شكر الله على أبوته
لداود
“أحمدك من كل قلبى قدام الآلهة ارنم لك” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى كما يظهر في عنوان المزمور في الترجمة العبرية التى بين أيدينا. ويلاحظ أنه في الترجمة السبعينية يذكر العنوان “لحجى وزكريا” أو “لزكريا” بعد اسم داود. وهذا معناه أن حجى وزكريا كانا يرددان هذا المزمور بعد الرجوع من السبى، ولكن معنى هذا أن الكاتب هو داود. وكلمات هذا المزمور تشبه مزامير داود.
- متى كتب ؟ بعد انتصارات داود على الأعداء المحيطين انتصارات عظيمة، أى أنه كان في الجزء الأخير من حياة داود.
- يعبر هذا المزمور عن مشاعر داود العميقة نحو الله، واختباراته لقوة الله في الضيقات.
- يناسب هذا المزمور كل من يحب الله، أو يحمده على عطاياه، فيزداد إيمانه ويثبت أثناء الضيقات.
- هذا المزمور من المزامير المسيانية التى تتكلم بوضوح عن تجسد الكلمة، الذى هو أعظم إعلان لله وتجليه للبشر، ليعرفهم ذاته، ويخلصهم من خطاياهم.
- يوجد هذا المزمور بالأجبية في صلاة النوم ليشجعنا على شكر الله على أعماله معنا طوال اليوم، وخاصة في الضيق.
(1) الله مجيب الدعوات (ع1-3):
ع1: أَحْمَدُكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. قُدَّامَ الآلِهَةِ أُرَنِّمُ لَكَ.
- داود يشكر الله ليس فقط بلسانه، ولكن بكل مشاعره، أى من قلبه، ويحمده في كل حين؛ حتى وسط الضيقات، خاصة وأن الله قبله رغم خطاياه وضعفه، وأدخله إليه، فوقف أمامه يشكره. وهذا معناه أيضاً أنه لا يوجد في قلب داود إلا الله، إذ يحمده من كل قلبه. فقد سبق وعاش كلام المسيح الذى أعلنه “تحب الرب إلهك من كل قلبك..” ( مت 22 : 37).
- في فرح يرنم داود أمام الآلهة، أى الملائكة، كما تذكر الترجمة السبعينية، فقد ارتفع داود عن الأرضيات إلى السمائيات، فوقف أمام الله الذى تحيط به الملائكة، والذين يشكرون الله، ويسبحونه على الدوام، فهو بين الملائكة يتمثل بهم، وترك عنه الاهتمامات الأرضية، وانشغل بالسماء وروحانيتها. وعندما يشعر بوجوده بين الملائكة، فهو ليس فقط يرتفع إليهم، بل هم أيضاً يتنازلون ويشاركونه التسبيح، ولذا تسمى الكنيسة بيت الملائكة، بل وظهر كثير من الملائكة والقديسين وشاركوا الأرضيين في التسبيح في ظهورات كثيرة. وهو يرنم أيضاً أمام الآلهة، أى الملوك رؤساء العالم. فهو يشهد لله بشجاعة في كل مكان، حتى أمام عظماء العالم.
- قد يكون المقصود بالآلهة الوثنيين وآلهتهم. فداود بجرأة يشكر الله أمام الأمم الوثنية بآلهتها التى ليست آلهة، بل مجرد أصنام. فيحمد الإله الحقيقى وهو الله، ويشكره من كل قلبه.
ع2: أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ، وَأَحْمَدُ اسْمَكَ عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ اسْمِكَ.
- يحمد داود الله على رحمته؛ لأنه قبله، وغفر له خطاياه الكثيرة، ويشكره أيضاً على حقه؛ لأن الله أظهر الحق بإنقاذه من يد شاول، وأبشالوم، وأنقذه أيضاً من يد أعدائه، ونصره عليهم. ويعلن شكره، وخضوعه لله بالسجود في هيكله المقدس، والمقصود خيمة الاجتماع أمام تابوت العهد، خاصة بعد سقوط داود في خطاياه الكبيرة، وتوبته عنها، وغفران الله له، وسماحه له أن يسجد أمام هيكله.
- شكر داود الله على رحمته وحقه يرمز إلى شكرنا على فدائه لنا على الصليب الذى اجتمعت فيه الرحمة والحق؛ الرحمة في رفع خطايانا، والحق في إيفاء العدل الإلهى بموت المسيح عنا.
- عظم الله كلمته على كل اسمه. فإسم الله يعنى شخصه، أى أن الله المعروف في العهد القديم لشعبه أعلن نفسه بإعلان عظيم في وصاياه وشريعته التى أعطاها لموسى، ثم تزايدت عظمته بإعلان نفسه في تجسده وفدائه. وإن كان الله مخفياً ومتضعاً في شكل الجسد الإنسانى، ولكنه أعظم إعلان أن نرى الله يسير بيننا بالكمال كمثال لنا، ثم يرفع خطايانا على الصليب، وبعد هذا يقوم من الأموات بقوة لاهوته. وبهذا ارتفع المسيح فوق كل اسم في السماء وعلى الأرض عندما أعلن لاهوته بقيامته (في 2: 9).
ع3: فِي يَوْمَ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي. شَجَّعْتَنِي قُوَّةً فِي نَفْسِي.
- يعلن داود خبرته اليومية مع الله في أنه يستجيب لطلباته. وهذا بالطبع يفرحه، ويطمئنه. وليس هذا فقط، بل يشجعه الله بقوة إلهية في داخله؛ ليتحرك ويتحمل كل المسئوليات وينجح، ويرشده أيضاً في كل ظروفه أن يقوم ليحارب، أو ينسحب ويهرب.
- استجابة الله لداود ترمز لاستجابته للجنس البشرى بتجسده في ملء الزمان وإعطائه الروح القدس كهبة دائمة تسكن في الإنسان الجديد، وتعطيه قوة للحياة مع الله والخدمة مهما كان ضعفه، كما حدث مع الرسل، الذين أعطاهم قوة للاحتمال ، وشجاعة لمواجهة كل المواقف، والتبشير في كل مكان(أع5: 41).
ما أجمل أن تشعر بالسماء وأنت تصلى، وحضرة الله وملائكته المسبحين إياه، فترتفع عن كل خطية بالتوبة، وتلقى عنك هموم العالم، وينجذب قلبك لشخص الله، فتسبحه، وتتمتع بالوجود بين يديه.
(2) الله العالى محب المتضعين (ع4-6):
ع4: يَحْمَدُكَ يَا رَبُّ كُلُّ مُلُوكِ الأَرْضِ، إِذَا سَمِعُوا كَلِمَاتِ فَمِكَ.
- ملوك الأرض عندما يحمدون الله، فهذا معناه أنهم سمعوا كلامه، وآمنوا به، فهذه نبوة عن دخول الأمم إلى الإيمان. وملوك الأرض هم ملوك الأمم الوثنية، وهذه نبوة عن انتشار المسيحية في الأرض كلها.
- ملوك الأرض هم كل المؤمنين الروحيين الذين ضبطوا أنفسهم عن شهوات الأرض، وملك الله على قلوبهم، وسمعوا وصاياه وحفظوها، وعاشوا بها، فاستطاعوا حينئذ أن يسبحوه.
ع5: وَيُرَنِّمُونَ فِي طُرُقِ الرَّبِّ، لأَنَّ مَجْدَ الرَّبِّ عَظِيمٌ.
سيرنم المسبحون في طرق الرب، أى وصاياه، لأنهم قد حفظوها، وعملت في قلوبهم، وظهرت في تسابيح جميلة لله، بل وشعروا بعظمة الله ومجده، فاتضعوا أمامه، مهما كان مركزهم وعلى قدر توبتهم زاد اتضاعهم، وارتفع تسبيحهم.
ع6: لأَنَّ الرَّبَّ عَال وَيَرَى الْمُتَوَاضِعَ، أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ فَيَعْرِفُهُ مِنْ بَعِيدٍ.
- بالرغم من كمال فضائل الله ، وهو أعلى من كل البشر والملائكة، لكن قلبه مملوء بالحب، فيحنو على المتضعين، أما المتكبرون فيبتعد عنهم، إذ هم لا يحبون الله، بل أنفسهم. المتضع يشعر باحتياجه لله، ويحبه، فيفيض عليه الله بمراحمه وبركاته. أما المتكبر فيحرم نفسه من نعم الله.
- المتضع هو داود الذى يحب الله، ويشعر بعلوه، فيراه الله، ويتنازل إليه، ويشمله ببركاته. ولكن أعداء داود المتكبرين، مثل شاول وعبيده، فيبتعد عنهم الله لأجل كبريائهم.
الاتضاع هو أقصر طريق لقلب الله، فبه تنال كل طلباتك، بل وتفيض عليك مراحمه فوق ما تطلب أو تفتكر. وثق أن خطاياك لا تعطلك عن التمتع بالله ما دمت تائباً عنها. فالله يحب الضعفاء، ويسندهم، ويشفق عليهم، ولذا طوبهم بقوله طوبى للمساكين بالروح.
[3] الله المخلص من الضيقات (ع7، 8):
ع7: إِنْ سَلَكْتُ فِي وَسَطِ الضِّيْقِ تُحْيِنِي. عَلَى غَضَبِ أَعْدَائِي تَمُدُّ يَدَكَ، وَتُخَلِّصُنِي يَمِينُكَ.
- الذى آمن بالله، ويسبحه لا ينزعج من الضيقات، فالله قادر أن يعطيه حياة مطمئنة سعيدة، رغم وجود الضيقات حوله. فليس من الضرورى أن يرفع الله الضيقة، ولكنه يهب أولاده حياة مملوءة بالفرح وسط الضيقات (يو16: 33).
- إن قام الأعداء بغضب ليسيئوا إلىَّ لا يستطيعون؛ لأن يمينك يا رب تخلصنى من مؤامراتهم، وشرهم، كماخلص الله داود من يدى شاول وأبشالوم.
- يمين الله ترمز للمسيح المتجسد الذى خلصنا من غضب إبليس الذى يشتكى علينا ويريد إهلاكنا، وبصليبه ليس فقط يخلصنا، بل يعطينا حياة؛ حتى وسط الضيقات. فحياتنا على الأرض هى الضيق، الذى نتخلص منه. إذا عشنا سماوياً على الأرض.
- من يحيا وعينيه نحو السماء لا يتضايق من ضيقات الأرض، إذ يرى اتساع محبة الله، ويحيا بالروح سماوياً، فيفرح في كل حين وهو على الأرض؛ أرض الضيقات.
ع8: الرَّبُّ يُحَامِي عَنِّي. يَا رَبُّ، رَحْمَتُكَ إِلَى الأَبَدِ. عَنْ أَعْمَالِ يَدَيْكَ لاَ تَتَخَلَّ.
- يختم داود المزمور بإعلان إيمانه، وسر طمأنينته وهو حماية الله له، الذى يصد عنه كل هجمات الأعداء، ويحميه إن سلك في وسطهم.
- أيضاً يثق داود أن رحمة الله هى التى تحفظه طوال حياته، فهو يغفر خطاياه، ويفيض عليه ببركاته. وتستمر هذه الرحمة معه في يوم الدينونة، فلا يدينه الله؛ لأجل إيمانه، وتوبته، وتتعاظم رحمة الله عليه في بركات الأبدية.
- سلام داود مبنى على ثقته بالله الذى يحميه، ويدوم في حمايته له، فإن تخلى عنه البشر، وصاروا أعداء أيضاً، لكن الله لا يمكن أن يتخلى عنه، حتى لو وقف العالم كله ضده، فالله معه، كماحدث مع أثناسيوس الرسولى.
ما أجمل الطمأنينة بين يدى الله، اتكل عليه، واقبل مشيئته في حياتك، حتى لو بدت صعبة؛ لأنه قادر أن يعبر بك بسلام وسط الآلام، ويفرح قلبك في كل حين.