داود وبناء بيت الرب
ترنيمة المصاعد
“اذكر يا رب داود كل ذله … ” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى، وقد يكون سليمان.
- متى كتب ؟ فى أواخر حياة داود عندما اشتهى بناء بيت للرب، ولكن أعلمه الله أن ابنه سليمان هو الذى سيبنيه. فأعد مواد بناء الهيكل وكتب هذا المزمور. قد يكون كتبه عندما نقل تابوت عهد الله إلى أورشليم (2صم6: 14، 15). وعلى كل الأحوال ردد سليمان هذا المزمور عند نقله تابوت العهد إلى الهيكل بعد بنائه وظهرت بعض كلمات هذه المزمور فى صلاة سليمان (2أى 6 : 41، 42 ).
- لعل هذا المزمور يكون نبوة عن مشاعر الراجعين من السبى إلى أورشليم لإعادة بناء هيكل الرب، وإرجاع العبادة فيه.
- يناسب هذا المزمور المصلى المحب لبيت الرب فى ليلة الذهاب إلى الكنيسة لحضور القداس والتناول؛ ليفكر فى بركات سكنى الله فى القلب.
- هذا المزمور ليتورجى لأن المؤمنين رنموه عند نقل تابوت العهد، أو فى الاحتفالات الدينية أمام هيكل الرب.
- يعتبر هذا المزمور من المزامير المسيانية؛ لأنه يتكلم عن المسيح الملك الآتى من نسل داود ويملك فى هيكله فى كنيسة العهد الجديد، وإلى الأبد فى الملكوت.
- يصلى هذا المزمور على الدرجة الثالثة عشر فى طريق الصعود إلى هيكل الرب؛ إذ أنه بعد الاتضاع على الدرجة الثانية عشر يتأهل الإنسان لمعاينة بيت الرب والتمتع بالوجود بين يديه.
- يوجد هذا المزمور بالأجبية فى صلاة النوم؛ ليتذكر الإنسان أن نفسه هى بيت الرب، ويصلى ليسكن الله داخله ويباركه.
(1) داود يشتهى بناء بيت الرب (ع1- 7):
ع1، 2: اُذْكُرْ يَا رَبُّ دَاوُدَ، كُلَّ ذُلِّهِ. كَيْفَ حَلَفَ لِلرَّبِّ، نَذَرَ لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ:
عزيز يعقوب : أى الله العظيم إله يعقوب.
- يترجى داود الله أن يذكر اتضاعه وضعفه، فهو يعلن أنه لا شئ أمام الله ليتحنن عليه، ويباركه.
- إن كان الكاتب سليمان، فهو يذكر الله بأنه تمم ما وعد به أبوه داود، الذى اتضع أمام الله، ونذر أن يبنى بيتاً له. وأنك أنت يا الله قلت له أن ابنك سليمان هو الذى سيبنى البيت، وقد بنيته فباركه، وبارك كل من يدخل للعبادة فيه.
- يظهر داود أيضاً محبته في قسمه ونذره لله أن يبنى له بيتاً، لأن داود كان يسكن في بيت عظيم مصنوع من خشب الأرز، أما الله فيسكن في خيمة، فهذا يبين محبة داود لله، رغم أنه لا يملك أن يبنى البيت دون سماح من الله. ولم يسمح الله لداود أن يبنيه، ولكن داود هو أول من أعلن حبه لله في شهوته أن يبنى له بيتاً عظيماً بدل الخيمة المتنقلة.
ع3، 4: “لاَ أَدْخُلُ خَيْمَةَ بَيْتِي. لاَ أَصْعَدُ عَلَى سَرِيرِ فِرَاشِي. لاَ أُعْطِي وَسَنًا لِعَيْنَيَّ، وَلاَ نَوْمًا لأَجْفَانِي.
وسنا : نعاساً.
- بذل داود كل جهده ليجد مسكناً للرب، ويبنى له بيتاً، فلم يهدأ عن البحث وإعداد مواد البناء طول النهار، وأيضاً في الليل كان لا يكل عن الصلاة؛ ليكمل الله اشتياقاته ويسمح ببناء البيت. فهو فلم يعطِ جسده راحة ليحقق هدفه.
- كان داود يعمل بمثابرة لبناء البيت؛ لأن الشيطان يقاوم أعمال الله ويبحث عن ثغرة ليدخل منها، فلم يعطه داود فرصة باستمراره في الجهاد والصلاة. فداود يمثل الجدية في العمل، وما دام قد بدأ فلابد أن يكمل.
ع5: أَوْ أَجِدَ مَقَامًا لِلرَّبِّ، مَسْكَنًا لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ”.
عزيز : عظيم.
أراد داود أن يجد مقاماً ومسكناً وراحة للرب، وهو في نظره أهم من أى إنسان. فكيف يستريح داود في بيته وقصره والله لا يجد له مقاماً ؟! ويقصد بالمقام مكاناً عظيماً يتناسب مع مجد الله. ولم يقل أبنى له بيتاً؛ لأنه يعلم أن الله هو البانى، وداود يشتاق فقط أن يكون هناك مكاناً يرضى الله أن يسكن فيه.
ع6: هُوَذَا قَدْ سَمِعْنَا بِهِ فِي أَفْرَاتَةَ. وَجَدْنَاهُ فِي حُقُولِ الْوَعْرِ.
أفراته : كلمة عبرية معناها مثمر وهى بيت لحم التى تقع جنوب غرب أورشليم على بعد 8 كم.
حقول الوعر : الوعر هو الأماكن البرية، أو أماكن الغابات. والمقصود هنا قرية يعاريم التى تقع جنوب غرب أورشليم على بعد 18 كم. وكلمة يعاريم تعنى غابات.
- سمع داود أن التابوت في نواحى أفراته، فبحث عنه حتى وجده في قرية يعاريم في بيت عوبيد آدوم الجتى، فنقله باحتفال عظيم إلى أورشليم(2أى 1 : 4). وهذا يبين اجتهاد داود وجديته في البحث عن تابوت عهد الله لتعلق قلبه بالله؛ لأن تابوت العهد يمثل حضرة الله.
- هذه الآية نبوة عن تجسد المسيح الذى ولد في بيت لحم التى هى أفراته (تك35: 19) وهو أتى ليخلص العالم كله؛ لأن حقول الوعر ترمز إلى الأمم. فهو ولد من سبط يهوذا في بيت لحم، ولكن هو أيضاً أتى ليخلص كل البشرية.
ع7: “لِنَدْخُلْ إِلَى مَسَاكِنِهِ. لِنَسْجُدْ عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ”.
- عندما وجد داود تابوت العهد نقله باحتفال عظيم إلى أورشليم، ودعى كل الشعب للسجود له، أى الخضوع لوصاياه وشريعته،، وتسليم الحياة له. وهذا يبين خضوع داود لله وقبول مشيئة في كل حياته.
- هذا السجود في أفراته حدث مع المسيح المولود في المذود من الرعاة، ثم من المجوس. وموطئ قدمى الله ترمز إلى تجسده.
? اتعب جسدك في الجهاد الروحى وفى إتمام مسئولياتك، فتستريح روحك؛ لأنه كلما انضغط الجسد تقَوَّت الروح، وحينئذ يستريح الله أن يسكن فيها وهذا هو مسكن الله، وأعظم مكان يطلبه، أى قلبك ليملك عليه ويشبعك بحبه.
(2) إرجاع تابوت العهد (ع8، 9)
ع8 : قُمْ يَا رَبُّ إِلَى رَاحَتِكَ، أَنْتَ وَتَابُوتُ عِزِّكَ.
- ينادى داود الله ليقوم من يعاريم، أى تابوت عهد الله، وينتقل إلى أورشليم ليستقر هناك، فهو يعلم أن الله هو محرك العالم كله، وهو سمح أن يوجد وسط شعبه عن طريق تابوت عهده، لذلك يقول له قم وانتقل وقلبه مملوء فرحاً بأن الله سيسكن في أورشليم بجواره، أو بمعنى أدق سيكون داود بجوار الله الذى يسكن في أورشليم. ويشعر داود أن تابوت عز الله هو تابوت الفخر والمجد؛ لأن الله فوق جميع الآلهة.
- كان موسى يردد هذه الآية عند ارتحال التابوت في برية سيناء (عد10: 35-36)، وقالها أيضاً سليمان بعد بناء الهيكل عند تدشينه (2أى6: 41-42).
- تنطبق هذه الآية على المسبيين الراجعين إلى أورشليم، فكانت مشاعرهم تردد هذه الآية بعد إعادة بناء الهيكل.
- ينادى داود بروح النبوة المسيح ليقوم من حضن الآب ويتنازل ويتجسد لفداء شعبه. ويناديه أيضاً وهو في القبر بعد موته على الصليب ليقوم من الأموات معلناً انتصاره على الموت لصالح شعبه؛ ليعطى قياماً لكل من يؤمن به.
- راحة الرب هى أيضاً الكنيسة التى يقوم الله ويسكن فيها وسط شعبه وتابوت العز أيضاً هو بطن العذراء الذى ولد منها المسيح.
ع9: كَهَنَتُكَ يَلْبَسُونَ الْبِرَّ، وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ.
إذ استقر التابوت في أورشليم، ينادى المرتل على الكهنة ليحيوا في البر والنقاوة؛ حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام الله لخدمته. أما شعبه فيكونوا في فرح عظيم، ويسبحوا الله بهتاف وتمجيد دائم. وهذا يتم بروح النبوة بشكل أوضح في كنيسة العهد الجديد.
ليتك يا أخى تنادى الله الذى أهملت روحه القدوس الساكن فيك ليقوم، ويشتعل في داخلك وتعطيه مكاناً في حياتك أكبر، وتتمسك بوصاياه، فيجد راحته دائماً فيك، ويعمل بحرية في كل أفكارك وكلامك وأعمالك.
(3) وعد الله لنسل داود (ع10-12)
ع10: مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِكَ لاَ تَرُدَّ وَجْهَ مَسِيحِكَ.
- يقول داود النبى بروح النبوة، مترجياً الله الذى وعد أن يقيم سليمان ابنه ملكاً بعده، ويبنى هيكلاً للرب ويطلب إليه داود ألا يرد وجه مسيحه، أى سليمان الممسوح ملكاً ويعينه على بناء هيكل له.
- إذا كان كاتب المزمور هو سليمان، فهو يترجى الله، متشفعاً بأبيه داود، الذى كان قد مات وقتذاك؛ حتى لا يرد وجه مسيحه؛ أى سليمان نفسه، ويباركه ليبنى ويدشن الهيكل. وهذه الآية موجودة بنفس النص في صلاة سليمان عند تدشين الهيكل (2أى6: 42).
ع11، 12: أَقْسَمَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ بِالْحَقِّ لاَ يَرْجعُ عَنْهُ: “مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ. إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِي وَشَهَادَاتِي الَّتِي أُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، فَبَنُوهُمْ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّكَ”.
- هاتان الآيتان هما وعد الله لداود أن يجعل نسله على كرسى داود، أى عرش مملكة يهوذا إلى الأبد (2صم7: 12-13). وفعلاً تم هذا حتى السبى البابلى، وكمل في المسيح الآتى من نسل داود ليملك إلى الأبد.
- شرط جلوس نسل داود على عرشه إلى الأبد حفظهم عهد الله وشهاداته. وبعض هذا النسل عاش في البر وعبادة الله، وبعضهم لم يحفظوا وصاياه، ولذا سمح الله بالسبى عقابا لهم. ولما عادوا إلى التوبة أمام الله تجدد وعد الله في المسيح المتجسد في ملء الزمان. وهكذا أعلن الملاك للعذراء أن المولود منها يعطيه الرب كرسى داود أبيه (لو1: 31) فالمسيح جلس على كرسى داود أبيه، وسيظل يملك على قلوب المؤمنين به إلى الأبد في ملكوت السموات.
تشفع بالقديسين يرحمك الله كماتشفع سليمان بداود أبيه (ع10) لأن الشفاعة غالية عند الله، إذ تعلن محبتك لأولاده، واشتيقاك لله، واتضاعك أمامه، فيهبك بركات وفيرة.
(4) الله يختار صهيون (ع13-18)
ع13، 14: لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ. اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ: “هذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى الأَبَدِ. ههُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا.
- اختار الله صهيون، أى أورشليم؛ لأن هيكله فيها، واستراح أن يكون مسكنه فيها. وراحة الله في صلوات أولاده وتسابيحهم المرفوعة إليه، فهو يفرح بإيمان أولاده ومحبته لهم.
- يقول ِأن راحته في أورشليم إلى الأبد، وبالطبع لا يقصد مدينة أورشليم التى في اليهودية؛ لأنه قد تم تخريبها عام 70م بيد تيطس الرومانى. ولكن يقصد أورشليم التى هى كنيسة العهد الجديد، والتى تمتد إلى الأبد في أورشليم السمائية، أى ملكوت السموات.
- نادى كاتب المزمور على الرب وقال له “قم يا رب إلى راحتك” (ع8)، فيرد الرب في (ع14) ويقول أن راحتى في أورشليم، أى فى صلوات أولادى وتسابيحهم.
- أورشليم هى النفس المؤمنة بالله في العهد القديم والعهد الجديد، وهو يستريح فيها إلى الأبد، لأن هذه النفس تخلد إلى الأبد معه في الملكوت.
ع15: طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبعُ خُبْزًا.
- ما دام الله ساكن وسط شعبه، فهو يبارك في احتياجاتهم المادية، ويشبع كل الفقراء فيها، فالكل يكتفى مادياً ويشكر الله.
- المسيح في كنيسته يشبع أولاده المساكين بالروح؛ أى المتضعين، ويعطيهم احتياجاتهم الروحية، بالإضافة للمادية، ويعطيهم فوق الكل جسده ودمه.
- طعام الكنيسة (أو صيدها في الترجمة السبعينية) هو أولادها ومن ينضمون إليها، ويؤمنون بالمسيح يباركهم ويشبعهم روحياً ومادياً.
ع16: كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصًا، وَأَتْقِيَاؤُهَا يَهْتِفُونَ هُتَافًا.
- يعطى الله بركة خاصة لأولاده الكهنة؛ لأنهم يخدمون في هيكله، ويقودون شعبه في الطريق الروحى، فيهبهم الخلاص، أى التخلص من الخطايا وانشغالات العالم، ليتمتعوا بعشرة الله. أما كل المؤمنين الأتقياء فيسبحون الله، بل ويهتفون من كل قلوبهم فرحين. هذه البركات للكهنة الأتقياء يعطيها لهم في العهد القديم، وبالأحرى في العهد الجديد من بركات الروح القدس الغزيرة.
- في العدد التاسع ينادى كاتب المزمور الرب ويطلب منه أن يلبس الكهنة البر ويجعل الأتقياء يهتفون. فيرد الله في (ع16) مستجيباً لنداء كاتب المزمور، ويؤكد أن يلبس الكهنة الخلاص، ويجعل الأتقياء يهتفون هتافاً.
ع17، 18: هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْنًا لِدَاوُدَ. رَتَّبْتُ سِرَاجًا لِمَسِيحِي. أَعْدَاءَهُ أُلْبِسُ خِزْيًا، وَعَلَيْهِ يُزْهِرُ إِكْلِيلُهُ”.
- قرن داود الذى ينبته الله هو المسيح الآتى من نسل داود. و”رتبت سراجاً لمسيحى” المقصود بها نبوة داود عن المسيح بالإضافة لنبوات الأنبياء، مثل أشعياء وإرميا … ثم يوحنا المعمدان السابق للمسيح الذى هيأ الطريق له.
- ترتيب السراج للمسيح هو جسد المسيح الذى أخذه من العذراء، لأن المسيح هو نور العالم. وبتجسد المسيح وفدائه صار الخزى لأعداء المسيح، أى الشياطين. وإكليل المسيح المزهر هو الكنيسة ورأس هذا الإكليل المزهر هو المسيح.
- المسيح الذى هو سراج العالم نور ظهر لاهوته من خلال حياته على الأرض من خلال كلامه ومعجزاته، وظهرت قداسته في أنه لم يخطئ، وظهرت قداسته بالأكثر ونوره في تجليه على الجبل، ثم في قيامته وصعوده.
- إن كان المزمور قد بدأ بالذل في (ع1) لكنه ينتهى بالمجد والنور والقداسة في المسيح الآتى من نسل داود، الذى ينير العالم كله، وجميع المؤمنين به.
الله يريد أن ينير حياتك فيطرد كل ظلمة الخطية منك عندما تتوب ويزينك بالفضائل، فتكون نوراً للعالم، وملحاً للأرض، ويسندك في جهادك الروحى، حتى تصل لأمجاد السماء.