رؤيا العظام الجافة ونبوة العصويين
(1) رؤيا العظام الجافة والقيامة (ع1-14):
1- كَانَتْ عَلَيَّ يَدُ الرَّبِّ، فَأَخْرَجَني بِرُوحِ الرَّبِّ وَأَنْزَلَنِي فِي وَسْطِ الْبُقْعَةِ وَهِيَ مَلآنَةٌ عِظَامًا، 2- وَأَمَرَّنِي عَلَيْهَا مِنْ حَوْلِهَا وَإِذَا هِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا عَلَى وَجْهِ الْبُقْعَةِ، وَإِذَا هِيَ يَابِسَةٌ جِدًّا. 3- فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، أَتَحْيَا هذِهِ الْعِظَامُ؟» فَقُلْتُ: «يَا سَيِّدُ الرَّبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ».
4- فَقَالَ لِي: «تَنَبَّأْ عَلَى هذِهِ الْعِظَامِ وَقُلْ لَهَا: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْيَابِسَةُ، اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ: 5- هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِهذِهِ الْعِظَامِ: هأَنَذَا أُدْخِلُ فِيكُمْ رُوحًا فَتَحْيَوْنَ.6- وَأَضَعُ عَلَيْكُمْ عَصَبًا وأَكْسِيكُمْ لَحْمًا وَأَبْسُطُ عَلَيْكُمْ جِلْدًا وَأَجْعَلُ فِيكُمْ رُوحًا، فَتَحْيَوْنَ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ».7- فَتَنَبَّأْتُ كمَا أُمِرتُ. وَبَيْنَمَا أَنَا أَتنَبَّأُ كَانَ صَوْتٌ، وَإِذَا رَعْشٌ، فَتَقَارَبَتِ الْعِظَامُ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى عَظْمِهِ.8- ونَظَرْتُ وَإِذَا بِالْعَصَبِ وَاللَّحْمِ كَسَاهَا، وبُسِطَ الْجِلْدُ علَيْهَا مِنْ فَوْقُ، وَلَيْسَ فِيهَا رُوحٌ.9- فَقَالَ لِي: «تَنَبَّأْ لِلرُّوحِ، تَنَبَّأْ يَا ابْنَ آدَمَ، وَقُلْ لِلرُّوحِ: هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَلُمَّ يَا رُوحُ مِنَ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ وَهُبَّ عَلَى هؤُلاَءِ الْقَتْلَى لِيَحْيَوْا». 10- فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَني، فَدَخَلَ فِيهِمِ الرُّوحُ، فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظيمٌ جِدًّا جِدًّا. 11- ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، هذِهِ العِظَامُ هِيَ كُلُّ بَيتِ إِسْرَائِيلَ. هَا هُمْ يَقُولُونَ: يَبِسَتْ عِظَامُنَا وَهَلَكَ رَجَاؤُنَا. قَدِ انْقَطَعْنَا. 12- لِذلِكَ تَنَبَّأْ وَقُلْ لَهُمْ: هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَفتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي، وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ.
13- فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ عِنْدَ فَتْحِي قُبُورَكُمْ وَإِصْعَادِي إِيَّاكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي.
14- وأَجْعَلُ رُوحِي فِيكُمْ فتَحْيَوْنَ، وَأَجْعَلُكُمْ فِي أَرْضِكُمْ، فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أنَا الرَّبُّ تَكَلَّمْتُ وَأَفْعَلُ، يَقُولُ الرَّبُّ».
ع1 : البقعة : منطقة، أو مكان.
بدأت هذه الرؤية بقيادة الله لحزقيال، فأخرجه من المدينة التى يسكن فيها إلى مكان محدد، أو منطقة، لعلها كانت وادى، ليرى فيه هذه الرؤيا.
ونلاحظ ظهور الثالوث فى هذه الآية، فاليد ترمز للأقنوم الثانى قوة الله، والرب يرمز للأقنوم الأول الآب، وروح الرب هو الروح القدس الأقنوم الثالث.
ويد الرب تظهر هنا؛ لتعلن لنا أنه بتجسد المسيح تتحول العظام الجافة إلى بشر أحياء، أى أن المسيح المتجسد ينقلنا من الموت إلى الحياة.
لا يستطيع حزقيال، أو أى إنسان أن يخرج وينظر الموت وحده وإلا ييأس، لكن لو كانت معه يد الرب – أى قوته تسنده – يستطيع أن يواجه نفسه، مهما كانت فى ضعف، أو موت؛ لأن قوة الله قادرة أن تحييه.
ويقول هنا حزقيال أنه أنزلنى إلى البقعة إشارة إلى أمرين :
- لعل هذه البقعة كانت وادى كما ذكرنا.
- أن الخطية تحدر الإنسان إلى الموت إلى أسفل حيث العظام الجافة.
وهذه العظام ترمز إلى الموت الذى كان فيه :
- شعب الله المسبى فى العبودية، فهو كأنه ميت ليس له قومية، أو قوة، أو عبادة فى الهيكل.
- الأمم البعيدة عن الله فى عبادة الأوثان، فهى ميتة فى نظر الله.
- الإنسان فى حالة الخطية يعتبر ميت فى نظر الله إلى أن يتوب.
ع2: أمرنى : أخذنى الرب حتى أمشى حول الوادى، أى البقعة؛ لأرى كل ما فيها.
أراد الله أن ينظر حزقيال بنفسه البقعة المملوءة عظاماً. وكانت هذه العظام جافة، أى أن أصحابها قد ماتوا منذ زمن طويل؛ لأن العظام تكون لينة وحولها بعض اللحم بعد الموت، ومع الوقت يتحلل اللحم وتصير العظام أيضاً جافة.
ومرور حزقيال يرمز لأهمية أن ينظر الإنسان ويفحص حالته، ليعرف إلى أى مدى قد وصل، أى أصبحت حياته موت وجفاف؛ حتى بعد هذا يتوب. وترمز أيضاً إلى أن الخادم ينبغى أن يفحص أولاده ويميز حالتهم مهما كانت سيئة؛ حتى يستطيع معالجتهم.
والبقعة ترمز لأرض شعب الله الذين أصبحوا أمواتاً روحياً منذ زمن طويل. وترمز أيضاً إلى العالم كله، الذى مات فيه الوثنيون؛ لابتعادهم عن الله وعبادة الأوثان.
وكانت كثيرة جداً، وهذا معناه أن معظم الناس، أو كلهم قد ماتوا روحياً، كما يقول الكتاب “الجميع زاغوا وفسدوا معاً ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد” (رو3: 12).
والعظام اليابسة تعنى أنهم انغمسوا في الخطية وماتوا منذ زمن طويل، وهم ليسوا حديثى الخطية ولكن حالتهم متأخرة، بل بحسب الرؤيا البشرية، لا أمل من إحيائهم، ولكن الله القادر على كل شئ يستطيع أن يقيمهم من الموت.
ع3: سأل الله حزقيال : هل يمكن أن تحيا هذه العظام اليابسة ؟ والرد المنطقى لا. ولكن يظهر هنا إيمان حزقيال وخضوعه لله، فقال له “يا سيد الرب أنت تعلم”، كما قال بطرس للمسيح عند بحيرة طبرية “يا رب أنت تعلم كل شئ” (يو21: 17).
ويقصد بحياة هذه العظام، أى هل يمكن أن يعود شعب الله من السبى ؟ أو هل يمكن أن يرجع الخاطئ المتمادى في خطيته ؟ أو هل يمكن أن يؤمن العالم الوثنى ؟
كل هذا ممكن لأن الله قادر على كل شئ، وقد أرجع شعبه من السبى، عندما تابوا وآمنوا به. وخلص المسيح العالم بفدائه، فآمن به الكثيرون من الأمم واليهود ورجع كثيرٌ من الخطاة، الذين تمادوا سنيناً طويلة في خطاياهم، بل وصاروا قديسين.
ورغم أن النبوات كثيرة عن المسيا المنتظر، القادر على خلاص المؤمنين به من الموت، ولكن ذهن شعب الله كان منشغلاً بالخطية عن كلامه. فيسأل الله حزقيال، وهم في حالة الموت هذه، أى أنهم العظام اليابسة، هل ممكن أن يفهموا النبوات عن المسيا المنتظر ويؤمنوا فيحيوا؟
ع4: إذ ظهر عجز الإنسان في شكل حزقيال عندما سلم أمره لله وقال له أنت تعلم، تدخل الله وأمره أن يتنبأ على هذه العظام، ويأمرها أن تسمع كلمة الله. وكلمة الله هى المسيح الذى بفدائه أعطى الحياة للإنسان الذى كان محكوماً عليه بالموت نتيجة خطاياه.
وهنا يبدأ العمل الإلهى المعجزى فيما يلى :
- إرجاع شعب الله المسبى فى العبودية، أى كان شعباً ميتاً، والآن يحييه الله بإعادته من السبى.
- تتم هذه النبوة فى كل إنسان عندما يحييه الله من موت الخطية بالتوبة، وهذا ما يسميه الكتاب المقدس القيامة الأولى.
- تتم هذه النبوة فى ملء الزمان بإحياء الإنسان من الموت بفداء المسيح له على الصليب.
- تكمل هذه النبوة فى القيامة الثانية، أى فى نهاية الأيام، عندما تقوم الأجساد الميتة وتدخل إلى الحياة الأبدية.
ع5: أعلن الله للعظام أنه سيحييها بقوة روحه القدوس، وهنا يظهر تكامل عمل الأقانيم في حياة الإنسان. فالروح القدس هو المسئول عن إحياء الإنسان من موت الخطية، كلما سقط فيه وذلك عن طريق التوبة. وسيذكر في الآيات التالية تفاصيل إحياء الإنسان من الموت.
ع6: بين الله لحزقيال ما سيحدث لإحياء العظام اليابسة وهو :
- يضع على العظام عصباً. والأعصاب هى التى تعطى الإنسان الإحساس؛ لأن الخطية تفقد الإنسان إحساسه بالله والقدرة على التمييز.
- يكسى العظام لحماً. واللحم يعنى العضلات، أى يعطى الإنسان الميت القدرة على الحركة. فالميت في الخطية عاجز عن السير في طريق الله.
- يضع على اللحم والأعصاب جلداً. والجلد يمثل الحماية، وكذلك أيضاً الجمال الخارجى. لأن الميت بالخطية لا يستطيع مقاومة إبليس، بل يضربه بخطايا متوالية، ويفقده جماله الذى كان له أمام الله. فبإحياء الإنسان من موت الخطية، يستعيد جماله الذى خلقه الله عليه، ويصير في حماية الله.
- بعد تكامل مظهر الإنسان يحتاج للروح التى تحييه. عندما تم تفاصيل إحياء الإنسان، يعرف الله ويؤمن به، لأنه سر حياته. وعمل الله هنا ليس في معجزة خارجية يراها الإنسان، بل في حياته الخاصة؛ لأن إحياء الإنسان من موت الخطية هو أهم معجزة.
ع7: رعش : اهتزاز، أو ارتجاف.
أطاع حزقيال الله وتنبأ على العظام في (ع4)، وعندما تنبأ سمع صوت، هو صوت الروح القدس الذى يعمل لإحياء الإنسان، وهو صوت كلمة الله المسيح المعطى الحياة بروحه القدوس.
ونظر حزقيال فوجد العظام اليابسة ترتعش وتتحرك وتقترب من بعضها؛ لتكون هيكل عظمى لإنسان وهذا يبين :
- قدرة الله على إرجاع الإنسان من الموت إلى الحياة، كما أعاد شعبه من السبى.
- دقة الله وترتيبه في إعادة الإنسان للحياة ووضع كل عظم في مكانه؛ ليكون الإنسان في صورة كاملة بدقة تساعده على أفضل حياة؛ لأن كل جزء في جسم الإنسان ونفسه رتبه الله بدقة تفوق العقل.
وهكذا نرى قدرة الروح القدس على إحياء الإنسان الذى حطمته الخطية وبعثرت إمكانياته وأفسدتها، فيعيدها لتكون على أكمل وجه، أى يخلقها من جديد.
ومن الجميل اهتمام الله بإشراك الإنسان الخادم في عمله، فقد كان الله قادراً أن يحيى العظام بدون حزقيال، ولكنه يأمره أن يتنبأ على العظام؛ ليشترك في التمتع برؤية عمل الله. ويظهر هذا أيضاً اتضاع الله في أن يعطى مجده لخدامه.
وقد لاحظنا في الكتاب المقدس استخدام الله للرعش في أماكن كثيرة، مثل الزلزلة التى حدثت عند قيامة المسيح (مت28: 2)، وكذلك شاول الطرسوسى ارتعد عندما قابله المسيح في طريقه إلى دمشق (أع9: 6)، وصلى بولس وسيلا فحدثت زلزلة وتزعزعت أساسات السجن في فيلبى (أع16: 26).
ما أعظم تدبير الله لحياتك، فاشكره على كل شئ يحدث معك. وثق أن تدابيره هى أفضل شئ، وأنه قادر على إحيائك، مهماكانت حياتك ميتة بالخطية، أو تعانى من مشاكل صعبة. أطلبه بلجاجة واطمئن فهو معك ويدبر كل أمورك.
ع8 : بدأ الله في إحياء العظام، فوضع الأعصاب على العظام وكذلك اللحم، ثم كساها بالجلد. أصبح لها منظر الإنسان الكامل بكل أعضائه ولكن لا تتحرك، لأنه لم يعطها الروح بعد. وهذا ما يتم في سر المعمودية، إذ ينال الإنسان الطبيعة الجديدة، ولكن بعد هذا ينال الروح القدس، فيستطيع أن يحيا مع الله.
وإن كنا نرى في الآيات (ع5، 6) كلاماً على أن الله قد أعطى الروح، فهو يقصد أن يعطيها الطبيعة الجديدة بكل مكوناتها، ولكن القدرة على الحياة والحركة لم تأخذها بعد، بل ستنالها في مرحلة تالية، كما سيظهر في (ع9).
الله ليس عنده زمن، ولكن يذكر هنا المراحل بالتفصيل، ليفهم الإنسان ما يحدث في حياته لكيما يحيا. فالله يهبه طبيعة قابلة للتشبه به في المعمودية، ثم قوة ليحيا معه في الميرون. وهذا يشبه إعطاء المسيح الروح القدس لتلاميذه بعد قيامته، عندما نفخ في وجوههم وقال لهم اقبلوا الروح القدس وأعطاهم سلطان غفران الخطايا (يو20: 22)، ولكنهم لم يمارسوا سلطانهم هذا إلا بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين. فإعطائهم الروح القدس في المرة الأولى يعنى تأسيس سر الكهنوت وسر الاعتراف، ولكن القدرة على ممارسة هذه الأسرار تمت في يوم الخمسين.
ع9: بعد أن تكامل منظر البشر في الوادى، أمر الله حزقيال أن يتنبأ للروح حتى تحل عليهم. فبدأ حزقيال يتنبأ ويخاطب الروح؛ حتى تأتى وتحل وتُحي. وهذه هى المرة الوحيدة في الكتاب المقدس التى يخاطب فيها الإنسان الروح القدس، وامتداداً لهذا نخاطبه في الأجبية في صلاة الساعة الثالثة ونقول له “أيها الملك السمائى ..” ونفهم من هذا ضرورة أن يطلب الإنسان الروح القدس ليعمل فيه، لأنه إن لم يطلب فلن ينال؛ لأنه “يعطى الروح القدس للذين يسألونه” (لو11: 13). يفهم أيضاً من هذه الآية سلطان الكهنوت أن يستدعى الروح القدس ليحل في أسرار الكنيسة.
طلب حزقيال من الروح أن يأتى من الرياح الأربع، أى من أركان المسكونة الأربع؛ لأن روح الله سيحل في كل مكان على المؤمنين بالمسيح. ونرى العلاقة بين الروح والرياح واضحة؛ لأن أصل الكلمة العبرى “رواح” معناه واحد. ويظهر هذا واضحاً في يوم الخمسين، عندما هبت ريح، ثم حل الروح القدس على شكل ألسنة نارية (أع2: 1).
يصف الله البشر الراقدين في الوادى بأنهم قتلى، لأن الخطية قتلتهم، والروح القدس الآن يحييهم.
وكان حزقيال يشعر بعدم تجاوب اليهود المحيطين به في السبى، إذ كانوا أمواتاً من جهة كلمة الله. ولكن في هذه الرؤيا يدب الرجاء في قلبه بقدرة الله على تغييرهم حتى يقبلوا كلامه.
ع10: أطاع حزقيال وطلب من الروح أن يحل على القتلى، فنالوا قوة وقاموا وتحركوا كجيش عظيم جداً.
ونرى في هذا قوة الله القادرة على عمل المعجزات والتى تعطى الإنسان القدرة على العمل الإيجابى، فيستطيع أن يصد هجمات إبليس وينتصر.
ع11: يوضح الله لحزقيال حالة اليأس التى وصل إليها شعب الله لانغماسه في الخطية، فلم يعد له رجاء في الرجوع من السبى. والله هنا يعلن قدرته على إحيائهم. وإعادتهم إلى بلادهم كشعب واحد هو إسرائيل، وليس مملكتين منقسمتين، أى إسرائيل ويهوذا، كما كان قبل السبى.
وكلمة إسرائيل معناها يصارع الله، كما غير الله اسم يعقوب إلى إسرائيل عندما صارعه، أى أن شعبه يعود، فيكون بيت إسرائيل، الذى يعتمد في قوته على الصلاة ومصارعة الله، فيثبت أمام أعدائه. وهذا ما حدث في الرجوع من السبى، وكذلك في إسرائيل الجديد – أى المسيحيين – وما يحدث لكل إنسان عند توبته وما سيحدث في نهاية الأيام، عندما يدخل المؤمنون إلى الحياة الأبدية.
ويفهم من هذه الآية أن موت الجسد ليس هو المقصود بالعظام اليابسة، بل الموت الروحى. لأن شعب الله يقول عن نفسه أن عظامه قد يبست، هذا ما شعره بسبب خطاياه وذله في عبودية السبى، ولكن الله يعود فيحييه بسبب توبته وإيمانه به.
ع12، 13: يبشر الله شعبه بأنه سيصعدهم من قبورهم، فهم أحياء ولكن قبورهم الداخلية هى خطيتهم، التى انتنت في داخلهم. فماداموا قد تابوا، فهو يعدهم بأن يقيمهم من موت الخطية؛ ليحيوا معه. ويقيمهم أيضاً بعد ذلك من موت عبودية السبى، ويرجعهم إلى أرضهم.
وماداموا قد تابوا فالله بحنانه يلقبهم بشعبى، أى بالتوبة يستطيع الإنسان أن ينتسب لله، ويستعيد بنوته له.
عندما يتم كلام الله ويرجعون إلى أرضهم، أو عندما ينال التائب حياة جديدة في الله، يثق بصدق كلام الله ووعوده.
عندما تسيطر الخطية عليك ويحاربك اليأس لطول مدة زمانها معك، فلا تنزعج، لأن الله قادر أن يقيمك من قبر خطيتك ويحررك من كل آثامك. ثق فيه واطلبه بلجاجة وثابر في جهادك، فبقوته حتماً ستنتصر.
ع14: عندما يتم كل ما سبق يثق شعب الله في نبوات حزقيال، إذ يرون فعل الله في حياتهم، بل يعدهم الله أن يستمر في العمل معهم، عندما يقول في نهاية الآية “وأفعل”؛ لأن الإنسان محتاج لعمل الله الدائم في حياته الجديدة؛ ليثبت في الله طوال حياته.
[2] نبوة العصوين والوحدانية (15-28) :
15- وَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: 16- «وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ، خُذْ لِنَفْسِكَ عَصًا وَاحِدَةً وَاكْتُبْ عَلَيْهَا: لِيَهُوذَا وَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ رُفَقَائِهِ. وَخُذْ عَصًا أُخْرَى وَاكْتُبْ عَلَيْهَا: لِيُوسُفَ، عَصَا أَفْرَايِمَ وَكُلِّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ رُفَقَائِهِ. 17- وَاقْرِنْهُمَا الْوَاحِدَةَ بِالأُخْرَى كَعَصًا وَاحِدَةٍ، فَتَصِيرَا وَاحِدَةً فِي يَدِكَ.
18- فَإِذَا كَلَّمَكَ أَبْنَاءُ شَعْبِكَ قَائِلِينَ: أَمَا تُخْبِرُنَا مَا لَكَ وَهذَا؟ 19- فَقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا آخُذُ عَصَا يُوسُفَ الَّتِي فِي يَدِ أَفْرَايِمَ وَأَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ رُفَقَاءَهُ، وَأَضُمُّ إِلَيْهَا عَصَا يَهُوذَا، وَأَجْعَلُهُمْ عَصًا وَاحِدَةً فَيَصِيرُونَ وَاحِدَةً فِي يَدِي. 20- وَتَكُونُ الْعَصَوَانِ اللَّتَانِ كَتَبْتَ عَلَيْهِمَا فِي يَدِكَ أَمَامَ أَعْيُنِهِمْ. 21- وَقُلْ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا آخُذُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ الَّتِي ذَهَبُوا إِلَيْهَا، وَأَجْمَعُهُمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَآتِي بِهِمْ إِلَى أَرْضِهِمْ، 22- وَأُصَيِّرُهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الأَرْضِ عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ، وَمَلِكٌ وَاحِدٌ يَكُونُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وَلاَ يَكُونُونَ بَعْدُ أُمَّتَيْنِ، وَلاَ يَنْقَسِمُونَ بَعْدُ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ. 23- وَلاَ يَتَنَجَّسُونَ بَعْدُ بِأَصْنَامِهِمْ وَلاَ بِرَجَاسَاتِهِمْ وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَاصِيهِمْ، بَلْ أُخَلِّصُهُمْ مِنْ كُلِّ مَسَاكِنِهِمِ الَّتِي فِيهَا أَخْطَأُوا، وَأُطَهِّرُهُمْ فَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا.
24- وَدَاوُدُ عَبْدِي يَكُونُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ لِجَمِيعِهِمْ رَاعٍ وَاحِدٌ، فَيَسْلُكُونَ فِي أَحْكَامِي وَيَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَيَعْمَلُونَ بِهَا. 25- وَيَسْكُنُونَ فِي الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُ عَبْدِي يَعْقُوبَ إِيَّاهَا، الَّتِي سَكَنَهَا آبَاؤُكُمْ، وَيَسْكُنُونَ فِيهَا هُمْ وَبَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ إِلَى الأَبَدِ، وَعَبْدِي دَاوُدُ رَئِيسٌ عَلَيْهِمْ إِلَى الأَبَدِ. 26- وَأَقْطَعُ مَعَهُمْ عَهْدَ سَلاَمٍ، فَيَكُونُ مَعَهُمْ عَهْدًا مُؤَبَّدًا، وَأُقِرُّهُمْ وَأُكَثِّرُهُمْ وَأَجْعَلُ مَقْدِسِي فِي وَسْطِهِمْ إِلَى الأَبَدِ. 27- وَيَكُونُ مَسْكَنِي فَوْقَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا. 28- فَتَعْلَمُ الأُمَمُ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ مُقَدِّسُ إِسْرَائِيلَ، إِذْ يَكُونُ مَقْدِسِي فِي وَسْطِهِمْ إِلَى الأَبَدِ».
ع15-17: يعطى الله هنا نبوة جديدة لحزقيال بوسيلة إيضاح ملموسة مرئية، كما في نبوة العظام اليابسة، أى لم يكتف بنبوة كلامية، بل أيدها بشكل مرئى، ليؤكدها ويثبها لحزقيال وكل الشعب المحيط به.
فطلب الله من حزقيال أن يأخذ عصا ويكتب عليها اسم يهوذا ورفقائه، ويقصد من ضمنتهم مملكة يهوذا من الأسباط الأخرى، مثل سبط بنيامين وبعض من سبط شمعون، أو أى شخص من الأسباط الأخرى اقترن وعاش في مملكة يهوذا، أى المملكة الجنوبية.
وطلب منه أيضاً أن يأخذ عصا أخرى، ويكتب عليها اسم يوسف ويقصد به نسله، أى أفرايم؛ لأن أفرايم كان أكبر أسباط مملكة إسرائيل عدداً، وهذه العصا لأفرايم ورفقائه من باقى الأسباط، أى كل من سكنوا في مملكة إسرائيل، التى هى المملكة الشمالية.
أعطى الله عصا ليهوذا؛ لأن منه يأتى المسيح، والأخرى ليوسف لأن له البكورية (1أخ5: 2)؛ لذا قال يوسف ثم أفرايم ولم يقل أفرايم فقط.
ثم طلب الله من حزقيال أن يقرن العصوين معاً؛ ليصيرا عصا واحدة في يده، وهذا يرمز لعدة أمور :
- وحدانية شعب الله عند عودته من السبى، فيصير شعباً واحداً وينتهى الانقسام فيه؛ لأنه بالتوبة والرجوع إلى الله ينال الشعب وحدانيته، وكذلك الإنسان باتحاد روحه بجسده فلا يكون منقسماً على نفسه.
- هاتان العصوان هما العارضتان الرأسية والأفقية للصليب. ففى الصليب تنال البشرية الخلاص من عبودية الخطية، باتحادها مع الله، أى اتحاد الأرض والسماء؛ التى تمثلها العارضة الرأسية، أما العارضة الأفقية فتمثل اتحاد البشرية معاً في جسد المسيح. وهكذا بالصليب يستعيد الإنسان علاقته بالله واتحاده باخوته البشر، بعد أن فقد كل هذا بسبب الخطية. وعلى الصليب، أى العصوين كتبت أسماء شعب الله كله؛ لأن المسيح مات عن كل البشرية، فهذا يشجع الإنسان، ويعطيه رجاء ليتمسك بالصليب، مهما كان خاطئاً لينال الخلاص.
- والعصوان ترمزان – في اتحادهما، بيد الله، في يد نبيه حزقيال – إلى القيامة، فهاتان العصوان الجافتان تعطيا حياة إذا كانتا في يد الله. وينال شعب الله كجماعة واحدة خلاصاً وقيامة في الكنيسة، بالإضافة إلى قيامة كل إنسان في المسيح، فالقيامة تعطى لكل إنسان كفرد، وفى نفس الوقت هى قيامة للكنيسة المتحدة في جسد المسيح.
- ويفهم مما سبق أن العصوين ترمزان للكنيسة التى تحوى أسماء شعب الله المؤمنين به، وينالون الخلاص والقيامة في المسيح، وهو يكون رأسهم، كما يظهر من ع(22، 24). فالمؤمنون أعضاء في جسد واحد، والمسيح هو الرأس (كو2: 19).
ع18-21: أخبر الله حزقيال أنه إذا سأله شعبه عن العصوين يعلمهم أن العصوين صارتا واحدة في يد الله، أى أن مملكتى يهوذا وإسرائيل ستتحدان وتعودان شعباً واحداً من السبى، بعد أن تفرقا بين الأمم سنيناً طويلة في عبودية السبى.
وهذا الاتحاد يحدث أيضاً في كل إنسان عندما تتحد روحه بجسده ويخضع لله، فيملك عليه؛ لأنه صار في يد الله مؤمناً به فينال هذه الوحدانية.
ع22: يضيف الله أن شعبه سيعود من السبى أمة واحدة وقوية، عندما يقول على جبال إسرائيل؛ لأن الجبل يرمز للقوة، والارتفاع إلى السماء للثبات، فيكونون شعباً، قوياً، ثابتاً، مرتفعاً بقلبه إلى السماء.
ولن ينقسم بنو إسرائيل إلى مملكتين، هما يهوذا وإسرائيل، كما حدث قبلاً، بل يظلان في وحدانية؛ لأن الضيقة وحدتهما وأخضعتهما لله، وقد حدث هذا بالفعل، حتى أتى المسيح.
وسر قوة ووحدة هذا الشعب أنه يملك عليهم ملك واحد، هذا الملك، ليس فقط المقام من مملكتى مادى وفارس، أو المملكة اليونانية التى تلتها، ولكن يقصد بالأحرى المسيح الذى يملك على شعبه في كنيسته.
ع23: يعد الله شعبه المؤمن به والراجع من السبى أنه يخلصه من عبادة الأوثان والشهوات الشريرة، التى سيطرت عليه قبل السبى. ولن توجد مساكن للشر بينهم، مثل بيوت الدعارة وبيوت المأبونين، بل يملك الله على قلوبهم ويكون هو وحده إلههم، فيختبرون الملكوت على الأرض، إلى أن يصلوا إليه ويتمتعوا به في السماء.
ع24: يعلن الله بوضوح هنا أن الملك الحقيقى الذى يملك على شعبه هو داود. وبالطبع داود كان قد مات منذ زمن طويل قبل حزقيال، والمقصود هنا هو المسيح، الذى يملك على قلوب المؤمنين به في كنيسته ويرعاهم بعنايته، فيستطيعون أن يسلكوا في وصاياه، أى أحكامه ويتمسكون بعبادته، أى فرائضه.
ولكيما يتمتع الشعب برعاية الله ينبغى أن يخضع له كملك، أى يسلك في أحكامه وفرائضه.
ع25: عندما يعود اليهود من السبى سيسكنون في أرض كنعان، التى وهبها الله لأسباط إسرائيل نسل يعقوب، ويملكون فيها إلى الأبد. وليس المقصود بالطبع الملك الأرضى؛ لأن داود كان قد مات، بل المقصود المسيح الذى يملك على قلوب أولاده المسيحيين إلى الأبد، أى ليس في الأرض فقط، بل بالأحرى في السماء.
ع26: أقرهم : أثبتهم.
يستكمل الله حديثه عن شعبه في العهد الجديد، فيقطع معهم عهداً أبدياً ليعطيهم ملكوت السموات، ويثبتهم فيه ويجعل مقدسه، أى مذبحه في وسطهم، ويتحد بهم في سر الإفخارستيا؛ حتى يرفعهم إلى السماء ليتحدوا به إلى الأبد.
وهكذا لا يتعلق شعب الله بمذبح فقط في أورشليم، بل بالمسيح الذبيح، الذى يتحد بأولاده في العهد الجديد، ويظل معهم إلى الأبد. ولا يستطيع أحد أن يهدم مذبحهم، كما حدث في تدمير هيكل أورشليم؛ لأن المسيح متحد بشعبه ويسكن فيهم وهم هياكل لروحه القدوس.
ويتمتعون بسلام العهد مع الله، إذا آمنوا بصليب الحب الذى بذل نفسه عليه لأجلهم، فيصيروا كالعصوين، ويستطيعوا أن يحبوا بعضهم بعضاً، فيدخلوا في عهد السلام مع الله ويملك عليهم.
ع27: يضيف الله أنه سيسكن فوق شعبه، أى يملك على قلوبهم، وبهذا يصيرون هيكلاً له، أو يرفعهم لمستوى الكاروبيم الذى يحمل عرشه، كما وصف لنا حزقيال في الأصحاح الأول من نبوته. وبهذا يتمتع شعب الله ببنوتهم له وبرعايته الإلهية.
ع28: الله يظهر محبته لكل البشرية، فعندما يملك على شعبه ويقدسهم، يكونون مثالاً ونوراً للعالم؛ حتى تؤمن الأمم بالمسيح ويحيون معه.
الله يريد خلاص الكل، فلا تحتقر إنساناً، أو تكرهه، أو تيأس منه، لأن نفسه غالية جداً عند الله وهو مات لأجل خلاصنا، بل قدم محبتك للكل، وصلى لأجل كل من يسئ إليك.