اللبنة المرسومة ونوم حزقيال
(1) اللبنة المرسومة (ع1-3):
1- «وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ لِبْنَةً وَضَعْهَا أَمَامَكَ، وَارْسُمْ عَلَيْهَا مَدِينَةَ أُورُشَلِيمَ.
2- وَاجْعَلْ عَلَيْهَا حِصَارًا، وَابْنِ عَلَيْهَا بُرْجًا، وَأَقِمْ عَلَيْهَا مِتْرَسَةً، وَاجْعَلْ عَلَيْهَا جُيُوشًا، وَأَقِمْ عَلَيْهَا مَجَانِقَ حَوْلَهَا. 4- وَخُذْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ صَاجًا مِنْ حَدِيدٍ وَانْصِبْهُ سُورًا مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وَثَبِّتْ وَجْهَكَ عَلَيْهَا، فَتَكُونَ فِي حِصَارٍ وَتُحَاصِرَهَا. تِلْكَ آيَةٌ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ.
ع1: لبنة : قالب من الطوب اللبن، أى النيئ وهو المصنوع من الطين، والذى إذا أحرق يصير الطوب الأحمر.
يستخدم الله هنا أمثلة عملية، كوسائل إيضاح لشعبه المسبى، فأمر حزقيال أن يأتى باللبنة وهى طرية، قبل أن تجف ويرسم عليها مدينة أورشليم. ويناديه هنا بإبن آدم؛ لأنه يمثل البشرية المطيعة لله لإعلان كلامه، لعل الشعب يقتدى به فيخلص.
ع2: برجاً : بناء مرتفع يقف فيه المراقبون الأعداء؛ لكشف أورشليم وما فيها.
مترسة : حوائط من الطوب تبنى حول المدينة يقف وراءها الأعداء؛ لمنع سكان أورشليم من الهرب، فيحاصرونهم ويقتلونهم إذا حاولوا الهرب.
مجانق : أنابيب طويلة يلقى من خلالها الأحجار والكرات النارية على المدينة؛ لتدميرها وحرقها وهى من الأسلحة الحربية المعروفة قديماً.
طلب الله من حزقيال أن يعمل حصاراً حول هذه اللبنة، المرسوم عليها مدينة أورشليم، رمزاً للحصار البابلى، الذى سيتم حول أورشليم. وبنى أيضاً برجاً، كما سيبنى البابليون لمراقبة المدينة وتسهيل اقتحامها، وعمل أيضاً ما يشبه المتاريس حول اللبنة، كما سيفعل أهل بابل بأورشليم، وعمل من الطين ما يشبه الجنود، رمزاً لجيوش بابل، التى ستحاصر أورشليم، ووضع ما يشبه المجانق فى أيدى الجنود المصنوعين من الطين، رمزاً للأسلحة الحربية التى فى يد البابليين.
كل هذه الوسائل كانت صورة للحصار البابلى، حتى عندما يمر المسبيون بحزقيال يسألونه، ماذا يعمل ؟ فيجيبهم أن الله سيسمح بحصار أورشليم وتدميرها؛ لأجل شرورهم حتى يتوبوا.
ع3: صاجاً : لوح من الحديد الرقيق.
أمره الله أيضاً أن يثبت صاجاً بينه وبين اللبنة، المرسوم عليها أورشليم؛ ليعلن أن المدينة ستحاصر بجيوش بابل؛ لمنع هرب أهلها منها، وليعلن أيضاً، أنه وقت حصار أورشليم وتدميرها، لن يستطع حزقيال أن ينقذ شعبه؛ لذا يتمنى أن يقبلوا كلامه الآن ويتوبوا؛ لأن الله مصر على معاقبتهم وتأديبهم حتى يتوبوا. وتثبيت حزقيال وجهه نحو المدينة، رمزاً لرعاية الله لمدينته، فهو الذى سمح بهذا التأديب حتى تتوب، وهو الذى يحاصرها بالضيقات؛ لترجع إليه وتتطلبه فينقذها.
كل هذا الكلام، اللبنة وما حولها وكلام الله، عبارة عن وسيلة إيضاح ورسالة من الله إلى شعبه وآية منه؛ حتى يرجعوا إليه ويتركوا خطاياهم.
إن حاصرك الله بالضيقات فاعلم أنها تدعوك للتوبة وإصلاح حياتك، فإخضع له باتضاع وأطع وصاياه، فتجد راحتك.
(2) نوم حزقيال على جنبه (ع4-8):
4- «وَاتَّكِئْ أَنْتَ عَلَى جَنْبِكَ الْيَسَارِ، وَضَعْ عَلَيْهِ إِثْمَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. عَلَى عَدَدِ الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا تَتَّكِئُ عَلَيْهِ تَحْمِلُ إِثْمَهُمْ. 5- وَأَنَا قَدْ جَعَلْتُ لَكَ سِنِي إِثْمِهِمْ حَسَبَ عَدَدِ الأَيَّامِ، ثَلاَثَ مِئَةِ يَوْمٍ وَتِسْعِينَ يَوْمًا، فَتَحْمِلُ إِثْمَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. 6- فَإِذَا أَتْمَمْتَهَا، فَاتَّكِئْ عَلَى جَنْبِكَ الْيَمِينِ أَيْضًا، فَتَحْمِلَ إِثْمَ بَيْتِ يَهُوذَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ عِوَضًا عَنْ سَنَةٍ. 7- فَثَبِّتْ وَجْهَكَ عَلَى حِصَارِ أُورُشَلِيمَ وَذِرَاعُكَ مَكْشُوفَةٌ، وَتَنَبَّأْ عَلَيْهَا. 8- وَهأَنَذَا أَجْعَلُ عَلَيْكَ رُبُطًا فَلاَ تَقْلِبُ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ حَتَّى تُتَمِّمَ أَيَّامَ حِصَارِكَ.
ع4: يتكئ : يجلس راقداً على جنبه كما اعتاد قديماً الذين يأكلون على الموائد، فيجلسون على الأرض أمام مائدة منخفضة، أو على أسرة منخفضة أمام منضدة، ومازالت بعض الشعوب الشرقية تفعل هكذا حتى الآن.
هذه صورة أخرى ووسيلة إيضاح يقدمها الله لشعبه المسبى، مستخدماً فيها شخص حزقيال نفسه. فأمره الله أن ينام على جنبه الأيسر، رمزاً لآثام مملكة إسرائيل، ذات الأسباط العشرة. ونام عدداً من الأيام ترمز لعدد سنين الشر، التى سلكت فيها هذه المملكة. وقد اختار اليسار لمملكة إسرائيل؛ لأنها المملكة الشمالية، فإذا نظر الإنسان للشمس عند شروقها يصير الشمال عن يساره.
ع5: أمره الله أن ينام 390 يوماً على جنبه الأيسر وهى المدة من بداية مملكة إسرائيل أيام يربعام بن ناباط حتى سبى أورشليم من عام 975 ق.م إلى عام 586 ق.م وكل يوم يمثل سنة من سنوات الشر التى عاشتها المملكة.
يلاحظ أن حزقيال نام أمام الشعب، كآية لهم؛ ليتذكروا خطاياهم، فيتوبون ولعله لم يتحرك إلا للضرورة القصوى، مثل قضاء حاجته، أو الأكل.
ع6: بعد ذلك أمره الله أن ينام على جنبه الأيمن أربعين يوماً، رمزاً لآثام مملكة يهوذا، إذ عاشت الأربعين سنة الأخيرة قبل السبى فى الشر، أى منذ بداية نبوة إرميا، حتى سبى بابل من عام 626 ق.م إلى عام 586 ق.م. وحزقيال هنا يرمز للمسيح، الذى حمل آثام شعبه على الصليب، وهو كخادم يشعر بخطايا شعبه ويتألم لأجلهم ويصلى عنهم.
ع7: أمره أيضاً أن يثبت وجهه على أورشليم؛ ليعلن أن الله يرعى شعبه بتأديبهم وتدمير الخطية التى فيهم وحرقها، كما أحرقت أورشليم. وأن يكشف ذراعه عند نومه على جنبه، رمزاً لتجسد المسيح الذى يرفع آثام شعبه ويخلصهم من خطاياهم.
ع8: يساعد الله حزقيال على الالتزام بالنوم على جنبه، بأن يجعل عليه ربطاً وهى أمر من اثنين :
- أن يساعده الله على الثبات فى مكانه على أحد جانبيه بقوة خاصة من عنده، كمن هو مربوط ومثبت فى مكانه بالحبال، أو ما شاكلها.
- يربطه أحد معاونيه بحبال، أو ما شاكلها؛ ليبين أن الخطية تقيد الإنسان وتبعده عن الله، مع مراعاة أن يكون ربطه بالحبال بشكل هين لا يضر جسده ولا تمنعه من قضاء حاجته أو تناول طعامه. وقد يكون الله استخدم الطريقتين لتثبيت حزقيال، ولإظهار أنه مقيد بالحبال.
إن كنت أباً أو خادماً، أو مسئولاً فى أى مكان، فاعلم أن الله سيحاسبك عن خطايا من أنت مسئولاً عنهم. فليتك تحتضنهم بأبوتك وتعلمهم، بل تجاهد فى الصلاة من أجلهم؛ حتى يرجعوا إلى الله، فتفرح وتفرح قلب الله.
(3) قبول التأديب (ع9-17):
9- «وَخُذْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ قَمْحًا وَشَعِيرًا وَفُولاً وَعَدَسًا وَدُخْنًا وَكَرْسَنَّةَ وَضَعْهَا فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ، وَاصْنَعْهَا لِنَفْسِكَ خُبْزًا كَعَدَدِ الأَيَّامِ الَّتِي تَتَّكِئُ فِيهَا عَلَى جَنْبِكَ. ثَلاَثَ مِئَةِ يَوْمٍ وَتِسْعِينَ يَوْمًا تَأْكُلُهُ.
10- وَطَعَامُكَ الَّذِي تَأْكُلُهُ يَكُونُ بِالْوَزْنِ. كُلَّ يَوْمٍ عِشْرِينَ شَاقِلاً. مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ تَأْكُلُهُ.
11- وَتَشْرَبُ الْمَاءَ بِالْكَيْلِ، سُدْسَ الْهِينِ، مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ تَشْرَبُهُ.12- وَتَأْكُلُ كَعْكًا مِنَ الشَّعِيرِ. عَلَى الْخُرْءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ تَخْبِزُهُ أَمَامَ عُيُونِهِمْ».13- وَقَالَ الرَّبُّ: «هكَذَا يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ خُبْزَهُمُ النَّجِسَ بَيْنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَطْرُدُهُمْ إِلَيْهِمْ».14- فَقُلْتُ: «آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبُّ، هَا نَفْسِي لَمْ تَتَنَجَّسْ. وَمِنْ صِبَايَ إِلَى الآنَ لَمْ آكُلْ مِيتَةً أَوْ فَرِيسَةً، وَلاَ دَخَلَ فَمِي لَحْمٌ نَجِسٌ».15- فَقَالَ لِي: «اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ لَكَ خِثْيَ الْبَقَرِ بَدَلَ خُرْءِ الإِنْسَانِ، فَتَصْنَعُ خُبْزَكَ عَلَيْهِ». 16- وَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، هأَنَذَا أُكَسِّرُ قِوَامَ الْخُبْزِ فِي أُورُشَلِيمَ، فَيَأْكُلُونَ الْخُبْزَ بِالْوَزْنِ وَبِالْغَمِّ، وَيَشْرَبُونَ الْمَاءَ بِالْكَيْلِ وَبِالْحَيْرَةِ، 17- لِكَيْ يُعْوِزَهُمُ الْخُبْزُ وَالْمَاءُ، وَيَتَحَيَّرُوا الرَّجُلُ وَأَخُوهُ وَيَفْنَوْا بِإِثْمِهِمْ».
ع9: دُخناً : الذرة الرفيعة.
كرسنة : نبات برى تشبه حبوبه القمح والشعير.
طلب الله من حزقيال أن يحضر قمحاً وشعيراً ودخناً وكرسنة وجميعها حبوب تستخدم فى عمل الخبز، ولكن الشعير هو طعام الفقراء، والدُخن والكرسنة طعام البهائم، إذ أن معظم هذه الحبوب تستخدم فى أردأ أنواع الخبز؛ لأن المسبيين سيعانون من الفقر والجوع.
أما الفول والعدس فيمكن أن يأكلها مع الخبز، أو يخلطهما به، وهى بقول يأكلها الفقراء، أو من يصومون عن الأطعمة الشهية، ويحضر كمية تكفى مدة رقاده على جنبه وهى 390 يوماً على الجانب الأيسر وبعد ذلك أربعون يوماً على الجانب الأيمن.
ع10: الشاقل : 11 جرام تقريباً.
وحدد له مقدار الطعام الذى يأكله يومياً وهو عشرين شاقلاً، أى حوالى 1/4 كيلو جرام، يأكله على مدى اليوم وهو مقدار ضئيل، يكفى بالكاد أن يحفظه من الموت؛ لأن المسبيين سيعانون من الجوع، فيكون هو آية لهم. والله يريد من كل هذا أن يشعر أولاده بخطيتهم، فيرجعون إليه وحينئذ يرفع عنهم كل هذه الضيقات.
ع11: الهين : يساوى 3/8 3 لتر.
حدد له أيضاً مقدار من الماء الذى يشربه يومياً وهو حوالى نصف لتر، أى كوبين من الماء يشربه على مدى اليوم وهو مقدار ضئيل يساوى 1/5 احتياج الإنسان الطبيعى تقريباً، فالمسبيين سيعانون من الجوع والعطش أيضاً.
ع12، 13: خرء : براز الإنسان.
طلب منه أن يخبز خبزه على فضلات الإنسان، وهى تعتبر نجسة فى نظر اليهود، بالإضافة إلى أنها تثير اشمئزاز الإنسان، وذلك تعبيراً عن مدى الذل الذى سيعانيه المسبيون، ولأنهم اختلطوا بالأمم النجسة التى تعبد الأوثان، فالجزء رمز للنجاسة التى سيحيون فيها فى السبى؛ نتيجة خطاياهم، وليس المقصود أن يخلط خبزه بالبراز، ولكن يستخدم البراز الجاف كوقود بدلاً من الحطب، ويضع عليه الآنية التى يخبز فيها خبزه، فالله القدوس لا يأمر أولاده بفعل النجاسة ولكن يظهر لهم مدى انهماكهم واختلاطهم بالنجاسة بعبادتهم للأوثان.
ويقوم حزقيال بخبز العيش أمام اليهود المسبيين؛ حتى إذا سألوه عن سبب خبزه على الخرء، يشرح لهم قصد الله، وهو أنهم اختلطوا بنجاسات الأمم.
ع14: اعتذر حزقيال لله متأذياً من خبز طعامه على الخرء الذى هو نجس عند اليهود، ومعلناً أنه عاش طاهراً لم يتنجس قبل بأى مواد نجسة، مثل جثث الموتى، أو الجثث المفترسة، أو أى لحم، أو طعام نجس.
ع15: خثى : روث الحيوانات، أى فضلاته.
استجاب الله بحنانه لطلب حزقيال، فاستبدل له فضلات الإنسان بفضلات الحيوان وهى أخف استثارة لإشمئزازه، ومازال الفلاحون فى بعض القرى المصرية يستخدمون هذه الفضلات التى تسمى الجِلَّة؛ لإشعال أفرانهم التى يخبزون فيها خبزهم.
ع16: قوام الخبز : هو عبارة عن عصا تخترق الأرغفة، فتركب فيها وهى وسيلة لحفظ الخبز.
ينبئ الله حزقيال بأنه سيكسر العصى، التى توضع فيها الخبز فى أورشليم؛ لأن الجوع سيسود ولن يوجد خبز ليحفظوه، وذلك بسبب السبى البابلى. وعندما يأكلون الخبز القليل يكونون فى حزن شديد؛ بسبب ذلهم وموت أقاربهم أثناء السبى وترحيل الكثيرين منهم إلى بابل وغيرها من البلاد. وكذلك يشربون الماء القليل وهم فى حيرة من أمرهم، هل يبقون فى أورشليم ؟ أم يبحثون عن مكان آخر يعيشون فيه ؟ وهل سيجدون هناك قوتهم أم لا ؟ فيكونون فى غم وحيرة بسبب جوعهم وعطشهم.
ع17: قصد الله من إذلال شعبه وموت الكثيرين منهم هو أن ينتبه شعبه ويتوب ويرجع عن خطاياه. إهتم بالصوم، فتتناول أطعمة ليست شهية كما تريد وتأكلها بمقدار؛ حتى تتذكر خطاياك وتتوب عنها وتزهد هذا العالم، فتتفرغ لمحبة الله القادر أن يشبعك أفضل من كل الماديات، وفى نفس الوقت تشعر بإخوتك الفقراء وتتعاطف معهم وتساعدهم.