المسيح المنتصر
لداود. مزمور
قال الرب لربى اجلس عن يمينى ..” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى كما يذكر عنوان المزمور، وكما أعلن المسيح فى العهد الجديد (مت22 : 44).
- متى كتب ؟ بعد انتصارات داود على الأمم المحيطة به.
- هذا المزمور من أعظم المزامير المسيانية؛ لأنه يتكلم كله عن المسيا المنتظر، ويجمع اليهود على هذا، كما يظهر من كلام المسيح معهم (مت22: 41-46).
- يحدثنا المزمور عن صفات المسيح، فهو الرب والملك والكاهن والديان والمنتصر على أعدائه.
- كان يرنم هذا المزمور فى تتويج ملوك مملكة يهوذا، أى الملوك الذين من نسل داود.
- هذا المزمور من أكثر المزامير التى اقتبس منها العهد الجديد، فالمسيح بنفسه استخدمه (مر12: 35-37) وذكره بطرس فى عظته يوم الخمسين (أع2: 34) واستعان به بولس الرسول فى رسالته إلى كورنثوس الأولى والعبرانيين (1كو15: 24-27؛ عب1: 13؛ 5: 5-10؛ 7: 17).
- يوجد هذا المزمور فى الأجبية فى صلاة الساعة التاسعة؛ لأن فيها ظهر المسيح المنتصر على الشيطان؛ لأنه وفَّى الدين بموته، وقيد الشيطان بذبيحة نفسه، فهو الكاهن الأعظم.
(1) المسيح الرب والملك (ع1-3):
ع1: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ».
- “قال الرب لربى” تعلن أن الرب الآب يكلم “ربى” الذى هو الإبن يسوع المسيح. وداود الملك يدعو المسيح “ربى” فهذا يؤكد لاهوت المسيح لأن داود كان ملكاً عظيماً فمن يكون الذى يدعوه “ربى” أى سيده إلا الله.
- فى الاصل العبرى لهذا المزمور كلمة “الرب” هى “يهوه” و”ربى” هى “أدوناى”. ويهوه هو اسم الله الآب فى العهد القديم (خر6: 3) وأدوناى معناه الرب، أو السيد وهذا هو اسم المسيح الذى كان يلقب به على الأرض. فهذا يؤكد أن الآية تكلمنا عن حديث بين الآب والإبن.
- هذه الآية تمت بعدما مات المسيح على الصليب، ووفَّى أجرة خطايا البشر، وقيد الشيطان. فبعدما أتم الفداء، الآب ينادى الإبن فى داخل الذات الإلهية؛ ليظهر مجده بجلوسه عن يمين الآب، أى يظهر كمال قوته ولاهوته، والذى ظهر للبشر فى قيامته. وبهذا يظهر سلطانه على الشياطين أعدائه، وأيضاً على تابعيه من الأشرار الذين صلبوا المسيح، وأهانوه، وخضعوا له، وأعلنوا إيمانهم به، مثل لونجينوس الذى طعنه بالحربة.
- لا يمكن أن نفهم مساواة الإبن بالآب فى الجوهر إلا بالروح القدس، فالروح هو الذى أعلن هذه الحقيقة لداود (مت22: 43). ومن أجل هذه المساواة، فجلوس الإبن عن يمين الآب، أى إعلان مساواته بالآب لأنهما واحد فى الجوهر، هى مساواة دائمة من الأزل وإلى الأبد. وإن كانت قد أخفيت عن أعين البشر فى تجسد المسيح وآلامه وموته، ولكن الروح القدس يعلنها لداود ولكل المؤمنين، خاصة بعد أن أظهر قوته فى قيامته.
- جلوس الإبن عن يمين الآب هو جلوس المسيح الإله المتأنس أى بلاهوته وناسوته؛ ليملك إلى الأبد منتصراً على أعدائه الشياطين. فهو بهذا يعلن للبشرية كلها التى تؤمن به أنه يعطيها سلطان ونصرة على كل حروب الشياطين من خلاله وبقوته. وبعدما تكمل جهادها على الأرض يهبها المسيح المنتصر أن تصعد إلى السماء لتحيا معه إلى الأبد، وتدخل من الأبواب المغلقة؛ أبواب الملكوت، ليسمح للبشرية المؤمنة به أن تدخل وتحيا فى السماء.
ع2: يُرْسِلُ الرَّبُّ قَضِيبَ عِزِّكَ مِنْ صِهْيَوْنَ. تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ.
- القضيب هو قضيب الملك، وهذا ما ظهر على الصليب، فقد ملك المسيح على خشبة (مزمور صلاة التاسعة من الاجبية الرب قد ملك على خشبة).
- إن كانت الآية الأولى أظهرت حديث بين الآب والإبن. فهذه الآية تكمل لنا عمل الثالوث، فتحدثنا عن عمل الروح القدس، الذى يرسل الكرازة بالمسيح الملك المخلص من صهيون، أى أورشليم إلى العالم كله؛ ليؤمن بخلاص المسيح.
- بملك المسيح على الصليب يتسلط على أعدائه، أى الأشرار الذين قاوموا المسيح وصلبوه. ويقول يتسلط وليس يهلك، وهذا التسلط يظهر فى شكلين :
أ – يؤمن هؤلاء الأشرار بالمسيح ويخضعون له.
ب – لا يؤمنون بالمسيح، ولكن يخافونه، فيمنع شرهم بالإساءة إلى أولاده إلا بالمقدار الذى يراه لنفعهم.
ع3: شَعْبُكَ مُنْتَدَبٌ فِي يَوْمِ قُوَّتِكَ، فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ مِنْ رَحِمِ الْفَجْرِ، لَكَ طَلُّ حَدَاثَتِكَ.
منتدب : يقصد أنه متطوع وبحريته قد أتى للرب.
- “شعبك منتدب” : يخاطب الآب الإبن بأنه قدم الخلاص على الصليب وآمن به الكثيرون الذين هم شعبه. وهؤلاء خضعوا له بحريتهم، بل خرجوا يكرزون باسمه فى العالم كله. وفى الترجمة السبعينية فى الأجبية يقول “معك الرئاسة“، أى أن شعبك بحريته خضع لرئاستك فى إيمانه وكرازته.
- “فى يوم قوتك” : يوم قوة المسيح هو يوم الصليب الذى فيه أعطى الخلاص لشعبه، وامتد يوم الخلاص فى حياة المؤمنين طوال عمرهم، فعاشوا فى قوة المسيح، وهزموا الشياطين، وثبتوا فى إيمانهم، وسلكوا فى الفضائل. وفى الأجبية “فى يوم شدتك” أى قوتك.
- “فى زينة مقدسة” : الزينة المقدسة هى الفضائل التى يتحلى بها شعب الله، أى يسلكون بالفضائل التى اكتسبوها بقوة المسيح، فيتمجد فيهم. وفى الأجبية “فى بهاء القديسين” أى فضائل القديسين، هكذا عاش كل أولاد الله.
- “من رحم الفجر” : أى قبل أن يخرج الفجر، وهذا يحدثنا عن أزلية الإبن الذى تجسد فى ملء الزمان. وما يتم فى الرحم مخفى وسرى، فأزلية المسيح سرية تعلو فوق العقل، كيف أنه موجود منذ الأزل وتجسد فى ملء الزمان، ليضئ كالفجر على كل الجالسين فى الظلمة، فينير بخلاصه لكل الخاضعين للخطية والموت، وهم كل البشر، ويعطيهم خلاصه؛ ليحيوا من جديد.
– وولادة المسيح من الرحم قبل الفجر إلى جانب أنها تعنى أزليته فى ولادته من الآب ومساواته له فى الجوهر، تعنى أيضاً ولادته فى ملء الزمان من بطن العذراء، وقد تم هذا فعلاً ليلاً قبل الفجر. وفى الأجبية يقول “قبل كوكب الصبح ولدتك” أى قبل الشمس والقمر الإبن مولود من الآب لأنه أزلى وله نفس طبيعته. وفى نفس الوقت ولد من العذراء ليلاً قبل كوكب الصبح، أى قبل شروق الشمس.
- “لك طل حداثتك” الطل هو الندى، فالمسيح له الطل ويعنى المؤمنين به الكثيرين الذين مثل قطرات الندى النازلة من السماء. فهم سماويون بإيمانهم بالمسيح، وسلوكهم الروحى. وحداثتك مقصود بها الشباب، والحيوية، والقوة. وقد كان المؤمنون فى الكنيسة الأولى، فى العصر الرسولى ممتلئين بالحيوية ومحبة المسيح. وفى كل جيل يوجد المؤمنون المملوؤن حيوية.
ليتك تحيا في شباب روحى، أى تهتم بصلواتك وقراءاتك لتشعر بالمسيح فيعطيك حماساً، ويفتح قلبك بحب لعمل الخير، ومحبة كل إنسان حتى من يسئ إليك.
(2) المسيح الكاهن والديان (ع4-7):
ع4: أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ.
- يتكلم المزمور هنا عن المسيح، وقد أقسم الرب؛ أى الآب أن المسيح هو الكاهن على رتبة ملكى صادق؛ أى أنه كاهن وملك إلى الأبد. والكهنوت والملك لم يجتمعا عند اليهود فى سبط واحد، إذ أن الكهنوت كان من سبط لاوى، والملك من سبط يهوذا. إلا أن داود وابنه سليمان الملكين مارسا الكهنوت جزئياً، فداود لبس ملابس الكهنوت عندما أرجع التابوت إلى أورشليم (2صم6: 14).
- “اقسم الرب” إذ هو وحده له حق القسم، إذ له القدرة الكاملة على تحقيق ما يقسم به، أما البشر فضعفاء لا يملكون تحقيق ما يقسمون به، فلا يصح لهم القسم. ولم
“يندم الله” أى لن يتراجع فى كلامه؛ لأن أمره حتمى ويثبت إلى الأبد أن المسيح كاهن ويملك إلى الأبد. وإن كان قد ذكر عن الله أنه ندم، فذلك تعبير إلهى عن إمكانية تنازل الله عن كلامه إن تاب الإنسان، كما فى توبة أهل نينوى. - كهنوت المسيح أبدى لذا قال “على رتبة ملكى صادق“، الذى هو ملك ساليم، أى ملك السلام وغير معروف له بداية ولا نهاية. أما كهنوت هارون فيعطى للبشر المحدودين الذين يموتون، فكهنوت المسيح على طقس ملكى صادق وليس هارون. ونلاحظ أن ملكى صادق قدم ذبيحته خبزاً وخمراً كما المسيح، وملكى صادق كان رمزاً للمسيح (تك14: 18).
ع5، 6: 5- الرَّبُّ عَنْ يَمِينِكَ يُحَطِّمُ فِي يَوْمِ رِجْزِهِ مُلُوكًا.6- يَدِينُ بَيْنَ الأُمَمِ. مَلأَ جُثَثًا أَرْضًا وَاسِعَةً. سَحَقَ رُؤُوسَهَا.
رجزه : غضبه الشديد.
- تظهر فى هذه الآية مساواة الآب بالإبن، إذ يقول للإبن الرب عن يمينك، كما ذكر فى (ع1) أن الإبن يجلس عن يمين الآب، والمقصود بالجلوس عن اليمين ليس المعنى المكانى؛ لأن الله غير محدود، وليس له يمين، أو يسار. ولكن المقصود باليمين القوة والمجد.
- تظهر الآيتان سلطان المسيح الذى يحطم ويدين ويسحق كل مقاوميه، ويقصد الشياطين وكل الأشرار الذين يتبعونه، فكل من قاوم الله، وكنيسته على مر الأجيال تحطم، وأصبح ذليلاً، مثل نبوخذنصر الذى صار كالحيوانات (دا4: 33)، وأليفانا الذى قتلته يهوديت (يهو13: 10) وأنطيوخوس الكبير الذى أكله الدود ومات أيام المكابيين (2مك9: 9)، ومثل دقلديانوس والأباطرة الذين وقفوا ضد الكنيسة، وغيرهم من ملوك الأرض الذين تحطموا وظلت الكنيسة قوية حتى الآن.
- دينونة الشيطان تمت على الصليب عندما قيده المسيح بموته على الصليب، وفى يوم الدينونة الأخير سيلقيه فى العذاب الأبدى، وكل من يتبعه من الأشرار.
ع7: مِنَ النَّهْرِ يَشْرَبُ فِي الطَّرِيقِ، لِذلِكَ يَرْفَعُ الرَّأْسَ.
- المسيح الابن شرب من نهر الآلام، واحتمل كل أتعاب الصليب، ومات ليفدينا، وبقوة لاهوته رفع رأسه بالقيامة؛ ليقيمنا فيه من موت الخطية.
- كل إنسان روحى فى ساعة الضيقة يشرب من نهر الروح القدس الذى يلتجئ إليه، فيتعزى قلبه، ويثبت أثناء التجربة؛ حتى فى نهايتها يرفع رأسه بقوة الله، وينتصر على حروب الشيطان.
عندما تقابلك آية ضيقة ثق أنها بسماح من الله لخيرك، فلا يضطرب قلبك. ولكن اطلب الله بالصلاة والاتضاع، مقدماً توبة عن خطاياك، فتتنقى، ويرفع الله رأسك ويمجدك ويباركك ببركات كثيرة.