الله مخلصى من أعدائى
لداود
“خاصم يا رب مخاصمى..” (ع1)
مقدمة :
- كاتبه داود النبى.
- متى كتبه ؟ عندما كان يعانى من مطاردة شاول له.
- هذا المزمور له علاقة بالمزمور السابق، وكتب بعده لأنه :
أ – يتحدث المزموران عن ملاك الله وعمله (مز34: 7؛ 35: 5-6). وهذان المزموران هما وحدهما بين المزامير اللذان يتكلمان عن ملاك الله.
ب – يتحدث المزمور السابق عن بلايا الصديق (ص34: 19)، وفى هذا المزمور يشرحها بالتفصيل.
- تنتهى كل فقرة من هذا المزمور بالرجاء، فهو مزمور مشجع أمام قسوة الأعداء.
- هذا المزمور تعضيد ومساندة لأولاد الله فى ضيقاتهم، يصلح أن يردده الإنسان عندما تقابله ضيقة.
- هذا المزمور يطلب فيه داود من الله العادل الدفاع عنه، ولكن فى نفس الوقت لا يحمل كراهية لأعدائه.
- هذا المزمور من المزامير المسيانية التى تتحدث عن الآلام التى قابلها المسيح.
- لعل داود بروح النبوة شعر بما سيقاسيه إرميا من آلام بسبب أعدائه، وعبر عن ذلك فى هذا المزمور (أر18: 20، 22؛ 23: 12).
- هذا المزمور لا يوجد فى الأجبية.
(1) الالتجاء إلى الله المدافع الجبار (ع1-10):
ع1: 1- خاصم يا رب مخاصمي قاتل مقاتلي.
- يطلب داود من الله أن يقف خصماً أمام أعدائه. فداود يشعر بقوة الأعداء وضعفه الشخصى، ولكنه يثق فى قوة الله كمقاتل وخصم، فيخيف الأعداء ويبعدهم عن داود.
- كان عدو داود هو شاول الملك بكل قوته وسلطانه، فلم يكن أمام داود إلا أن يلتجئ لمن هو أقوى من الملك، فالتجأ إلى الله ملك الملوك. ونحن عدونا هو الشيطان، وحربنا مع أجناد الشر الروحية؛ لذا نلتجئ إلى الله، الذى هو أقوى من الكل.
- لم يطلب داود انتقاماً من أعدائه، ولكن طلب فقط – فى التجائه إلى الله – أن يقف الله أمامه، ويحميه من الأعداء. فهو لا يريد موت الأعداء، بل أن يدافع عنه الله.
ع2: 2- امسك مجنا و ترسا و انهض إلى معونتي.
مجناً : ترساً كبيراً.
ترساً : آلة دفاعية يمسك بها الجندى قديماً للدفاع عن نفسه، وهى قطعة خشبية مستطيلة لها عروة من الخلف يضع فيها الجندى يده، ويحركها أمام رأسه وجسده؛ ليصد بها سهام العدو.
- يطلب داود من الله أن يخرج للحرب أمامه، وهو ممسك بمجن وترس؛ ليحميه من السهام، فهو يريد أن يختفى وراء الله، وهو مؤمن أن قوة الله قادرة أن تصد عنه كل شئ.
- يطلب من الله أن ينهض، والله بالطبع ليس إنساناً يحمل شيئاً، أو يقوم من مكان إلى مكان، ولكن يقصد أن يظهر الله قوته، فيخاف الأعداء. وذلك بأن يخيف الأعداء بأية طريقة، سواء من داود، أو أى إنسان آخر، ويحول الأعداء عنه، فلا يصيب داود أى اذى.
- المقصود بالترس هو ترس الإيمان، أى إيمان داود بالله، فلا ينزعج من قوة الأعداء، وحينئذ سيصدهم الله عنه. فالأسلحة روحية وليست مادية، والترس هو الله نفسه، وليس آلة مادية.
ع3: 3- و اشرع رمحا و صد تلقاء مطاردي قل لنفسي خلاصك أنا.
اشرع : اظهر وصوب الرمح.
- يطلب داود من الله أن يجهز رمحه ليخيف أعداءه، والله لا يستخدم الرماح المعروفة عند البشر، ولكنه يقصد كلمة الله التى تفضح الشياطين، وتقهرهم، وتخيفهم.
- داود طلب أيضاً من الله أن يصد مطارديه، ولم يطلب الانتقام منهم، فهو محتاج لحماية الله، ويحب أعداءه، فقد وقع شاول مرتين فى يد داود، وأطلقه، ولم يؤذه فداود مثال لمحبة الأعداء.
- طلب أيضاً داود من الله أن يقول له أنه مخلصه، فلم يطلب أن ينال الخلاص، ولكن أن يسمع من الله كلمة؛ لأنه يؤمن أن كلمة الله نافذة وفعالة، ولابد أن تتم فى الوقت المناسب. فهذا دليل على إيمان واتكال داود على الله.
- تعرض داود لمطاردين كثيرين أولهم شاول الذى طارده سنوات طويلة، وظل يطارده حتى مات شاول فى الحرب. وكذلك الأدوميين، نسل عيسو، كانوا يغيرون عليه ويحاربونه، إذ يسكنون جنوب بلاده، ويطاردونه، ولكن الله كان يقويه ويحميه منهم، بل ويهزمهم أمامه. وكذلك أبشالوم ابنه طرده من عرشه وحاول قتله. بالإضافة لكل الشعوب الذين حاولوا مقاومته ومطاردته، وأيضاً أبنير رئيس جيش شاول، الذى حاربه لمدة سبع سنوات، وبعد ذلك تصالح معه. لقد تعرض داود لمطاردين كثيرين.
- متى احتاج الله لرمح ليحارب به ؟ إلا عندما احتاج لجسد ليفدينا، فهذا رمز لتجسد الله فى ملئ الزمان؛ ليخلصنا ويموت عنا على الصليب، ويصد عنا حروب إبليس الذى يطاردنا؛ ليسقطنا فى شباكه.
ع4: 4- ليخز و ليخجل الذين يطلبون نفسي ليرتد الى الوراء و يخجل المتفكرون باساءتي.
- من أجل ثبات داود فى الإيمان معتمداً على الله يخاف منه أعداؤه، ويشعرون بالخزى؛ لضعفهم وعجزهم عن مقاومته، وهذا الكلام ينطبق على من كانوا يعادوا داود على الأرض، أو الشياطين التى كانت تحاربه.
- يطلب أيضاً داود أن يتراجع أعداؤه إلى الوراء لشعورهم بالضعف أمامه. هذا كله مبنى على ظهور قوة الله فيه لدرجة تخيف الأعداء. وداود لا يريد أن يشمت بأعدائه، ولكن أن تظهر قوة الله وتتمجد.
- هذه الآية تنطبق على المسيح وهو على الصليب، وفى ساعة القبض عليه، فهو يطلب خزى من يقاومه من الأشرار. وقد خجل الشيطان عندما قيده المسيح بموته على الصليب، وكذلك عندما حاول اليهود القبض عليه فى بستان جثيمانى، وقال لهم أنا يسوع فخافوا، ورجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض (يو18: 6).
ع5: 5- ليكونوا مثل العصافة قدام الريح و ملاك الرب داحرهم.
العصافة : ورقة نبات جافة يمكن أن تحملها الرياح لخفتها.
داحرهم : طاردهم وهزمهم مطاردوه.
- يطلب داود أن يكون مطاردوه مثل العصافة أمام الريح، أى يظهر ضعفهم الشديد أمام قوة الله. والريح يرمز للروح القدس، والعصافة ترمز للضعف الشديد، أى يصيروا كلا شئ، وفى الأصل العبرى “هباء”.
- ملاك الله يبين قوة الله القادر أن يهزم كل قوة البشر، كما ظهرت قوة الله فى الملاك الذى قتل 185.000 من جيش سنحاريب (2أى32: 21) وكما أحاطت الملائكة بيهوذا المكابى؛ لتحميه من سهام الأعداء، فهزمهم (2مك11: 6-8).
- الملاك الذى يهزم أعداء أولاد الله هو المسيح، كما قيل عنه ملاك العهد (ملا3: 1)، فهو الذى هزم إبليس وقيده بالصليب.
ع6: 6- ليكن طريقهم ظلاما و زلقا و ملاك الرب طاردهم.
زلقا : طريقاً ينزلق عليه بسهولة السائر فيه.
- ليظهر داود خطورة الشر، يطلب أن يكون طريق مطارديه مظلماً، وزلقاً فلا يستطيعون أن يروا الطريق، ويسقطون فيه فلا يصلون إلى هدفهم وهو الإساءة إلى أولاد الله. فهو هنا أيضاً لا يريد الانتقام منهم، بل تعطيلهم عن عمل الشر. وقد حدث هذا فى ضربة الظلام للمصريين أيام موسى (خر10: 22)، وفى ملاك الرب الظاهر بشكل عمود نار الذى أزعج جيش فرعون فى البحر الأحمر، ولكن فرعون أصر على متابعة بنى إسرائيل، فغرق هو وكل جيشه (خر14: 19، 24).
- إن ملاك الله عندما يطرد مطاردى داود يمنعهم عن إتمام شرورهم، ويبين لهم قوة الله؛ لعلهم يتوبون، فداود يطلب خلاص نفوسهم وفى نفس الوقت حمايته من شرورهم.
ع7، 8: 7- لأنهم بلا سبب اخفوا لي هوة شبكتهم بلا سبب حفروا لنفسي.
8- لتأته التهلكة و هو لا يعلم و لتنشب به الشبكة التي اخفاها و في التهلكة نفسها ليقع.
هوة : حفرة عميقة.
تنشب : تشتبك.
- الأشرار يفعلون الشر، ويسيئون إلى الأبرار بلا أى سبب، أى أن الأبرار لم يفعلوا شيئاً يسئ إليهم، ولكن لأن طبيعة الأشرار شريرة، فيميلون إلى الشر فى كل تصرفاتهم، ويسيئون إلى غيرهم بلا سبب، ولذا فعقوبتهم كبيرة من الله.
- الأشرار منافقون، يظهرون الود للأبرار، ثم يخفون لهم المكائد والمصائب؛ ليسقطوهم فيها. فهذا يؤكد خبثهم وشرهم.
- يتدخل الله، فيحول الشر؛ ليأتى على رأس الشرير، الذى يعد المصائد، بحفر حفر وتغطيتها بالشباك ليسقط فيها الأبرار، ولكن الأشرار ينسون أماكن هذه الحفر، فيسقطون هم فيها. والله يحول الشر، فلا يصيب البار، بل يأتى على الشرير، كما حاول أخيتوفل بمشورته قتل داود، مع أنه كان قبلاً مشيراً لداود، ولكن عندما رفض أبشالوم مشورة أخيتوفل تضايق جداً، وشنق نفسه، فمات (2صم17: 23)، أما داود فحفظه الله، ولم يؤذه أبشالوم ولا أخيتوفل. وكذلك أبشالوم حاول قتل أبيه، فقتل هو ونجا داود (2صم18: 15) ويهوذا الأسخريوطى سلم المسيح ليموت ثم شنق نفسه (مت27: 5) وهلك، أما المسيح فبعدما أتم الفداء على الصليب قام من الأموات. والشيطان أراد قتل المسيح وتقييده على الصليب، ففوجئ بأن المسيح يقيده بموته على الصليب، وأبطل سلطانه على أولاد الله.
- كما يعد الشرير مكيدة خفية لإهلاك البار، هكذا أيضاً يهلك هو دون أن يعلم، أما البار فينجيه الرب.
- طبيعة الشرير فعل الشر، والبار طبيعته فعل الخير؛ لذا يأتى الشر على رأس الشرير، ويأتى الخير على رأس البار، أى أن عمل كل إنسان يرتد عليه، لعل هذا يكون إنذاراً لكل البشر؛ حتى يتوبوا عن خطاياهم ويفعلوا الخير.
ع9، 10: 9- أما نفسي فتفرح بالرب و تبتهج بخلاصه.
10- جميع عظامي تقول يا رب من مثلك المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه و الفقير و البائس من سالبه.
- إن فرح أولاد الله هو بالله نفسه، وليس لأنه نجاهم من مكائد العدو، أو هو فرح وانشغال بالله الذى نجاهم، أى انشغال بشخصه، أكثر من أى شئ آخر.
- العظام تمثل الداخل، أى أن قلب الإنسان يشكر الله، وليس فقط لسانه، فكل أعضاء الإنسان، ومشاعره، وكل نبضة فى داخله تشكر الله.
- أولاد الله يرون أعمال الله العجيبة التى تفوق العقل، فيقولون له من مثلك، أى أنه لا يمكن أن نجد من يحبنا مثلك، ويعتنى بكل تفاصيل حياتنا. وقد كملت محبة الله فى موته على الصليب لأجلنا، هذا هو أعظم حب ليس مثله فى الأرض كلها، ولعل داود بروح النبوة قد رأى فداء المسيح وقال لله من مثلك.
- عندما يتدخل الله لينقذ المسكين، وهو الفقير والضعيف ممن يتسلط عليه، ويسرقه، ويستغله، يشعر المسكين أنه أقوى من كل أقوياء العالم بمساندة الله له، فيشكره، ويقول له من مثلك. ولعل هذا الفقير والبائس هو داود الذى عانى كثيراً من مطاردة شاول له، حيث استخدم شاول سلطانه كملك فى مطاردة داود، ولكن الله نجاه.
اطمئن ما دام الله معك، مهما أحاط بك الأشرار، وهددوك وإن استطاعوا أن يسيئوا إليك، فالله سيعوضك، ويرفعك، أما هم فسيهلكون.
(2) مجازاة الخير بالشر (ع11-16):
ع11، 12: 11- شهود زور يقومون و عما لم اعلم يسألونني.
12- يجازونني عن الخير شرا ثكلا لنفسي.
ثكلاً : فقداناً، أو حرماناً من الأبناء، وتعنى هنا إذلالاً.
- قام عبيد شاول ووشوا بداود عند الملك شاول، وسألوه، وحققوا معه فيما اتهموه به، مع أنها كلها اتهامات باطلة، وحاول داود اقناع شاول ببراءته، وعدم الاستماع لهؤلاء الشهود الزور، ولكن شاول بشره استمر يطارد داود.
- قام شهود زور على المسيح وحقق رئيس الكهنة معه، ولم يستطع أن يجد فيه علة.
- جازى شاول داود بدلاً من خيره شراً؛ فقد كان داود يعزف لشاول الموسيقى؛ ليهدأ عندما تحل عليه الروح الشريرة، ولكن بدلاً من أن يشكره شاول، قام يطارده ويحاول قتله. وسقط شاول فى يد داود مرتين، ولم يؤذه، واعترف شاول لداود أنه أبر منه، وقال لداود “أنت أبر منى لأنك جازيتنى خيراً وأنا أجازيك شراً”
(1صم24: 17). - حاول أعداء داود أن يجعلوا نفسه ثكلى، أى بلا أبناء، والمقصود إذلاله وقتله ومحو اسمه وأى نسل له، ولكن الله نجا داود، وعاش، وملك على بنى إسرائيل، بل صار مثلاً فى التقوى والبر، ومن نسله جاء المسيح.
- حاول اليهود قتل المسيح ومحو اسمه، ولكنه قام من الأموات، وبشر الرسل به فى المسكونة كلها.
- لعل داود رأى بروح النبوة المسيح، الذى جال فى كل مكان يصنع خيراً، فقام عليه اليهود، وطالبوا بصلبه، بل صلبوه وجازوه عن الخير شراً.
ع13: 13- أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحا اذللت بالصوم نفسي و صلاتي الى حضني ترجع.
- رغم أن أعداء داود حاولوا قتله، لكنه كان قد قدم لهم خيراً كثيراً. فعندما كانوا فى مرض، أو ضيقة صلى وتذلل من أجلهم، بل لبس المسوح أيضاً، وهى الملابس الخشنة للتذلل أمام الله، وصام ليتدخل الله ويرحمهم، ولعل هذا حدث عندما كان شاول مصاباً بروح شريرة تأتى عليه، وكان داود يخدمه ليريحه.
- صلى داود من أجل أعدائه، ولكن صلاته عادت إلى حضنه، أى أن الله فرح بصلاة داود وباركه بالخير، ولكن لم يستجب لصلاته؛ لأجل شر أعدائه.
- إن عودة الصلاة إلى حضن داود حركت قلبه للصلاة مرة أخرى، وهكذا عاش فيما يسمى بالصلاة الدائمة، حتى قال عن نفسه أما أنا فصلاة (مز109: 4).
- صلى المسيح من أجل صالبيه وهو على الصليب ليغفر لهم الله، ولكنهم لم يستفيدوا؛ لإصرارهم على الشر وعدم الإيمان.
ع14: 14- كأنه قريب كأنه اخي كنت اتمشى كمن ينوح على امه انحنيت حزينا.
- يستكمل داود شرح مشاعره نحو أعدائه الذين أحبهم، وتعاطف معهم فى ضيقاتهم وأمراضهم، فيقول أنه حسب عدوه كأنه قريبه، أو أخوه، فشعر بآلامه، وتأثر بأوجاعه، وصلى لأجله من كل قلبه.
- تزايدت مشاعر داود نحو عدوه فحسبه كأنه أمه؛ لأن علاقة الإبن بالأم من أقوى العلاقات. فكان يبكى من أجل عدوه فى صلوات كثيرة ومتأثراً بحالته، كمثل إنسان يبكى على فقد أمه.
- يعبر أيضاً داود عن أحزانه على عدوه، فيقول أنه انحنى من الحزن، أى لم يعد ينظر إلى الطعام والشراب والملابس وكل زينة العالم. بل وتزايدت أحزانه، فبكى وانحنى نحو الأرض؛ لتأثره بتعب عدوه. وهذه المشاعر تظهر مدى حبه لكل إنسان؛ حتى من يعاديه.
- لقد بكى المسيح على أورشليم التى يعلم أنها ستقوم عليه وتصلبه، فرغم عداوة اليهود له أحبهم، وبكى عليهم وحسبهم أخوته (مر3: 35). فداود فى حزنه من أجل عدوه يرمز لحزن المسيح على أورشليم (مت23: 37).
ع15: 15- و لكنهم في ظلعي فرحوا و اجتمعوا اجتمعوا علي شاتمين و لم اعلم مزقوا و لم يكفوا.
ظلعى : الظلع هو العرج.
- محبة داود تتعاظم نحو أعدائه؛ لأنهم أساءوا إليه جداً، فعندما كان يعانى داود من آلامه الثقيلة كان يئن وكأنه يعرج من ثقلها؛ للأسف شمتوا به، وفرحوا لتعبه، فهذا يبين أن قلوبهم امتلأت شراً.
- لقد اجتمع أعداء داود ضده وتآمروا ليسيئوا إليه، فهذا إصرار منهم على الشر، وتعاون للإساءة إليه.
- لم يكتف أعداء داود بالإساءة القلبية إليه أنهم فرحوا بمتاعبه، ولكنهم تمادوا فى شرهم، فشتموه عند اجتماعهم فى غيبته، ولم يعلم داود وقتذاك ولكنه علم فيما بعد.
- ازداد تمادى أعداء داود فى شرهم، فعملوا إساءات أكبر، “مزقوا” أى أساءوا إليه وآذوه واستمروا فى إيذائه، وهذا معناه عدم وجود أى شفقة على داود.
- كل ما حدث مع داود كان رمزاً لما حدث مع المسيح عندما شمت به اليهود أثناء عذاباته، فجلدوه، وقسموا ثيابه، وصلبوه عرياناً، وفرحوا بمصيبته، أما المسيح فأحبهم ومات لأجل خلاصهم.
ع16: 16- بين الفجار المجان لأجل كعكة حرقوا علي اسنانهم.
المجان : جمع ماجن وهو المازح والمستهزئ مع قلة حياء.
حرقوا علىَّ أسنانهم : أصروا على أسنانهم (جزوا عليها) من الغيظ.
- يظهر داود أن أعداءه أشرار، متمادون فى شرورهم، لأنهم أساءوا إليه بدون حدود؛ واحتمل من أجل الله؛ لأنه برئ، أى أنه كان مظلوماً واحتمل.
- هؤلاء الأعداء كانوا أيضاً يستهزئون به بدون أدب، فوجهوا إليه كلمات صعبة زادت من أوجاعه، واحتمل وظل متمسكاً بإيمانه.
- هؤلاء الأشرار أيضاً أصروا على شرورهم، وأضمروا له الشر، وعندما لم تواتيهم الفرصة لإتمام إساءاتهم كانوا يغتاظون ويصرون على أسنانهم، ولم يخف منهم داود وثبت فى إيمانه.
- عندما أحسن الله إلى داود، فوفر له مثلاً احتياجاته من الطعام والشراب، حتى لو كان ذلك قليلاً، والذى يرمز إليه بكعكة، كان هذا يغيظ أعداءه، فيحرقوا عليه أسنانهم، إذ أنهم كانوا يريدون أن يموت داود من الجوع والعوز.
- ما فعله أعداء داود فيه كان رمزاً لما حدث مع المسيح، إذ قام عليه اليهود والأمم وأساءوا إليه، وارادوا قتله، وفى النهاية صلبوه.
عندما تقابل ظلماً، أو إساءات من الآخرين، فاعلم أن مسيحك احتمل أكثر من هذا من أجلك، وهو يشعر بك، وقادر أن ينجيك، فاطمئن، واطلب معونته، فيسندك ويعزيك.
(3) الخلاص من عند الرب (ع17-28):
ع17: 17- يا رب إلى متى تنظر استرد نفسي من تهلكاتهم وحيدتي من الأشبال.
- يعاتب داود الله ويقول له لماذا تنظر، أى تراقب وترى ابنك داود يتألم ويحاربه الأعداء وأنت ساكت رغم كثرة ظلم الأشرار. فهو يناديه لكيما يتدخل وينقذه من بين أيدى الأشرار. فهذا يبين إيمان داود بالله، ودالته عنده.
- يطالب داود الله أن يسترد نفسه من تهلكات الأشرار؛ لأن داود يعاين كل يوم الموت والهلاك بيد الأشرار، فهو فى حكم الميت؛ لذا يطالب الله أن يسترد نفسه؛ أى يحييه ويخرجه من بين أيديهم، ويبعدهم عنه؛ ليحيا ويمجد الله.
- يشعر داود أن له نفساً واحدة يريد أن تحيا لله، ويخشى عليها من قسوة الأعداء الذين يشبههم بالحيوانات المتوحشة وهى الأشبال، والتى ترمز أيضاً للشياطين، فيطلب من الله أن ينقذ نفسه من كل شر؛ حتى يثبت فى إيمانه وحياته مع الله.
- هذه الآية نبوة عن المسيح الذى قام عليه اليهود، وحاولوا قتله مرات كثيرة، فيطلب من الآب أن ينقذ وحيدته، أى نفسه المختلفة عن باقى النفوس؛ لأنه بعد أن مات على الصليب، حاول الشيطان أن يقبض على نفسه، ففوجئ أن المسيح قد قبض عليه، وقيده حتى لا يؤذى أولاده الذين مات لأجلهم. ونزل المسيح إلى الجحيم وأصعد آدم وبنيه إلى الفردوس. فالمسيح هو القادر وحده أن يتغلب على الشيطان وينجى أولاده منه، والآب حفظ نفسه لأن اللاهوت متحد بالروح الإنسانية، فنزل إلى الجحيم، وصعد بأولاده المؤمنين به.
ع18: 18- احمدك في الجماعة الكثيرة في شعب عظيم اسبحك.
- يشعر داود بوحدانيته مع باقى المؤمنين من شعب الله، فيسبح الله، ويشكره مع باقى شعبه، وهذا يثبت إيمانه وينميه؛ لأن التسبيح الجماعى يقوى النفس.
- إن أية بركة ينالها واحد من شعب الله تفرح باقى الشعب؛ لأنهم كلهم أعضاء فى جسد واحد الذى هو الكنيسة، وعندما يسبح واحد تفرح الجماعة كلها، فالشكر من واحد يؤثر فى الباقين ويفرحهم ويشجعهم، حتى يقوموا هم أيضاً ويسبحوا الله.
- إن تسبيح داود ليس فقط يشعره بباقى شعبه، ويشعر شعبه به، ولكنه بالتسبيح يشترك أيضاً مع شعب عظيم، ليس فقط فى الأرض، بل فى السماء كذلك، وهم الملائكة المسبحون الله كل حين.
- تسبيح الله من داود وسط الجماعة يبين إيمان داود وافتخاره بتمجيد اسم الله، فهذا ليس فقط يشجع غيره على التسبيح، ولكن يكون سبباً لنوال بركات كثيرة من الله لأجل إيمانه.
- الجماعة الكثيرة والشعب العظيم رمز لدخول الأمم الإيمان، وهذا ما حدث فى كنيسة العهد الجديد، فسبح الكل الله.
ع19-21: 19- لا يشمت بي الذين هم اعدائي باطلا و لا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب. 20- لأنهم لا يتكلمون بالسلام و على الهادئين في الأرض يتفكرون بكلام مكر.
21- فغروا علي افواههم قالوا هه هه قد رأت اعيننا.
فغروا : فتحوا أفواههم احتقاراً واستهزاء.
هه : تعبير يدل على السخرية.
- يطلب داود من الله أن ينقذه من أعدائه؛ حتى لا يشمتوا به بتحقيق أغراضهم وظلمهم له. والمقصود ليس فقط الأعداء الأرضيين، بل بالأكثر الشياطين.
- كلمات الآية (ع19) قالها المسيح بنفسه عندما قال “لكى تتم الكلمة المكتوبة فى ناموسهم أنهم أبغضونى بلا سبب” (يو15: 25) فهذه الآية نبوة واضحة عما حدث فى المسيح.
- طلب أيضاً داود من الله أن يوقف رياء وخداع الأعداء، الذين كانوا يعاملونه بمحبة ظاهرة، ولكنهم يضمرون له شراً. فبعد تمثيل المحبة الخادعة يغمزون بأعينهم بعضهم البعض، تأكيداً لشرهم وحقدهم على داود.
- إن أعداء داود يريدون الشر، وخلق الاضطرابات والقلق، ويستخدمون كل خداع، أو مكر لتحقيق أهدافهم، ويفرحون بإيذاء الهادئين المسالمين، مثل داود.
- يعبر أعداء داود عن كراهيتهم له بالاستهزاء والسخرية والتحقير، خاصة عندما ينجحون بالإساءة بأى شكل إليه. كل هذا الظلم يضعه داود أمام الله ليستعطفه حتى ينجيه من أيدى أعدائه.
- استخدم الأشرار كل إمكانياتهم للشر، فاستخدموا ألسنتهم، وأفكارهم، وأفواههم، وعيونهم، وقلوبهم، فهذا معناه امتلاؤهم بالشر، وخضوعهم بالكامل للشيطان.
- هذه الآيات الثلاثة تنطبق على المسيح، الذى استهزأوا به وأهانوه أثناء عذاباته وصلبه، واحتمل كل هذا حباً فينا.
ع22-25: 22- قد رأيت يا رب لا تسكت يا سيد لا تبتعد عني. 23- استيقظ و انتبه إلى حكمي يا إلهي و سيدي إلى دعواي. 24- اقض لي حسب عدلك يا رب الهي فلا يشمتوا بي.
25- لا يقولوا في قلوبهم هه شهوتنا لا يقولوا قد ابتلعناه.
- إذ أشهد داود الله على كل الظلم الذى حل به، يترجاه ألا يسكت، ولا يطيل أناته أكثر من هذا؛ لأن داود قد تعب ومحتاج لتدخل الله سريعاً؛ لينقذه. وهذا يظهر مدى معاناة داود، وكذلك مدى ثقته بالله، واتكاله عليه.
- استطاع داود الجبار أن يحول إساءات الآخرين نحوه إلى صلوات وتوسلات لله، فلم يغضب منهم أو يدينهم، بل التجأ لله، فزادت محبته له.
- إن داود يثق فى قوة الله، ولكنه يرى الله صامت كأنه نائم، أو متغافل وغير منتبه لما يحدث مع داود، فيلح عليه؛ ليتدخل. وهنا تظهر أهمية اللجاجة فى الصلاة – التى يحبها الله – لأنها دليل تشبث داود بالله وحده؛ لينقذه.
- إن داود يسلك بالاستقامة، وأعداؤه يظلمونه؛ لذا يطلب عدل الله، فيقضى ويحكم الله فى طلباته حتى يرفع عنه الظلم. وكل من يسلك بالاستقامة هو إنسان يخاف الله، ويطلب تدخل الله، فينقذه ويمجده.
- يطلب أيضاً داود من الله أن يوقف استهزاء (هه) وشماتة الأعداء فيه؛ لأنهم ظنوا أنهم قد أفقدوه كل قدرة، وتمموا شهوتهم بالانتقام منه، فصار كالميت فى نظرهم، وكأنهم ابتلعوه، ولكن رغم ضعف داود الظاهر أمام الناس مازال قلبه قوياً، ثابتاً فى الإيمان بأن الله سيتدخل وينقذه.
- ظن اليهود أنهم قد تخلصوا من المسيح بصلبه وموته، ولكن ينادى داود – بروح النبوة- المسيح ليستيقظ ويقوم من الأموات، فيرى الشياطين أنه لم تبتلع حياته بالموت، بل بالعكس داس الموت، وقام ليعطى حياة جديدة لكل المؤمنين به.
ع26: 26- ليخز و ليخجل معا الفرحون بمصيبتي ليلبس الخزي و الخجل المتعظمون علي.
- يتدخل الله عندما يصلى داود، فيتحول أعداؤه الشامتون به إلى الخزى، لأنهم يرون إنقاذ الله له وإكرامه. والله يسمح لهم بهذا الخزى لتأديبهم حتى يتوبوا، ويعرفوا أن الله يساند الأبرار، ويخزى الأشرار.
- إن الخزى والخجل يغطى أيضاً المتكبرين، فالكبرياء من أهم صفات الأشرار، أما المتضعين، فيهبهم الله سلامه وفرحه.
ع27: 27- ليهتف و يفرح المبتغون حقي و ليقولوا دائما ليتعظم الرب المسرور بسلامة عبده.
- يترجى داود من الله أن يفرح قلوب الأبرار، الذين يتمنون نجاة داود من أعدائه، وحينئذ يمجدون الله، ويسبحونه.
- هذه الآية تنطبق على المسيح، الذى كان فى صورة الخزى عندما أهانوه، وصلبوه، ولأنه أخلى ذاته، فصار كعبد، ولكن بقيامته أعلن لاهوته وسلطانه، وفرح به كل من آمن وتمتع ببركات الخلاص.
ع28: 28- و لساني يلهج بعدلك اليوم كله بحمدك
- فى النهاية، أمام أعمال الله العظيمة التى آمن داود بأن الله يصنعها معه، شكر الله وسبحه، بل ظل يسبحه طوال اليوم، أى طوال عمره.
- إن التسبيح الدائم الذى يمتد طوال اليوم يعنى به داود الإستمرار فى التسبيح إلى الأبد، حيث لا ينتهى اليوم فى الأبدية، فيعيش الإنسان فى فرح أبدى.
- إن الكواكب تسبح الله فى كل حين دون أن تتكلم وذلك بعملها، وهكذا أيضاً الإنسان يستطيع أن يسبح طوال عمره على الأرض، ليس فقط بكلمات التسبيح، بل بأمانته فى أعماله التى يعملها من أجل الله.
- ما دام الإنسان قد أصبحت حياته هى التسبيح، فالله بأبوته يحتضنه، ويدافع عنه، ويقف أمام خصومه، أى الشياطين وكل ما يسلك فى الشر، تابعاً للشياطين.
من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص، لذلك استمر فى صلواتك بلجاجة، واثقاً من قوة الله، فيعلن لك نفسه وينجيك من كل شر، فتسبحه على الدوام.