الاتضاع والجهاد والرجاء
ترنيمة المصاعد . لداود
“يا رب لم يرتفع قلبى ولم تستعل عيناى ..” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه : داود النبى كما يذكر عنوان المزمور.
- متى كتب ؟
هناك رأيان :
أ – عندما نزل داود ليفتقد إخوته الذين يحاربون الفلسطينيين، فوبخه أخوه الأكبر أليآب متهماً إياه بالكبرياء، فكتب هذا المزمور، معلناً اتضاعه أمام الله (1صم17: 28).
ب- كتبه داود عندما اتهمه عبيد شاول بأنه ينبغى الاستيلاء على الملك عندما كان قائداً حربياً، أو من أشجع القادة عند شاول؛ ليعلن عدم سعيه لهذا الملك، رغم أن صموئيل النبى كان قد مسحه ملكاً منذ سنوات.
ج – عندما احتقرت ميكال زوجها داود لرقصه أمام تابوت عهد الله، فأعلن أنه يتصاغر أكثر من هذا أمام الرب (2صم6: 22).
- يناسب هذا المزمور كل من يهرب من مجد العالم، ويتضع ويترجى الله.
- لعل هذا المزمور نبوة عن مشاعر المسبيين في بابل، أو الراجعين من السبى في اتضاع أمام الله، ويترجونه أن يساعدهم في بناء الهيكل وقبول عبادتهم.
- هذا المزمور يظهر مشاعر الإنسان الروحى المؤمن بالله، فيتضع، ويظهر خطية الشيطان المتكبر الذى سقط لكبريائه، ومحاولته أن يرفع كرسيه ومكانته مثل الله (حز28: 16-17). وهكذا أيضاً يوبخ كبرياء الإنسان الأول آدم وحواء اللذين حاولا أن يصيرا مثل الله (تك3: 5).
- يصلى هذا المزمور على الدرجة الثانية عشر في طريق الصعود إلى الهيكل. ويلاحظ أنه عند الارتفاع والاقتراب إلى الهيكل يصلى هذا المزمور الذى يدعو إلى الاتضاع. وكلما ارتفعنا نحو الله نحتاج لإتضاع أكبر، ويزداد الجهاد الروحى والرجاء في الرب.
- يوجد هذا المزمور بالأجبية في صلاة النوم؛ ليعلن فيها الإنسان اتضاعه أمام الله مترجياً خلاصه بعد انقضاء يوم كامل؛ ليسامحه عن كل خطاياه، ويعطيه نوماً هادئاً ومكاناً في الأبدية.
(1) الإتضاع (ع1)
ع1 : يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ، وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ، وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي.
لم تستعل : لم تتعالَ ولم تتكبر.
- يعلن داود أنه لم يسقط فى الكبرياء بمشاعره، فلم ينظر بعينه إلى الملك، أو مكانة أسمى مما هو فيها؛ ليس ليتفاخر باتضاعه، ولكن ليشكر الله على نعمة الاتضاع التى وهبها له، سواء فى قلبه، أو فى نظرة عينيه، أو فى سلوكه وأعماله.
- لم يشته داود أن يجلس على العرش ويزيح شاول، مع أنه كان ممسوحاً بيد صموئيل، وكان الله قد رفض شاول لأجل خطاياه، ولكنه ظل خاضعاً لشاول. بل عندما سقط شاول تحت يد داود مرتين، قال كيف أمد يدى إلى مسيح الرب
(1صم 24 : 6) ولم يقتله، مع أن شاول كان يحاول مرات كثيرة قتل داود.
- يشبه داود هنا المسيح فى اتضاعه، فداود يرمز للمسيح، ولذا فقد طوب الله داود عندما قال عنه “وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبى” (أع13: 22).
(2) الجهاد الروحى (ع2):
بَلْ هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ
- كان داود يعيش ببساطة كراعى غنم، ولكن قوة الله كانت تسانده، فقتل الأسد والدب. ومسحه صموئيل ملكاً، وقتل جليات الجبار، وكان قائداً حربياً ناجحاً، وقتل الكثير من الفلسطينيين، ولكنه حُرم من كل راحة، إذ حاول شاول قتله مرات كثيرة واستمر مدة طويلة، وقبل هذا الفطام من كل راحة. فهو قد فُطم من المُلك وأيضاً من الراحة الطبيعية والاستقرار الذى يناله كل إنسان يسكن فى بيته مع زوجته وأولاده. قبل هذا بشكر، فمتعه الله الذى رفع عينيه نحوه وأعطاه الاستقرار الداخلى.
- “نفسى نحوى كفطيم” لم يحدث هذا الهدوء وقبول نفسه الفطام بسهولة، بل جاهد داود كثيراً، وكانت نفسه تتعب من صعوبة هذا الفطام. فكان يهدئها بالرجوع إلى الله والرجاء فيه؛ لأن تهديدات، وشر شاول كان مثيراً جداً، ورغم شعور شاول بخطئه عندما كان يسامحه داود، يعود ثانية ويحاول قتله، ولكن داود قاوم رغباته فى الانتقام أو فى اشتهاء الملك، وقبل الخضوع باتضاع شديد أمام شاول، بل شبه نفسه بكلب ميت وبرغوث واحد، وهنا يشبه نفسه بطفل صغير جداً تم فطامه عن اللبن؛ ليعلن مدى معاناته.
- لقد حقق داود فى نفسه ما قاله المسيح بعد سنوات طويلة، عندما أعلن أنه “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات” (مت18: 3).
- حرمان الفطيم من اللبن يؤهله أن يأكل طعام البالغين، كما أن بنى إسرائيل فى برية سيناء شعروا بحرمانهم من اللحم والبصل والكرات، ولكن كان هذا ضرورياً ليتمتعوا بخيرات أرض كنعان. وداود إن كان قد حرم من الراحة الجسدية، وعانى متاعب كثيرة من شاول وأبشالوم، ولكنه تمتع بعشرة الله، وصار قلبه مثل الله.
(3) الرجاء (ع3):
بَلْ هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ
- إسرائيل هو شعب الله الذي تميز بوجود الله فى وسطه، لذلك كان يرجوه فى كل خطواته، وينبغى أن يظل هكذا إلى أن يصل إلى الملكوت (إلى الدهر).
- هكذا أيضاً عاش داود مؤمناً بالله، ويترجاه من الآن، أى على الأرض، وحتى نهاية عمره إلى أن يصل إلى الملكوت، وهذا يعلمنا أن نضع رجاءنا فى الله طوال حياتنا.
? قدر ما تتضع أمام الله، وتتنازل عن شهوات العالم، يزداد رجاؤك فى الله. والرجاء يسندك أيضاً فى جهادك، ويثبتك فى الاتضاع، فتتمتع كل أيامك بعشرة الله.