العالم كله يسبح الله
“هللويا سبحوا الرب من السموات سبحوه في الأعالى” ع1
مقدمة :
- كاتبه : غير معروف لأن المزمور ليس له عنوان، فهو من المزامير اليتيمة.
- هذا المزمور يبدأ وينتهى بكلمة هللويا، فهو من مزامير الهليل الخمسة (مز146-150).
- هذا المزمور ليتورجى عند اليهود، وكان يصلى في العبادة الجماعية.
- هذا المزمور من المزامير الليتورجية الهامة في الكنيسة. فهو الجزء الأول من الهوس الرابع؛ أى التسبيح الرابع الذى يصلى قبل صلاة عشية، أو في أواخر تسبحة نصف الليل.
- يعتبر هذا المزمور من أعظم مزامير التسبيح؛ لأنه يضم الخليقة كلها في تسبيح واحد لله.
- يناسب هذا المزمور كل مصلى يحب الله، ويريد التعبير عن مشاعره له، وكقائد للخليقة في تسبيح الله.
- لا يوجد هذا المزمور بالأجبية.
(1) السموات (ع1-6):
ع1، 2: هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا الرَّبَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ. سَبِّحُوهُ فِي الأَعَالِي. سَبِّحُوهُ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتِهِ. سَبِّحُوهُ يَا كُلَّ جُنُودِهِ.
- يدعو كاتب المزمور السموات أولاً لتسبيح الله. فالسموات تمثل ما يسمو عن الأرض وسكانها. وفى السموات عرش الله لسموه العظيم.
- أول مجموعة يدعوها لتسبيح الله هم الملائكة، وجنود الله هم رتب الملائكة المختلفة. ويبدأ بالملائكة التى تسبح في السموات، وفى الأعالى؛ لأن عملهم الأساسى هو التسبيح، فهم أقدر المخلوقات على تسبيح الله، ولأنهم أرواح بلا أجساد، وينظرون الله في كل حين. ورغم أن كاتب المزمور يعلم أن الملائكة يسبحون الله دائماً، لكنه يدعوهم للتسبيح، إذ اشتعل بالحب الإلهى، واشتاق للتسبيح فأول مجموعة خطرت على باله هم الملائكة المسبحين في كل حين.
- قدر ما يحيا الإنسان سماوياً يصير مثل الملائكة، فيتذوق حلاوة أكبر في التسبيح إذ يتعلم من الملائكة كيف يكون التسبيح، ويرتفع عن الشهوات المادية، ويكتسب فضائل روحية كثيرة.
ع3، 4: سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ. سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ.
- بعد أن دعى كاتب المزمور الملائكة لتسبح الله، وهم يمثلون المجموعة الأولى من المسبحين، أى الخورس الأول، يدعو المجموعة الثانية، أى الخورس الثانى في التسبيح، وهو الأجرام السماوية، فيدعو الشمس والقمر وكواكب النور. وينادى أيضاً على سماء السموات، ونفهم من هذا أن هناك عدد من السموات يناديها كلها لتسبيح الله، والمعروف عندنا ثلاث سموات؛ هى سماء الطيور، ثم سماء الفراغ الكونى، أى الأجرام السماوية، وبعد ذلك سماء الملائكة وتسمى السماء الثالثة التى ارتفع إليها بولس. وينادى أيضاً على المياه التى فوق السموات، وهى التى تبخرت من الأرض، وارتفعت إلى السماء، ثم تعود فتنزل على الأرض بشكل أمطار. وتسبيح هذه الكائنات لله يكون بسير هذه الكواكب بالنظام الذى وضعه الله لها. كما يمجد الإنسان الله ليس فقط بكلامه، بل أيضاً بأعماله. والسموات أيضاً تعمل أعمالاً مفيدة للإنسان، مثل الإنارة والأمطار. كل هذه أعمال تسبح الله.
- السموات ترمز للإنسان الروحى الذى بسلوكه الحسن ينير لمن حوله، مثل الشمس، والقمر والكواكب، ويفيض على غيره بمحبة وخدمات مثل الأمطار؛ كل هذه تسابيح مقدمة لله من خلال أعمال الناس الروحيين.
ع5، 6: لِتُسَبِّحِ اسْمَ الرَّبِّ لأَنَّهُ أَمَرَ فَخُلِقَتْ، وَثَبَّتَهَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ، وَضَعَ لَهَا حَدًّا فَلَنْ تَتَعَدَّاهُ.
الله يفرح بخليقته التى تسبحه، وهى تسبحه لأجل ثلاثة أمور :
- “لأنه أمر فخلقت” : لأنه خلق السموات بأمره وكلمته، والتى نحاول الآن بالدراسات والأبحاث أن نفهم شيئاً عنها وعن نظامها؛ كل هذا تم في الحال بأمر الله.
وهكذا أيضاً يأمر الله فيهب الإنسان مواهب الروح القدس لسد احتياجات الكنيسة، مثل الوعظ والتعليم، وثمار الروح القدس، أى الفضائل لبنيان الإنسان الروحى.
- “ثبتها إلى الدهر” : فالله وضع لها نظاماً ثابتاً تسير عليه، مستمراً طوال الحياة.
وهكذا أيضاً وضع الله نظاماً في الكنيسة للعبادة تسمى الطقوس؛ ليساعد الإنسان في علاقته مع الله. وعندما يثبت الإنسان الروحى في الكنيسة، يساعده الله فيثبت إلى الأبد في ملكوته السماوى.
- “وضع لها حداً فلن تتعداه” : لم يكتف الله أن يضع لها نظاماً، بل أيضاً حدوداً لا تتعداها؛ حتى لا تصطدم الكواكب مع بعضها، فتحدث كوارث في الكون. وأيضاً وضع الشمس بعيدة عن الأرض بمقدار لا يحرق البشر، وأيضاً الله يضع حدوداً للبشر حتى لا يسيئوا لغيرهم فوق الطاقة، ويسمح ببعض العجز؛ حتى لا يتمادى الإنسان في شره.
السماوات وما فيها تمثل حضرة الله، وخضوعها له يدعوك يا أخى أن تحيا بوصايا الله، وتكون أميناً في أعمالك فتمجد الله، وتسبحه مثل مخلوقاته السماوية.
(2) الأرض (ع7-10):
ع7: سَبِّحِي الرَّبَّ مِنَ الأَرْضِ، يَا أَيَّتُهَا التَّنَانِينُ وَكُلَّ اللُّجَجِ.
- ينتقل كاتب المزمور إلى مجموعة جديدة، هى مجموعة ثالثة تسبح الله، وهى الأرض وما عليها، وكذا البحار وما فيها. ويذكر في هذه الآية التنانين وهى جمع تنين، الذى هو حيوان ضخم قوى؛ يعيش إما على الأرض مثل الثعبان الضخم، أو في اللجج وهى أعماق المياه، أو على شواطئها، مثل الحيتان والتماسيح. وقد اختار هذه الحيوانات المفترسة والضخمة؛ ليعلن أن كل الحيوانات؛ حتى المفترسة منها تسبح الله بسيرها في نظامها الذى حدده الله.
- التنانين تمثل الحيوانات الضخمة والمفترسة وترمز للغضب. وإذ يرى الإنسان – مهما كانت قوته، أو مركزه – هذه التنانين تسير في نظامها، يخضع الإنسان لله، ويضبط غضبه، ويسعى للصلاة والتسبيح ومحبة الآخرين. واللجج أيضاً ترمز للأعماق، فينبغى أن يسبح الإنسان الله في أعماقه، أى بكل مشاعره.
ع8: النَّارُ وَالْبَرَدُ، الثَّلْجُ وَالضَّبَابُ، الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الصَّانِعَةُ كَلِمَتَهُ.
- يذكر مجموعة من الظواهر الطبيعية التى تؤثر في الأرض، مثل النار والبرد والثلج والضباب والريح العاصفة؛ كل هذه تسير في النظام الذى وضعه الله لها. ولا تخرج عن طبيعتها إلا بأمر الله، مثل النار التى لم تضر الثلاث فتية.
- هذه الظواهر الطبيعية تمثل التجارب في حياة الإنسان، والله عندما يسمح بهذه التجارب يكون لخير الإنسان، إذ أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله. وإذ يقبلها الإنسان ويستمر في صلواته وتسبيحه، يعطيه الله بركات كثيرة من أجل احتماله. خاصة وأن كل هذه الظواهر تصنع كلمة الله، أى تنفذ أوامره، وهى كلها لفائدة الإنسان الذى لا يفهم معناها لأول وهلة، ولكن بخضوعه لمشيئة الله يفهم مع الوقت قصد الله وينال بركته.
ع9: الْجِبَالُ وَكُلُّ الآكَامِ، الشَّجَرُ الْمُثْمِرُ وَكُلُّ الأَرْزِ.
- الجبال والآكام : أى الأماكن العالية جداً والمتوسطة الارتفاع تسبح الله، فهى تمثل الثبات والقوة التى يقتدى بها الإنسان في علاقته مع الله، وكذا السمو والاقتراب من الله، فهذه الجبال والآكام رتب الله وجودها لتمجده بثباتها؛ حتى يقتدى بها الإنسان ويتعلم منها.
- الأشجار المثمرة، أو غير المثمرة : مثل الأرز كلها تمجد الله وكل شجرة لها فائدتها، فأخشاب شجر الأرز عظيمة جداً؛ ليعلم الإنسان أنه يستطيع أن يمجد الله باستخدام إمكانياته، ولا يقارن نفسه بغيره، بل يعمل واجبه بأمانة، والله يفرح بعمل الإنسان كتمجيد له.
ع10: الْوُحُوشُ وَكُلُّ الْبَهَائِمِ، الدَّبَّابَاتُ وَالطُّيُورُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ.
- الوحوش : وهى الحيوانات المفترسة تمجد الله في سيرها بغرائز وطباع معينة وضعها لها الله. وينبغى على الإنسان الروحى أن يضبط ويوجه غرائزه لمجد الله، فيغضب على نفسه ليتوب، ويكون قوياً مسرعاً لإنقاذ المسجونين، أى يستخدم إمكانياته القوية لمجد الله. هذا هو التسبيح الذى يطلبه الله.
- وكل البهائم الدبابات : ويقصد بها كل الحيوانات الأليفة التى تدب على الأرض، وهى مفيدة للإنسان بشكل، أو بآخر. هكذا أيضاً يتعلم الإنسان أن يخدم غيره قدر ما يستطيع فيمجد الله.
- الطيور ذوات الأجنحة : الطيور ترمز للسمو والارتفاع نحو السماء، فترمز لترك الشهوات الأرضية، وكلما حاول الإنسان أن يرتفع بالصلاة إلى السماء ويضبط شهواته، يتمجد الله فيه.
تأمل يا أخى الكائنات المحيطة على الأرض؛ لتتعلم من سلوكها شيئاً لمنفعتك، فتفرح قلب الله وتشكره، وتسبحه.
(3) البشر (ع11-14):
ع11-13: مُلُوكُ الأَرْضِ وَكُلُّ الشُّعُوبِ، الرُّؤَسَاءُ وَكُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ، الأَحْدَاثُ وَالْعَذَارَى أَيْضًا، الشُّيُوخُ مَعَ الْفِتْيَانِ، لِيُسَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ قَدْ تَعَالَى اسْمُهُ وَحْدَهُ. مَجْدُهُ فَوْقَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
- إن كان المزمور تكلم أولاً عن الملائكة المسبحين لله فى كل حين فى السموات، فهو يختم المزمور بالتكلم عن تسبيح البشر، الذين ينبغى أن يتشبهوا بالملائكة فى التسبيح، وإن كانت أجسادهم تعطلهم جزئياً، ولكن هدفهم الذى ينبغى أن يكون أمامهم دائماً هو تسبيح الله.
- إن كانت الخليقة الجامدة المذكورة فى (ع7-10) تسبح الله بخضوعها للنظام الذى خلقها الله عليه، فإن الإنسان يسمو عنها، إذ له عقل واختيار، فتظهر محبته لله عندما يسبحه، ولا يتعلق بماديات الأرض الزائلة.
- يدعو المزمور كل فئات الشعب لتسبيح الله؛ سواء الملوك، أو الرؤساء، أو القضاة، وعلى الجانب الآخر المرؤوسين، أو المحكومين، الذين تحت قيادة هؤلاء السابق ذكرهم، فالكل يشكر الله على ما رتبه ووهبه له. فالشعوب فى كل مكان تسبح الله الذى نظم لها دولاً، ورؤساء، وملوك، وقضاة يحكمون حياتهم بقوانين منظمة. وكذلك كل من له مكان قيادى يسبح الله على نعمة القيادة والحكم.
- يدعو أيضاً المزمور الشعب بأعماره المختلفة؛ سواء الشباب ذكوراً وإناثاً فهؤلاء ينبغى أن يسبحوا الله أولاً، لإمتلائهم بالحيوية والنشاط، وكذلك أيضاً الشيوخ ذوى الخبرة مع الله، والفتيان الذين لم يبلغوا سن الشباب ولكنهم يدركون عظمة الله، فيسبحوا مع الشباب والشيوخ؛ إذ أن الإنسان ينبغى أن يسبح الله فى كل مراحل حياته؛ لأنه يتمتع فى كل مرحلة برعاية الله.
- إن الله وحده هو الذى يستحق التسبيح من كل البشر؛ لأنه أعلى من كل ما يدعى إله، وفوق كل ما على السماء والأرض؛ لأنه هو خالقها ومدبرها كلها. فالخلائق العظيمة كلها تعلن أن خالقها أعظم بالطبع منها.
ع14: وَيَنْصِبُ قَرْنًا لِشَعْبِهِ، فَخْرًا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ، لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الشَّعْبِ الْقَرِيبِ إِلَيْهِ. هَلِّلُويَا.
ينصب : يقيم.
- يختتم المزمور بدعوة شعب الله لتسبيحه، وذلك لما يلى :
أ – يهبهم قوة عظيمة تميزهم عن باقى الشعوب، والتى يرمز إليها بالقرن الذى يظهر للحيوان عندما يبلغ. فالله يعطى شعبه قوة بين جميع الشعوب؛ إذ يحميهم ويدافع عنهم، بل بقوته يهزموا أعداءهم الشياطين.
ب – يعطيهم الله مجداً يفتخرون به، ويشكرون الله عليه. فيتمجد في كلامهم، وأفعالهم. ويخص بالمجد شعبه لأنهم يتقونه، أى يخافونه، فيحيوا في توبة، ويبتعدوا عن الشر، فيتمتعوا بالطهارة.
جـ- يمنحهم الله نعمة الاقتراب إليه، فيتمتعوا ليس فقط بحمايته، ومساندته لهم في كل حياتهم، بل فوق هذا يتلذذوا بعشرته، ويفرحوا ليس فقط على الأرض، بل يأخذهم معه إلى السماء؛ ليفرحوا معه إلى الأبد في ملكوته.
- إن القوة والمجد والعشرة القريبة من الله قد ظهرت واضحة بتجسد المسيح، ونعم الروح القدس في الكنيسة، والتى تكمل لأولاد الله في الحياة الأبدية.
- ينتهى المزمور كله بكلمة هللويا، أى دعوة لكل الخلائق أن تتهلل أمام الله، وتفرح وتسبحه؛ لأن التسبيح يملأ القلب فرحاً.
تأمل بركات الله التى وهبها لك في العهد الجديد في كنيسته، وفى حياتك الشخصية، حتى تحرك قلبك، وتدفعك لتسبيحه، ليس فقط في الكنيسة مع باقى المؤمنين، بل أيضاً في مخدعك، وبعد هذا تمتد لتكون معك في كل خطواتك، أى تحيا حياة التسبيح على الدوام.