شكر الله المخلص
” أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتى ” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : غير معروف لأن المزمور ليس له عنوان، فيعتبر من المزامير اليتيمة. ولكن هناك رأى بأن كاتبه هو داود النبى.
- متى كتب ؟ إن كان داود هو كاتبه فقد كتبه أثناء، أو بعد هروبه من مطاردات شاول، أو مطاردة أبشالوم ابنه له.
- هذا المزمور يعبتر مزمور شكر لله يناسب كل إنسان مؤمن يمر بضيقة، أو انتهت ضيقته، فيسبح الله.
- المزمور السابق (مز115) يتكلم بروح الجماعة مع الله، أما هذا المزمور فيتكلم بصيغة الفرد وهذا يجعله أكثر تأثيراً فى النفس.
- هذا المزمور مسيانى لأنه يتكلم عن آلام المسيح وموته، وانتصاره.
- هذا المزمور ليتورجى؛ لأنه يستخدم فى العبادة بكنيسة العهد الجديد، إذ يصلى الجزء الأول منه (ع1-9) فى تجنيز الرجال.
- فى الترجمة السبعينية ينقسم هذا المزمور إلى مزمورين (ع1-9)، (ع10-19).
- يوجد هذا المزمور بصلاة الأجبية فى صلاة الساعة التاسعة؛ لأنه يتكلم عن آلام المسيح وموته وانتصاره على الشيطان الذى قيده بالصليب فى هذه الساعة.
(1) طلب النجاة من الضيقة (ع1-4):
ع1، 2: أَحْبَبْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَسْمَعُ صَوْتِي، تَضَرُّعَاتِي. لأَنَّهُ أَمَالَ أُذْنَهُ إِلَيَّ فَأَدْعُوهُ مُدَّةَ حَيَاتِي. اكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ الْمَوْتِ.
- عندما اختبر كاتب المزمور اهتمام الله بسماع صلواته، وتضرعاته أحبه، وأحب الصلاة، فاستمر يصلى طوال اليوم وكل يوم متمتعاً بعشرة الله.
- الله أب حنون لذا آمال أذنه ليسمع صلاتى، وهذا أيضاً اتضاع من الله، واهتمام كبير، خاصة وأنى خاطئ وإنسان ضعيف فأخجل أن أرفع صوتى، ومع هذا يحبنى، وينزل إلىَّ ليسمعنى. فهذه إشارة واضحة لتجسد المسيح، الذى نزل إلينا من السماء ليفدينا لأنه يحبنا جداً؛ ولذا أصبح من الطبيعى أن نحبه من كل القلب.
- الصلاة ودعوة الله مدة الحياة لا تعنى فقط الاستمرار فى الصلاة طوال الحياة على الأرض، بل أيضاً الاستمرار فى الصلاة فى الملكوت إلى الأبد.
ع3: أَصَابَتْنِي شَدَائِدُ الْهَاوِيَةِ. كَابَدْتُ ضِيقًا وَحُزْنًا.
اكتنفتنى : أحاطت والتصقت بى.
كابدت : عانيت.
- واجه داود النبى ضيقات شديدة فى هروبه من مطاردة أعدائه، وتعرض للموت مرات كثيرة. ويقول حبال الموت؛ لأن الحبال تستخدم فى تقسيم الأراضى، فكأن نصيبه كان هو الموت، وأحاط به لدرجة الالتصاق به، فكان فى حزن وشدة عظيمة.
- يمكن أن تكون حروب إبليس شديدة، فتحيط أولاد الله، وتحاول إسقاطهم فى الخطية. وفى جهادهم ضدها يتحملون معاناة وأتعاب كثيرة، ولكنها غالية فى نظر الله.
ع4: وَبِاسْمِ الرَّبِّ دَعَوْتُ: «آهِ يَا رَبُّ، نَجِّ نَفْسِي!»..
- شدة الضيقة دفعت داود النبى لدعوة الله. و”آه” تعنى الإلتجاء والتوسل إلى الله، فليس له منقذ فى ضيقته إلا الله، وهذا عزى قلبه، وأعطاه راحة.
- عندما دعى داود الرب فى ضيقته، وظهرت آثار هذه الصلاة عليه فى هدوئه وسلامه، كان بهذا بشارة صامتة لمن حوله؛ ليقتدوا به فى ضيقاتهم، ويطلبوا الله المنقذ من الشدائد.
الله قريب منك جداً، ويحبك، فلا تضطرب إذا اقتربت منك الضيقات، بل والتصقت بك. فالله أقرب منها إليك، وهو قادر أن ينجيك منها، فتخرج سالماً، بل تستفيد من التجربة، وتتقوى روحياً.
(2) الله الحنون المخلص (ع5-9):
ع5: الرَّبُّ حَنَّانٌ وَصِدِّيقٌ، وَإِلهُنَا رَحِيمٌ.
صديق : عادل وبار.
- الله حنون على أولاده؛ إذ يشعر بضعفهم كبشر، ويساعدهم ليحيوا معه. ولكنه فى نفس الوقت عادل، فيحاسبهم عن خطاياهم، فينبغى مراعاة عدله، والتمتع بحنانه الذى يشجعنا. وقد أعلن الله نفسه لموسى بهذا المعنى فى أحد لقاءاته به (خر34: 6)
- يعود فيؤكد أن الله رحيم؛ لأن الإنسان كثير الخطايا، ولكن رحمة الله واسعة، وبهذا يشجعه على التوبة، ومن يتوب يتمتع بحنان الله ورحمته.
ع6: الرَّبُّ حَافِظُ الْبُسَطَاءِ. تَذَلَّلْتُ فَخَلَّصَنِي.
يقصد بالبسطاء الأطفال الصغار، كما فى الترجمة السبعينية، فالله يحفظ أولاده الذين يشعرون باحتياجهم إليه مثل الأطفال. وقد عرف داود الطريق إلى الله عندما تذلل أى اتضع، فصار مثل الأطفال، كما طلب المسيح فى العهد الجديد (مت18: 3)، وأنقذه من كل ضيقاته.
ع7: ارْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ.
- يعبر داود عن فرحه، فيطلب من نفسه أن تعود إلى راحتها؛ لأن الرب أحسن إليه عندما أنقذه من أعدائه، وأنقذه أيضاً من كل اضطراب وضيق نفسى، فاستعاد سلامه. فالوضع الطبيعى للإنسان الروحى أن يحيا فى سلام، وأى اضطراب دخيل عليه، فإذا التجأ إلى الله بالصلاة والجهاد الروحى يهبه الله راحته.
- الراحة المذكورة تشير إلى الراحة الأبدية، وهى أعظم إحسان إلهى يقدمه الله إلى أولاده المؤمنين به، الذين طلبوه باتضاع وليس عن استحقاق منهم، ولذا يقرأ هذا المزمور فى صلوات التجنيز؛ لتذكر الراحة الأبدية التى دخل إليها المتنقل الذى يصلى على جسده.
ع8: لأَنَّكَ أَنْقَذْتَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ، وَعَيْنِي مِنَ الدَّمْعَةِ، وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ.
- يوضح داود سبب الراحة التى نالها من الله، وهى :
أ – أنه أنقذ نفسه من الموت نتيجة مطاردات الأعداء له.
ب – جفف دموعه، وعزى قلبه الحزين برفع الضيق عنه.
جـ- حفظ رجله من الانزلاق فى خطايا مختلفة، مثل الانتقام من شاول، أو أى خطايا أخرى. فحماية الله كانت حماية مادية وروحية.
- تنطبق هذه الآية على الشخص الذى مات، ونصلى عليه في الجناز بأن الله أنقذه من الموت الأبدى، ومن دموع الحسرة في الجحيم، وأيضاً من الانزلاق في الشهوات التى تؤدى به للهلاك.
- هذه الآية تناسب كل إنسان يمر بضيقات، ويشكر الله الذى يحفظه أثناءها.
ع9: أَسْلُكُ قُدَّامَ الرَّبِّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ.
- العددان (8، 9) ذكرا فى مزمور 56: 13. وتعنى الآية هنا أنه ما دام الله قد أنقذنى، وحفظنى فى كل ما سبق، فيلزم أن أسلك قدامه فى الأرض التى نحيا فيها، أى طوال حياتنا. والسلوك أمام الله يعنى إرضاءه بحياة نقية، والابتعاد عن الخطية، استعداداً للأبدية التى فيها الأرض الجديدة والحياة الجديدة.
- الإنسان التائب، والملتجئ إلى الله باتضاع يشكر الله الذى أنقذه، ويعود للحياة معه، ويعده أن يسلك فى مخافته الله ومحبته، ويرضيه كل أيام حياته.
الحياة فرصة للتوبة، فأسرع بالرجوع إلى الله إذا سقطت، وثق من محبته؛ لأنه يرحب بك، ويسندك لتحيا معه، بل تعوض كل ما فاتك بحياة نقية ترضيه، فتتمتع بعشرته.
(3) شكر الله المحسن إلىَّ (ع10-19):
ع10، 11: آمَنْتُ لِذلِكَ تَكَلَّمْتُ: «أَنَا تَذَلَّلْتُ جِدًّا. أَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: «كُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبٌ».
- آمنت بأن أرضى الله وأسلك قدامه كما فى (ع9). وهذا الإيمان لابد أن يكون إيماناً عملياً، وليس فقط نظرياً، وينتج عن هذا الإيمان الاتضاع أمام الله، خاصة وأن الضيقات التى مر بها داود أذلته فتذلل أمام الله ليرحمه وينقذه.
- شعر داود بأن كل الناس كاذبون أى باطلون لا منفعة منهم، بل العالم كله لا يسنده، وهو أيضاً باطل لا يستطيع أن يسند نفسه والحل الوحيد هو الإيمان بالله والاتضاع أمامه.
ع12، 13: مَـاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي؟ كَأْسَ الْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو.
- يتعجب داود النبى من كثرة إحسانات الله عليه؛ حتى أنه يجد نفسه عاجزاً عن إيفاء الله حقه، أو التجاوب معه، والرد عليه، فمهما قدم داود محبة لله هى لا شئ أمام إحساناته الكثيرة. وهو لا يعطى محبة لله فضلاً منه، ولكنه فقط يرد ويتجاوب مع الحب الإلهى الذى بدأ به الله معه.
- يشعر داود أن أقل تجاوب مع الله هو الاشتراك في عبادته، وشرب الكؤوس التى كانت مرتبة في عيد الفصح وهى كؤوس من الخمر، علامة الفرح، بالإضافة إلى الصلاة، سواء بتلاوة المزامير، أو أية صلوات.
- كأس الخلاص الذى يتناوله رمز واضح لذبيحة العهد الجديد، والتناول من دم المسيح، بالإضافة إلى جسده، ويكون كل هذا مصحوباً بصلوات القداس المملوءة شكراً لله.
ع14: أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ كُلِّ شَعْبِهِ.
- إن كان الله قد وفى عهوده، وأنقذنى من أعدائى، ومن كل ضيقة، فيلزم أن أتجاوب معه، وأوفى نذورى التى وعدته بها أثناء ضيقتى، كتعبير شكر ومحبة له.
- هذه النذور تشمل صلوات، وتقديم ذبائح لله، وأشرك المحتاجين فى الأكل منها، فتصبح محبة وشكر لله، وأيضاً محبة للآخرين. ويكون كل هذا قدام شعب الله، ليس للتفاخر، ولكن لنشر روح الشكر بين الشعب وتثبيت التجاوب مع الحب الإلهى، وضرورة إيفاء النذور. كل هذا كان يحدث فى العهد القديم، ويمكن أن يحدث أيضاً فى العهد الجديد بحسب نوع النذر وما نطقت به شفتاى فيلزم ايفاءه.
ع15: عَزِيزٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ مَوْتُ أَتْقِيَائِهِ.
- الذى يتقى الله، ويخافه فيهتم بعبادته، ويشرب كأس الفرح، ويدعو باسم الرب، ويوفى نذوره، هذا الإنسان إن مات يكون موته عزيزاً، وكريماً في نظر الرب، ويعد له مكان راحة وفرح في السماء.
- الأتقياء يقصد بهم المسيح، والشهداء، وكل من يموتون من أجل خدمة الرب، مثل الرسل، والكهنة، وكل من يخدم الرب. فموت المسيح كان عزيزاً في عينى الآب؛ لأن به تم فداء البشرية. وموت الشهداء، وكل من يرقدون في الرب عزيزاً في عينيه، ويريحهم من أتعاب الأرض، ويعوضهم بأمجاد السماء.
- إن كان المسيح قد مات لأجلى وقدم لى كأس الخلاص، التى هى دمه على مذبح العهد الجديد، فمن الطبيعى أن أتجاوب مع محبته، وأموت عن الخطية؛ لأحيا له، وعندما أموت بالجسد يكون هذا كريماً في عينيه.
ع16: آهِ يَا رَبُّ، لأَنِّي عَبْدُكَ! أَنَا عَبْدُكَ ابْنُ أَمَتِكَ. حَلَلْتَ قُيُودِي.
أمتك : عبدتك.
- يعلن داود النبى خضوعه لله وإيمانه به، فيقول أنا عبدك وأيضاً ابن أمتك، فيفهم من هذا أن أم داود كانت امرأة تقية، ربته تربية روحية. فمن أجل إيمانه، وإيمان أمه باركه الله، وحل قيوده، أى أخرجه من ضيقاته.
- تنطبق هذه الآية على المسيح، الذى كان وهو في الجسد في صورة العبد، وهو إبن أمة الرب العذراء مريم، التى أعلنت هذا للملاك الذى بشرها (لو1: 38) ولهذا حل الآب قيوده بقيامته من بين الأموات.
ع17-19: فَلَكَ أَذْبَحُ ذَبِيحَةَ حَمْدٍ، وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو. أُوفِي نُذُورِي لِلرَّبِّ مُقَابِلَ شَعْبِهِ. فِي دِيَارِ بَيْتِ الرَّبِّ، فِي وَسَطِكِ يَا أُورُشَلِيمُ. هَلِّلُويَا.
تتكرر هنا الآيات السابق ذكرها في (ع13، 14) ليؤكد أشواقه في تقديم ذبائح شكر لله مصحوبة بالصلوات، مع إيفاء النذور قدام كل الشعب، وأمام بيت الرب. ولا تقتصر الذبائح على الذبائح الحيوانية، التى هى شكر لله، بل أيضاً ذبائح التسبيح والحمد. ومعنى هذا أن داود كان بعيداً عن أورشليم، ولكن قلبه كان متعلقاً بالله، وبالعبادة أمام بيته. ليتك تهتم بشكر الله على أعماله معك، وخاصة بعد الضيقات. فلا تكتف بطلب احتياجاتك، أو الخلاص من الضيقة، بل بالشكر أيضاً؛ لتثبت محبتك لله، ويزداد إحساسك بمحبته.