ستر العلى
“الساكن فى ستر العلى فى ظل القدير يبيت” ع1
مقدمة :
- كاتبه
من المزامير اليتيمة، أى التى لم يذكر لها كاتب، ويظن البعض أن كاتبه هو داود،والبعض أنه موسى؛ لأنه وضع فى الترتيب بعد المزمور التسعين الذى كتبه موسى النبى.
- يتحدث هذا المزمور عن قوة الله وأبوته، ورعايته لأولاده؛ حتى أنهم لا يخشون الأشرار، لأن الله ينقذهم من أيديهم، فهو مزمور مطمئن لأولاد الله؛ لذا يردده الكثيرون طوال يومهم.
- من المزامير المسيانية؛ لأنه يتحدث عن حياة المسيح فى تجاربه وآلامه، بل أن الشيطان قد ذكر جزءً من هذا المزمور (ع11، 12) (مت4: 6) ولم يكمل الشيطان المزمور؛ لأن به نبوة عن سحق الشيطان بالصليب (ع13).
- يذكر اسم الله بأربعة ألقاب؛ ليطمئن أولاده فى هذا المزمور وهى (العلى – القدير – الله – الرب).
- يوجد هذا المزمور فى صلاة الساعة السادسة التى فيها اجتاز المسيح الآلام وحده، وسحق الشيطان بصليبه؛ لأن المسيح صلب فى هذه الساعة.
(1) الله يحمى أولاده وينقذهم (ع1-8):
ع1: 1- الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت.
ستر : مخبأ.
- يلقب كاتب المزمور الله بالعلى لأنه أعلى من كل قوى العالم، فالذى يلتجئ إلى ستره ويختبئ فيه لا يستطيع أحد أن يؤذيه. ويلقبه أيضاً بالقدير؛ لأنه قادر على كل شئ، ولا يستطيع أحد أن يقف أمامه.
- أولاد الله يسكنون بين يدى الله، ويبيتون أيضاً فى ظله، أى حمايته، فهم يستقرون مطمئنين ولا يضطربون من أية اضطرابات فى العالم؛ أى يدومون فى سلام فى رعاية الله.
- ستر العلى كما يقول القديس أثناسيوس هو وصايا الله، فمن يحفظها يحفظه الله من كل الأخطار.
ع2: 2- أقول للرب ملجأي و حصني إلهي فأتكل عليه.
- لأجل كثرة الأعداء يهرب كاتب المزمور إلى الله الذى هو ملجأ وحصن له، فيجد حماية من كل الأعداء مهما كانت قوتهم.
- لأجل ثقة كاتب المزمور فى الله يتكل عليه، ولا يتكل على نفسه، أو على أية قوة أخرى فى العالم. ولكيما يتكل على الله ينبغى أن يكون تائباً ورافضاً لكل خطية، أى يسلك باستقامة، فيقبله الله ويحميه. كما أن القاتل فى العهد القديم كان يلتجئ إلى الله ممثلاً فى مدن الملجأ، بشرط أن يكون القتل عن دون عمد، أما إذا كان قاتلاً عن عمد فلا يقبله شيوخ مدينة الملجأ، وبالتالى فمن يستبيح الخطية ويتمسك بها فلا يقبله الله إذا حاول أن يحتمى به.
ع3: 3- لأنه ينجيك من فخ الصياد و من الوبأ الخطر.
الوبأ : هو المرض الذى ينتشر بسرعة ويصيب الناس بالعدوى.
- الصياد هو الشيطان وفخاخه هى حيله وخداعه وأفكاره، وكل أعماله الشريرة التى يوقع فيها البشر، ولكن مهما كانت قوة الشيطان فهى لا شئ أمام قوة الله القادر أن ينجى أولاده من كل فخاخ الشياطين، ويكشف الفخاخ المخفية، ويعطى تمييزاً لأولاده، فيبتعدون عن كل شر.
- الوبأ هو الخطية فهى تنتشر بسرعة بين الناس، فيسقط فيها الكثيرون، ولكن الله قادر أيضاً أن ينجى أولاده منها، سواء كانت هذه الخطية شهوات، أو هرطقات، أو شكوك، أو أى شئ يبعدنا عن الله.
ع4: 4- بخوافيه يظللك و تحت أجنحته تحتمي ترس و مجن حقه.
خوافيه : الريش الصغير الذى يوجد تحت أجنحة الطائر.
المجن : هو الترس الكبير، والترس هو قطعة خشبية لها عروة خلفية يضع فيها الجندى يده ويحرك الترس أمام رأسه وجسده؛ ليحميه من سهام العدو.
- يشبه كاتب المزمور الله بطائر له أجنحة ذات ريش كبير، وتحته ريش صغير يظلل بها على صغاره؛ كما يفعل النسر، فالله يظلل على أولاده، فيحميهم من ضربات العدو الشيطان، ويصير لهم ملجأ وحصناً، وبالتالى لا يعودون يخافون من الشيطان. وهذا ما أعلنه المسيح عندما شبه نفسه بالدجاجة التى تجمع فراخها وتظلل عليهم بجناحيها (لو13: 34) فتختفى الفراخ من وجه العدو ولا يخطفها.
- يشبه الله أيضاً بالترس والمجن، الذى يحمى به الجندى نفسه، فحق الله، أى كل من يؤمن بالله يصير له هذا الإيمان ترس يحميه من أفكار الشيطان، وفخاخه.
ع5، 6: 5- لا تخشى من خوف الليل و لا من سهم يطير في النهار. 6- و لا من وبأ يسلك في الدجى و لا من هلاك يفسد في الظهيرة.
الدجى : الظلام الدامس.
- الذى يتكل على الله لا ينزعج من حروب الشيطان التى تأتى فى الليل، وكل مخاوف هذا الوقت، والمقصود بالليل الحروب الخفية المستترة فى الظلام، أما السهم الذى يطير فى النهار فهى الحروب الظاهرة، حيث يظهر الشيطان، أو الأشرار، ويظهرون شرهم للإنسان البار؛ ليسيئوا إليه.
- يضيف أيضاً فى حروب الشيطان أنها تنتشر سريعاً فى الدجى الذى يمثل الظلام والغموض؛ بالإضافة إلى حروب الشيطان وقت الظهيرة؛ حيث يهتم الإنسان بالطعام والراحة، فيهاجمه الشيطان ويهلكه لتراخيه، وعدم انتباهه، وهذا معناه أن حروب الشيطان مستمرة ليلاً ونهاراً، فينبغى الانتباه والاحتراس الدائم منها.
- هاتان الآيتان تعلنان رعاية الله المستمرة لأولاده ليلاً ونهاراً، لتحميهم من كل حروب إبليس، مما يطمئنهم بل يشجعهم أن يقاوموا هذه الحروب، وينتصروا على الشيطان.
ع7: 7- يسقط عن جانبك ألف و ربوات عن يمينك إليك لا يقرب.
ربوات : جمع ربوة وهى عشرة آلاف.
- إذ يحمى الله أولاده المرتبطين به يساعدهم فى جهادهم، فيضرب الشياطين التى تحاربهم؛ سواء من الجانب اليمين، أو الجانب الآخر وهو اليسار، فلا تستطيع الشياطين أن تقترب، أو تهزم أولاد الله.
- جانب اليسار يشمل حروب السقوط فى الخطايا المختلفة؛ حينما يكون الإنسان الروحى فى فتور وضعف، ومعرض للسقوط. أما اليمين فيمثل حالة الإنسان الروحى المرتبط بالله فى ممارسات روحية، ويظن أن حالته جيدة، مع أنه متهاون فى أمور كثيرة، فهذا تحاربه شياطين أكثر يبلغ عددها عشرات الآلاف لمحاولة إسقاطه، فإن وجدته فى حالة ضعف وتهاون يتجاوب مع حروب الشياطين، أما إذا كان متمسكاً بجهاده، فعشرات الآلاف من الحروب الشيطانية تكون بلا قيمة، ويحميه الله منها.
ع8: 8- إنما بعينيك تنظر و ترى مجازاة الأشرار.
- يشجع الله أولاده إذا قابلتهم ضيقات حتى يحتملوها؛ لأنه فى النهاية سيعاقب الله الأشرار على كل خطاياهم، أما أولاده فيبررهم.
- هذه الآية نبوة عما سيحدث فى يوم الدينونة، فالمسيح فى مجيئه الأول احتمل ظلماً كثيراً، وأولاده احتملوا أيضاً أتعاباً، واضطهادات حتى الموت، ولكن المسيح فى مجيئه الثانى سيجازى كل الأشرار ويلقيهم فى العذاب الأبدى.
إن كنت تجاهد وتحتمل آلام الجهاد وضيقات من الأشرار، فلا تنزعج منها لأنها مؤقتة، كن واثقاً من البر الذى تسلك فيه، أما الشر فلن يثبت.
(2) قوة أولاد الله (ع9-16):
ع9: 9- لأنك قلت أنت يا رب ملجأي جعلت العلي مسكنك.
- يخاطب كاتب المزمور البار، ويقول له أنك أعلنت أن الله ملجأك، ثم يستكمل كاتب المزمور كلامه، ويقول للبار أنك جعلت الله العلى مسكناً لك. أى أن البار اختار الله ملجأ له، وبالتالى لا يستطيع أحد أن يؤذيه، بل استقر وسكن فى الله العلى، الذى هو فوق الكل، ولا يستطيع أحد أن يصل إليه، فالبار فى حماية كاملة.
- هذه الآية تأكيد للمعنى الذى أعلنته (ع2).
ع10: 10- لا يلاقيك شر و لا تدنو ضربة من خيمتك.
- يقدم كاتب المزمور وعوداً جديدة للبار وهى أنه لا يقابله شر فى حياته؛ لأن الله لا يسمح له بشئ يؤذيه، ويحول الشر إلى خير؛ لأن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله (رو8: 28).
- أيضاً وعداً جديداً يقدمه، وهو ألا يقترب من خيمة البار – أى مكان استقراره وسلامه – أية ضربة، فقد يسمح الله له بتجربة، أما الضربة فهى عقاب وأذى يصيب الإنسان، هذا لا يحدث مع البار، بل يحتفظ بسلامه حتى داخل الضيقات والتجارب. وذلك لإيمانه بالله الذى يظل ثابتاً. فأيوب البار تعرض لتجارب قاسية وليس لضربات، فتعلم واستفاد من تجاربه، وظل مع الله، أما فرعون فما أصابه سمى ضربات وليس تجارب؛ لأنها كانت عقاباً له، وإنذاراً بقرب هلاكه.
ع11، 12: 11- لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. 12- على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك.
- وعد جديد للبار؛ أن الله يرسل ملائكته ليحفظوه فى كل طرقه؛ أى أن الملائكة تحرسه فى كل خطوة، وهذا إعلان كتابى واضح عن الملاك الحارس الذى يرافق كل واحد من أولاد الله.
- هذه الآية تظهر خدمة الملائكة للبشر (عب1: 14)، بل إنهم فى حنانهم يحملون البار حتى لا يعثر بالاصطدام فى أى حجر، أى لا تزعجه الضيقات، بل يرفعوه بأمر الله فوقها، وبهذا يرتفع قلبه إلى السماء، ويشعر بالله داخل التجربة أكثر من أى وقت آخر، ويتمتع بصحبة الملائكة.
- حاول الشيطان استخدام هذه الآية فى تجربة المسيح على الجبل، ولكن المسيح كشف خداعه ورفض الكبرياء التى يقصدها الشيطان. ويلاحظ أن الشيطان لم يكمل كلام المزمور (ع13) التى تقول “على الأسد والصل تطأ” لأنها تعلن أن المسيح سيدوس الشيطان الذى هو الأسد والصل (الثعبان).
ع13: 13- على الأسد و الصل تطأ الشبل و الثعبان تدوس.
الصل : نوع خبيث من الحيات.
الشبل : الأسد الصغير.
- وعد آخر يعطى للبار، وهو أن يدوس، ويتسلط، وينتصر على الشيطان الذى يُرمز إليه بالأسد والشبل لقوته (1بط5: 8)، ويُرمز إليه أيضاً بالحيات، أى الثعابين لمكرهم (لو10: 17-19).
- السلطان الذى يعطيه الله لأولاده هو على كل خطية، ويعطيهم قوة أن يرفضوا الخطية، وإن سقطوا فيها يقومون برجاء، واثقين أنهم بالله أقوى من حروب الشياطين، ولا ينزعجون من مؤامرات الأشرار؛ لأن الله سيعبر بهم جميع الضيقات، ويوصلهم بسلام إلى الملكوت.
ع14: 14- لأنه تعلق بي أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمي.
- يعد الله البار الذى يطيع وصاياه أن ينجيه من أية ضيقة، ويرفعه فوق التجربة؛ لأنه تعلق بالله؛ أى التصق به وأحبه جداً. ولأنه عرف الله عن قرب، وأدرك أنه الإله الوحيد القادر أن يشبع كل احتياجاته، ولأنه عرف الإله العظيم السامى فوق كل الخلائق، فإذ عرفه البار يسمو إليه، فيرتفع عن الماديات.
- هذا الوعد الإلهى هو للكنيسة كلها إذا تعلقت به وعرفت اسمه، فهو ينجيها ويسمو بها إلى الروحانية الحقيقية؛ حتى يصل بها الملكوت السماوى. فالله سيسمح بضيقات، ولكن بعد ذلك ينجيها منها.
ع15، 16: 15- يدعوني فأستجيب له معه أنا في الضيق أنقذه و أمجده. 16- من طول الأيام أشبعه و أريه خلاصي
- البار الذى يطيع الله إذا التجأ إليه وصلى، الله يهتم جداً بصلواته ودعائه، الذى يكون من قلبه لأنه فى الضيقة، فيستجيب له، وينقذه من السقوط فى الخطية، بل يختبر البار عشرة الله، ويتمتع به، وينال عربون الملكوت داخل الضيقة، فيفرح. وبهذا يمجده الله وسط الضيقة، كما فعل مع الثلاثة فتية فى آتون النار.
- بعد هذا يهب الله البار الذى احتمل الضيقة والتجأ إلى الله نعمة لا يفوقها أية نعمة، وهى أن يعطيه أياماً طويلة بلا نهاية، وخلاصاً كاملاً، وذلك فى الملكوت السماوى.
- تنطبق هذه الآية على المسيح الذى وهو مصلوب صلى إلى الآب “إلهى إلهى لماذا تركتنى” (مت27: 46) فاستجاب له وأنقذه ومجده بالقيامة من الأموات؛ ثم صعد إلى السموات، وأعد مكاناً لكل أولاده المؤمنين به الذين يدعونه، ويستجيب لهم.
الله ينتظر صلواتك عندما تحل بك أية ضيقة لينقذك منها، فيهبك سلاماً يفوق العقل، ثم يخرجك منها، ويكافئك مكافأة عظيمة فى السموات لأجل احتمالك التجربة.