عناية الله لأولاده
“احمدوا الرب لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته ليقل مفديو الرب الذين فداهم
من يد العدو” (ع1، 2)
مقدمة :
- كاتبه : ليس له عنوان فهو يعتبر من المزامير اليتيمة غير المعروف كاتبها. وينسب البعض هذا المزمور لداود.
- متى كتب ؟ هناك رأيان :
أ – أنه كتب بعد الرجوع من السبى بقليل، ويعتمدون على كلمة “مفديو الرب” (ع2)، أى الراجعين من السبى، الذين فداهم من العبودية.
ب – أنه كتب قبل السبى على يد داود، أو غيره ويتكلم عن فداء الله لشعبه فى كل أحوال حياتهم، ونبوة عن الرجوع من السبى. وهذا الرأى هو الأرجح.
- هذا المزمور شكر لله وحمد، فهو يناسب كل مؤمن يشعر بيد الله، خاصة في الضيقات التى ينقذه منها، فيرفع قلبه بالشكر له.
- توجد علاقة بين هذا المزمور والمزمورين السابقين له. فالثلاثة مزامير يتكلمون عن تاريخ شعب الله وعمله معه، فنرى المزمور 105 يحدثنا عن رعاية الله لأولاده وتنفيذه لعهوده معهم. والمزمور 106 يحدثنا عن تمرد شعب الله عليه وطول أناته عليهم. أما المزمور 107 فيحدثنا عن عنايته بشعبه وإخراجه لهم من الضيقات المختلفة، حتى ولو كان السبى الثقيل.
- هذا المزمور هو أول الكتاب الخامس والأخير من المزامير الذى يبدأ بهذا المزمور (107) وينتهى بالمزمور (151). وهذا الكتاب الخامس يحدثنا عن كلمة الله الحية ومن أهم ما يحتويه هذا الكتاب :
أ – مزمور 119 وهو خبرات داود مع كلمة الله، ويقع في اثنين وعشرين جزءاً.
ب – المزامير من (120-134) وتسمى مزامير المصاعد التى كان يرددها شعب الله عند صعودهم الجبل في أورشليم إلى هيكل الله.
جـ- المزمور 136 وهو ما تسميه الكنيسة الهوس الثانى. وهو مزمور شكر لله الذى رعى شعبه ويرعاهم في كل جيل، وتردده الكنيسة.
د – المزامير من (148-150) وهى التى ترددها الكنيسة كل يوم وتسمى الهوس الرابع، أى التسبيح الرابع، وتحوى تهليل وحمد وتسبيح كثير لله.
- لا يوجد هذا المزمور في الأجبية.
(1) المفديون يشكرون الله (ع1-3):
ع1: اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ.
- حمد الله يعنى أمرين هما الاعتراف بالخطايا والشكر على الإحسان. وهما متلازمان فى الصلاة، ويؤكدان أنه صالح، بل وصلاحه دائم طوال العمر وإلى الأبد. وهناك أدلة كثيرة على هذا من تاريخ شعب الله، فهو الذى حررهم من عبودية مصر، وهو أيضاً الذى خلصهم من أعدائهم فى عصر القضاة، وبعد هذا أعادهم منن السبى الذى تشتتوا فيه إلى أورشليم. كل هذا يؤكد دوام عناية الله بأولاده مهما أخطأوا، ما داموا يتوبون ويرجعون إليه.
- حمد الله يكمل فى كنيسة العهد الجديد عندما نعترف بخطايانا، ونشكر المسيح الفادى الذى حررنا بصليبه، أو أعطانا الحياة الجديدة التى تمتد إلى الأبدية. فهذه الآية نبوة عن كنيسة العهد الجديد وملكوت السموات.
ع2، 3: 2- لِيَقُلْ مَفْدِيُّو الرَّبِّ، الَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ،3- وَمِنَ الْبُلْدَانِ جَمَعَهُمْ، مِنَ الْمَشْرِقِ وَمِنَ الْمَغْرِبِ، مِنَ الشِّمَالِ وَمِنَ الْبَحْرِ.
يشترك فى حمد الله الذين فداهم الله من يد أعدائهم، أى شعبه الذين كانوا فى عبودية مصر، وأخرجهم منها بالضربات العشر، وعبروا البحر الأحمر. أما فرعون الذى فداهم من يده فقد غرق مع جيشه فى البحر. وفداهم أيضاً من يد أعدائهم فى عصر القضاة، وقتل أعداءهم. ومن السبى البابلى فداهم وارجعهم إلى بلادهم، أما أعداؤهم البابليون فأهلهكم على يد مادى وفارس. فالله جمع شعبه الذى شتته البابليون فى أرجاء العالم، جمعهم من المشرق والمغرب؛ أى من كل مكان وأرجعهم ليحيوا فى سلام ويعبدونه فى أورشليم.
ليتك يا أخى تحرص كل يوم على حمد الله، أى على الاعتراف بخطاياك وشكره على عنايته بك طوال اليوم. فتتضع أمامه لأنك تسئ إليه بخطاياك، أما هو فيخجلك برحمته وإحساناته. إن محبته عجيبة تفوق العقل.
(2) عناية الله بالتائهين في البرية (ع4-9):
ع4، 5: 4- تَاهُوا فِي الْبَرِّيَّةِ فِي قَفْرٍ بِلاَ طَرِيق. لَمْ يَجِدُوا مَدِينَةَ سَكَنٍ. 5- جِيَاعٌ عِطَاشٌ أَيْضًا أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ.
- يحدثنا المزمور عن تيه شعب الله فى برية سيناء لمدة أربعين سنة. ولم يكن فى البرية طعام، أو شراب، ولكن سمح الله بهذا لتذمرهم عليه، ورفضهم دخول أرض الميعاد، فأمر أن لا يدخلوا هذه الأرض ويموتوا فى البرية. ولكنه فى نفس الوقت بأبوبته كان يهديهم، ويقودهم بعمود السحاب، وعمود النار، وأعطاهم المن والسلوى طعاماً، وسقاهم الماء من الصخرة، وحفظهم فى البرية من كل أعدائهم. فهذا يبين خطايا البشر، ورحمة الله التى تحفظ الإنسان وتقوده للتوبة، وتعلم الأبناء الذين سيدخلون أرض كنعان كيف يطعيون الله، فيتمتعوا بمحبته الفياضة.
- يرمز هذا التيه فى سيناء إلى تيه البشرية عن الله قبل المسيح وعجز الفلسفة أن تشبعه، أو توصله إلى الله؛ حتى تجسد المسيح فى ملء الزمان.
ع6، 7: 6- فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ،7- وَهَدَاهُمْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا لِيَذْهَبُوا إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ.
- عندما تاه شعب الله في برية سيناء شعروا بخطيتهم، وتابوا، وصرخوا إلى الله أثناء الأربعين سنة، فسامحهم وهداهم للرجوع إليه، وحفظ وصاياه. ثم أدخل أبناءهم إلى مدن للسكن فيها في أرض كنعان، التى تفيض لبناً وعسلاً. فدائماً الصراخ والصلاة إلى الله هو الحل الوحيد الذى يستدر مراحم الله الحنون، فيظهر محبته وعنايته بأولاده.
- في العهد القديم صرخ الأنبياء من أجل الأمم التائهين بعيداً عن الله؛ حتى هداهم في ملء الزمان إلى الطريق المستقيم الذى هو الإيمان بالمسيح، الذى أعلن أنه هو الطريق والحق والحياة (يو14: 6).
- العدد السادس تكرر أربع مرات في هذا المزمور ليؤكد ضرورة الصراخ إلى الله في كل حين، وخاصة في الضيقات، فيظهر حينئذ حنان الله ومحبته التى تفوق كل عقل، وتسامحه عن كل الخطايا.
ع8، 9: 8- فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ.9- لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْسًا مُشْتَهِيَةً وَمَلأَ نَفْسًا جَائِعَةً خُبْزًا،
- أمام عظمة محبة الله يدعو المزمور إلى الاعتراف بمحبة الله، وشكره عليها. فهذا هو معنى الحمد. إن عجائب الله ومعجزاته كثيرة، وتظهر معجزته هنا فى إشباع 2 مليون نفساً بالطعام والشراب فى برية يابسة تصعب جداً الحياة فيها.
- يتكرر (ع8) أربع مرات فى هذا المزمور ليؤكد أهمية حمد الله الذى يربط النفس بمحبته، ويحميها، ويبعدها عن الخطية، ويسعد حياتها، فتتلذذ بعشرة الله.
إن كانت الضيقة أمر غير محبوب لك، لكن ثق أنها بتدبير الله لتوقظ نفسك، فتصلى بحرارة وتطلب معونة الله. اصرخ إليه، فتنال مراحمه وتعود تسمع صوته، وتفرح بعشرته.
(3) عناية الله بالمسجونين (ع10-16):
ع10-12: 10- الْجُلُوسَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، مُوثَقِينَ بِالذُّلِّ وَالْحَدِيدِ.11- لأَنَّهُمْ عَصَوْا كَلاَمَ اللهِ، وَأَهَانُوا مَشُورَةَ الْعَلِيِّ.12- فَأَذَلَّ قُلُوبَهُمْ بِتَعَبٍ. عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ.
أهانوا مشورة العلى : رفضوا كلام الله.
عثروا : سقطوا.
- يتحدث المزمور هنا عن المسجونين فى العبودية حين كان شعب الله فى مصر، وأذله المصريون، وسخروه. وتكرر هذا الذل فى عصر القضاة عندما تهاونوا مع أعدائهم واختلطوا بهم، فقاموا عليهم وأذلوهم.
- هذا السجن وهذه القيود يقصد بها السقوط فى الخطايا والشهوات. وهذا حدث مع شعب الله عندما اختلطوا بالوثنيين، وعبدوا الأوثان. ويحدث هذا اليوم عندما يتهاون الإنسان، ويسقط فى الخطية، ويذله الشيطان، خاصة فى خطية الكبرياء، فيتخلى عنه الله، فيذله الشيطان ولا يعينه الله؛ لأنه لا يتوب ويرجع إلى الله بسبب كبريائه الذى يؤخر التوبة.
- هذه الآيات تحدثنا عن ذل البشرية المحكوم عليها بالموت فى العهد القديم. وكان الجميع حتى الأبرار يذهبون للجحيم؛ حتى أتم المسيح الفداء على الصليب، وأصعد المؤمنين به إلى الفردوس.
ع13-16: 13- ثُمَّ صَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ.14- أَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ.15- فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ.16- لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ، وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ.
تتكرر الآيات هنا (ع13، 15) إذ يصرخ شعب الله إليه، فيحررهم من عبوديتهم مهما كانت قوية مثل الحديد والنحاس؛ لأن بعض الخطايا صعبة مثل الكبرياء، وتعود الخطية، واليأس. ولكن قوة الله تصنع معجزات وعجائب، فيحرر أولاده، ويعيدهم للتمتع بالحياة معه.
لا تنزعج من كثرة خطاياك، أو شناعتها؛ لأن إلهك قوى قادر أن يحررك منها. ومهما كانت ظروفك تربطك بالخطية، فهو قادر أن يغير الظروف، أو يسندك، فترتفع فوق الشر وتخلص منه. فقط إلتجئ إليه بصلاة متضعة، ومثابرة، فتنال حريتك وتستعيد فرحك.
(4) عناية الله بالخطاة (ع17-22):
ع17، 18: 17- وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ، وَمِنْ آثامِهِمْ يُذَلُّونَ.18- كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ، وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ.
- الجهال هم الذين يبتعدون عن الله، فيسقطون في خطايا كثيرة، تذلهم، وتجعلهم في ضيق ويأس؛ حتى يفقدوا شهيتهم للطعام والشراب. وقد تصيبهم أمراض نتيجة أفكارهم، واضطرابهم، فتساعد على فقدان الشهية للطعام مما يزيد ضعفهم، فيصيروا في حيرة وقلق.
- إن هؤلاء الجهال يسقطون في خطايا تزيد ابتعادهم عن الله؛ حتى يفقدوا شهيتهم الروحية، أى يفقدوا اشتياقهم للصلاة، ولقراءة كلام الله، والوجود في بيت الرب. فرغم وجود الطعام الروحى أمامهم لكنهم لا يستفيدون منه؛ حتى يكادوا يموتوا روحياً، أى يسقطون ليس فقط في الفتور، بل الجفاف الروحى.
ع19-22: 19-فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ.20- أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ، وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ.21- فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ.
22- وَلْيَذْبَحُوا لَهُ ذَبَائِحَ الْحَمْدِ، وَلْيَعُدُّوا أَعْمَالَهُ بِتَرَنُّمٍ.
يعدوا أعماله : يذكروا أعماله واحدة فواحدة.
- تتكرر هنا كما ذكرنا الآيتان (ع19، 20) التى تظهر التجاء شعب الله إليه، ثم استجابة الله لهم بمعجزات عظيمة. ونرى حنان الله الذى يشفى أولاده من مرض الخطية، وايضاً الأمراض الجسدية إن احتاج الأمر، أى يغفر لهم، ويعطيهم صحة وحيوية روحية، فيقبلوا إليه، ويعبدوه بفرح، ويقدموا له ذبائح الحمد، أى تسبيح الشفاه، ويشكرونه على أعماله معهم.
- إن كلمة الله التى يرسلها الله هى نبوة عن تجسد المسيح الذى يشفى أمراض البشرية التى تؤمن به، وينقلها من الموت إلى الحياة، فتسبحه وتشكره إلى الأبد، ويتمتعون بذبيحة الشكر، التى هى سر التناول من جسد الرب ودمه.
ما أعظم أعمالك يا رب معى والتى تتجلى فى قبولك لى وأنا ساقط فى الخطية وعاجز عن القيام منها فتمد يدك، وتقبل توبتى وتحولنى من الموت إلى الحياة، فأقوم وأسبحك، وأتمتع بالوجود معك.
(5) عناية الله بالمسافرين في البحر (ع23-32):
ع23-27: 23- اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ، الْعَامِلُونَ عَمَلاً فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ،24- هُمْ رَأَوْا أَعْمَالَ الرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ.25- أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحًا عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ.26- يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ، يَهْبِطُونَ إِلَى الأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاءِ.27- يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ، وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ.
- يتحدث المزمور عن التجار المسافرين في البحر، والملاحين، والمعاناة التى يلاقونها في السفر من خلال البحر. ويبين أن الله هو محرك الطبيعة، وضابط الكل فهو الذى يأمر فتهيج الرياح، وتعلو الأمواج. فترفع السفن إلى فوق نحو السماء. ثم تهبط بهم نحو العمق، فيتمايل ركاب السفينة بعنف كالسكران، ويواجهون الموت، فتذوب قلوبهم خوفاً، ويفقدون قدرتهم على التحكم في السفينة، ويستسلمون ليد الله، كما حدث مع يونان وركاب السفينة عندما كانوا مسافرين في البحر (يون1: 4).
- يرمز التجار والبحارة إلى الإنسان الروحى الذى يعبر فى بحر هذا العالم، ويسمح الله له بضيقات التى هى الرياح والأمواج، ويواجه أفراحاً وآلاماً، التى هى الارتفاع إلى السماء والهبوط إلى العمق، وتنضغط نفسه، ويواجه الموت، أو يتعرض لضغطة نفسية شديدة، فلا يجد أمامه إلا أن يستسلم في يد الله.
- يرمز أيضاً التجار والملاحون إلى الأنبياء الرسل والكهنة، والخدام في كل جيل الذين ينادون بالله، فيواجهون ضيقات ومتاعب كثيرة، وأثناءها يختبرون الله الذى يرفعهم إلى السماء. ويواجهون أيضاً متاعب نفسية بنزولهم إلى العمق، وليس لهم أمام الضيقات إلا أن يسلموا نفوسهم في يد الله.
ع28-32: 28- فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ.29- يُهْدِئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا.30- فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ.31- فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ.32- وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ الشَّعْبِ، وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ.
المرفأ : الميناء.
- الذين يعانون في سفرهم داخل البحر ليس أمامهم إلا الصراخ إلى الله لينقذهم فيتدخل بأبوته ويهدئ العاصفة، فيستعيدون سلامهم، بل يشكرون الله، ويحدثون بعجائبه في كل مكان بين الشعوب، وفى اجتماع الرؤساء والعظماء.
- الروحانيون والخدام يصرخون إلى الله في ضيقاتهم، فيتدخل وينقذهم منها فتهدأ نفوسهم، ويشعرون بقوة الله الذى يحميهم، فيسبحونه على أعماله العجيبة معهم، سواء في اجتماع الشعوب والأمم فيهدونهم إلى الإيمان، أو في مجتمعات الخدام والمعلمين الروحانيين، فيثبت إيمانهم، ويمجدون الله.
الضيقات يسمح بها الله ليس لإزعاجك، ولكن ليوقظ نفسك، فتتحرك فى صلوات حارة، وتختبر عمل الله فتفرح، ويزداد حماسك للتسبيح والشكر كل أيام حياتك.
(6) الله الرحوم العادل (ع33-43):
ع33، 34: 33- يَجْعَلُ الأَنْهَارَ قِفَارًا، وَمَجَارِيَ الْمِيَاهِ مَعْطَشَةً،34- وَالأَرْضَ الْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً مِنْ شَرِّ السَّاكِنِينَ فِيهَا.
قفاراً : أرض يابسة مهجورة بلا ماء أو حياة.
معطشة : أرض ليس فيها ماء، بل يعطش فيها كل إنسان وحيوان ونبات.
سبخة : تالفة غير صالحة للزراعة، أو السكن.
يبين المزمور خطورة الشر الذى يسلكه البشر إذ يغضب الله، فيسمح لهم بالضيق لعلهم يتوبون، فيجعل الاماكن الكثيرة المياه؛ مثل الأنهار ومجارى المياه يابسة تماماً، والأرض الخصبة تالفة، لدرجة ألا تصلح لشئ. فإذ يرى الأشرار ضيقهم المادى يرجعون إلى الله الذى أغضبوه وأهملوه.
ع35-38: 35- يَجْعَلُ الْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ، وَأَرْضًا يَبَسًا يَنَابِيعَ مِيَاهٍ.36- وَيُسْكِنُ هُنَاكَ الْجِيَاعَ فَيُهَيِّئُونَ مَدِينَةَ سَكَنٍ.37- وَيَزْرَعُونَ حُقُولاً وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا، فَتَصْنَعُ ثَمَرَ غَلَّةٍ.38- وَيُبَارِكُهُمْ فَيَكْثُرُونَ جِدًّا، وَلاَ يُقَلِّلُ بَهَائِمَهُمْ.
غدير : نهر صغير تجرى مياهه بهدوء.
- تظهر هذه الآيات عمل الله مع المؤمنين المتضعين فيباركهم، ويهبهم الماء الذى يعطى الحياة لهم، ولحيواناتهم فتكثر، ولأرضهم فيزرعونها، ويحصدون ثماراً ومحاصيلاً كثيرة.
- المساكين بالروح التائبون باتضاع يهبهم الله بركات روحية كثيرة، فيعمل فيهم الروح القدس، الذى ترمز إليه المياه، وينعم عليهم بثمار الروح القدس التى يرمز إليها بثمار الأرض والغلات والبهائم، فيفرحون ويشكرون الله.
ع39، 40: 39- ثُمَّ يَقِلُّونَ وَيَنْحَنُونَ مِنْ ضَغْطِ الشَّرِّ وَالْحُزْنِ.40- يَسْكُبُ هَوَانًا عَلَى رُؤَسَاءَ، وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيق،
تيه : مكان يتوه فيه الإنسان لعدم وجود طرق، مثل الصحارى.
- إذا بارك الله البشر، ثم عادوا إلى الانغماس في خطاياهم، فإنه ينزع نعمته عنهم، وتقل خيراتهم من ماء، وثمار، وبهائم، فيضعفون، ويموت منهم الكثيرون، فيقلون عدداً، وذلك لشرورهم، ونفوسهم التى تتضايق لسبب قلة مواردهم المادية، بل يسمح بإهانة وذل، وضلال مرشديهم ورؤسائهم الذين يقودونهم. فيضلون كلهم لأنهم يتبعون رؤساءهم، أى أن الله يتخلى عنهم فيواجهون ضيقات كثيرة؛ لينتبهوا ويتوبوا.
- الضيقات تواجه الروحانيين؛ حتى يتمسكوا بالله. والله يسمح بإهانة رؤسائهم، أى بعقولهم التى تنحرف، ومشاعرهم التى تضل، فيهينون أجسادهم. وإذ يرون بليتهم يعودون إلى الله بتوبة. كما حدث مع داود النبى.
ع41: وَيُعَلِّي الْمِسْكِينَ مِنَ الذُّلِّ، وَيَجْعَلُ الْقَبَائِلَ مِثْلَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ.
المسكين هو المتضع، الملتجئ إلى الله في توبة، فإن كان الأبرار قد واجهوا ضيقات بسبب سقوطهم في الشر، ولكن عندما يتوبون يعليهم ويباركهم، فتكثر قبائلهم مثل قطعان الغنم في كثرتها. والله يرعاها كلها بمحبته، فتكون في وحدانية. وهذا يظهر مدى طول أناة الله ورحمته، الذى يطيل أناته على أولاده، فيباركهم إذا حفظوا وصاياه، ويسمح لهم بالضيقات إن ابتعدوا عنه، ولكن إن تابوا يعود فيرفعهم، ويباركهم مرة ثانية، كما حدث مع أيوب، وهو إنسان بار باركه الله، ثم سمح له بضيقات، ليتخلص من البر الذاتى، وعندما تاب عاد فباركه كثيراً، أى أعطاه ضعف ما كان عنده.
ع42، 43: 42- يَرَى ذلِكَ الْمُسْتَقِيمُونَ فَيَفْرَحُونَ، وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ.43- مَنْ كَانَ حَكِيمًا يَحْفَظُ هذَا، وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ الرَّبِّ.
يختم المزمور بهذه الكلمات الذهبية، إذ يطالب المؤمنين والمستقيمين في حياتهم أن يفهموا عناية الله بأولاده من أول المزمور حتى نهايته. وخاصة في هذا الجزء الأخير؛ حتى يبتعدوا عن الشر ويتمسكوا بالله، وحتى يصمت كل شرير بعدما فضح المزمور نهاية الشر (ع33، 34، 39، 40). ويطالب المستقيمين أن يحفظوا هذا الكلام ليس فقط في قلوبهم، بل في سلوكهم. ويتفهموا، ويتأملوا دائماً في مراحم الله وعنايته بالبشر؛ ليشكروه، ويسبحوه. كن يقظاً حتى تحيا مع الله بتدقيق، وتسرع للتوبة إن أخطأت، فتتمتع برعاية الله دائماً، وتفيض عليك مراحمه، وبركات الروح القدس تعمل فيك، وتتذوق حلاوة عشرة الله.