المطوبون والخائنون
لإمام المغنين . مزمور لداود
“طوبى للذى ينظر إلى المسكين…” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه هو داود النبى.
- متى كتب ؟ أثناء ثورة أبشالوم على أبيه داود. ويبدو أن داود كان مريضاً، وساعد مرضه على خيانة أبشالوم له، إذ اهتزت إدارة الأمور فى البلاد، واستغلها أبشالوم ليستميل الناس إليه، ويقوم بثورة ضد أبيه. ويتحدث المزمور عن أخيتوفل الخائن لداود.
- يدعو هذا المزمور إلى الاهتمام بالمساكين.
- هذا المزمور من المزامير المسيانية؛ لأنه يتكلم عن مقاومة الأشرار للمسيح، وآلام المسيح، وخيانة يهوذا، وقيامة المسيح. وقد استشهد المسيح بهذا المزمور عند كلامه عن خيانة يهوذا (يو13: 18)، وكذلك أيضاً بطرس الرسول استشهد به
(أع1: 16). - يوجد تشابه بين هذا المزمور والمزمور الأول، إذ يتحدث الإثنان عن مقاومة الأشرار للمسيح، أو مقاومتهم للأبرار، ونصرة الأبرار فى النهاية.
- يعتبر المزمور مرثاة شخصية داود.
- كان يردد هذا المزمور فى الهيكل، لهذا فهو من المزامير الليتورجية.
- هذا المزمور هو آخر مزمور فى القسم الأول من المزامير (مز1-41)، بحسب تقسيم اليهود، الذين قسموا المزامير إلى خمسة أقسام. وينتهى هذا المزمور مثل نهاية الأربعة أقسام بكلمة آمين فى آخر آية منه.
- يوجد هذا المزمور بالأجبية فى صلاة الساعة الثالثة.
(1) بركات الله للرحوم (ع1-3):
ع1: 1- طوبى للذي ينظر إلى المسكين في يوم الشر ينجيه الرب.
- المسكين هو المحتاج والفقير مادياً، أوالمريض. وهو أيضاً المتضع المحتمل آلام، أو ضيق من أجل الله، وكذلك هو المحتاج روحياً، أى يحتاج لكلمة الله ومن يساعده للاقتراب إلى الله. بالإضافة إلى أنه يشير إلى داود نفسه، الذى اتضع أمام الله، وكان أيضاً مريضاً، وقام ابنه أبشالوم عليه بثورة. وأخيراً فإن هذا المسكين هو المسيح نفسه، الذى اتضع بتجسده ليخلصنا من خطايانا.
- من ينظر، أو يتعطف، أو يشفق على المسكين يكافئه الله، بأن ينجيه فى يوم الشر. ويقصد بيوم الشر يوم الضيقة، وأيضاً يوم الدينونة الأخير. فالله ينجيه من المتاعب والعقوبة ويسنده، ويباركه ببركات لا يعبر عنها.
ع2: 2- الرب يحفظه و يحييه يغتبط في الارض و لا يسلمه الى مرام اعدائه.
يغتبط : يفرح ويُسر.
مرام : مراد، أو غرض.
- يذكر فى هذه الآية بركات الله لمن يرحم المسكين، فيحفظه الله من كل شر، أى يبعد الشر عنه، وحتى لو أحاط الشر به لا يؤذيه، لأن الله يحميه، إذ عمل رحمة مع من فى ضيقة، فالله فى ضيقته ينقذه من كل شر. ويحفظه أيضاً فى يوم الدينونة، إذ يغفر خطاياه، ويمتعه بالملكوت. والله يهبه الحياة الروحية هنا على الأرض، فيتمتع بعشرة المسيح، بالإضافة إلى أنه ينال الحياة الأبدية المملوءة مجداً.
- بالإضافة لحفظ الله له، ونواله الحياة، يعطى الله الفرح أيضاً للمسكين على الأرض، رغم وجود أحزان كثيرة محيطة به، ولكن يحفظ الله له سلامه الداخلى، وفرح قلبه، وتمتعه بعشرة الله.
- أعداء الإنسان هم الشياطين، وكل الأشرار التابعين للشياطين، هؤلاء يريدون أن يسيئوا، بل ويهلكوا المسكين المتكل على الله، ولكنهم لا يقدرون، لأن الله يحميه، ولا يعطى لأعدائه فرصة أن يؤذونه.
ع3: 3- الرب يعضده و هو على فراش الضعف مهدت مضجعه كله في مرضه.
يعضده : يسانده.
مضجعه : سريره.
- من بركات العطف على الفقراء، أن الله يسند الرحيم إذا تعرض لأحد الأمراض فيشفيه، ويحول ضعفه الجسدى إلى قوة.
- أيضاً من بركات الله للرحيم أن يسنده فى ضعفاته الروحية، فيقويه. وينميه روحياً، وهذه التقوية تكون إما بشفاء الجسد وراحته الصحية، أو العكس، تعرض الرحيم لضيقات فلا ينغمس فى الراحة الجسدية، بل يرفع قلبه إلى الله، فيتقوى روحياً، بالإضافة إلى أن الله يهب هذا الرحيم مضجعاً ممهداً، ليس فقط فى الأرض، بل أيضاً فى السماء، أى يعطيه راحة أبدية.
اهتم أن تشعر بمن حولك، وتتعاطف مع احتايجاتهم وتشجعهم، وتخدمهم، واثقاً أن من يرحم غيره يرحمه الله. فعلى قدر ما تنشغل براحة الآخرين يريحك الله، فتتمتع بعشرته.
(2) خيانة المرائين (ع4-9):
ع4: 4- أنا قلت يا رب ارحمني اشف نفسي لأني قد اخطات اليك.
- يعلن داود حاجته لرحمة الله، وأنه مريض ويحتاج للشفاء الإلهى، بل يعلن أن سبب أمراضه هى خطيته، فيطلب غفران الله. كل هذا يبين توبة داود واتضاعه.
- إن داود يطلب الشفاء الروحى لنفسه، فهو الأهم من الشفاء الجسدى، فغفران الخطية، وتنقية قلبه هى الرحمة الإلهية التى يطلبها. وبهذا يستطيع أن يشعر بالله، ويحيا معه، بل ويصل إلى الأبدية. فمن يرحم غيره ينال مراحم الله، بشرط أن يكون تائباً، ومهتماً بخلاص نفسه، ولكن الشرير إذا قدم صدقة لا يكفى ذلك لخلاصه، مثل الهراطقة الذين إذا قدموا صدقات من أجل مجد الناس لا تفيدهم شيئاً، ويموتون بخطاياهم.
ع5: 5- اعدائي يتقاولون علي بشر متى يموت و يبيد اسمه.
- بدأ داود فى الآية السابقة بإعلان ضعفه وحاجته للغفران فى اتضاع واضح، ثم بعد هذا أعلن قسوة أعدائه، الذين يتكلمون عليه بكلام شرير، قاصدين منه إهلاكه، وإبادته، فهو يعانى من شر أعدائه، ولكنه ينسب سبب معاناته أولاً إلى خطاياه وضعفه، ثم يضيف فيشتكى من قسوة أعدائه، أى أنه يحاسب نفسه قبل أن يحاسب غيره، ويميل إلى التوبة وليس إدانة الآخرين.
- إن مشورة أخيتوفل ضد داود وكل كلام الأشرار لإهلاكه كان رمزاً لما حدث مع المسيح وخيانة يهوذا له، عندما اتفق مع كهنة اليهود، فقبضوا عليه وصلبوه، وحاولوا أن يبيدوا اسمه، ولكن المسيح قام، وبشر الرسل به فى المسكونة كلها
(أع4: 31).
ع6-8: 6- و إن دخل ليراني يتكلم بالكذب قلبه يجمع لنفسه إثما يخرج في الخارج يتكلم.
7- كل مبغضي يتناجون معا علي علي تفكروا بأذيتي. 8- يقولون أمر رديء قد انسكب عليه حيث اضطجع لا يعود يقوم.
- من أصعب الأمور أن يظهر الأعداء فى شكل أحباء، كما حدث مع أخيتوفل الذى كان مشيراً لداود، وبالطبع رآه فى مرضه وضعفه، ولكن الأحداث التالية أظهرت أن له علاقة قوية بأبشالوم، فكان يرى ضعف داود ويبلغ أبشالوم، وعندما ثار أبشالوم على أبيه انضم إليه أخيتوفل، وحاول إهلاك داود، ولكن الله أنقذه. وكذلك يهوذا التصق بالمسيح مثل باقى التلاميذ، وأكل معه، ولكنه خرج ليتمم مؤامرته، ويبلغ اليهود، ويقبض على المسيح. فكلا هذين الخائنين؛ أخيتوفل ويهوذا تكلما بالكذب، أى كلام ضد المحبة، وهو محاولة لإهلاك داود والمسيح، ودبرا المؤامرات ضدهما.
- كل أحباء داود الذين خدعوه وانضموا إلى أبشالوم، تشاوروا كيف يهلكون داود. وكذلك الكهنة والكتبة والفريسيين حاولوا اصطياد المسيح بكلمة ففشلوا، وكان غرضهم التخلص من المسيح، فصلبوه ومات ولكنه قام فى اليوم الثالث.
- تمم الذين خانوا داود مؤامراتهم، وهجم أبشالوم بجيش عظيم لإهلاك داود، وقالوا فى أنفسهم أن داود قد انسكب عليه أمر ردئ، وسيموت، ولن يقوم. ولكن الله بدد مشورتهم فمات أبشالوم ونجى داود. وهكذا أيضاً تمم كهنة اليهود مؤامراتهم، وصلبوا المسيح، وظنوا بهذا أنه قد انسكب على المسيح أمر ردئ، وأنهم قد تخلصوا منه ولن يقوم، ولكنهم فوجئوا بقيامته فى اليوم الثالث.
- استخدم داود كلمة اضطجع، أى نام؛ ليعلن إمكانية قيامته من الموت، وهذا ما تممه المسيح عندما أقام نفسه من الموت سريعاً، كالنائم الذى قام من نومه، وكما أعلن المسيح عندما أقام ابنة يايرس فقال أنها نائمة (مت9: 24)، وكذلك لعازر قبل أن يقيمه (يو11: 11). ونحن أيضاً سنقوم فى القيامة كمن هو نائم وقام من نومه.
ع9: 9- أيضا رجل سلامتي الذي وثقت به اكل خبزي رفع علي عقبه.
- يتكلم داود عمن خانوه، ويقصد أخيتوفل، أو أى عبد من مشيرى داود الذين عاشوا معه سنوات كثيرة، وأكرمهم، ثم انقلبوا عليه، وانضموا إلى أبشالوم، وطردوا داود من مملكته، وحاولوا قتله. وهو فى نفس الوقت يتكلم بروح النبوة عن يهوذا الإسخريوطى الذى كان من تلاميذ المسيح، وخانه، وسلمه لليهود، فيصف داود هذا الخائن بما يلى :
أ – إنسان سلامته : أى عاش فى سلام معه، وكان من المقربين إليه. حتى أن يهوذا عند تسليمه للمسيح قبله، أى كان بينه وبين المسيح علاقة ودية شديدة.
ب – وثقت به : كان أخيتوفل من كبار مشيرى داود، وكذلك سلم المسيح الصندوق ليهوذا، وهذا يبين ثقة المسيح فى يهوذا، أن يأتمنه على الأموال.
حـ- أكل خبزى : كان أخيتوفل مقرباً لداود جداً، وكذلك كان يهوذا من الإثنى عشر تلميذاً، وكلاهما كان يأكل على مائدة سيده. والمسيح غمس خبزاً فى الصحفة وأعطى يهوذا دوناً عن باقى التلاميذ، أى كان مميزاً.
هذه الصفات الثلاثة تؤكد محبة السيد لهذا الخائن، وبالتالى تزيد جرم وشناعة الخيانة.
- هذا الخائن قال عنه داود “رفع علىَّ عقبه” – أى قدمه – ليدوسنى، ويسحقنى، فمشورة أخيتوفل كانت تبغى قتل داود، وهو مطرود، ومجهد. أما يهوذا فخيانته أدت إلى صلب المسيح وموته، بل وباعه بمبلغ ضئيل. كل هذا يبين بشاعة الشر الذى فى قلب الخائن.
ليتك تقدر محبة الآخرين، وترد على محبتهم بمحبة أكبر، ولا تتصرف نتيجة ضغوط تمر بك، فتسئ إلى غيرك، خاصة من المقربين، لئلا تصير خائناً للحب مثل يهوذا.
(3) نصرة الله لأولاده (ع10-13):
ع10: 10- أما أنت يا رب فارحمني و اقمني فاجازيهم.
- يطلب داود من الله أن يرحمه، أى ينقذه من مؤامرة الأشرار، والخونة، ويشفيه من مرضه، وهذا إعلان لاتضاع داود، وحاجته لرحمة الله ومعونته. وهى نبوة عن المسيح، الذى باتضاع تجسد، وطلب من الآب أن يرحمه، أى يسند اللاهوت الناسوت فى إتمام الفداء.
- يطلب داود أن يقيمه الله، فيجازى الأشرار، ويعلى ويثبت العدل فى المملكة، فهو لا يبغى الانتقام من الأشرار، ولكن تثبيت العدل، إذ هو كملك مسئول عن ثبات العدل فى مملكته. وهى نبوة عن المسيح الذى يطلب من الآب أن يقيمه، أى يقيم اللاهوت الناسوت، ويجازى الشيطان الذى قيده بالصليب، ويلقيه فى العذاب الأبدى فى نهاية الأيام. وكل من يصر على الشر يلقى أيضاً فى الجحيم؛ لرفضه التوبة. كما جازى المسيح اليهود الذين رفضوا الإيمان به، فلم يعودوا شعبه، ودمر مدينتهم بيد الرومان عام 70م، وقتل منهم الكثيرين.
ع11: 11- بهذا علمت أنك سررت بي أنه لم يهتف علي عدوي.
- فرح داود أن الله سر به، فلم ينتصر ويهتف عليه شاول الملك، ولا أبشالوم، إذ مات الإثنان ونجى الله داود من أيديهما، بل من كل أعداء داود من البلاد المحيطة به، وانتصر داود، واستولى على بلادهم.
- أعلن الآب أن المسيح هو ابنه الحبيب، وسر به عندما تعمد فى نهر الأردن. ولم يستطع الشيطان أن يسقطه فى التجربة على الجبل، بل انتصر عليه المسيح. وكذلك على الصليب اشتم الآب ذبيحته رائحة ذكية، ولم يستطع الشيطان أن يقبض على روحه بعد موته، بل على العكس قبض المسيح على الشيطان، وقيده منتصراً عليه.
ع12: 12- أما أنا فبكمالي دعمتني و اقمتني قدامك الى الابد.
- ينسب داود الكمال الذى يحيا فيه إلى الله، فهو نعمة وهبت له أن يسير فى طريق الكمال، ويشكر الله على هذا، خاصة وأنه احتفظ بكماله وسط ظروف صعبة، مثل عداوة شاول وأبشالوم له. ويشكر الله أيضاً أنه أقامه من خطيته، وثبته فى طريق الكمال، والنقاوة، والمحبة التى سيحيا فيها إلى الأبد، أى ليس فى هذا العالم الحاضر فقط، بل يعلن رجاءه فى الأبدية، التى يظل قائماً فيها أمام الله فى هذا الكمال.
- تنطبق هذه الآية على المسيح الذى عاش كاملاً وهو فى الجسد، وقال “من منكم يبكتنى على خطية” (يو8: 46). ثم قام من الأموات وأقام البشرية فيه لتملك معه إلى الأبد فى الملكوت.
ع13: 13- مبارك الرب اله اسرائيل من الأزل و إلى الأبد امين فامين
- يختم داود المزمور بتمجيد الله إله إسرائيل، المستحق كل إكرام من الأزل وإلى الأبد، متناسياً كل آلامه، ثم يطلب منه أن يستجيب بكل طلباته فى هذا المزمور، وتأكيد ذلك بقوله آمين ثم آمين.
- هناك رأى أن هذه الآية أضافها أحد شيوخ اليهود فى نهاية المزمور الأخير من كل قسم من أقسام المزامير الأربع الأول، أما القسم الخامس والأخير من المزامير فلم تُزد هذه الآية؛ لأن المزامير الأخيرة كلها تمجيد لله (أنظر مقدمة سفر المزامير).
إن الله مساند لك، فتقدم فى حياتك الروحية وخدمتك، ولا تنزعج من حروب الشيطان؛ لأن الله قادر أن ينصرك عليها. وهو قادر أيضاً أن يجملك بفضائل كثيرة، ثم يهبك سعادة الأبدية.