثأر منه. فنحن نرفع راية باسم إلهنا الذى خلصنا من الشيطان، الذى يريد قتلنا ويمسك علينا خطايانا. فالمسيح رفع عنا حكم الموت وأعطانا البراءة من الخطية؛ لذا نمجد المسيح إلهنا ونرفع صليبه الذى هو رايتنا وخلاصنا ونصرتنا.
- إن كنا قد بدأنا بشكر وتمجيد الله الذى خلصنا من الضيقة، فعلينا بعد هذا أن نحبه ونتعلق به؛ لأننا نكتشف مدى محبته واهتمامه بنا، فنحيا فى تسبيحه إلى الأبد؛ فتحب الله العاطى أكثر من العطية، والذى نصرنا أكثر من النصرة والنجاح.
- يرى داود بروح النبوة ليس فقط الله الذى ينصره على أعدائه، بل المسيح الفادى، الذى يأتى فى ملء الزمان، ويخلص البشرية من قيود الخطية، ويفتح لهم أبواب الفردوس المغلق.
- إذ يشعر الإنسان بالطمأنينة من خلال التسبيح لله مخلصه، يتشجع ويطلب من الله الذى يستجيب له ويكمل عطاياه له فى كل ما يسأل بحسب مشيئته الإلهية.
ع6: 6- الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه.
- شعر داود أن الله مخلصه، فمسيحه المقصود به داود الملك، الممسوح ملكاً بصب الدهن على رأسه بيد صموئيل النبى. وقد شعر أثناء صلاته بطمأنينة وراحة أن الله مخلصه وسيخلصه دائماً، فهى صلاة مملوءة إيمانا ورجاء.
- المقصود بمسيحه أيضا ربنا يسوع المسيح، الذى مسح بالروح القدس فى نهر الأردن عند عماده، والرب خلصه من الموت بقيامته، إذ أقام نفسه بقوة لاهوته.
- كذلك كلمة مسيحه تنطبق على كل مؤمن فى العهد الجديد، قد مسح بالروح القدس فى سر الميرون، فالله يخلصه من كل شدائده، ويشعر بالراحة والطمأنينة عندما يصلى، فلا ينزعج من أية ضيقة تأتى عليه فى المستقبل.
- إن الله يفرح بصلوات أولاده ويستجيب لها من سماء قدسه، أى السماء التى فيها عرش الله، فهذا إعلان عن قوة الله وسموه وقدرته على الاستجابة لصلواتنا.
وسماء قدسه أيضا هى بطن العذراء، فهى السماء الثانية، التى تقدست بالحبل الإلهى وبتجسده خلصنا من خطايانا وفدانا. وكذلك سماء قدسه هى هيكله، فهو أقدس مكان فى العالم، أو هو السماء فى الأرض، فهو يفرح بصلوات أولاده فى الكنيسة ويستجيب لها.
- إن قدرة الله على الاستجابة الجبارة هى أقوى مما نتخيل، ويعبر عن هذه القدرة بيمينه القادرة أن تخلصنا من متاعبنا، وتعطينا أعماقاً لا نتخيلها فى محبته وعشرته.
- وعن يمين الآب جلس الإبن، فهو هنا يتنبأ عن المسيح القوى الجبار، الذى يقدم خلاصاً للبشرية فى ملء الزمان.
ع7: 7- هؤلاء بالمركبات و هؤلاء بالخيل اما نحن فاسم الرب الهنا نذكر.
- يتحدث هنا داود عن أعداء شعب الله سواء المصريين بقيادة فرعون (خر14: 28)، أو الآراميين الذين حاربوا داود (2صم8: 6)، أو بروح النبوة عن الآشوريين بقيادة سنحاريب (أش37: 36) كل هؤلاء الأعداء اعتمدوا على القوة فى الحرب المتمثلة فى الخيل والمركبات. أما شعب الله، فاعتمد على ذكر اسمه القدوس، الذى يغلب الأعداء مهما كانت قوتهم.
- ترمز المركبات والخيل للجسد وهذا ما يحاربه الشيطان، أما الروح فتحيا وتتقوى باسم الرب، فتستطيع أن تقهر شهوات الجسد، وتضبطها وتخضع الجسد وتقوده فى طريق الله.
- تنطبق هذه الآية بروح النبوة على الرسل وخدام العهد الجديد الذين باسم الرب غلبوا قوة الشياطين، ونشروا المسيحية بين الوثنيين. وتنطبق أيضا على رهبان البرارى الذين طهروها باسم الرب من الشياطين، وانتصروا على الشهوات المختلفة.
ع8: 8- هم جثوا و سقطوا اما نحن فقمنا و انتصبنا.
- عندما دخل الله فى الحرب مع شعبه سقط الأعداء، فيقول داود النبى عنهم “جثوا”، أى ركعوا وسقطوا، وانطرحوا على الأرض. هذا ما حدث مع المصريين فى قاع البحر الأحمر، عندما غطاهم الماء فغرقوا وماتوا؛ لأنهم كانوا يعتمدون على قوتهم ولا يؤمنون بالله.
- شعب الله اعتمد على قوة الله، فقام وانتصب وخرج من البحر الأحمر بنصرة عظيمة، وهكذا فى كل الحروب، فكان الأعداء يسقطون وهو يكون مرتفعاً عليهم.
- فى الحرب الروحية تسقط الشياطين، أما أولاد الله فبقوته يقومون ويخرجون من كل ضيقة، وإن سقطوا لضعفهم يقيمهم الله وينتصبون ويشكرونه.
- إن كانت بداية المزمور فى (ع1) يذكر الشدة والضيقة التى مر بها المسيح وهى صليبه، ففى هذه الآية يعلن أنه بقوة المسيح يحتمل أولاد الله الصليب، فيقومون وينتصبون بقيامته.
ثق لأنك أنت ابن الله ووضعك الطبيعى أن تكون قائماً، فإن سقطت فى الخطية، فهذا وضع غريب عليك، فتب وارجع إلى الله، فتقوم وتعود لوضعك الطبيعى. وإن ظهرت آثار الضيقة على حياتك فلا تزعج؛ لأن الله القائم من الأموات ساكن فيك، ويعزيك، ويقويك، ويحفظ لك سلامك حتى تنتهى الضيقة.
(3) طلب الخلاص (ع9):
ع8: 9- يا رب خلص ليستجب لنا الملك في يوم دعائنا
- يختم المزمور بدعوة لله أن يخلص من؟ الملك والرؤساء والمعلمين وكل الشعب، فالله قادر على إنقاذ كل شعبه ويخلصهم على الدوام من كل الأعداء.
- يخاطب داود الله ويلقبه بالملك، وهذه هى أول مرة نجد إنساناً يخاطب الله بهذا اللقب ومن بعده إشعياء النبى الذى قال لله أنه الملك (إش 6 : 5). فهو يطلب من الله صاحب السلطان أن يستجيب له فى اليوم الذى يدعوه ويطلبه.
- الذى يملك الله على قلبه، ويضبط حواسه وأفكاره يستطيع أن يستجيب لطلبات الآخرين واحتياجاتهم عندما يسألونه المعونة؛ لأنه يتخلص من الأنانية بسبب مُلك الله على قلبه، الذى يعطيه روح العطاء والبذل.
- الله مستعد أن يستجيب إن كنا نطلبه، ولكننا إن تكاسلنا، أو ضعف إيماننا ولم نسأله فلن نأخذ شيئاً.
- من الواجب علينا أن نطلب من أجل ملوكنا ورؤسائنا، وكل قادتنا الروحيين والعالميين؛ ليعطيهم الرب نعمة وحكمة فنعيش فى سلام. ولأن حروب الشياطين تكون أقوى على الرؤساء؛ لذا واجب علينا أن نطلب لهم.
اطلب من الله كل ما تحتاجه، فهو أبوك الذى يحبك ويسرع لتلبية طلباتك. ولا تنسى أن تطلب من أجل الآخرين وكل من له مسئولية؛ ليسنده الله فيها.