الله الخالق الممجد
“باركى يا نفسى الرب. يارب إلهى قد عظمت جداً ..” ع1
مقدمة :
- كاتبه : هذا المزمور ليس له عنوان، أى أنه من المزامير اليتيمة، ولكن الترجمة السبعينية تنسبه إلى داود.
- يوجد تشابه بين هذا المزمور والمزمور السابق له، فكلاهما يسبح الله، ولكن المزمور السابق يسبحه على رحمته مع شعبه، أما هذا المزمور فيظهر رعاية الله للطبيعة كلها.
- يتشابه هذا المزمور أيضاً مع الإصحاحين الأول والثانى من سفر التكوين، ولكن يلاحظ أن سفر التكوين يركز على الخليقة التى خلقها الله، أما هذا المزمور فيركز على عظمة الخالق الذى يرعى الخليقة كلها.
- هذا المزمور ليتورجى كان اليهود يرددونه في صباح يوم الكفارة العظيم، حيث يسمح الله لرئيس الكهنة بدخول قدس الأقداس؛ لأن هذا اليوم يرمز لتجديد الخليقة كما يذكر المزمور (ع30)، فهو يرمز ليوم الجمعةا لعظيمة التى فيها تقدم رئيس كهنتنا المسيح إلهنا وفدانا على الصليب؛ لذا نعلن أنه هو خالق وراعى الخليقة كلها، ونمجده.
- يوجد تشابه بين هذا المزمور والمزمور (مز19) لأن كليهما يظهر الله الخالق العظيم الذى يرعى خليقته ويتمجد فيها.
- لا يوجد هذا المزمور في صلوات الأجبية.
(1) الله خالق السماء والأرض (ع1-9):
ع1: بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلهِي، قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا. مَجْدًا وَجَلاَلاً لَبِسْتَ.
- يبدأ المزمور بتسبيح الله عندما ينادى كاتب المزمور نفسه لتبارك الله، ويتكلم كاتب المزمور بفخر عن الله، فيقول إلهى، أى أن هناك علاقة خاصة بينه وبين الله، ويقول له لقد عظمت جداً ليس بمعنى أنه قد إزداد عظمة؛ لأنه كامل فى ذاته منذ الأزل، لكنه صار عظيماً فى عينى كاتب المزمور، عندما أدرك رعايته، وقوته التى خلقت العالم وترعاه لتدبره. وكل من يؤمن بالله، ويتنقى بالتوبة يستطيع إدراك عظمة الله.
- يشبه كاتب المزمور الله بإنسان عظيم قد لبس الجلال والمجد، ويقصد عظمة الله الظاهر أمام الناس فى خلقته، ورعايته للعالم. فالمجد والجلال ملتصقان به، كما تلتصق الثياب بالإنسان.
ع2: اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ، الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ.
شقة : قطعة من القماش، أو الجلد يسهل بسطها مثل الخيمة، أو الستارة.
- الله نور ومصدر كل نور، لذا يعبر كاتب المزمور عن ذلك بقوله اللابس النور، أى أن النور ملتصق به، وهو خالق النور. وأيضاً خلق السموات بكلمته بسهولة، كما يبسط الإنسان شقة الخيمة، أى قماش الخيمة بسهولة. ومن يؤمن بالله العظيم كما فى (ع1) يتمتع بنوره، ثم كلمته التى تعمل فيه بسهولة.
- إن الله اللابس النور يشير إلى تجسد المسيح بجسده الطاهر، أى النورانى. أما نحن المؤمنون فنلبس النور، أى المسيح إن سلكنا بوصاياه. والنور يكشف كل شئ، فالله اللابس النور يفحص القلوب والكلى، وليس شيئاً مخفياً عنه. وقد بسط السماء بعد أن خلق النور فى اليوم الأول؛ ليعلن أنه إن كانت السماء مسكنه، فنحن البشر الذين نحيا على الأرض لا يمكننا أن نرى نوره، ولكن نرى شيئاً من نوره قدر ما نستطيع أن نحتمل. الآن نراه كما فى مرآة، ولكن هناك فى السماء نراه وجهاً لوجه (1كو13: 12) أى يكشف الله لنا بعضاً من نوره. وقدر ما نحيا معه يكشف لنا عن أسرار نوره، فنتمتع بعشرته.
- والله اللابس النور أنار العالم عندما خلق النور، وبالتالى يمكن أن توجد بعد ذلك حياة للإنسان وكل الخلائق، والله أيضاً ينير قلوبنا بمعرفته، فنمتلئ فرحاً.
ع3: الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ.
علاليه : جمع علية وهى الحجرة العلوية فى البيت، والمقصود بها السماء.
- يظهر كاتب المزمور عظمة الله فى خلقته للسماء، وهى عبارة عن ماء فى شكل بخار، وجعلها سقفاً للأرض، وكل ما فوقها من إنسان، وحيوان، وطيور. وتتجلى قوة الله فى ضبطه لهذا الماء، الذى هو السحاب، فلا يستطيع أن يتكثف وينزل فى شكل أمطار إلا بأمره، وبالمقدار الذى يريده لمنفعة الإنسان. ويعبر أيوب عن السحاب، فيشبهه بصره مملوءة بالماء، يمسكها الله بيده؛ حتى لا تغرق الأرض كلها (أى26: 8).
- الله يركب عل السحاب ويمشى على الريح، الذى يشبهه الكاتب هنا بأجنحة، مثل أجنحة طائر. فالله هو خالق كل هذه، وضابطها، ويركب فوقها، أو يمشى عليها. ولأجل عظمة السحاب والضباب فهو يمثل حضرة الله لعلوه عن الأرض، وبهائه، كما كان الضباب يغطى خيمة الاجتماع، أو هيكل سليمان عند حضور الله (خر20: 21؛ 1مل8: 12)، وعندما حل الله على الجبل، وأعطى موسى الوصايا والناموس (تث5: 22).
- السحب، أى الضباب يمثل الغموض، فيرمز لأسرار الكنيسة، والمياه هى مياه المعمودية، والرياح تشير للروح القدس العامل فى الكنيسة والأسرار والمؤمنين. والخلاصة أن الله، الذى يعلو بفكره عن الجميع، يعمل فى أولاده فى الكنيسة؛ ليملأهم بقوته، ويعطيهم كل احتياجاتهم، فيجعل أولاده الأرضيين ملائكة يعيشون فى السماء وهم على الأرض.
ع4: الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً.
- الله هو خالق الملائكة، وخلقهم رياحاً؛ أى أرواحاً لها قدرات كبيرة فى الإدراك، والحركة. وهم أرواح تدرك محبة الله وعظمته، فتسبحه دائماً، وتطيعه، وتخدمه، وتعتنى بالبشر بحسب أوامره. وهم أرواح لا يراهم الإنسان، ولكن يشعر بعملهم.
- الله أيضاً خلق الملائكة ناراً ملتهبة، وذلك بروحه القدوس النارى، وهم ملتهبون بمحبة الله، ويرفضون الشر؛ لأن النار تأكل الشوائب، والأشواك التى ترمز للخطية، ويعملون أوامر الله بسرعة مثل لهب النار.
ع5: الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ.
- تظهر أيضاً عظمة الله فى تثبيت الأرض كأنها على قواعد، كما كان يعتقد الأقدمون. ويقصد الله هنا بالقواعد ثبات الأرض، رغم أن الأرض تدور حول نفسها كل يوم، ولكن بحكمة الله لا نشعر بهذا، فنحيا مطمئنين.
- الأرض تحمل البشر، والمؤمنين إن ثبتوا فى المسيح حجر الزاوية فلا يتزعزون.
ع6: كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ. فَوْقَ الْجِبَالِ تَقِفُ الْمِيَاهُ.
- كانت المياه تغطى كل شئ فى بدء الخليقة، وقال الله لتظهر اليابسة، وتجتمع المياه فى مكان، وسماها بحاراً، وسمى اليابسة أرضاً (تك1: 9)، أى أن الارض بجبالها كانت مغطاة بالمياه، ثم ظهرت بأمر الله. ولم تغمر المياه الأرض مرة أخرى إلا فى الطوفان أيام نوح، ولن تغمرها ثانية كما وعد الله (تك8: 21).
- الجبال ترمز للقديسين، والرسل، والخدام. والمياه التى فوقها هى عمل الروح القدس فيهم، وبركته على رؤوسهم.
ع7-9: 7- مِنِ انْتِهَارِكَ تَهْرُبُ، مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ تَفِرُّ. 8- تَصْعَدُ إِلَى الْجِبَالِ. تَنْزِلُ إِلَى الْبِقَاعِ، إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَسَّسْتَهُ لَهَا. 9- وَضَعْتَ لَهَا تَخْمًا لاَ تَتَعَدَّاهُ. لاَ تَرْجعُ لِتُغَطِّيَ الأَرْضَ.
رعدك : رعد الله، أى صوته وكلمته وأمره.
تخماً : حدوداً.
البقاع : الأراضى.
- الله أمر المياه، فتحركت بسرعة لتغمر الأرض بالطوفان أيام نوح فغطت الجبال والوديان، ولكن بعد هذا أمرها الله أن تنسحب، فعادت الأرض للظهور، ونزل نوح، ومن معه من الفلك. والله أيضاً طمأن الإنسان بأن وضع حدوداً للبحر لا يتعداه؛ حتى لا يغمر الأرض، بل أعطاه علامة فى السماء هى قوس قزح، عندما تهطل الأمطار بشدة، فتظهر فى السماء ألوان الطيف السبعة؛ ليعرف أن الله لن يغمر الأرض بطوفان مرة أخرى. كل هذا يؤكد عظمة الله وسلطانه، وفى نفس الوقت يبين غضب الله على الشر، ومحبته، ورعايته لأولاده المؤمنين.
- الله يسمح بالتجارب أن تغطى الكنيسة ليؤدبها فتتوب، ثم يعود فيرفعها، ويبارك أولاده عندما يتوبون، ويفرحون بعطايا الله.
- الآيات من (ع5-9) تحدثنا عن خلقة الله للأرض فى اليوم الثالث (تك1: 9، 10).
الله خلق السماء والأرض لأجلك، بل كل ما على الأرض لمنفعتك، ولا شئ يحدث إلا بأمره، فاطمئن لأنه ضابط الكل، وهو أبوك الذى يحبك، ويرعاك، فتمسك بوصاياه، وأثبت فى كنيسته، فتتمتع بعشرته.
(2) الله يعول الإنسان والحيوان (ع10-18):
ع10-12: 10- اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ. بَيْنَ الْجِبَالِ تَجْرِي.11- تَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ الْبَرِّ. تَكْسِرُ الْفِرَاءُ ظَمْأَهَا.12- فَوْقَهَا طُيُورُ السَّمَاءِ تَسْكُنُ. مِنْ بَيْنِ الأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتًا.
الفراء : الحمار الوحشى.
ظمأها : عطشها.
- يحدثنا كاتب المزمور فى هذه الآيات التالية عن الله المعتنى بخليقته، فلا يكتفى بإعداد مياه البحار والأنهار للخليقة، بل يفجر أيضاً ينابيع ماء من المياه الجوفية التى فى الأرض، فتجرى فى كل مكان حتى بين الجبال؛ لتسقى ليس فقط الإنسان، بل أيضاً الحيوانات والنباتات، والطيور التى تطير فوق الأشجار وعلى الجبال. وهو يسقى الحيوانات الأليفة، والحيوانات الوحشية. وعندما تشرب الحيوانات المياه ترعى بحرية، أما الطيور فتغرد على الأغصان مسبحة الله الذى يرعاها.
- إن الله يهتم ليس فقط بالإنسان، بل بالحيوانات أيضاً والطيور؛ حتى تتحرك قلوب البشر لتشفق على الحيوانات، والطيور، والنباتات، والأشجار. ومن ناحية أخرى إن كان الله يشفق على الحيوانات والنباتات، فهو بالطبع يشفق على قائد الخليقة، أى الإنسان.
ع13: السَّاقِي الْجِبَالَ مِنْ عَلاَلِيهِ. مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ الأَرْضُ.
- الله يسقى الأرض كلها حتى أعلى ما فيها وهى الجبال، فإن كانت الأنهار والينابيع تسقى الأودية، فالله يسقى الجبال من علاليه، أى السحب بالأمطار. والجبال ترمز للقديسين الذين يسقيهم الله من السماء بروحه القدوس، فيمتلئون على الدوام من نعمته.
- أعمال الله؛ أى المياه التى تسقى النباتات والأشجار تعطى ثماراً تشبع بها كل من على الأرض من إنسان وحيوان. وهذا يرمز لعمل الروح القدس فى الرسل والكهنة والخدام، فيعطيهم ثماره الروحية التى تفيض على كل من يحتاج لسماع كلمة الله وتشبعه.
ع14: الْمُنْبِتُ عُشْبًا لِلْبَهَائِمِ، وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ، لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ الأَرْضِ،
- يهتم الله بطعام الحيوانات، فيعطيها عشباً لتأكل، وهى النباتات السريعة النمو. أما الإنسان الذى يهتم بالزراعة، فيعطيه الخضرة، وهى الخضراوات، وكذلك الفاكهة، وأيضاً المحاصيل التى تعطى الخبز، مثل القمح والذرة والشعير. فالله يهتم بإشباع كل خلائقه. ويوجد معنى هذه الآية فى (مز147: 8).
- الخبز هو كلمة الله التى تشبع أرواحنا، وهو المسيح المتجسد فى ملء الزمان؛ ليفدينا ويشبعنا.
ع15: وَخَمْرٍ تُفَرِّحُ قَلْبَ الإِنْسَانِ، لإِلْمَاعِ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنَ الزَّيْتِ، وَخُبْزٍ يُسْنِدُ قَلْبَ الإِنْسَانِ.
- الله يهتم بالإنسان فوق كل الخلائق، فيعطيه الخبز ليسنده جسدياً، والخمر أيضاً – أى عصير العنب المختمر، والذى كانت تنتشر أشجاره فى بلاد اليهود – تعطيه صحة وحيوية تظهر فى لمعان وجهه. وإن كان بعض الناس يشربون الخمر المركزة التى تسكرهم، فهذا انحراف ليس له علاقة بالآية، وينهى عنه الكتاب المقدس.
- من الواضح أن الخمر والخبز يرمزان لجسد ودم المسيح اللذين يشبعان الإنسان روحياً، فيفرح ويلمع وجهه، ويبتهج قلبه، ويستند عليهما فى كل حياته.
ع16: تَشْبَعُ أَشْجَارُ الرَّبِّ، أَرْزُ لُبْنَانَ الَّذِي نَصَبَهُ.
- إن الأشجار بما فيها أرز لبنان العالى المستديم الخضرة، الذى خلقه ونصبه الله، تشبع هذه كلها من مياه الله ودسم الأرض، فتنمو وتمتد إلى علو كبير، وتشكر الله الذى يهبها الحياة.
- أرز لبنان أشجار عالية ترمز للمؤمنين القديسين المرتفعين إلى السماء بصلواتهم الكثيرة. وكما أن الأشجار مستديمة الخضرة، هكذا القديسين ممتلئون حياة روحية، والله أقامهم ليكونوا نوراً للعالم. وهم يشبعون من فيض الروح القدس عليهم.
ع17: حَيْثُ تُعَشِّشُ هُنَاكَ الْعَصَافِيرُ. أَمَّا اللَّقْلَقُ فَالسَّرْوُ بَيْتُهُ.
اللقلق : طائر طويل المنقار والأرجل، يطير إلى ارتفاعات عالية، ويصارع النسر ويغلبه. وهو صديق الإنسان، ويأكل الحشرات والضفادع والفئران من الحقول. ويصنع أعشاشه فى أعلى الأشجار وعلى أسلاك الكهرباء.
السرو : أشجار مرتفعة تنمو فى لبنان، ودائم ومستديم الخضرة، وينافس الأرز فى ارتفاعه.
- الأشجار العالية تلتجئ إليها الطيور الصغيرة، مثل العصافير، أو الكبيرة مثل اللقلق، فتصنع فيها مسكناً لها، وتستقر فيها، وتسبح الله الذى يقوتها، ويدبر لها مساكنها واستقرارها.
- الأشجار العالية مثل الأرز والسرو ترمز للقديسين الذين يلتجئ إليهم المبتدئون فى الحياة الروحية؛ ليتعلموا منهم، ويلتصقوا بهم، ولكن لابد أن يرتفعوا نحو السماء بصلواتهم، ليتعلموا الحياة الروحية، كما تطير العصافير واللقلق إلى أعالى الأشجار.
- السرو شجرة طيبة الرائحة، ومستديمة الخضرة ومرتفعة إلى السماء، ولا يأكلها السوس، فترمز للمسيح المتجسد مصدر الحياة، وهو النازل من السماء وأيضاً بلا خطية، فلا يقترب إليه الشر (السوس).
ع18: الْجِبَالُ الْعَالِيَةُ لِلْوُعُولِ، الصُّخُورُ مَلْجَأٌ لِلْوِبَارِ.
الوعول : جمع وعل وهو تيس الجبال، الذى يتميز بالنشاط وسرعة الحركة.
الوبار : حيوان صغير يشبه الأرنب.
الوعول تستطيع أن تهاجم الثعابين وتأكلها، ولذا فهى تسكن فى الجبال، ولا تخاف من شئ، فأعطاها الله قوة ونشاط لتسكن الجبال. أما الوبار فهو حيوان ضعيف، لا يستطيع أن يحفر له مسكناً، فلذا يحتمى فى الصخر. وهو حيوان نجس فى شريعة اليهود، مثل اللقلق، ومع هذا فالله أعطاهم أن يسكنوا فى الصخور والسرو، كما يقبل المسيح الخطاة التائبين.
ما أعظم تدابيرك يا الله، فتعطى حياة لكل خلائقك بما يناسب كل نوع، فكم بالأحرى تهتم بالإنسان صورتك ومثالك، لذلك تسبحك نفسى فى كل حين، وتفرح عندما تراك فى خليقتك وأعمالك؛ حتى يتعلق قلبى بك على الدوام.
(3) الله خالق الشمس والقمر (ع19-23):
ع19: صَنَعَ الْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ. الشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا.
- تتحدث هذه الآية عما خلقه الله في اليوم الرابع، أى النورين العظيمين؛ الشمس والقمر، وكيف أن بهما رتب الله المواقيت، أى الزمن بوجود ليل ونهار بدوران الأرض حول نفسها مرة كل يوم، وفصول السنة بدوران الأرض حول الشمس مرة كل سنة. فالشمس تعرف متى ستغرب كل يوم، والقمر يعرف متى يظهر في كل ليل. وبهذا ينظم الله حياة الإنسان، فيعمل في النهار وينام في الليل.
- إن الشمس ترمز لشمس البر ربنا يسوع المسيح، والقمر للكنيسة التى تعكس نور المسيح شمس البر، فتضئ للمسكونة. ومن ناحية أخرى القمر يرمز أيضاً إلى اليهود والناموس، الذى مهد الطريق للمسيح الذى أتى في ملء الزمان، ويعرف متى سيغرب، أى يموت ويفدى البشرية. ولذا فيلزم أن يعرف الإنسان الروحى مصدر حياته، وهو المسيح فيلتصق به، ويستعد لنهايته والحياة الأبدية كل يوم.
ع20: تَجْعَلُ ظُلْمَةً فَيَصِيرُ لَيْلٌ. فِيهِ يَدِبُّ كُلُّ حَيَوَان الْوَعْرِ.
الوعر : الأماكن الغير مأهولة بالسكان، مثل الجبال والقفار وكل الأماكن المهجورة.
- عندما تبتعد الشمس ونورها، يأتى الليل على الأرض، فالله يسمح بالليل حتى يهدأ الإنسان وينام، ومن ناحية أخرى يترك أعمال العالم، وينشغل بالصلاة والتسبيح.
- تستغل الحيوانات المتوحشة الليل لتخرج وتدب، وتبحث عن الفريسة وهى ترمز للشيطان الذى يغافل الإنسان ليسقطه في الخطية، التى ترمز إليها الظلمة، ولكن الله يحمى أولاده الساهرين روحياً، ويعطيهم يقظة روحية، وفهماً، وقوة، فلا يستطيع إبليس أن ينتصر عليهم. أما الذين ينسون الله، يكونون في ظلمة روحية ويسهل على إبليس أن يفترسهم.
ع21، 22: الأَشْبَالُ تُزَمْجِرُ لِتَخْطَفَ، وَلِتَلْتَمِسَ مِنَ اللهِ طَعَامَهَا. تُشْرِقُ الشَّمْسُ فَتَجْتَمِعُ، وَفِي مَآوِيهَا تَرْبِضُ.
مآويها : عرينها، أى مسكنها أو جحورها.
تربض : ترقد وتستريح.
- الأشبال التى هى صغار الأسود التى تتحرك ليلاً وتعطى أصواتها العالية لتخيف من تهاجمه، وتفترسه. وهى بهذا تلتمس طعامها من الله، فلا تستطيع أن تفترس إلا بإذنه، كما نرى دانيال عندما ألقى في الجب منع الله الأسود من افتراسه (دا6: 22). ولكن عندما تشرق الشمس تختبئ هذه الأشبال في جحورها.
- إن الشياطين تعمل في الظلمة، أى في غفلة الإنسان، أو عند ابتعاده عن الله، لكن عندما تشرق شمس البر، أى ينير الله لأولاده الملتجئين إليه تخاف الشياطين وتهرب بعيداً عنهم.
ع23: الإِنْسَانُ يَخْرُجُ إِلَى عَمَلِهِ، وَإِلَى شُغْلِهِ إِلَى الْمَسَاءِ.
- في النهار، أى في نور الشمس يخرج الإنسان، ويعمل كل أعماله حتى المساء، أى في نهاية اليوم، كما قال المسيح “سيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يو12: 35).
- النهار حتى المساء يرمز للعمر كله، فينبغى أن يستغل الإنسان فرصة الحياة ليحيا مع الله ويستعد للأبدية، ولا يخشى إن كان قد سقط في الليل، والمقصود ظلمة الخطية وليس الليل المادى فقط، بل يقوم سريعاً ويتوب، فيقبله الله، ويعاود جهاده برجاء ثابت.
- إن وُجدت عوائق في الخدمة، فلا ينزعج الكهنة والخدام، بل يواصلون الكرازة والخدمة، واثقين من قوة الله التى تهزم معطلات الشياطين، ويفرحون قلب الله بالنفوس التى ترجع إليه.
تذكر قيامة المسيح مع بداية كل يوم لتجدد نشاطك، ووعودك لله، وتبدأ بنشاط حياة جديدة معه، فتصلى صلاة باكر، وتنطلق فى حياتك الروحية وأعمالك وتمجد الله.
(4) الله خالق الحيوانات البحرية (ع24-30):
ع24: مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ.
- أعمال الله عظيمة في كل خلائقه، لأنها كلها دبرها الله بحكمة، فكل حيوان، أو كائن، أو جماد، دقيق في صنعه، ويسير في نظام دقيق؛ ليتناغم مع باقى الخلائق، كل هذا عمله الله بحكمة لخدمة الإنسان؛ ليتمتع بها، وتساعده على الوصول إلى الله.
- الله ملأ الأرض من خلائقه سواء الأجرام السماوية، أو النباتات والحيوانات التى على الأرض، والطيور التى في السماء، والحيوانات التى تعيش في الماء؛ سواء في البحار، أو الأنهار. فالله غنى في تنوع خلائقه وكثرة أعماله، مما يبهر الإنسان، ويطمئنه، فيستند على الله، ويتمتع بعشرته.
ع25، 26: هذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ. هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ. صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ. هُنَاكَ تَجْرِي السُّفُنُ. لِوِيَاثَانُ هذَا خَلَقْتَهُ لِيَلْعَبَ فِيهِ.
دبابات : كل ما يدب على الأرض، أو في قاع البحر، أو على الشاطئ.
لوياثان : حيوان بحرى كبير، سواء من الحيوانات التى انقرضت، أو التى تحيا الآن، مثل الحوت والتمساح.
- خلق الله البحر الواسع، وخلق فيه حيوانات بحرية كثيرة كبيرة الحجم، وصغيرة، وكلها تحيا في الماء، وتموت إن خرجت منه. وبعضها يحيا في الماء وعلى البر وهى الحيوانات البرمائية. فالله متنوع في خليقته، مبدع في صنعه، إذا تأملها الإنسان يرى عظمة الله.
- هذا البحر العظيم المخيف الذى يغرق فيه الإنسان ويموت إن غطس فيه ولم يخرج، ولكن في نفس الوقت تستطيع السفن أن تسير فيه بحرية وبسرعة. والسفن ترمز للكنيسة التى تحيا وسط العالم، ولكن لا يدخل العالم بفكره داخلها. والسفن أيضاً ترمز للصليب الذى قهر الشيطان، وقيده؛ لأن لوياثان يرمز للشيطان الذى يلعب في العالم (البحر) ويحارب أولاد الله، ولكنه لا يستطيع أن يهاجم السفن إلا بإذن الله، كما لا يستطيع الشيطان أن يقهر الكنيسة، بل على العكس بقوة الصليب يدوس المؤمنون بالمسيح قوة العدو والشيطان.
ع27-29: 27- كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا فِي حِينِهِ.28- تُعْطِيهَا فَتَلْتَقِطُ. تَفْتَحُ يَدَكَ فَتَشْبَعُ خَيْرًا.29- تَحْجُبُ وَجْهَكَ فَتَرْتَاعُ. تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ، وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ.
- إن كل الحيوانات التى تحيا في البحر، أو المياه يقوتها الله، وتلتقط طعامها من يده، ولكن عندما يريد الله ينهى حياتها، فتموت كبيرة كانت أم صغيرة، وتلتصق بالأرض وترابها.
- إن الله هو مصدر الحياة لكل أولاده، فيعطيهم طعامهم الروحى والجسدى، بشرط أن يطلبوه، ويمدوا أيديهم فيعطيهم، وعلى قدر ما يصلون يتمتعون بعشرته. ولكن إن ابتعدوا عنه، وسلكوا في الخطية يحجب وجهه عنهم، ويموتون في خطاياهم، إذ صاروا شهوانيين أرضيين. وإن استمروا هكذا يبيدون ويموتون بعيداً عن الله.
ع30: تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ.
- الله الذى خلق العالم قديماً هو يجدد الحياة، ويخلق كل يوم مخلوقات جديدة؛ لأنه هو واهب الحياة، سواء يخلق إنساناً، أم حيواناً، أم نباتاً، فكلها صنائعه، وبالتالى يلزم أن يجددها، وعلى رأسها الإنسان.
- الإنسان ضعيف، ومعرض للسقوط في الخطايا، ولكن إن تاب يجدد الله فيه الحياة في المعمودية، وسر الإعتراف، وبالتناول من الجسد والدم، وبعمل الروح القدس فيه يسلك في الحياة الجديدة، ويستعيد طريقه نحو الحياة الأبدية.
لا تضطرب من كثرة خطاياك، أو شناعتها؛ لأن إلهك قادر أن يغفرها لك، ويجدد حياتك، فقم سريعاً لتعوض ما فاتك بقوة الله، وتكمل جهادك، واثقاً من مساندة الله لك؛ حتى تنال إكليلك السماوى.
(5) تمجيد الله (ع31-35):
ع31: يَكُونُ مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ. يَفْرَحُ الرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ.
- أولاد الله، وكل خلائقه يمجدونه طوال حياتهم على الأرض، ثم يرفع الله الإنسان إلى الملكوت؛ ليمجده إلى الأبد، أى أن تمجيد الله دائم من الآن وإلى الدهر، أى إلى الأبد.
- إن تمجيد الله يفرح قلب الإنسان، ويفرح الله أيضاً بأولاده المسبحين؛ ليس لأنه محتاج إلى تسبيحهم، بل لأنه يحب أولاده، ويفرح بخلاصهم، وفرحهم.
- الله فرح عندما خلق العالم وقال عنه أنه حسن، وحسن جداً، واستراح في اليوم السابع. وفرح أيضاً بإتمام فداء البشرية على الصليب. ويفرح بتوبة وخلاص أولاده “السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب …” (لو15: 7). ويفرح بتسبيح أولاده وخضوع الخليقة كلها له في خدمتها للإنسان.
ع32: النَّاظِرُ إِلَى الأَرْضِ فَتَرْتَعِدُ. يَمَسُّ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنُ.
- عندما يخطئ البشر الذين على الأرض، وينظر إليهم الله بغضبه يخافون جداً، وتصير هذه الأرض العظيمة كورقة ترتجف أمام الريح، كما تزلزت الأرض عندما صلب المسيح، وعندما قام من الأموات (مت27: 51). ولكن بالتوبة ينال البشر غفران الله، وبالفداء ينالون حياتهم الجديدة فيه.
- الجبال العظيمة التى ليس مثلها في القوة والارتفاع عن الأرض تدخن إن لمسها الرب، كما حدث عندما ظهر الرب لموسى وشعبه على الجبل عند تسلم موسى الوصايا والشريعة (خر20: 18). ومهما تعاظم الإنسان في المركز، أو القوة، أو حتى في الحياة الروحية، ولكن سقط في الكبرياء، فيدخن، ويرتعد إن لمسه الله بغضبه، وسمح له بتجربة. لذا ينبغى أن يحيا أولاد الله في مخافته باتضاع، ويسلكون بالروح، فيتمتعون بحبه ورعايته.
ع33: أُغَنِّي لِلرَّبِّ فِي حَيَاتِي. أُرَنِّمُ لإِلهِي مَا دُمْتُ مَوْجُودًا.
إن فرصة الحياة هى للتوبة، والرجوع إلى الله بكل القلب وهذه هى أحلى أغنية. وحينئذ ينفتح القلب بالحب، ويشكر الله الغافر، والمعطى؛ لأن الله يشبع القلب بمحبته، فيسبحه، ويمجده طوال العمر؛ حتى ينطلق إلى الملكوت ليواصل تسبيحه.
ع34: فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي، وَأَنَا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ.
الله يفرح بتوبة أولاده، وصلواتهم، وشكرهم، ويتلذذ بأصواتهم كما قال “لذاتى مع بنى آدم” (أم8: 31). وعندما يفرح الله يبهج قلب الإنسان أيضاً، فيزداد فرحه بالوجود مع الله، ويزداد تسبيحاً، ويهبه عطايا روحية لا يعبر عنها؛ يذوق شيئاً منها على الأرض قدر احتماله، ثم أمور عجيبة في السموات.
ع35: لِتُبَدِ الْخُطَاةُ مِنَ الأَرْضِ وَالأَشْرَارُ لاَ يَكُونُوا بَعْدُ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. هَلِّلُويَا.
- إن كان أولاد الله ينطلقون في حياة توبة وصلاة، وتمتع بعشرة الله، فالأشرار ينغمسون في خطاياهم، ويرفضون الله، فلا ينتظرهم حينئذ إلا العذاب الأبدى، ولا يكون لهم مكان مع الله.
- أمام كل أعمال الله التى يذكرها هذا المزمور يختم كاتب المزمور كلماته بمناداة نفسه أن تبارك الله، وتسبحه على الدوام، وتفرح مع كل المؤمنين حتى تصل إلى أفراح الأبدية.
ما أحلى تسبيح الله؛ إذ يملأ النفس سلاماً، وفرحاً، ويعتقها، ويحررها من قيود العالم، فتبتعد عن الخطايا، وتنطلق لتتذوق حلاوة الوجود مع الله، وتتنسم عبير الأبدية وهى مازالت فى الجسد.