علم الله الكامل
لإمام المغنين. لداود. مزمور
“يا رب قد أختبرتنى وعرفتنى” (ع1)
مقدمة
- كاتبه : داود النبى، كما يذكر في عنوان هذا المزمور.
- يعتبر كثير من المفسرين أن هذا المزمور تاج المزامير؛ لأنه يعلن خبرة روحية عملية لداود عن الله، ويتكلم بالتفصيل عنها طوال المزمور.
- يناسب هذا المزمور المصلى الذى يحب الله، ويريد أن يحيا في أحضانه، ويرفض الشر.
- يدعو المزمور إلى محاسبة النفس، ومراجعتها على ضوء كلام الله ووصاياه (ع23).
- يتكلم هذا المزمور بالتفصيل عن صفات الله، وعلمه بالخفايا، ووجوده في كل مكان، وسلطانه على كل شئ.
- يوبخ المرنم الأشرار ويدعوهم للتوبة بسرعةِ، لأن التمادى في الشر سيؤدى بهم حتماً إلى الهلاك (ع19، 20).
- يوجد تشابه بين هذا المزمور وسفر أيوب (أى10).
- لا يوجد هذا المزمور في الأجبية.
(1) الله كلى المعرفة والحضور (ع1-18):
ع1-4: يَا رَبُّ، قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا.
ذريت : نشرت أو نثرت.
مربض : مكان رقاد الحيوانات، والمقصود مكان راحتى.
- يعلن داود لله، وهو يتحدث معه حديثاً خاصاً، أنك يا الله تعرف عنى كل شئ بفحص وتدقيق كامل، كمن يذرى الحبوب ليفصلها عن القشِ. فتعرف الخير والشر الذى فىَّ وكل ميولى، وليس فقط أعمالى وكلامى، وتعرف طباعى، تعرفنى في راحتى وضيقى، بل وتعرف ما أنوى أن أعمله، أو أقوله. فأنت ترى من بعيد كل ما فىَّ، ولست محتاجاً أن تعاشرنى مثل البشر لتعرفنى؛ لأنك أنت خالقى، ولك علم كامل بكل ما فىَّ.
- ترمز هذه الآيات للسان حال المسيح وهو في الجسد، في حديثه مع الآب، ولأن الإثنين جوهر واحد، فالآب يعرف كل ما في الإبن، ويعلم محبته للبشر، وكيف اتضع في تجسده، وكيف سيتألم ويحمل كل شر البشرية على كتفيه عندما يصلب ويموت لأجل الفداء.
ع5: مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ.
أنت تعرف عنى يا رب كل شئ؛ مافات من حياتى حديثاً، أو قديماً، وما سيحدث في المستقبل. وتعرف أيضاً إلى أين أذهب، وما سأنجح فيه، أو أفشل، تعرف ما سأنمو فيه روحياً وما أعجز عنه. ويدك علىَّ تحمينى، وتبعد عنى الشر طالما أنا أطلبك. فأنت ضابط الكل، إليك التجئ، وأثق في يدك التى تحمينى. وإذا فكرت في الشر فإنك تعلن لى مخافتك حتى أتوب. وأنا في يدك أستريح، وأطمئن؛ حتى لو سمحت لى بضيقات، فهى لمنفعتى، ولتحمينى من شرور كثيرة.
ع6: عَجِيبَةٌ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ارْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا.
أنت يا رب تعرف كل شئ عنى، أما أنا فلا أستطيع أن أعرف عنك إلا القليل؛ لأنك غير محدود، وأنا محدود. فأنت عجيب لا أستطيع أن أحتويك، بل أنت تحتوينى، وتعرفنى ذاتك قدر ما أحتمل، ومعرفتك عنى كل شئ تفوق إدراكى وهى عجيبة في عينى.
ع7-10: أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ. فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ.
- يظهر داود أنه لا يستطيع أن يهرب من الله حتى لو اتجه في أى مكان في العالم، فالله موجود ويراه ويستطيع أن يمسكه ويعمل معه أمرين :
أ – يهديه ويعيده إليه وللحياة الروحية معه، مهما انشغل عنه، أو ابتعد في طريق غير سليم. وهذا يظهر محبة الله التى تفرح قلب الإنسان.
ب – يضبطه بعدله ويحاكمه، وهذا يولد مخافة الله داخل القلب، فيجعله يبتعد عن الشر، ويتذكر وجود الله دائماً أمامه.
- يظهر الله بثالوثه القدوس في (ع7) “روحه” أى الروح القدس، “ووجهه” أى الإبن المتجسد، والآب هو الذى يخاطبه داود.
- الاتجاه الرأسى يظهر في (ع8) بالصعود إلى السماء مكان الأبرار، أو الفرش في الهاوية، أى رقود القبر والموت. وهذا ما تخيله داود، بالارتفاع إلى السماء، أو النزول إلى أسفل سيجد الله الذى يوجد في كل مكان؛ ليمجد الأبرار في السماء، ويدين الأشرار في الهاوية. ومن ناحية أخرى إن اتجه أفقياً مع بداية الصبح؛ ليصل إلى أقصى الأرض فالله موجود في كل مكان. والاتجاه الرأسى والاتجاه الأفقى يرمزان للصليب الذى صلب عليه المسيح ليخلص الجميع؛ كل من يؤمن به في كل اتجاه من الاتجاهات الأربع، فهو مخلص البشرية كلها.
ع11، 12: فَقُلْتُ: «إِنَّمَا الظُّلْمَةُ تَغْشَانِي». فَاللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هكَذَا النُّورُ.
تغشانى : تغطينى.
- إن كان الإنسان يشعر أنه في ظلمة لا يراه أحد، ليفعل الشر في ظلمة الليل، ولكن يغيب عنه أن الله نور، ويضيئ الليل بنوره، فهو الذى خلق الشمس لضياء النهار، والقمر والنجوم لضياء الليل، وهو فاحص القلوب والكلى، فحتى لو استتر الشرير في ظلمة الليل، فالله يرى كل أعماله وأفكاره ومشاعر قلبه.
- إن سار أولاد الله في ظلمة الليل فلا يخافوا شراً؛ لأن الله ينير حياتهم، ويحفظهم من أعدائهم الشياطين، ومن كل تجربة، وإن هاجمتهم الخطايا لتظلم فكرهم، فالله ينبههم بنوره ليرفضوا كل شر، وإن سقطوا في ظلمة الخطية، فالله ينخسهم بروحه القدوس فيسرعوا إلى التوبة.
- “الليل مثل النهار يضئ” إن كانت الظلمة هى طبيعة الليل وفى نفس الوقت الله طبيعته نور وضياء، هكذا أيضاً التجربة المظلمة تظهر قاسية وصعبة للإنسان. لكنها عند الله منيرة ولمنفعة الإنسان ولمصلحته، ويجعلها منيرة ومريحة له، أى يحول مشاعر الضيق إلى راحة وسلام، بل وفرح أيضاً.
- “الليل مثل النهار يضئ” نبوة عن قيامة المسيح النور الحقيقى الذى قام من ظلمة القبر بنور مجده العظيم.
- “الليل يضئ حولى” معناه تحويل العناصر إلى عكس طبيعتها، فالليل مظلم، والنهار مضئ، ولكن الليل يضئ، مثلماجعل الله النار تكون لطيفة بالنسبة للثلاث فتية رغم حرقها للبابليين الذى ألقوا الثلاث فتية في النار (دا3: 27).
ع13، 14: لأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي. أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذلِكَ يَقِينًا.
- الله اقتنى كليتى، أى اقتنى مشاعرى؛ لأنه فوق الكلية توجد الغدة الجاركلوية المسئولة عن انفعالات الإنسان. والمقصود أن الله اقتنانى كلى بكل إمكانياتى وعواطفى، وهو الذى صنعنى مثلما يصنع الصانع النسيج، وكوننى تدريجياً في بطن أمى. وبهذا فإن الله هو العارف كل شئ عنى، وهو يحتوينى، ويقودنى في طريق البر إذا سرت معه.
- تكوين الإنسان يتميز عن باقى الخلائق في جسده وروحه. وهذا يدعو لشكر وتمجيد الله، بل إن كل إنسان يتميز عن غيره من البشر، مما يظهر محبة الله الخاصة لكل إنسان. وهذا يجعل الإنسان في ثقة وقوة من أجل اهتمام الله به شخصياً.
- أعمال الله الخالق فىَّ وفى باقى المخلوقات يفوق عقلى، ولكن بالإيمان نفسى تفهم هذا العجب الذى صنعه الله. وكلما تقدم العلم يكتشف شيئاً من أعمال الله العجيبة في خلق الإنسان وفى باقى المخلوقات.
ع15، 16: لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا.
- الله كون في ذهنه صورة للإنسان، أى في الخفاء كان الإنسان في فكر الله، وهذا منذ الأزل. وفى الوقت المناسب خلقه بدقة، فكل عظمة من عظام الإنسان ولو صغيرة كان لها رقم عند الله، أى معروفة ومعدودة. ولأن الإنسان خلقة الله من التراب؛ لذا يقول “رقمت في أعماق الأرض” وكون الله أعضاء الإنسان التى كانت في سفر الله، أى مكتوبة في فكره، بل ويعرف عنها ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فكل شئ معروف عند الله منذ الأزل وكل ما سيحدث له. كل هذا يبين محبة الله واهتمامه الذى يفوق العقل، فلا يوجد من يهتم مثله، ولا حتى الإنسان يهتم بنفسه، مثلما يهتم الله به.
- الله يرى الإنسان بنقائصه، ويفرح به كلما نما وتكامل، وهذا يعطى رجاء لكل إنسان ضعيف وناقص في فهمه ونضجه، فالله يحبه ويقبله وينميه؛ حتى يكمل فيه.
ع17، 18: مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اَللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الرَّمْلِ. اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ.
- إن أفكار الله وتدابيره، ومحبته لخليقته كثيرة جداً لا يمكن حصرها؛ لأن الله غير محدود، ومحبته، واهتمامه بالإنسان غير محدود، فما أكثر جملتها وهى أكثر من الرمل. هذا يجعل الإنسان يشكر الله في كل حين، ولا يمكن إدراك كرامة، وعظمة أفكار الله، ولكن يؤمن الإنسان بحب الله له اللانهائى.
- الله يحب الإنسان قبل أن يولد، فعندما يستيقظ الإنسان، أى يولد يجد الله معه يعتنى به. وإن نام الإنسان كل يوم واستيقظ يجد رعاية الله تحوطه في نومه، وفى صحوه. وإن تغافل الإنسان عن نفسه، أو عن حياته الروحية، ثم انتبه بفعل روح الله القدوس يجد محبة الله معه دائماً.
انظر إلى محبة الله وعنايته بك منذ ولدت حتى الآن ليطمئن قلبك، وتشكره وتثق في نفسك المعتمدة على الله، وتنطلق في أعمال حب لله والناس، وتفرح الله في كل حين.
(2) رفض الشر (ع19-24):
ع19-22: لَيْتَكَ تَقْتُلُ الأَشْرَارَ يَا اَللهُ. فَيَا رِجَالَ الدِّمَاءِ، ابْعُدُوا عَنِّي. الَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِالْمَكْرِ نَاطِقِينَ بِالْكَذِبِ، هُمْ أَعْدَاؤُكَ. أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ، وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ؟ بُغْضًا تَامًّا أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً.
أمقت : أكره بشدة.
إذ أحب داود الله أحب أيضاً الخير وعاش فيه، وبالتالى لم يعد يطيق الشر، وتضايق من الأشرار لأجل شرورهم. وإن كان يتمنى توبتهم وخلاصهم، فلماذا يكرههم داود ؟
- يكره شرهم؛ لأنه ضد الله، وهم أعداء الله.
- لأن الأشرار مخادعون يتظاهرون بالتقوى لكنهم متمسكون بالشر، فيخدعوا أنفسهم وقد يخدعوا الآخرين.
- يخشى داود أن يتأثر بشرهم ولو جزئياً فيعثر ويسقط في أحد الشرور التى يفعلونها.
- تأثر داود وكره تماماً استهانة الأشرار بحياة الأبرار وقتلهم.
- تضايق أيضاً داود من إساءة الأشرار وقتلهم الآخرين قتلاً أدبياً، أى وجهوا إليهم كلمات صعبة لا يستطيع الإنسان احتمالها، فتأثر داود من أجل إذلال الأبرار.
ع23، 24: اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا.
بعد أن أظهر داود رفضه للشر يقترب من الله باتضاع، طالباً اختبار الله له وامتحانه لأفكاره، لئلا يكون في داخله أى شر، أو تهاون ولو صغير، حتى ينقيه الله منه. والطريق الباطل هو أى شئ ليس له منفعة، ولا يقرب الإنسان من الله، بل على العكس يمكن مع الوقت أن يسقط الإنسان في شرور كبيرة. وهذا يبين تدقيق داود واهتمامه بنقاوته، بل وأيضاً اهتمامه بحياته الأبدية، فلا يريد أن يتعطل بأى شر، وبالتالى نتأكد أنه لم يرفض الشر ككبرياء منه، بل نفوراً من الشر، ومحبة في البر، فهو يحب الأشرار ويبغض شرهم الذى ذكره في (ع21) وهذه البغضة لا تعتبر طريقاً باطلاً بل هى محبة لله ونقاوة قلب نحو الأشرار، فهو يتمنى توبتهم. كن مدققاً في علاقاتك، والأماكن التى تجلس فيها حتى تبتعد عن مصادر الشر، فيساعدك هذا على حياة البر، وعلاقة حب نامية مع الله.